ليلة السلاحف البحرية
هبط بيننا صمت طويل أليم. لم يُؤنِّبْني كنسوكي قط على ما فعلت. لم يكن غاضبًا مني أو متجهم الوجه معي. ولكنني كنت أعرف أنني جَرَحْتُ مشاعره جُرْحًا عميقًا. لم نمتنع عن التحادث معًا — بل كنا نتحادث — ولكننا لم نعد نتحادث بالروح التي كنا نتحادث بها من قبل. كان كلُّ منا يعيش في شرنقته الخاصة، ملتزمَين بالسلوك المهذب، والتأدُّب دائمًا، لكننا لم نعد «معًا» كما كنا من قبل. كان قد انغلق على نفسه، وحبس نفسه في أفكاره الخاصة. ذهب الدفء من عينيه، وحلَّ الصمت محلَّ الضحك في الكهف. لم يصرِّح بذلك قط، فلم يكن بحاجة إلى التصريح، لكنني عرفت أنه يفضل الآن أن يرسم وحده، وأن يصيد السمك وحده، وأن يكون وحيدًا.
وهكذا كنت أقوم كل يوم بالتجول في الجزيرة مع ستلا، وأنا أرجو أن أجده عندما أعود وقد صفح عني، وأن نعود أصدقاء مثلما كنا. ولكنه كان دائمًا يحافظ على المسافة التي تفصل بيننا. وحزنت حزنًا عميقًا على صداقتي الضائعة. وأذكر أنني كنت كثيرًا ما أذهب في تلك الفترة إلى طرف الجزيرة الآخر، إلى تل المراقبة، وهناك أجلس زمنًا طويلًا، ولم أعد أرقب مرور السفن بالجزيرة، بل كنت أجرب بصوت عالٍ ما أقدمه له من تفسير أو إيضاح لما فعلت، ولكنني مهما حاولت وجربت، لم أكن أستطيع أن أقنع حتى نفسي أن ما فعلتُه كان يمثل شيئًا آخر سوى الخيانة. والذي حدث آخر الأمر، على أية حال، هو أن كنسوكي نفسه هو الذي شرح الأمر لي.
كنا قد أوينا إلى الفراش لتوِّنا ذات ليلة عندما جاءت السعلاة توموداكي إلى باب الكهف وجلست القرفصاء عنده. كانت قد فعلت ذلك مرة أو مرتين قبل ذلك في الآونة الأخيرة، وكانت تجلس دقائق معدودة وحسب، وتتطلع إلينا ثم تمضي إلى حال سبيلها. وسمعتُ صوت كنسوكي في الظلام يقول: «إنها تفتقد كيكانبو من جديد» ثم أضاف: «إنها دائمًا ما تفتقد صغيرها. كيكانبو طفل شرير جدًّا. كثيرًا ما يهرب، ويجعل توموداكي أمًّا حزينة جدًّا.» وصفَّقَ بيديه ليصرفها صائحًا، ثم هتف: «كيكانبو ليس هنا يا توموداكي. ليس هنا أقول.» ولكن توموداكي ظلت في مكانها. وأظن أنها كانت تريد التسرية عن نفسها أكثر من أي شيء آخر، وكنت قد لاحظت من قبل أن السعالي كانت كثيرًا ما تأتي إلى كنسوكي عندما تكون قلقة أو خائفة، لا لشيء إلا للشعور بالاطمئنان إلى جواره. وبعد فترة انْسَلَّتْ توموداكي خِفْيَة في جُنْح الليل وتركتنا وحدنا من جديد، يفصلنا صخب الغابة والصمت.
وفجأة خرق صوتُ كنسوكي الصمت، قائلًا: «عندي أفكار كثيرة، هل نِمْتَ يا ميكاسان؟» لم يكن قد ناداني باسمي أسابيع متوالية، منذ حادثة زجاجة الكوكاكولا.
قلت له: «لا.»
