ترجمة (المرحوم الأستاذ الكبير الشيخ أحمد أبي خليل القباني الدمشقي)
هو العلامة الفاضل والأديب الكامل الأستاذ الجليل، الشيخ أحمد أبي خليل.
وُلد المترجم من أسرة كريمة المحْتِد بمدينة دمشق المحمية. سنة ١٢٥٨ هجرية. ولما ترعرع شمر عن ساعد الجد في اجتناء ثمر العلوم. حتى صار بين أخدانه كالبدر بين النجوم. وارتقى ذروة المعارف. فتحلي من المجد بالتالد والطارف، وفي ذلك الحين كلفه (صبحي باشا) والي تلك الديار أن يؤلف جوقًا للتمثيل يرقي بواسطته الأفكار السقيمة. إلى مكارم الأخلاق والمبادئ القويمة. فقام بهذه المأمورية خير قيام. حتى افتخر به الخاص والعام.
وما زال بين آله وصحبه في أسعد حال. وأرغد عيش وأنعم بال.
حتى أنزلته الأيام بعد إثبات رجله في ركابها. وخذلته حوادث الدهر بعد أن ذلل العظيم من صعابها.
ذلك أن بعضًا من مشايخ الشام. قدموا تقريرًا إلى دار خلافة الإسلام. فالواقية ما معناه: — إن وجود التمثيل في البلاد السورية. مما تعافه النفوس الأبية. وتراه على الناس خطبًا جليلاً. ورزءًا ثقيلاً؛ لاستلزامه وجود القيان. ينشدن البديع من الألحان. بأصوات. توقظ أعين اللذات. في أفئدة من حضر من الفتيان والفتيات. فيمثل على مرأى الناظرين. ومسمع من المتفرجين. أحوال العشاق. وما يجدونه من اللذة في طيب الوصل بعد الفراق. فتطبع في الذهن سطور الصبابة والجنون. وتميل بالنفس إلى أنواع الغرام والشجون. والتشبه بأهل الخلاعة والمجون. فكم بسببه قامت حرب الغيرة بين العواذل والعشاق! وسفك الدماء البريئة وأراق. وكم سلب قلب عابد. وفتن عقل ناسك وحل عقد زاهد! كذا قد يرى الإنسان فيه من اللهو، وأحاديث اللغو ما يذهب بفكره. ويضل الطير عن وكره. حتى إذا ما ارتكبت النفس أعظم الموبقات. واجترمت أنكر المحرمات. وابتذلت الخدور. ونفقت سوق الفحش والفجور. وذهب المال. وساء الحال. لا ينفع من ثم التلافي بعد التلاف. ولا يرد السهم إلى القوس وقد خرق الشغاف — ومثلوا بالتمثيل، زاعمين أنه أس كل رذيلة وفعل وبيل…
ومن أجل مزاياه أنه كان خصيصًا بطريق من طرق الغناء. وتفرَّد بها تفرد القمر في السماء، فكان بعد انتهاء كل رواية يلقي من القطع الموسيقية شذورًا تنزو لها الأكباد. ويتحرك لحسن وقعها الفؤاد. حتى أحرزت مصرنا من إقامته فيها فنونًا جزيلة. وفضائل جليلة. يقدرها حق قدرها أولو السجايا الحميدة والعقول الحصيفة. ولا ينكرها إلا ذوو الأغراض السافلة والآراء السخيفة.
وكان أيضًا على جانب عظيم من ثبات الجأش وقوة العارضة. في تفهيم المعنى وتقرير القاعدة. فيقولهما بكلام بسيط يقرب من الأفهام. ويسهل تناوله لمن له بهذا الفن أدنى إلمام.
ولطالما سمعته يقول: — التمثيل جلاء البصائر، ومراءة الغابر. ظاهرة ترجمة أحوال وسير. وباطنه مواعظ وعبر. فيه من الحكم البالغة. والآيات الدامغة. ما يطلق اللسان، ويشجع الجبان. ويصفي الأذهان. ويرغب في اكتساب الفضيلة. ويفتح للبليد باب الحيلة. ويرفع لواء الهمم. ويحركها إلى مسابقة الأمم. ويبعث على الحزم والكرم. يلطف الطباع ويشنف الأسماع. وهو أقرب وسيلة لتهذيب الأخلاق ومعرفة طرق السياسة. وذريعة لاجتناء ثمرة الآداب والكياسة. هذا إذا تدرج فيه من ذكر الأحوال. إلى ضرب الأمثال. ومن بيان المنهاج. إلى الاستنتاج؛ ليرتدع الغر من غيه وينزجر. ويجد العبرة في غيره فيعتبر.
صفاته: — كان رحمه الله أنيسًا وديعًا ذا خلق وسيم. وطباع أرق من النسيم، أديبًا ذَرِبَ اللسان، لبيبًا لم يختلف في فصاحة ألفاظه اثنان. يجمع في شعره الرواية والرويّة. والبديهة القوية. كل بيت له من الشعر خيرٌ من بيت تبر. له سماحة وحماسة. وتدبير وسياسة. مع ثبات أقدام. وصبر وإقدام، قد صيغ من أكسير اللطافة. وتجسم من روح الظرافة. كريم الفقر. وكذلك ذو المنة إذا قدر. مقبول الرجاء، عند الأمراء. لا يمنعه من مساعدة الضعفاء من أبناء فنه إلا ما انطوى عليه البعض من سوء النية. وخبث الطويَّة. له معرفة تامة ببعض اللغات غير العربية؛ كالفارسية والتركية — ولم يزل اسمه يضرب في كل مكان به المثل. كما كانت باطن يده في حياته للندى وظاهرها للقبل، وبالجملة فمحاسنه لا تحصى بعد. وأوصافه لا تدرك؛ لأنها لا تنتهي إلى حد.
سافر إلى الأستانة في آخر عمره. ولا رفيق له غير علمه وفخره. فأكرم مثواه بعض وزرائها ذوو النخوة والمروءة. والحمية والفتوة. وأنزله المنزل الرحيب. واعتنى به اعتناء المحب للحبيب… وأخيرًا استأذنه في الظعن. وأعلمه باشتياقه على الوطن. فآب إلى الشام. شاكرًا جميل هذا الهمام. مثنيًا عليه ثناء الروض على الغمائم. مترنمًا بذكر محاسنه ترنم الحمائم. فوافته المنية ليلة سبع وعشرين من رمضان سنة ١٣٢٠ هجرية.
*** فهلعت القلوب عند هذا النبأ العظيم. وارتاعت النفوس لوقعه الأليم بموته أحيى الأسف. وشوى الأكباد على جمر التلف.
— فكم ارتفعت عليه من الصدور حسرات وزفرات. وسالت من المآقي دموع وعبرات فواها لحشاشة الفضل أرصدها الدهر غوائله. وبقية الفن جر عليها كلاكله. ويا لهفي على هضبة العلم كيف زلزلت. وحدة الذكاء والفهم كيف قللت.
ترك خلفه فنونًا تبكيه، وتلامذة ترثيه. ومرسحًا كان بوجوده مجمع الأنس ونادي الهنا والسرور. فإذا ما صعد عليه صفق الناس طربًا وانشرحت الصدور. تفرق شمل صحبه والرفاق. وآخر الصحبة الفراق.
ذلك هو الموت الذي لولاه لما كان لك للشجاعة فضلٌ على الجبن والضراعة، والكأس التي يستوي في تجرعها الصغير والكبير. والسبيل المحتوم سلوكه على الصعلوك والأمير. فكلنا مسوفون بقدرة مَن إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون.