فصل في آداب المغني والسامع
اعلم أنه ينبغي للمغني عند دخوله مجلس الغناء أن يكون متأدبًا؛ لأنه لا يخفى أن هذه الصناعة صناعة أهل الذوق والفطنة والأدب — وأن يكون مجملاً بالثياب النظيفة المفرحة المعطرة — وأن يكون بشوش الوجه عذب الألفاظ — وينبغي له أن لا يتعاطى مسكرًا قبل غنائه أو في أثنائه؛ لأن ذلك ربما يدهش عقله ويمنعه من معرفة إيقاع الأنغام والأوزان في محلها — وربما يتكلم في المجلس بما لا يليق بسبب سكره مع أنه نديم المجلس وزينته، وأن يكون له دراية بضرب (الدف) لأن سير الغناء وآلات الطرب عليه بحيث لو اختل الدف في ضربه لاختلت الآلات وفسد الغناء — ولكن لما كان جل رؤساء (التخوت) أصحاب الأجور الكبيرة لا يعرفون إلا بعض الأوزان الصغيرة — ومعرفتهم في الضرب على الدف مقصورة جدًا — أراحوا أنفسهم من هذا العناء بأن جعلوا لهم في التخت دقاقًا مخصوصًا — واكتفى بعضهم بضربه على العود — حتى إذا ما ترك العود قليلاً وأراد أثناء الاشتغال أن يمسك الدف يظهر خطؤه حالاً لكل ذي بصيرة وعلم — أقول ذلك وأنا على يقين منه — فعسى أن يتركوا الكسل والغطرسة جانبًا ويتعلموا من الصغار الذين يشتغلون معهم بأقل الدريهمات (الأوزان) لأنها الجزء الثاني من صناعة هذا الفن الذي لا يتم إلا به (وذكر أن نفعت الذكرى).
وأحسن ما كان الافتتاح في حضرة الأمراء والكبراء بالدعاء والثناء — أي أنه يلحن على كلام المديح ألحانًا تشابه افتتاحيات التياترات — وأن يصاغ شعر كهذا مثلاً.
ومثل:
ومثل:
ومثل:
ومثل:
ومثل:
ومثل:
ومثل:
ثم يقابل المغني الأوقات التي يقع فيها الاجتماع بما يشاكلُها فيغني في آخر الليل مثلاً من (الراست):
ويغني في الصبح:
ويغني في البساتين والرياض:
ويغني في اليوم الطرير:
ولكن من الغريب أن أكثر الناس أيضًا إذا سمعوا أشعار العرب التي قيلت في الديار والرسوم. والآثار والمرابع والأوطان والأطلال والدِّمَن وصنعة الخيل والإبل والوحش والوقائع والثارات والأيام والأعلام والمهامه والسباسب والبيد والقفار يضحكون منها ويستبشعونها؛ لأنها تبعد عن أفهامهم ولا يؤثرون من الأشعار إلا ما كان ركيكًا وفي الغزل والروض والخمر والقيان والمجالس لقرب ذلك من أفهامهم، وسرعة ملاءمته لألفاظهم — فيحتاج المغني بهذه الصناعة على الارتياض بالنظر في النحو واللغة، واستفهام الغامض من كلام العرب ومعاني أشعارها وألفاظها ليسهل عليه حفظها وفهمهما؛ فإنها أشعار جزلة فحلة كأنها نحت من صخر تتضمن أخبار العرب ووقائعهم وأثمالهم وأقوالهم وأخلاقهم ومفاخرهم وكرمهم وأنسابهم وأحسابهم، ولكن على شرط أن لا يغنيها إلا لمن يفهمها ويقدرها قدرها — كما وأنه من العيب البيِّن على الأديب أن يطلب الكلام الركيك ويترك الشعر الجيد.