فقال: «رائع، أريد أن أقول كلامًا كثيرًا. فاستمع، وسوف أتكلم. لديَّ أفكار كثيرة. عندما أفكر في توموداكي أفكر أيضًا في والدتك. أمك أيضًا تفتقد طفلها. تفتقدك أنت. وهذا أمر محزن جدًّا لها. ربما تأتي لتبحث عنك فلا تجدك. ربما لا تكون أنت هنا عندما تأتي هي. لسوف تظن أنك مُتَّ ولن تعودَ أبدًا، ولكنها تراك في خاطرها، بل الآن وأنا أتكلم ربما كانت تراك في ذهنها. أنت دائمًا هناك. أعرف ذلك. فلديَّ ابن أنا أيضًا. لديَّ ميشيا. وهو دائمًا في رأسي. مثل كيمي. لا شك أنهما مَاتَا، ولكنهما في رأسي. إنهما في رأسي إلى الأبد.»
وساد الصمت بيننا فترة طويلة لم ينطق فيها بحرف واحد. كنت أظن أنه نام، لكنه عاد للحديث مرة أخرى فقال: «سأقول لك كل ما أفكر فيه يا ميكاسان. هذه أفضل طريقة. إنني أظل في هذه الجزيرة لأنني أريد أن أمكث في هذه الجزيرة، لا أريد أن أعود إلى الوطن في اليابان، لكن الأمر مختلف في حالتك؛ فأنت تريد العودة إلى الوطن عبر البحار، وهذا هو الصواب، هذا هو ما يصلح لك، لكنه لا يصلح لي؛ إنه في حالتي أمر محزن جدًّا. لقد عشتُ سنوات طويلة هنا وحدي، وأنا سعيد هنا، ثم أتيتَ أنت. كنتُ أكرهك عندما أتيت أول الأمر، ولكن بعد فترة أصبحتَ مثلَ ابني، وأظن أنني قد أكون مثل والدك، وأنك مثل ابني. وسأحزن كثيرًا عندما ترحل؛ فقد أَحْبَبْتُ الحديث معك، وأحببتُ الاستماع إليك، وأحببتُ رنين صوتك عندما تتكلم. وكنتُ أريدك أن تبقى هنا في هذه الجزيرة، هل تفهم؟»
وقلت له: «أظن ذلك.»
فعاد يقول: «ولكنك فعلتَ شيئًا غاية في السوء؛ نحن أصدقاء، ولكنك لا تخبرني بما تشعر به. لا تقول لي ما تفعله، وليس هذا أمرًا مَشَرِّفًا. وعندما وجدتُ الزجاجة وقرأتُ الكلمات أحسستُ بالحزن الغامر الشديد، لكنني بعد فترة قصيرة فهمت. أعتقد أنك تريد أن تمكث معي هنا وأن تعود أيضًا إلى الوطن. وهكذا عندما وجدتَ الزجاجة كتبتَ الرسالة. ولم تخبرْني بما تفعل لأنك تعرف أنه يجعلني حزينًا. هل هذا صحيح؟»
وقلت له: «نعم.»
فقال: «أنت صغير جدًّا يا ميكاسان، وأنت ترسم صورًا جيدة، صورًا ممتازة؛ مثل هوكوساي، وتنتظرك حياة طويلة حافلة. لا تستطيع أن تعيش حياتك كلها في هذه الجزيرة مع رجل عجوز قد يأتيه الموت في أيَّة لحظة. وهكذا، جَعَلَتْني هذه الأفكار أُغَيِّر رأيي. هل تعرف ما سنفعله غدًا؟» ولم ينتظر إجابتي، بل استمرَّ قائلًا: «سنَشْرعُ في بناء مُسْتَوْقَد لنار جديدة، نار عظيمة، حتى نكونَ مُسْتعدَّيْن عندما نلمح سفينة، وعندها تعود إلى وطنك، كما أننا سنفعل شيئًا آخر. سنلعب كرة القدم؛ أنت وأنا. ما رأيك في هذا؟»
وقلت: «لا بأس.» لم أكن أستطيع أن أقول أكثر من ذلك. لقد تمكَّن في تلك اللحظات القليلة أن يزيح عبء إحساسي بالذنب كله من على كاهلي وأن يمنحني سعادة غامرة، بل أملًا جديدًا مُشْرِقًا بَرَّاقًا.
