بداية التاريخ
إن أهمية مفهوم الروح الاجتماعية تنبع جزئيًّا من قدرة المفهوم على أن يصحح هدفًا تضمنته فكرة الثقافة ولم يتحقق. لقد أكد علماء الأنثروبولوجيا في البداية، من ناحية، على أن الثقافة عامةً منهلٌ مشترك يتقاسمه الجميع. وتمَّ التسليم، في هذه الحدود، بأن الثقافة شأن اجتماعي؛ ولكن هذا التسليم في واقع الحال نزعٌ إلى التوقف في موضع قلق عند منتصف الطريق، وهو موضعٌ عاجز حتى الآن عن الإدراك الكامل للطبيعة الاجتماعية للبشر من حيثُ هم نوعٌ؛ فضلًا عن أنه أخفق تمامًا في التسليم، بأن البشر في المقام الأول يرتبطون ببعضهم البعض وليس بالثقافة في صيغة مجردة.
ولعل المشكلة تبدو لنا أكثر وضوحًا في هذه الفقرة المليئة بالمحسنات البديعية التي اقتبسناها من خطاب ليزلي هوايت بمناسبة تولِّيه السلطة رئيسًا للرابطة الأمريكية للدراسات الأنثروبولوجية عام ١٩٥٨م.
وليس مستصوبًا كذلك النظر إلى الثقافة أو إلى التصورات الجمعية باعتبارها موضوعًا ما يكون الناس على علاقة به. فقد سبق استخدام هذا الافتراض على هذا النحو بوضع التصورات الثقافية في الصدارة، بحيث نبدأ من خلالها في إدراك أوجه التمايز بين سبل الحياة بطريقة غير مبهمةٍ؛ ولكن إذ نرُد التعبيرات الرمزية إلى وضعها الفعلي يظهر أمامنا نمط أشد صقلًا؛ فالتصورات الجمعية تكتسب أهميتها ودلالتها عندما يستخدمها الناس في علاقاتهم ببعضهم البعض، ولا أحد منهم بمنأى عن هذا الاستخدام. وأهمية هذه التصورات أنها تُذكرنا بإطار قد نرى فيه التغير أمرًا طبيعيًّا، ونعني به إطار الحياة الاجتماعية الفعلية بكل ما فيه من سيولة وعدم يقين وتفسيرات صحيحة وتفسيرات خاطئة، وبكل ما يتم إنجازه فيها من تواصل بجهد جهيدٍ، وما فيها من ابتكارات مستهدفة أو غير مقصودةٍ. ونحن ما دمنا نفكر في البشر باعتبارهم مجرد أفراد خاضعين لوجود جمعيٍّ أو خاضعين لإعمال عقل طليقٍ غير مجسد، فإن التغير من النوع الذي يؤكده بجلاء التاريخ البشري يبدو شديد الغرابة عَسِرَ الفهم. وثمة نظرة اجتماعية أكثر شمولًا تضع التغير، وليس الدوام، محورًا لنظرتنا.
متطلبات داروينية
أطرح الآن فكرة عامة عن كيف نشأت وتطورت روح المعاشرة الاجتماعية. وأقول «فكرة عامة» لأنني لن أحاول ربط هذه الأفكار بقوة، بأزمنة وأمكنة خاصة في إطار سرد تاريخيٍّ فعلي للتطور البشري. وسبب ذلك — جزئيًّا — أن المعلومات المباشرة المتوافرة الآن حول التطور البشري — وهي أساسًا معلومات مستقاة من المكتشفات الحفرية والأركيولوجية — عامة ومجملة إلى حدٍّ كبيرٍ؛ بحيث لا تكفي لدعم مثل هذا السرد. وكم هو عسير الآن أن نستنتج عن ثقة دقائق السلوك الاجتماعي والصفات الذهنية من خلال دراستنا للعظام والصخور؛ ولكن هناك أنواعًا أخرى من الشواهد والبينات. بينات يغلب عليها الطابع غير المباشر مستمدة ابتداء من مجالات كثيرة، من دراسة سلوك الرئيسات وحتى سيكولوجية المعرفة. وتستلزم هذه البينات قدرًا هائلًا من عمليات الاستدلال؛ ولكن لها على أقل تقدير ميزة الثراء والتنوع. وتطرح علينا الآن نظرة جديدة نسبيًّا ومغايرة إلى حدٍّ كبيرٍ عن التطور البشري، بالقياس إلى تلك النظرة التي ظلت مهيمنة حتى الآن على الأنثروبولوجيا البيولوجية.
