ترجمة (المرحوم عبده أفندي الحمولي)
إذا بحث الباحث في أطوار الناس وأخلاق الخلق؛ تعين عليه أن يجردهم من طيالس المراتب والمناصب ومظاهر الثروة والجاه، ثم ينفي في نظره ما بينهم من تفاوت الطبقات واختلاف الدرجات التي وضعها الناس لأنفسهم بأنفسهم، ثم ينظر وهم على تلك الحالة المجردة إلى ما وضعه الله فيهم من المواهب والمزايا وأسباب التفاضل بينهم. وما هذه الدنيا في نظر الحكيم إلا ملعب وما الناس في مراتبهم ودرجاتهم إلا كالمشخصين فيه يتزيّون بالأزياء المختلفة.. هذا ملك وهذا وزير وهذا قائد وهذا أمير، فإذا أراد الباحث أن يعرف حقيقة أقدارهم وقيمتهم في ذواتهم؛ نظر إليهم من وراء الملعب مجردين من تلك الألبسة الفاخرة في الحالة التي كانوا عليها قبل تشخيص أدوارهم، هنالك يرى الباحث في طبائع الناس وأخلاقهم أنهم مختلفون بينهم ومتفاوتون في سلسلة الترقي والكمال تفاوت الصوان من الياقوت في الأحجار السيالة من البنفسج في النبات، والفهد من القرد في الحيوان، ومن الناس من تميزه الطبيعة بكمال الخلقة، وترتقي به في كمال التصوير، فينشأ فيها من حسن الاتساق ولطف التركيب ما تتجلى به في عالم الإحسان والإتقان، فيصدر عنه من بدائع الأعمال ومحاسن الأفعال ما تطرب له النفوس وتشجى به القلوب، فإن نشأ في طبقة الشعراء كان كالمعري، وإن نشأ في طبقة الحكماء كان كابن سينا — وإن نشأ في طبقة الجند كان كطارق بن زياد — وإن نشأ في طبقة المغنين كان كإسحاق، أو كهذا الفقيد الذي فقدناه بالأمس.
وهب المرحوم عبده الحمولي سجية الإحسان ومزيّة الإتقان، فكان وحيد عصره وفريد دهره في صناعته مارسها بين الناس أكثر من أربعين عامًا، لم يضارعه فيها مضارع ولم يلحق به لاحق، وانحصر فيه الغناء في مصر طول هذه المدة فصار الكل له مقلدين.. يأخذون عنه ولا يبلغون شأوه ولا يتعلقون بغباره، ولا غرو فإنه هو الذي أخرج فنّ الموسيقى من سقوطه، وتأخره إلى ارتفاعه وتقدمه ولم يقتصر على طريقته التي وجده عليها، بل أخذ فيه بأسباب الاختراع والابتداع والتحسين والتهذيب، وأنشأ له طريقة جديدة بحسن اجتهاده ورقة ذوقه.
وُلد المرحوم في سنة ١٢٦٢ هجرية وليس ذلك على التحقيق بمدينة طنطا، وكان والده يمارس تجارة البن وكان للمروحم أخ أكبر منه فوقع شقاقٌ بين أخيه وأبيه، ففر به أخوه من وجه أبيه هائمًا به في الخلوات، وكان كلما تعب المرحوم من السير لصغر سنه حمله أخوه على كتفه؛ حتى دنا الغروب وهما على آخر رمق من الجوع والعطش وتعب السير لا يجدان أحدًا في وجههما يأنسان به، ويلجآن إليه إلى أن سخَّر الله لهما رجلاً آواهما وسدّ رمقهما في ليلتهما ثم أقاما عنده أيامًا.