أما ما يجب على الملحن، فهو أن يعتمد العناية بوضع الأشعار فيما يشاكلها من الألحان — فما أغفل ذلك لم يعتد له بكبير فضل — قال قيدرس: الموسيقار الفاضل يجلب اللحن نحو المعنى ومتى لم يقدر الموسيقار على أن يجلب إلى معنى النفس بالشعر جسد اللحن، فليس هو بموسيقار كامل إذا كان شاعرًا — فإن لم يكن شاعرًا وكان صاحب لحن فقط فعلى الشاعر أن يخرج معنى النفس بالشعر وعلى الموسيقار أن يلبسه لحنًا مشاكلاً له — وقد تكون الأشعار أصنافًا عدة في الفخر — والشجاعة والزهد — والغزل — والصيد — والشرف — والحزن — والمراثي — والثارات — والقدر — والوفاء — والفرقة — والاجتماع — والغرام — والسلو — وصفة الخيل — والزهر — والمياه — والبرك — والبحار — والبساتين — والنزَه — والبعد — والقرب — والظفر — والفتح — والرياض — والحسد — والكتمان — والمصافاة — والكرم — والمواساة — والتهنئة — والدعاء — والحال — والثياب — والدواة — والقلم — والكتابة — والبلاغة — والخطابة — والسياسة — والحلم — والرياسة — والشرف — والأعراض — والشراء — والحدق — والقصور — والقدود — والنهود — والأرداف — والتثني — واستنجاز الوعد — والادكار بالحوائج — والحث — والحمية — والتحريض — والتعزية — والتسلية — والحضور — وماشا كل هذه الأحوال، وما يخلو أحد من أن تكون حالة متعلقة بشيء من هذه الخلال — ولكل معنى فيها ما يشاكله — فسبيل المغني أن يضع على كل معنى ما يليق به — فإن مدح فخَّم — وإن ذكر الوقائع أرهب وأرعد وأبرق — وإن ذكر الغزل رفق — وإن رثا ناح — وإن ذكر الموتى بكى — وإن ذكر الشباب تأسف — وعلى هذا المعنى يكون اعتماده.
- أولاً: يجب على من يريد معرفة سر التلحين ليلحن — أن يكون حافظًا لمئات من الموشحات العربية والبستات التركية والبيشروات والأدوار والطرق وإلى غير ذلك من جميع المقامات؛ ليعلم كيف فعل الأولى سلفوا.
- ثانيًا: أن يكون عالمًا يعلم التصوير أي نقل الطبقة من مقام إلى مقام آخر.
- رابعًا: أن لا يستقبح تلاحين الأجانب، فإنه بالتعود على سماعها تصير عنده ملكه التمييز، فيعرف ثمة الحسن منها والردى.
- خامسًا: يلزم أن يكون له معرفة بالأوزان، وما يصلح منها للحركات البطيئة والسريعة لتساعده على الكيفيات الموسيقية من حماسية ومسكنة ومفرحة ومحزنة إلخ.
- سادسًا: أن تكون له ملكة التلحين؛ كي يكون تلحينه مقبولاً عند الناس.
والطريقة المثلى للملحن الماهر — هو أن يفرض بأنه واضع جميع ما يحفظه من التلاحين من المقام الذي يريد التلحين منه أمامه — كأنها أثواب مُحاكة من حرير وصوف وكتان وقطن إلى غير ذلك — وكل ثوب منها مركب من كل هذه الأصناف مثلاً — والغرض انتخاب الحرير من كل ثوب أي انتخاب القطع المطربة من كل تلحين منها — الملحن المتمكن الذكي يمكنه أن يلتقطها وبعلمه يربطها ببعضها بمناسبات نغمية — فتكون الخلاصة قطعة غاية في الطرب والإتقان لتزاحم القطع المطربة فيها. وفي هذه القدر كفاية لقوم يفقهون.
يروى أن الواثق سأل إبراهيم بن ميمون الموصلي عن التلحين؟ فقال يا أمير المؤمنين: أمثل الطرب بين عيني وأخلي من الفكر خاطري، وأسلك إلى الألحان بدليل من المعرفة فلا أرجع خائبًا، فقال: له بحق تقدمت.