ليس لنا عادة أن نتوقع التوصل إلى فهم أنثروبولوجي اجتماعي ثقافي مُتَّسقٍ أو متكافئ مع فهم بيولوجي. ومن ثم فقد اتصل النزاع بين باوس وعلماء الأنثروبولوجيا الطبيعيين في عصره بشأن قضايا مختلفة. واستمر الخلاف حتى الآن، وسوف يستمر بشأنها خلال القرن الحادي والعشرين. حقًّا إن أحد المكونات المهمة للهوية الجمعية للأنثروبولوجيا الثقافية في أمريكا — وسارت حذوها الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية في هذا المجال — إنما نجَم عن الرفض العنيد للتفسيرات البيولوجية والتطورية للسلوك البشري. وهذه سجالات تتسم بالمرارة والتشدد، وتقف شاهدًا على أنه من الصعوبة بمكان أن نكتب أو نقرأ عن مثل هذه الموضوعات بهدوءٍ أو وضوح.
بيد أنني أعتقد أن بالإمكان التوفيق بين المنظورين على نحوٍ مثمرٍ. إنني آمل في الحقيقة أن أوضح أن بالإمكان التوفيق بينهما حتى إن التزمنا بوصف روح المعاشرة الاجتماعية، تأسيسًا على نظرةٍ تطوريةٍ دقيقة ومتصلبة؛ بل وربما مثيرة للخوف. وقد يبدو هذا الوصف للوهلة الأولى غير متسقٍ تمامًا أو منافيًا كليةً للتفسير الذي عرضته حتى الآن عن علاقات الترابط المتبادلة بين البشر. والتحدي الذي يواجهنا هو أن نصوغ لغة بيولوجية فيما يختص بالكائنات الحية والجينات والتجمعات السكانية والانتخاب الطبيعي؛ بحيث تكون هذه اللغة مُتَّسقة مع لغة الأشخاص والعلاقات والمجتمعات والثقافات، وأولًا وقبل كل شيءٍ مع التاريخ. أو لعل الأفضل — لأن هذه هي حقيقة محور الموضوع — أن نبين بوضوح وحسم أين ينتهي استعمال لغة ما، وأين تبدأ اللغة الأخرى. إنني بعبارةٍ أخرى أقترح معاهدة سلم جديدة في منطقة الحدود بين الأنثروبولوجيا الاجتماعية الثقافية وبين البيولوجيا؛ ذلك لأن الذي نشأ وتطور هو قدرتنا على صنع التاريخ، وما إن حدث هذا حتى أصبح بالإمكان صناعة التاريخ دون تدخُّل عملية الانتخاب الطبيعي.
«الروح الاجتماعية سمة أو سمات موروثة تتجلى في أفراد الكائنات الحية، ويمكن أن نعزوَها آخر الأمر إلى حالات تواتر الجينات في التجمع السكاني الذي تنتمي إليه. وترسخت الروح الاجتماعية بفضل سريان فعالية الانتخاب الطبيعي بين ذلك التجمع السكاني.»
نلاحظ أولًا أن هذا يُضفي قدرًا من الغموض على المعنى البيولوجي للعبارة، أو هو على الأصح يؤكد حالة غموض موجودة بالفعل. ويستطيع المرء عادة أن يقول إن ثمة فارقًا من حيث الروحُ الاجتماعية بين الذئاب في كندا والذئاب في إسبانيا؛ أو بين قردة الشمبانزي في الغابة وغيرها في الأَسر، وها هنا تشير روح المعاشرة الاجتماعية إلى الشكل المحدد للحياة الاجتماعية بين تجمع سكاني أو آخر، ونجدها تنطوي على اعتراف بأن التجمعات المختلفة من نوعٍ حيوانيٍّ واحد، يمكن أن تكشف عن أنواع مختلفة من روح المعاشرة الاجتماعية.