ومن غريب الاتفاق أن الرجل كان يشتغل بصناعة الغناء وبضرب الآلة المعروفة بالقانون في طنطا وسمع صوت المرحوم في بعض روحاته وغدواته فأعجبه، فعاد به إلى طنطا واشتغل معه هناك مدة وجيزة، وقد بقِي تأثير تلك الوحشة والانفراد مع التعب والجوع في تلك الليلة التي خرج منها المرحوم من بيت أبيه مرسومًا في رأسه، فكنت تراه إلى آخر عمره ينقبض صدره ويتقطب وجهه كلما دخل عليه أوان الغروب وطالما قص هذه القصة على خُلصائه ممن كانوا يعجبون لانقلابه الفجائي من السرور إلى الانقباض في ذلك الميعاد ثم رأى ذلك الرجل الذي آواه عنده واسمه المعلم شعبان أن يحضر به إلى مصر، فاشتغل معه في قهوة معروفة في ذلك العهد بقهوة عثمان أغا في غاية الأشجار وكانت موضع حديثة الأزبكية الموجودة الآن، فاتسع به رزقه وحرص عليه أن يخرج من يده ويستميله غيره من أهل هذه الصناعة، فيُضيع عليه رزقه فرأى أن يربطه بعقد زواجه من ابنته، فاستذله وأسره وانقلب يعامله أسوأ المعاملة وكان في مصر رجل طائر الصيت في فن الغناء اسمه (المقدم) أعجب بالمرحوم، فسعى جهده ليلحقه به ويشتغل في (تخته) حتى وصل إلى غرضه وجذب المرحوم وفصل بينه وبين زوجته قطعًا لعلاقته بصاحبه وأنقذه مما كان فيه واستمر معه يغني على الطريقة التي كانت معروفة عند المصرين في ذلك العهد — وأصلها على ما يعلم من تاريخ وضعها أن رجلاً من أهل حلب اسمه شاكر أفندي، وفد إلى القطر المصري في المائة الأولى بعد الألف وكان فنَّ الألحان فيه فنًا مجهولاً، فنقل إليه جملة تواشيح وقدود وكانت هي البقية الباقية من التلاحين التي ورثها أهالي حلب عن أهل الدولة العربية، فتلقاه عنه بعضهم وصارت عندهم ذَخيرة نفيسة واشتهر حرصهم عليها وصار الواقفون عليها يحرمون الناس من تلقينها للتفرد بها، وبقيت بينهم على بساطتها الأصيلة بدون الشد والتصوير، فكانت قاصرة على أمهات المقامات وبعض الفروع المقارنة لها، وكانت بالنسبة للغناء مثل حروف الهجاء بالنسبة للكلام وأقام المغنون في مصر على هذه الطريقة البسيطة لا يتصرفون فيها أقل تصرف، فلا يدخلون فيها حسنة ولا يخرجون منها سيئة إلى عصر عبده فتلقاها المرحوم منهم على أصلها وغنى بها مدة ثم رفعته سجيته في الطرب وحس ذوقه في الغناء أن يتصرف فيها شيئًا ما مع المحافظة على الأصل وعدم الخروج عن دائرته، فأزال عنها بعض الجفوة الحلبية — وما زال يرتقي المرحوم بحسن الغناء حتى ألحقه المغفور له (إسماعيل باشا) بمعيته وسافر معه إلى الأُستانة مرارًا وسمع هناك آلات الموسيقى التركية وجلب إسماعيل باشا في عودته إلى مصر جماعة من أكابر المغنيين فيها، فكان المرحوم يحضر معهم دائمًا في اشتغالهم بالغناء، فاستمالته ألحانهم وأخذ يغني منها ما يلائم المزاج المصري ويناسب الطريقة العربية ورأى المجال واسعًا له في الموسيقى التركية؛ إذ وجد فيها كثيرًا من النغمات التي لم يكن للمصريين علم بها ولم تطرق آذانهم من قبل مثل النهاوند والحجازكار والعجم، وغيرها فنقلها إلى أدوار الغناء المصري ثم التفت إلى بقيَّة مصطلحات الغناء المختلفة في ذلك العصر مثل المتشددين والمشهورين بأولاد الليالي (الفقهاء) والعوالم (القيان) والمدّاحين (الضاربون بالدفوف) والتقط منهم ما استنسبه، فأضافه مع المختار من الغناء التركي وخلطها بالطريقة القديمة، فجعلها طريقة جديدة وخاصة به — وظهر في مصر وفيها شيوخ المغنين فصار شيخًا عليهم، وقد دعاهم جهلهم بما صنع إلى استنكار طريقته في أول الأمر، ولكن ما لبث الناس أن ذاقوا حلاوتها وطلاوتها، فعمّ استحسانها وذهب استنكارها وانتصر بحسنها عليهم وله فيها من التلاحين أشياء كثيرة.