«لا بأس لا بأس. فَلْتَنَم الآن. لدينا عمل كثير غدًا. وأيضًا كثير من كرة القدم.»
وفي صباح اليوم التالي بدأنا نقيم منارًا على قمة التل فوق منزلنا بالكهف. واستخدمنا معظم كومة الحطب التي كنا جمعناها لموقد الطهو، وقمنا بتخزين الخشب الجافِّ في آخر الكهف، بل إنه ضحَّى ببعض أفضل قطع الخشب التي كانت من الركام الطافي، ولم يكن الأمر يقتضي نقلها لمسافة بعيدة، وهكذا لم يمر وقت طويل حتى كنا قد جمعنا ما يكفي لإشعال نار ضخمة، وقال كنسوكي إن ذلك يكفي مؤقتًا، وإننا نستطيع أن نجلب المزيد من الغابة، وأن نزيد المقدار يوميًّا بالكمية التي نريدها. وقال: «سرعان ما نشعل نارًا هائلة يستطيعون رؤيتها في أي مكان حتى في اليابان»، وضحك، ثم أضاف: «نتناول الغداء الآن، وبعدها ننام قليلًا، وبعدها كرة القدم. موافق؟»
وفي عصر ذلك اليوم نفسه استعضنا عن قوائم المرمى بالعِصِيِّ التي غرسناها في الرمل وجعلنا نتناوب دور حارس المرمى واللاعب الذي يصوب الكرة إلى المرمى؛ كانت الكرة قد فقدت الكثير من الهواء الذي نُفخت به، فلم تكن ترتد حين تضرب الرمل بها خيرًا من ارتدادها من الطين الذي كان يكسو الملعب الذي كنا نلعب فيه في الوطن، لكن ذلك لم يكن مُهمًّا. قد يكون كنسوكي شيخًا يتوكأُ على عصًا، وقد يكون قد بلغ أرذل العمر، لكنه كان يجيد تصويب الكرة إلى المرمى وإحراز أهداف لم أستطع صَدَّهَا، المرة بعد المرة.
ما أروع الوقت الذي قضيناه في اللعب لم يكن أيُّنَا يريد له أن ينتهي. كان حشد من قرود السعالي يشاهدنا في حيرة، وكانت ستلا تتدخل وتجري وراء الكرة كلما أحرز أحدنا هدفًا، حتى هبط الظلام فأرغمنا على العودة آخر الأمر، صاعدَيْن التل، وكان الإرهاق قد بلغ منا حدًّا لم يُتِحْ لنا سوى أن نجرع قدرًا كبيرًا من الماء، ونأكل موزة أو موزتين، قبل أن نأوي إلى حصير النوم.
ولم يتَأَتَّ لي سوى بعد المصالحة أن أعرف كنسوكي خيرًا مما كنت أعرفه في يوم من الأيام. حديثه بالإنجليزية كان يزداد طلاقًة باطِّراد، وكان من الواضح أنه أصبح يحب التحدُّث بالإنجليزية. ولسبب لا أعرفه كان أشدَّ سعادة بالحديث معي دائمًا ونحن نصيد السمك في زورقه ذي المساند. لم نكن نقوم بهذه الرحلات للصيد كثيرًا، ولم نكن نقوم بها إلا حين تقل الأسماك في المياه الضحلة فَنُضطَر إلى صيد السمك الكبير لتدخينه وحفظه.
كانت القصص تتدفق من فمه ونحن في البحر. فتحدث كثيرًا عن طفولته في اليابان، وعن أخته التوأم، وكيف كان يندم على دفعها من فوق شجرة الكَرَز في حديقة منزلهما، وكيف كسرت ذراعها، وكيف تُذَكِّره شجرة الكرز التي يرسمها بأخته دائمًا، ولكنها كانت هي الأخرى في نجاساكي عندما أُلْقِيَت القنبلة، وأذكر أنه ذكر لي أيضًا عنوان المنزل الذي كان يقيم فيه أثناء دراسته في لندن، رقم ٢٢ شارع كلانريكارد جاردنز، ولم أَنْسَ ذلك العنوان قط. وقال إنه ذهب إلى ملعب كرة القدم ليشاهد فريق تشيلسي، وبعدها جلس بجانب تمثال أسد في ميدان ترافالجار (الطرف الأغر) فأمره شرطي بالرحيل.