ولكن عالم البيولوجيا بوسعه أيضًا التحدث عن الروح الاجتماعية لنوع ما — وليكن الأُسُود — مقابل نوع آخر — وليكن الفِيَلة. وعلى الرغم من إمكانية التسليم بأن كل واحدةٍ من هذه الروح الاجتماعية للمعاشرة، تشتمل علميًّا على سلسلة من الإمكانات، سوف تختلف السلسلة من نوع إلى آخر، ومن ثم يكون الحديث مستساغًا عن فوارقَ بين الأنواع من حيث الروحُ الاجتماعية. علاوة على هذا، فنظرًا لأن الروح الاجتماعية تقترن، حسب هذا المعنى، بنوع محدد؛ إذن لا بد أن تكون قابلة للتوالد والتكاثر. ويجب كذلك أن تكون بصورة ما منظمة وَفقًا لرموز شفرة جينية حتى تتجلى في سلوك تجمعات هذا النوع. هذه هي فكرتي عن الروح الاجتماعية التي أطرحها هنا، وأعتقد أنها نتيجة لازمة منطقيًّا عن أفكار وممارسات بيولوجية موجودة بالفعل.
ويوضح لنا علم البيولوجيا الدارويني أن التطور يمكن أن يحدث بوسائل متباينة؛ بيد أنني سأفترض أن تغيرًا أساسيًّا جدًّا وبعيد الأثر تمامًا، مثل نشوء روح المعاشرة الاجتماعية البشرية، ما كان له أن يظهر إلا عن طريق الانتخاب الطبيعي. أو لِنَقُل بعبارة أخرى إنه ما كان ليظهرَ بفعل عمليات تطورية يغلب عليها الطابع العشوائي، كأن يحدث انحراف جيني عفوي، أو أن يقع حدث بسيط من أحداث التغير الوراثي. ومن ثم فإن السؤال هو كالآتي: ما دام البشر متشابهين جدًّا مع الأنواع الأخرى القريبة منهم؛ فما هي الميزة الانتخابية التي تميز بوضوحٍ الروح الاجتماعية عند البشر؟
وتفرض البيولوجيا التطورية أيضًا صيغة عامة يتعيَّن أن تأتي في إطارها الإجابة عن مثل هذا السؤال. إذ يجب أن توضح الإجابةُ كيف أن الكائنات التي تحمل هذه السمة — أو مجموع السمات كما هو مرجح في حالتنا — كانت هي الأكثر نجاحًا داخل التجمع السكاني من أفرادها. ومعيار النجاح محدد وواضح: أن الأجيال التالية من قطاع هذا النوع ستنجب عددًا أكبر من الأفراد الحاملين لهذه السمات، وعددًا أقل ممن لم يكتسبوها. ونظرًا لأن ما أتحدث عنه هنا هو القدرة على صياغة أشكال أكثر تعقيدًا وتنوعًا من الحياة الاجتماعية، إذن فإنني أرى من المستصوب أن نتحدث عن زيادة قوة الروح الاجتماعية بين هذا النوع أو ذاك من التجمع السكاني. بيد أن مثل هذه الحجة لا بد أن تقترن بتحذير أمان: إن هذه الزيادة في القوة هي في الأساس، من وجهة نظر تطورية، لا تختلف عن الزيادة في أنواع أخرى، كأن تحدث لها على سبيل المثال زيادة في طول الأنف أو حجم الخِصيتين. إننا لا نملك أسبابًا تطورية تجعلنا نزهو بأنفسنا كنوعٍ على سائر الأنواع الأخرى.