ومن مزاياه في صناعته أنه كان شديد الطرب لا يقلْ طربه في أثناء تأديته للغناء على طرب السامع له — وهو أول مغن مصري تنبه إلى حسن الإيماء واستصحاب حركات الغناء بالإشارات التي تقوم مقام الحكاية — وكان شديد الحفظ لما يسمعه مجتهدًا دائبًا في استخراج محاسِن المسموع وطرح معايبه، ذا قدرة أن يبدل القبيح فيه بالحسن، وكان ذهنه شديد التعلق بالنغم، فلا يكاد ينساه وربما نام وهو على (التخت) في أثناء الغناء ثم يستيقظ فيرجع إلى الغناء بما كان فيه من غير مراجعة آلة أو استرشاد بأحد ممن معه كأنما كانت الطبقة رسمت في ذهنه فلم تشوش عليها الأصوات التي مرت عليه وهو في نومه ولم تؤثر عليه الغيبوبة في شيء — وكان واسع التصرف يسترسل في النغمة من حادها إلى ثقيلها فلا يترك فرعًا من الفروع إلا ويحيط به بما يشتفي منه السامع؛ حتى إنه يتخيل أن كل الغناء منحصر فيها، وكان لطيف التنقل يوهم السامع في غنائه بأن مراده ما هو فيه حتى إذا رسخ ذلك في ذهنه انتقل منه انتقالاً إلى مقام آخر يندهش منه السامع، ثم يندرج حتى يعود إلى ما كان عليه وذلك من أعظم المزايا وأكبر الفضل في هذا الفن — وجملة القول في باب الغناء أن المرحوم جدد فيه وأبدع وأحياه في مصر بعد أن كان شيئًا خاملاً ثم تمكن فيه من التوفيق بين المزاجين؛ المزاج التركي والمزاج المصري — فبعد أن كان أهل الطبقة الحاكمة في المصريين من الأصل التركي لا يطربون من الغناء المصري ولا يتفتون إليه — أصبحوا بفضل المرحوم وما وفقه فيه من الأنغام التركية مقبولاً عندهم مفضلاً لديهم — وبعد أن كان المصريون لا يطربون من الغناء التركي، ولا يروقهم غير طريقتهم طريقة التوجه والأنين أصبحوا يطربون لما يلائمهم من الأنغام التركية التي أنعش بها طريقتهم القديمة — فهو الجدير بأن يسمى في مصر معدل المزاجين بين الأمتين، وكما امتزج الجنسان في الأجسام بالأنساب، فقد مزج بينهما عبده بالغناء في الأرواح — وكفاه فخرًا أنه لم يصل أحد من قبله ولن يصل من بعده إلى مثل ما وصل إليه من هذا الابتداع والاختراع الذي اهتدى إليه (اللهم إذا عضدت أفكار علماء هذا الفن الراغبين في رقية الأمة والحكومة) وقد ميزه الله به من لطف الذوق وشدة الذكاء وحدة الطرب ومحبة الإتقان والترقي في درجات الكمان هذه مزايا المرحوم من جهة فنه الذي انفرد به — وله مزايا جمة لا تنقص عنها في مكارم الأخلاق ومحاسن الطباع وجميل المعاملات.
ومن الناس من يهبه الله سجيَّة الإحسان ومزية الإتقان فيصرف إتقانه وإحسانه على الفن أو الصناعة التي اختارها لنفسه، فيحسنها ويتقنها ويتحول بكليته إليها ويفضل في نفسه ما عداها من مغارس المحاسن ومنابت الفضائل ومكامن المكارم فيعيش غفلاً منها — وإن كان نابهًا في صناعته فتلقى الناس منه ما يسوء من أخلاقه بقدر ما أحسن من صناعته يرضيك حسنه من باب ويسخطك قبحه من عدة أبواب — فترى الشاعر يرتقي إلى عالم شعره، فيسبق فيه من يباريه ويعلو قدره على سواء فإذا عطفت نظرك على أخلاقه وجدته أحط الناس فيها درجة وأدناهم منزلة، وأردأهم سيرة في المخالطة وأسوأهم معاملة في المعاشرة — وتجد هذا الذي لم يكتف بعالم الحقيقة في الجمال حتى تجاوزه في عالم الخيال أبعد الناس عن جميل الفعال وكريم الخصال.