وقد سأل الحسن بن الطحان نفس هذا السؤال فأجابه: — إذا أردت التلحين أجريت سوابق الأشعار في ميدان الأفكار بعد أن أخلي خاطري من خواطر الأفكار الرديئة، فأنتخب أغزلها وأجزلها شعرًا فألبسه حلل الألحان حلة بعد حلة فأي حلة رأيته متهللاً مشرقًا فيها أفضتها عليه، وحليت جيده بجواهر النغم وجلوته على سمعي وتأملته بعين معرفتي فإذا رزق حظوة الرضا، وسلم رأيي فيه من الهوى أظهرته للوجود وغنيته مرتادًا للجود — فأعجب بهذا الكلام ووصله وخلع عليه — وبلغ باقي المغنين ذلك فكادوا يموتون حسدًا.
أرجوكم بلسان كل محب لرقي هذا الفن أن تتركوا التحاسد الذي بلغ بينكم أقصى غاياته، وأن تتمسكوا بالوئام والاتفاق وتجتمعوا على المحب والألفة وتتفقوا في المحافظة على شرف الفن ورفع شأنه — وأن تنسوا المخاصمات والمشاحنات الواقعة بينكم — وبدلاً من أن تقولوا إذا سئلتم عن أحد أنه غبي جاهل لا يعرف من قواعد الفن شيئًا — أن تقولوا له: مجيدٌ في صناعته جاد في إتقانها مثلاً — حتى لا تثبط همته ويثابر على عمله بجد ونشاط، ولكي لا يعرف منا الغير موضع الضعف والخطأ، فيذكروه لنا وقت المجادلة. ومن جهة أخرى أقول: ولا تثريب عليّ اليوم بأن سمعتكم لدى الناس صارت رديئة، وكرهكم لبعض سارت بذكره الركبان فضربت به الأمثال في جميع الأصقاع والبلدان — وفوق ذلك فإنهم يتهمونكم بأنكم ذوو نفوس صغيرة لا تميلون إلى منفعة بعضكم البعض ولا ترغبون في أن يظهر من بينكم نابغةٌ تنتفعون بعلمه وينتفع الناس بعمله — وإن معاشرتكم لبني طائفتكم أساسها النفاق — وأعمدتها المداهنة والخداع، وهذا القول — والحق يقال — جارح لإحساس كل حر شريف ولهجة الناس به مرارًا ضربة شديدة على الفن وازدراء بأهله وتحقير لمن يود أن يتصف به وينسب إليه.
فيا أرباب الطرب والكياسة والأدب أني لا أحب من صميم فؤادي أن تتصفوا بهذه الصفات الممقوتة من الله والناس — فأسألكم بحق رابطةِ الفن وجامعة الصناعة أن تكملوا أنفسكم بمحاسن الأخلاق وأحاسن العادات، وأن تتركوا ظهريًا وساوس الشيطان وما يبثه في صدوركم من الغل والحقد وأن تنزعوا من أفئدتكم أدران النميمة والوقيعة بإخوانكم حتى تصل بكم إن شاء الله في القريب العاجل إلى ذروة كمال هذا الفن وإتقانه.
ومن أقبح ما ترى العين وتسمع الأذن أن يقاطع المغني متشاعرٌ يدعي الخطابة فيضايق المغني والسامعين بوريقة لفق فيها بضع أبيات من الشعر الركيك أو النثر المستهجن فوقف موقف الخطيب ونعق نعيق الغراب، ونادى بما لا يسمع ولا يجاب — ولا بد أن يصادف مثل هذا الأحمق صفير أو تصفيق وكلاهما من علامات الاستهجان وإشارات عدم الاستحسان — إلا إذا كان التصفيق في النهاية؛ فإنه يكون استحسانًا ممقوتًا أيضًا؛ لأنه غير منطبق على عوائد الشرقيين وعلى من يضيع هذا الغر على السمر والمتسامرين هزيعًا من الليل لسماع كلمة الهُراء الذي لا يجدي نفعًا.
والأغرب أنه لا يكاد يجلس هذا الخطيب الصقيع الذقن حتى ينهض بعده مهزار يقابله آخر مثله خفة وظرفًا فيتبادلان أنواع الشتائم والقذف المسمى عندنا (تنكيتًا) ويأخذان على ذلك مكافأة من صاحب العرس يحرم منها الخطيب الأول حيث يتساوى الجميع على مائدة الطعام — فالأجدر بنا أن نقتلع جذور مثل هذه العوائد؛ فإنها من رأينا من مقدمات المفاسد.