ولْيسمح لي القارئ بأن أُطلق تحذير أمان آخر. إن الأفكار التي صيغت في مفردات تطورية تداخلت مع الخيال الجمعي لمجتمعات شمال الأطلسي، واصطنعت لنفسها حياة مروعة بعيدة كل البعد، في أغلب الأحيان، عن استعمالاتها في البحوث البيولوجية المسئولة. وتوحي هذه الأفكار بوجود قوةٍ عضوية ذات سطوةٍ فاعلة وملزمة ومحتومة، ومنبثقة من وسط الجبلة الجرثومية الناقلة للوراثة ذات طبيعةٍ مبهمة، لتجبرنا كَرهًا على إتيان أفعال غير بشرية. إذ يُقال: «ليس الشيطان هو الذي وسوس لي بإتيان هذا الفعل»؛ بل «الجينات الموجودة في جبلتنا جعلتنا نفعله.» ووصل الأمر ببعض الكتاب إلى حد تصوير الجينات وكأنها أشبه بشياطين دقيقة الحجم مركبة داخل أجسامنا وتعمل دائمًا على جذب خيوط تحركنا بها.
ولكن الصورة التي أطرحها هنا جدُّ مختلفة وأكثر اتساقًا، حسب فهمي، مع ما تتحلى به النظرية الداروينية من دقة. إن روح المعاشرة الاجتماعية هي قدرةٌ وقوة كامنة. وهذه لا تغدو وجودًا واقعيًّا إلا عن طريق الحمل والولادة والنضج والنمو في بيئة ملائمة. فالجينات ذاتها ليست سوى جزءٍ من هذه العملية. وحسب منظور العملية في شمولها فإن هذه الجينات تؤلف بيانًا بالقدرات الكامنة لدى الفرد أكثر من كونها تخطيطًا أو إطارًا تخطيطيًّا لما يتعين أن يكون عليه الكائن الحي. وقد تعبر هذه القدرات الكامنة للجينات عن نفسها بطريقة مختلفة في البيئات المختلفة. وإن التسليم بصدق هذا الرأي بالنسبة للبشر والحيوانات الاجتماعية الأخرى يمثل في الحقيقة حجر الزاوية، بالنسبة لذات فكرة روح المعاشرة الاجتماعية، كما يستخدمها علماء البيولوجيا؛ ذلك لأنهم يسلمون بأن روح المعاشرة الاجتماعية قدرة طبيعية مرنة نسبيًّا أكثر منها ثابتة.
وهذه المرونة أساسية بالنسبة للأفكار التطورية، خاصة عند تطبيقها على البشر. وتتكشف لنا هذه المرونة في ضوء اختلاف النظرية الداروينية عن أساليب الفكر في الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجيا الاجتماعية؛ إنها لا تنصب على البشر كأشخاص، أي البشر كعناصر فاعلة مسئولة تحققت في الواقع وسط وضع اجتماعي؛ بل البشر من حيث هم فقط كائنات حية. إن النظرية التطورية، بعبارة أخرى، لا تدعي القدرة على بيان التفاصيل الكاملة حول الحياة البشرية في جميع أبعادها. وحيث إن هذه النظرية تحدثنا فقط عن البشر ككائنات حية؛ إذن فإن بالإمكان أن تتعايش مع مفاهيم وممارسات شديدة الاختلاف بشأن أشخاص البشر، والتي تُصاغ في ظروف تاريخية اجتماعية وثقافية مغايرة.
ونعرض فيما يلي صورة تخطيطية لبعض الأنماط الأساسية التي طرأت على تطور الروح الاجتماعية عند البشر. إن طرف النهاية هو النوع الفعلي للحياة الاجتماعية البشرية على نحو ما نعرفها الآن. وأيًّا كان ما حدث في السابق فلا بد أن يكون متساوقًا مع هذه النتيجة. ونحن يقينًا لسنا الذروة؛ ولكن نحن ما نحن عليه في هذا الطور. ونقطة البدء هي روح المعاشرة الاجتماعية عن أسلافنا من نسل الإنسان العاقل. ونحن لا نستطيع أن نتبين بوضوح وبشكل مباشر هذه الروح الاجتماعية؛ ولكن الدلائل والشواهد التي نستقيها من الرئيسات الاجتماعية غنيةٌ وكثيرة ومتنوعة، وتهيئ لنا أُسسًا مكينة للاستدلال.
المخطط العام الأساسي
ولكن نتيجة لتزايد تنوع الأعمار والمواقف النسبية سوف يتزايد تعقد المصالح المختلفة.