وترى المصور الذي يباري محاسن الطبيعة يحسن المحاكاة في جمال النظام ولطف الانسجام، ويكون في ما عدا ذلك أخرق أحمق شرس الطباع سافل الأخلاق — وترى العالم يصعد يعلمه إلى عالم الفضائل والحقائق، ثم ترذل أخلاقه بالغلظة والجفاء وتسوء بالتيه والكبرياء — وتراهم قد ارتكنوا في طبقاتهم على فضلهم في صناعتهم وفنونهم وأهملوا بقية الفضائل وبعدوا بنفوسهم عن جمال التهذيب وحسن التثقيف، فإن تحمل الناس منهم سوء الأخلاق ظاهرًا للمزية التي تفردوا بها، فإنهم لا يتحملونها باطنًا يرضونهم بالوجوه ويبغضونهم في القلوب — أما إذا التفت المتفنن لفنه المحسن في صناعته إلى تهذيب بقية أخلاقه وصناعته وإلى تحسينها وصرف إلى ذلك بعض همه بما أوتيه من سجية الإتقان ومزية الإحسان وارتقى إلى فضائل الأخلاق ارتقاء في فنه أو صناعته، فله يرضي الناس ظاهرًا وباطنًا وتبلغ مزاياه في قلوبهم المحل الأعلى فتنطوي على محبته وتجتمع على تفضيله في حياته وبعد مماته.
وقد جمع الله للمرحوم عبد الحمولي من الإتقان والإحسان في فنه كما تقدم الكلام عنه وبين كثير من مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات فصدر عنه من جميل الفعال ما تحفظ له فيه النوادر وتنتقل رواياته المجالس.
كان المرحوم كبير النفس عالي الهمة يحاول الارتفاع عن طبقته ويسعى في الخروج منها مقتصرًا على الاشتغال بالفن لذاته لجهل الناس في حيلهم الماضي بعلو قدر هذا الفن وغفلتهم عن جلاله منزلته بين الفنون — وناهيك به أن أفلاطون وهو حكيم الحكماء جعله (مقدمة علوم الحكمة وأول مراتب التهذيب) — وقد عمد المرحوم إلى ذلك بالفعل في أيام المغفور له إسماعيل باشا فترك مزاولة صناعته بالأجر بين الناس وخرج من زمرة المغنيين إلى زمرة التجار غير طامع في الذهب الذي كان يسيل من حياله بممارسة صناعته في تلك الأوقات فافتتح محلاً لتجارة الأقمشة واشترك فيه مع بعض التجار بمبلغ ٢٠٠٠٠ عشرين ألف جنيهًا — فما مضى عليها عشرون شهرًا إلا وانتهت به سلامة نيته وحسن ثقته بأن خرج منها صفر اليد مدينًا للشريك دائنًا للناس يمنعه الخجل ويحجبه الحياء عن طلب الوفاء — ولم يمتنع في أثناء ذلك عن الغناء بين الناس بل امتنع عن طالب الأجر عليه إلى أن عادت به حاجة العيش إلى مزاولة صناعته كما كان في أول أمره — ولم يتطلع إلى غرضه في الانقطاع عنها كما فعل ودهره يحول دونه، فلا يستطيع بلوغه إلى آخر مدته.
وكان شهمًا غيورًا شريف السيرة يغار لنفسه ولأعراض الناس لا يبالي في ذلك بهول المواقف وفداحة الخطوب — أمر المغفور له إسماعيل باشا ذات ليلة بإحضار (المز) لتغني في بعض قصوره وهو في عزة سلطانه وشدة بطشه لا يعصى له في الناس أمر ولا يخالف هواه إلا من ارتضى لنفسه سكنى القبور ولا يحلم أحد في منامه أن يقف موقف المعارض في رغبته أو الممانع لإشارته — فتوقف المرحوم عبده وكان قد تزوج بها بعد أن منعها من ممارسة الغناء وأبى أن تخرج من بيته فعاوده الطلب بالتشديد، فاستمر على إبائه إلى أن وصل الأمر إلى استعمال القوة فأرسل مأمور الضابطة بعض أعوانه إلى منزله وأرادوا إخراجها منه بالقوة فوقف أمامهم وقفة الليث يحمي أشبال العرين وفضل الموت أو النفي عن أن تغني المرحومة لحنًا واحدًا لأحد وهي في عصمته — ولما لم يفده موقفه أمام القوة فائدة استمهلهم برهة ريثما يعود إليهم — فدخل البيت وألقى بنفسه إلى حائط الجار وخرج منها إلى الطريق لاجئًا إلى صديقه المرحوم.