ولكن أكثر مَن كان يتحدث عنه كانت زوجته كيمي وابنه ميشيا، وكان يقول كم كان يود أن يرى ميشيا وقد أصبح رجلًا، وقال إنه لولا القنبلة التي أُلقيت على نجاساكي لأصبح ميشيا في الخمسين من عمره، ولكانت كيمي في مثل سِنِّه الآن أي في الخامسة والسبعين. وكنت نادرًا ما أقاطعه عندما يكون على هذه الحال. حاولت التسرية عنه مرة فقلت: «القنابل لا تقتل الجميع. وربما كانا الآن على قيد الحياة. مَن يدري! تستطيع أن تعرف. يمكنك أن تعود.» ونظر إليَّ نظرة غريبة كأنما لم يكن قد خطر له ذلك الاحتمال من قبل قط، وفي هذه السنين كلها. واستأنفتُ حديثي قائلًا: «ولمَ لا؟ عندما نرى سفينة ونشعل النار ويأتي من في السفينة لاصطحابي تستطيع أن تأتي معنا. يمكنك أن تعود إلى اليابان. لست مُرغَمًا على البقاء هنا.»
وفكر في الأمر برهة، ثم هزَّ رأسه قائلًا: «لا! لقد مَاتَا. كانت تلك قنبلة هائلة، قنبلة رهيبة فظيعة. وقال الأمريكيون إن نجاساكي دُمِّرتْ، كل منزل هُدِم. سمعتهم، أفراد أسرتي ماتوا قطعًا. سأبقى هنا. أنا هنا آمن. سأظل في جزيرتي.»
وكنا في كل يوم نزيد من الأخشاب التي بنينا المنار منها، فَغَدَا الآن هائلًا، بل أضخم من المنار الذي كنت أقمته على تل المراقبة، وأصبح من عادة كنسوكي في كل صباح، وقبل الذهاب إلى البِرْكَةِ للاستحمام، أن يرسلني إلى قمة التل حاملًا منظاره المقرِّب. وكنت دائمًا أفحص الأفق بمزيج من الرجاء والخوف. كنت قطعًا أتوق إلى رؤية سفينة، لا شك في هذا، كنت أتوق إلى العودة إلى الوطن، ولكنني كنت أخشى في الوقت نفسه ما يعنيه ذلك. كنت أحس بالاطمئنان والراحة كثيرًا مع كنسوكي. وكانت فكرة الفراق تملؤني بحزن رهيب، وعَقَدْتُ العزم على بذل قُصَارى جَهْدي لإقناعه باصطحابي، إذا مرت بنا سفينة أو عندما تأتي سفينة.
كنت أنتهز كل فرصة الآن لأحدثه عن العالم خارج هذه الجزيرة، وكلما تحدثت ازداد اهتمامه، فيما يبدو، بما أقول، ولم أكن أشير، بطبيعة الحال، إلى الحروب والمجاعات والكوارث. بل كنت أرسم أفضل صورة استطعت أن أرسمها لذلك العالم. كان يجهل الكثير الكثير. وكان يُبْدي دهشته من كل ما أحكيه، من فُرْن «الميكروويف» في مطبخنا، والكمبيوتر وما يستطيع أن يؤدِّيه، وطائرة الكونكورد التي تطير بسرعة تزيد على سرعة الصوت، والذين ذهبوا للقمر، والأقمار الصناعية. وكان الحديث عن تلك الأشياء يتطلب الشرح المفصًّل قطعًا. بل إنه لم يكن يصدق بعضها، في أول الأمر على الأقل.