وأرجو أن يلحظ القارئ أن الفكرة الأساسية هنا، وهي أن الذكاء الاجتماعي باعتباره رأس الحربة في تطور الرئيسات الاجتماعية والإنسان العاقل، إنما يختلف اختلافًا مذهلًا عن الحكمة التي يجري تلقيها من كلٍّ من الأدب التعليمي السابق ومن الخيال الشعبي. ولنا أن نقول: إن هذه الحكمة المنقولة عن السلف تتضمن أحداثًا سابقة، اشتملت عليها «قصة النجاح المفترض» عن اليونان القديمة وأوروبا والديمقراطية الصناعية في الولايات المتحدة. واشتملت تلك الأحداث السابقة على توافر مخ أكبر للإنسان، والإبهام القادر على الحركة المتعرضة، واختراع الإنسان للنار والفأس الحجري. وقاده هذا مزهوًّا على طريق الانتصارات في مجال الإبداع التكنولوجي حتى وصل إلى الحاسوب (الكومبيوتر) الشخصي. ولكننا استنادًا إلى الفرض الذي قدمه همفري نريد أن نحكي قصة مغايرة تمامًا. إن بوسعنا أن ندهش — هذا إذا كان لنا أن ندهش أصلًا — ليس لضخامة عتاد التشغيل؛ بل بسبب شبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعقدة تعقدًا لا سبيل إلى حصره، والقائمة بين الناس الذين أبدعوا ذلك الحاسوب وأوصلوه إلى الطاولة.
الذكاء الاجتماعي المعلم الثاني
تمتزج أفكار همفري في اتساق وتناغم مع أفكار أخرى داخل نهرٍ واسعٍ من البحث المتصل في مجالات التطور البشري، وعلم النفس، والإيكولوجيا السلوكية، وعلم اللغة الاجتماعي، والأنثروبولوجيا الاجتماعية؛ بل وأيضًا الفلسفة. لقد بات مستحيلًا الآن تحديد المسرح الإيكولوجي الأوسع الذي نشأت وتطورت عبره الروح الاجتماعية البشرية، على الرغم من بعض المقدمات الرائدة الواعدة. وليس بالإمكان كذلك أن نربط بطريقة مقنعة بين التطور الفكري والاجتماعي للإنسان وبين البينات والدلائل الحفرية (وهي كثيرة نسبيًّا). إن القصة الحقيقية التي تحكي لنا لماذا نشأت ثقافات لدى البشر، وهي القصة التي سوف تعود بالإجابة إلى مرحلة أسبق وإلى فترةٍ زمنيةٍ محددة لا تزال مراوغة، وسوف يظل أكثرها دائمًا خافيًا عنا. ولكن في ضوء البداية التي تحددت وآخر فصول القصة، يبدو أن ثمة خطوات معينة تمثل ضرورة منطقية. وسوف أحاول فيما يلي أن أجمع بعض البحوث في هذا الشأن وأوالف بينها؛ رغبةً في استكشاف بصيرة همفري النافذة.
الذكاء الاجتماعي والتقني
وكيف يحرك جزء منها جزءًا آخر؟ وهكذا. إن الموقف التخطيطي يتحقق دون أن نعزو إلى هذه الأشياء خططًا أو نوايا أو مواقف. وتمثل هذه جميعها وضعًا للذهن مكافئًا للذكاء التقني الخالص والبسيط.
الميزة الانتخابية للروح الاجتماعية
أكدت حجة همفري الأصلية على انتقال المهارات التقنية من جيل إلى جيل، باعتبار ذلك هو الميزة الرئيسية للروح الاجتماعية. وهذا نهج مستصوب؛ ولكنَّ قليلين من الباحثين الذين اقتدوا به من بعده؛ إذ ركزوا، بدلًا من ذلك، على استخدامات مختلفة قليلًا للروح الاجتماعية والمشاركة في المعارف.