(الشيخ علي الليثي) فكاشفه بما هو فيه من هول الخطب، وكان هذا الشاعر المرحوم ممن جمع الله أيضًا كثيرًا من المزايا الفاضلة والأخلاق الكريمة وأخصها علو الهمة والسعي لخير الناس وكان ذا مكانة رفيعة عند المرحوم (إسماعيل باشا صديق) فقام إليه في الحال وتواقع الشيخ عليه يلتمس حسن الوساطة لدى ذلك الحاكم القاهر ليرجع في أمره، فقام الوزير من ساعته وقصد مولاه وتلطف له ما أمكن في الاعتذار وما زال به حتى رجع عن طلبه ورضي بعصيان عبده لطاعته، وخلص المرحوم عبده من هذه الحادثة معافى في نفسه مصابًا في جسمه، فقد تولد له من اضطراب أعصابه من شدة ما قاساه في هذه النازلة داء الصداع فلم يفارقه طول حياته وكانت إذا اعترته نوبته ألقته على الأرض صريعًا يتخبط في أشد الآلام لا يكاد من يراه على تلك الحال يصدق بنجاته منها، فإذا أفاق لزم الفراش من عظم وقعها مدة طويلة، ولم ينجع في ذلك الداء معالجة الأطباء.
وكان المرحوم جلدًا صبورًا على تحمل الآلام في نفسه وبدنه فقد أصابه غير هذا الداء من الأمراض علل كثيرة بعضها في أثر بعض حتى كان يقول إنه قضى ثلثي أيام حياته في المرض والثلث في مراعاة خواطر الناس، وقد أصيب بخراج في الكبد استعصى على الأطباء أمره ويئسوا فيه من نجاته، حتى امتنعوا عن العملية الجراحية — وقرروا أن النجاح فيها كنسبة الواحد إلى المائة، فألحّ عليهم المرحوم بوجوب عملها على أي حال فعملوا له عملية البزل فلم يخرج من الأنبوبة شيء فتركوها في جوفه بمبزلها وأمروه أن يستمر راقدًا على ظهره لا ينقلب على أحد جنبيه طول ليله وأنذروه إن هو تحرك فانتقلت الأنبوبة فقد قضي عليه ثم وكلوا به من يحرسه واستمر في حالته التي تركوه عليها إلى أن غشيه النعاس في أُخريات الليل وغفل الحارس عنه برهة فانقلب على جنبه فأصاب سن المبزل رأس الخراج من طريق الأنفاق، فلم يشعر الحارس إلا وقد سال الصديد من حول الفراش ففزع وأيقن بالخطر وأسرع إلى الطبيب فلما حضر وفحص حالته قال له: إن يد القدرة قامت بما عجزت عنه يد الأطباء — وما كاد يشفى من هذه العملية حتى ظهر في الكبد خراج آخر فعملت له في الإسكندرية عملية ثانية — ثم أصيب بعد ذلك سنة ٨٨ إفرنجية بالتهاب في الرئة، فكان ينفث الدم وتآكل جزء من إحدى الرئتين ومن هنا ابتدأ الداء الذي مات به، فعالجه الأطباء وأشاروا عليه بسكنى حلوان فسكنها ووقف سير الداء فيه — وسافر المرحوم في سنة ٩٦ إلى الأستانة العليا وحظي هناك بالمثول في الحضور الشاهاني مرارًا وأعجب به أمير المؤمنين بمهارته في فنه وحسن تأديته له فأسنى عطيته وبلغه حسن رضائه — وكان الواسطة بينهما للتبليغ في