وأتى دوره في طرح الأسئلة عليَّ، وكان يسألني بصفة خاصة عن اليابان، لكنني لم أكن أعرف الكثير عن اليابان، إلا أنني كنت أرى في وطني إنجلترا عبارة «صُنِعَ في اليابان» على أشياء كثيرة، من بينها فرن «الميكروويف»، وكذلك السيارات، والآلات الحاسبة، ومسجل الصوت الاستريو الخاص بوالدي، وجهاز تجفيف الشعر عند والدتي.
وضحك قائلًا: «أنا شخص «صنع في اليابان»! آلة قديمة جدًّا، لكنها لا تزال صالحة، لا تزال بالغة القوة.»
ورغم محاولاتي الدائبة للنبش في ذاكرتي، لم أجد بعد فترة ما أقوله له عن اليابان، لكنه كان ما يفتأ يسأل: «أنت واثق أنه لا توجد حرب في اليابان هذه الأيام؟» كنت واثقًا، إلى حد كبير، أنه لا توجد حرب فيها وقلت له ذلك. وعاد يسأل: «وهل عَمَّروا نجاساكي بعد القنبلة؟» وقلت له إن هذا صحيح، راجيًا أن أكُون على صواب. لم يكن في طوقي سوى بث الاطمئنان في قلبه قدر ما استطعت، إلى جانب سرد القليل الذي أعرفه وتكراره المرة بعد المرة. وكان فيما يبدو يتلذَّذُ بسماع ذلك، مثل طفل يستمتع بقصة خيالية مفضلة.
وذات يوم بعد أن أفَضْتُ في الحديث من جديد عن نوعية الصوت المدهشة لجهاز التسجيل «الاستريو» الذي يملكه والدي، وهو من ماركة «سوني»، والذي يجعل المنزل كله يرتجُّ بذبذبات الصوت، قال بصوت خافت هادئ: «ربما أعود يومًا ما قبل أن أموت إلى وطني. ربما أعود يومًا ما إلى اليابان. ربما.» لم أكن واثقًا أنه كان يعني ما يقول، ولكن قوله كان يعني أنه ينظر في الأمر على الأقل، وهو ما جعلني أتفاءل. لكنني لم أصدق أن كنسوكي كان جادًّا حقًّا إلا في ليلة السلاحف البحرية.
كنت غارقًا في النوم عندما أيقظني، قائلًا: «تعال يا ميكاسان، تعال بسرعة. هيا! تعال معي!»
وسألته: «لماذا؟» لكنه كان قد انطلق. وَعَدوتُ خلفه في ضوء القمر فأدركته في منتصف الطريق المؤدي إلى البحر. وسألته مرة أخرى: «ماذا نفعل؟ وأين نذهب؟ هل جاءت سفينة؟»
وقال: «سترى فورًا. سترى في الحال.» كانت ستلا تجري في أعقابي حتى وصلنا إلى الشاطئ. لم تكن مُغْرَمَة بالخروج في الظلام، ونظرتُ حولي فلم أجد شيئًا. كان الشاطئ فيما يبدو مهجورًا خاويًا. وكانت الأمواج تصطدم بقلق. والقمر يركب متن السحب، وَبَدَا العالم من حولي كأنما يمسك أنفاسه. لم أبصر ما يحدث حتى ركع كنسوكي على ركبتيه فجأة في الرمال. قائلًا: «إنها صغيرة جدًّا، وليست قوية جدًّا في بعض الأحيان. وأحيانًا تأتي الطيور في الصباح وتأكلها.» وهنا شاهدتها.
كنت أظن أولًا أنها سَرَطَانَات بحرية أي كابوريا، ولكنني كنت مخطئًا، كانت سلاحف بحرية دقيقة الحجم، أصغر من الحَمَسَة أي سلحفاة الماء العذب، وكانت تتسلق بعناء جحورًا في الرمل ثم تسرع الخُطَى عَدْوًا على الشاطئ نحو البحر. شاهدت أولًا واحدة، ومن بعدها أخرى فثالثة، ثم نظرت إلى الشاطئ فوجدت عشرات منها، بل مئات، وربما آلاف، وهي تُهرَع جميعًا على الرمال التي يسطع عليها ضوء القمر وتنزل البحر. كان كل مكان في الشاطئ ينبض بحركتها. واقْتَرَبتْ ستلا من إحداها تتشممها فنهرتها، فتثاءبتْ ونظرت ببراءة إلى السماء تتطلع إلى القمر.