ذلك المجلس سماحة السيد أبي الهدى ومما تلقاه عنه من أوامر أمير المؤمنين أن يلقن ما غناه في حضرته من الأصوات لبعض ضباط الموسيقى الشاهانية فلقن المرحوم منه ما أمكنه ولم يسع الوقت تمام القيام بالأمر فوعد أنه يشتغل عند عودته إلى مصر يربط تلك الأصوات برابطة النوتة ثم يعرضها على الأعتاب ليسهل أخذها على ضباط الموسيقى — وأهمل المرحوم مدة وجوده في الأستانة التردد على سماحة السيد واجتمع ببعض المتزاحمين معه على الأعتاب الشاهانية ورغب كل واحد منهم أن تكون الحظوة بتقديم تلك الأغاني والأصوات عند عودة المرحوم إلى مصر وإرسالها إلى الأستانة — فلما عاد أتمها عشرين صوتًا (دورًا) برابطة النوتة — ثم تردد في كيفية إرسالها وخشي أن يغضب أحدهم باختيار سواء عليه في تقديمها وامتنع عن إرسالها لهم جميعًا وأرسلها من طريق رسمي فأسرها له السيد في نفسه — ولما ذهب إلى الأستانة مزودًا بالآمال لم يشعر هناك وهو في مجلس أنس لبعض كبار المصريين من أصدقائه من جهة البوغاز إلا وقد أحاط به رجال الشرطة فسار معهم وصاروا ينقلون هذا الذي لم ينتقل عمره من مجلس أنس إلا إلى مجلس سرور طول ليلته من مخفر إلى مخفر ومن سجن إلى سجن حتى وصلوا به على مأمور الضابطة، فأمره بالخروج في الحال من دار الخلافة وعلم المرحوم مما سمعه من بعض الأعوان الحلبيين من ذكر السيد ووجوب السعي في دوام رضائه وأن الأمر مقصود على مجاراته على إهماله أمر سماحته، فلم يلتفت على غير المبادرة في إجابة الأمر بالرحيل عن الأستانة، وقد قاسى من غلظة الجند وسوء معاملة الشرطة شيئًا كثيرًا يطول شرحه مكان ما كان يرجوه من الحفاوة والكرامة له فأثرت هذه الأمور في صحته أسوأ أثر وعاد إلى مصر مصابًا بداء (البول السكري) فأنهك جسمه وأضعف من قواه وغادر حلوان إلى سكنى مصر وقد تراكمت عليه جملة من هموم الحياة فزادت في ضعف الجسم وظهر ذلك الداء الدفين في الرئة ودخل من داء السل في الدرجة التي لا يرجى معها شفاء، وأشار عليه الأطباء بسكنى الصعيد مدة الشتاء الماضي سنة ١٩٠٠ فأقام في سوهاج شهرين ونصفًا عادت له في أثنائها بعض قوته وتقوى أمله في شفائه — ولم يدر المرحوم كنه دائه إلا في اليوم الذي مات في غده.
ثم عجل بالعودة إلى مصر ليشتغل غنائه في اسطوانات (الفوتوغراف) طلبًا للعيش ولما حضر وباشر ذلك فعلاً جاءه نعي أحد أصدقائه المخلصين بالمنيا فاغتم عليه غمًا شديدًا ولم يسمع لنصيحة أصحابه، بل خالفهم لقضاء ما توجبه عليه مروءته وسافر إلى تلك المدينة، وأقام هناك أيامًا ما مشاركًا لأهل الميت في أحزانهم، ولما عادَ، عاد باشتداد المرض عليه حتى أدركته منيته.
وكان المرحوم كريمًا جوادًا محبًا لفعل الخير همامًا في قضاء الحوائج مدفوعًا إلى ذلك بمجرد حب الخير في ذاته وله فيه ما لا يكاد يحصى من الأعمال، وإنما نذكر هنا شيئًا منها على طريقة المثال:
دُعِي المرحوم مع تخته إلى مدينة سوهاج للاحتفال بليلة خيرية لإعانة مدرستها واتفق مع أصحاب الاحتفال على (٨٠) ثمانين جنيهًا لإحياء تلك الليلة، فلما سافر إلى سوهاج وجاء وقت الغناء رأى كثيرًا من أعيان المديرية مجتمعين ليجمعوا من بعضهم ما يتبرع به كل واحد منهم بتبرع بخمسة جنيهات وذاك بستة فدخل في وسطهم فقال: وأنا قد تبرعت بأجرة الليلة وعاد من سوهاج، فنَقَد المغنين الذين معه أجرتهم من جيبه — واتفق مع بعضهم على إحياء ليلة في ملعب المنصورة بستين جنيهًا أخذ نصفها مقدمًا — ولما انتهت الليلة جاءه الرجل يتظلم من قلة الإيراد وإنه صاحب عيلة، فتجاوز له المرحوم في الحال عما بقي لَه له، وخرج ليلة من بعض الأفراح بعد انتهاء السهر فقصده في الطريق رجل قال له: إن ابني مطلوب في العسكرية، وليس عندي ما أفديه به — فأخرج المرحوم سرّة الدراهم التي أخذها وأعطاها له — وبلغه مرة أن أحد معارفه من تجار طنطا وقع في ضيق يخشى عليه من الفضيحة فجمع ما لديه من الدراهم وأعطاه ٥٠٠ جنيهًا ليستعين بها في عسرته ويحفظ صيته في تجارته — ومر في سيره إلى الأستانة ذات مرة على أزمير فوجد فيها أحد معارفه مع عياله لا يجد لهم ما يقوم بحاجتهم ولا من يردهم إلى وطنهم فأعطاه كفايته.
ولما توجه إلى الأستانة كان أول عمل له أن سعى إلى بعض الرؤساء في المابين فأخذ منها كتاب توصية لوالي أزمير ليقضي حاجة الرجل — فلما وصل الكتاب إلى يد الوالي تعجب من تلك العناية العالية لهذا الرجل الذي لم يكن يعتني به ولا بحاجته من قبل وقضاها في الحال، وكان استغراب صاحب الحاجة إلى سرعة نهوها أكبر وأكبر — كان يجود مثل هذا الجود وحين هذا الإحسان وهو في حال ربما كانت أضيق عليه من حال سائله — وفي كثيرين من هؤلاء الكبراء والموظفين من سعى لهم المرحوم ولثم لأجلهم الأيدي حتى اتصلوا بهذه المراكز العالية.
وأما مواساته للضعفاء خاصة، فنوادره فيها كثيرة فكان يساعد كل من قصده منهم بنفسه، جاءه رجل من عامة الناس يخبره بعزمه على زواج ابنته وكان جالسًا مع أحد رسلاه الكبراء ليتفق معه على ليلة معينة لعرس عندهم — فسأل الرجل عن ميعاد تزويج ابنته فقال له: إنها في ليلة كذا وكانت هي الليلة التي بدأ الاتفاق عليها مع الرسول فالتفت إليه وقال له لا يمكنني الآن إجابة الطلب ثم أرسل مع الرجل الضعيف من يهيئ له معدات الاحتفال وذهب في تلك الليلة المعينة إلى داره فغنى فيها إلى الصباح ووضع في يد الرجل عند انصرافه ٢٠ عشرين جنيهًا ليقضي بها حاجة العروسين.
وأما بره بأهله ومن حوله فأمر مشهور وكان يدفع في كل شهر كثيرًا من المرتبات لعائلات المحتاجين ممن اشتغل معه من أهله فله وغيرهم — وقد وضع قاعدة يسير عليها تخته إلى اليوم: وهي انه إذا عجز أحدهم عن ممارسة صناعته أخرج له نصيبه الذي كان يأخذه في الشغل وهو مقيم في بيته ومنهم من أقام عاجزًا عشر سنوات — وبالجملة فقد أنفق المرحوم أكثر ما اكتسبه على وجوه الخيرات ولو كان ادخره عن الناس كما يدخر هؤلاء الأغنياء أموالهم، لكان قد ترك المائة أو المائتين ألف جنيهًا بعد موته.
وكان كتومًا للسر طالما شهد الناس في مختلف طبقاتهم على ما لم يشاهدهم عليه؛ سواء في مجالس أنسهم ولهوهم فلم يسمع عنه أنه نقل بين الناس شيئًا مما سمع ورآه.