ورأيت أن إحداها قد انقلبت على ظهرها في قاع أحد الجحور، وأرجلها تركل الهواء في هياج. ومد كنسوكي يده فالتقطها برفق ووضعها على أقدامها من جديد فوق الرمل، قائلًا: «اذهبي إلى البحر أيتها السلحفاة الصغيرة، ولتعيشي فيه الآن، وسرعان ما تكبرين وتصبحين سلحفاة بحرية جميلة. وربما تعودين يومًا ما وتقابلينني.» وجلس على عَجُزِهِ وهو يرقبها تجري، والتفت إليَّ قائلًا: «هل تعرف ماذا تفعل هذه يا ميكا؟ إن السلاحف الأمَّهات تضع بَيْضَها في هذا المكان. وفي ليلة معينة من كل عام، ودائمًا عندما يسطع نور البدر، تولد السلاحف الصغيرة. والطريق إلى البحر طويل. ويموت كثير منها. ولهذا أسهر عليها دائمًا. أساعدها. وأطارد الطيور حتى لا تأكل السلاحف الصغيرة. وبعد أعوام كثيرة، عندما تكبر السلاحف، تعود إلى هنا لِتَضَعَ البَيْضَ من جديد. قصة حقيقية يا ميكاسان.»
وسهِرْنا طول الليل نرعى المواليد الكثيرة، ونرقب صغار السلاحف وهي تجري في البحر حتى تنجو. وقمنا معًا بالمرور على الشاطئ، وكنا نمد أيدينا في كل جُحْر نجده لنرى إن كان فيه سلاحفُ أخرى لا تستطيع الخروجَ أو جَنَحَتْ فَتَعَثَّرَتْ. ووجدنا عددًا منها لا تقوى على المسير وإتمام الرحلة، فحملناها إلى البحر بأنفسنا، وَبَدَا أن البحر يبعث فيها الحياة، إذ كانت تنطلق سابحة دون حاجة إلى درس في السباحة. وساعَدْنا عشرات منها كانت مقلوبة على الوقوف على أقدامها، ورافقناها حتى وَصَلَتْ إلى البحر سالمة.
وعندما بزغ الفجر وانقضَّت الطيور تريد أن تلتهمها، كنا جاهزين لطردها وإبعادها. كما شاركت ستلا في الطِّرَاد نابحة إياها، وكنا نجري نحوها صارخين مُلَوِّحين بأيدينا أو كنا نقذفها بالحصى. لم يكن نجاحُنا كاملًا؛ ولكن معظم السلاحف نجحت في الوصول إلى البحر، ولكنها لم تكن آمنة تمامًا في الماء، فعلى الرغم من جهودنا المستميتة، تمكنت الطيور من التقاط عدد كبير منها بمناقيرها وطارت بها.
وما إن انتصف النهار حتى انتهى كل شيء. كان كنسوكي يقف على الشطِّ وقد غمر الماء عقبيه، وهو يرقب آخر السلاحف وهي تسبح بعيدًا عنا. وضع يده على كتفي قائلًا: «إنها بالغة الضآلة يا ميكاسان، ولكنها شُجاعة جدًّا. إنها أشجع مني. إنها لا تعرف ما سوف تجده في البحر، ولا ما سوف يحدث لها، ولكنها تخوضه مهما يكن الأمر. شَجاعة بالغة. ربما تعلمتُ منها درسًا نافعًا. لقد استقرَّ رأيي الآن؛ عندما تأتي سفينة يومًا ما، ونشعل النار، ويعثرون علينا، فسوف أرحل. سأرحل مثل السلاحف البحرية. سأذهب معك. سأعود إلى وطني في اليابان. ربما وجدتُ كيمي، وربما وجدتُ ميشيا. سوف أعرف الحقيقة. سأذهب معك يا ميكاسان.»