وكان على ذلك عظيم التواضع يعامل كل إنسان مما تقتضيه ظواهر أمره. وقد جعل لنفسه بحسن سيرته وشرف أخلاقه جاهًا عظيمًا ومقامًا محترمًا في النفوس، فلم يدخل مجلسًا إلا وهو المقرب المعظم منهم — وكان واسع الخبرة في معاملة كل الطبقات يخاطب كل إنسان بما يألفه ويرتضيه وكان طلق الوجه طلق اللسان يصيب غرضه بحسن بيانه حتى لقد قيل عنه إنه لو كان سفيرًا لدولة من الدول لما تعقد عليه أمر في السياسية، وكان خفيف الروح لطيف المجالسة آخذًا من كل شيء بطرف يفهم كل ما يقال في المجالس سواء عليه في ذلك مجالس اللهو ومجالس الجد.
وكان متوقد الذهن يكاد يبادر بغرضك قبل أن تشافهه به ويعينك على الفصاح بحكايتك بهيئة استماعه لك، وكان كثير الحذر في التعبير لشدة الاحتياط، وكان يضع في كلامه محلاً لقدح فكر المخاطب، وكان مع ذلك كله شديدًا في الحق لا يبالي بأرباب المناصب والمراتب إذا أغضبه منهم ما يخالف المروءة والفتوة وإن كانت أفعالهم لا تمس شخصه، بل كان يغضب للناس وله وقائع مشهورة مع بعض أرباب المناصب الحاضرة فضح فيها أخلاقهم في مواجهتهم وسط المجالس الكبيرة فخرجوا من أمامه بالذل والصغار.
وقد مات المرحوم والناس إجماع على تفضيله والقلوب مرتبطة بمحبته، وكل الناس راضون عنه لا تسمع منهم إلا الثناء المحض والمدح الصريح؛ سواء في ذلك الخاصي والعامي والكبير والصغير والرفيع والوضيع.
فما روضة غناء كأنها حسناء، قد افتن في تصويرها الجمال. وجعلها للناظرين كالمثال فالغصن قلدها. والورد خدها. والرمان نهدها. وعليل النسيم عهدها. والكريم شعرها. والأقاح ثغرها. انتبهت فيها غافية حمام فوق نمارق الأغصان والأكمام آخر الليل وقد عسعس. وأول الصبح وقد تنفس. فلما رفعت طرفها. وجدت بجانبها إلفها. بعد أن نأى عنها مكانًا، وفارقها زمانًا. فزال عنهما ألم الشوق. والتفّ الطوق بالطوق. وهتفا ينشدان فوق خرير الماء. قصيدة على روى الراء. أو دعاها ما أرادا من معاني العشاق. في وصف الوصل بعد الفراق. ومن حولهما بقية الأطيار. ترجع إنشادهما في ترجيع الأوتار. مهتزة على كل غصن مائس. كأنها القيان تزف العرائس. بأطرب من صوتك في الآذان. وألذ من ذكرك بين القلب واللسان.
وما أخرى من سكان الأشجار. وذوات الأوكار غادرت أوكارها في وكرها. في ليلة موصوفة ببردها وصرّها تلتمس لهن شيئًا من القوت. وقد عز كالياقوت فوقعت من الأمطار في شبكة منعتها عن السعي والحركة. إلى أن غادرت العهاد. وأمكن لها الارتياد. فعثرت لهن على شيء من الحب. ودت لو زيد فيه حبة القلب. فراحت إليهن ولا الظافر بتاج المُلك. ولا الناجي مع نوح في الفلك. فوجدت السيل قد أتى على الشجرة فاقتلعها. وعلى الأفراخ فابتلعها وبينا هي بين تصعيد وتصويب. وحنين ونحيب؛ إذ انقض عليها صقر أنشب في طوقها أظفاره. وغمس في جوفها منقاره فاجتمعت عليه صنوف الآلام، آلام الأرواح وآلام الأجسام. بأوجع في قلوب رفقاك من يوم فراقك (مصباح الشرق).
دمعة الشعر على عبده
وقد قال حضرة محمد أفندي المصري هذا الموال:
المختار من ألحان المرحوم (عبده أفندي الحمولي)
(تنبيه) اعلم أن جميع الأدوار منظومة على أصول (المصمودي) إلا ما نخصصه منها بأنه على غيره.