وأحد أشكال المعرفة هو بمعنى من المعاني يجمع ما بين كونه أكثر أوليةً وأهم من معرفة التكنولوجيا، وهو معرفة البيئة. إن منطقة السافانا في شرق أفريقيا والتي من المحتمل أنها كانت موطن الإنسان العاقل الأول، كانت تتميز بمجموعة محددة من الخصائص؛ إذ وفرت مواد غذائية يغلب عليها الطابع الموسمي في الأساس، ومنتشرة على نطاقٍ واسع، ومتمركزة في مساحات محددة من الأراضي، ومطمورة تحت أغطية أو تحت سطح الأرض. لقد كانت بيئة غنية بما فيه الكفاية؛ ولكنها أيضًا طرحت الكثير من التحديات. ولا ريب في أن معرفة البِطاح الواسعة المحيطة في مثل هذا الوضع تعتبر أمرًا حيويًّا، وكذلك فإن القدرة على اكتساب هذه المعرفة ونشرها كانت ميزة انتخابية عظيمة القدر للغاية. ولا يزال هذا النهج في المحاجاة يشدد على الذكاء الاجتماعي؛ ذلك لأنه يفترض مقدمًا وجود جماعة أكبر عددًا وأفضل تنظيمًا يمكنها أن تدبر أمرها لاقتسام أو تبادل مواد الغذاء.
وحسب هذا المنظور، لن يكون اقتسام المعرفة هو وحده الشيء المهم؛ إذ بقدر ما زادت الروح الاجتماعية واقترنت باطراد مع زيادة تقسيم العمل، فإن تقسيم العمل يمكن أن تكون له ذاتِه آثار نافعة مباشرة؛ إذ يستطيع أن يدعم مباشرة استقلال الموارد عن طريق توزيع مسئولية البحث عن الطعام، الأمر الذي يفترض دائمًا توافر القدرة مع الرغبة في تبادل الطعام، وكلاهما خاصيتان تعتمدان على الروح الاجتماعية. وهنا لم يقم الكبار بدور المعلمين والمرشدين فقط؛ بل ربما قام المراهقون أيضًا بدور المستكشفين لمصلحة الجماعة كلها. وأكثر من هذا أن الأطفال أنفسهم ربما كان لهم دورٌ مميز؛ مثل رعاية الرضع، وفي نشاطات أخرى ضرورية. وهذه هي الخصائص التي نجدها واسعة الانتشار بين الجماعات السكانية البشرية المعاصرة. ويمكن أيضًا أن نميز من خلال دراستنا للرئيسات الاجتماعية المعاصرة، كيف أن تقسيم العمل لم يركز على العمر أو الجنس وحدهما؛ بل اعتمد أيضًا على إنجازات مختلفة وعلى تدريبات فارقة يمكن أن تظهر وتستمر.
آلية تطورية
وعبارة «المهارة الماكيافيلِّية» تشدد في ظاهرها على القدرة الكامنة لخداع واستغلال الآخرين في مثل هذا الوضع. وإنه لصحيح أن أفضل بينة على الذكاء الاجتماعي لدى الرئيسات الأخرى إنما يتمثل في واقع قدرتها على خداع بعضها بعضًا (وهو ما يعني أن لديها فكرةً متقدمة عما يفكر فيه الآخرون). ويتسق هذا مع مفاهيم المصلحة الذاتية التي استمدتها البيولوجيا السلوكية من الاقتصاديات الكلاسية الجديدة ومن النظرية السياسية لنزعة التملك الفردية، إذ يقرران: «كل يعمل لمصلحته الخاصة المباشرة.» ولقد كانت هذه الأفكار مفيدةً، وإن شابها عيبٌ يتمثل في أنها تخفي الحقيقة الأساسية للروح الاجتماعية عند البشر. إنهما يجعلان من العسير علينا، وربما من المستحيل، أن نتَبيَّن كيف أن التعاون يكون هو الأفضل إذا ما تجاوزنا نطاق العشيرة المنغلقة على نفسها نظرًا لأنه يشكل إضافة تُعزز الفائدة التي يجنيها كائن حيٌّ مفرد وتفضله على غيره.
وهكذا، على الرغم من أننا ننزع إلى تصور أن الخداع، أو لِنَقُل التراجع بلغة اللعِب، سيكون تلقائيًّا أبسط الحيل جميعها، فإنه قد لا يكون في الواقع سوى فكرة قاصرة وتخلٍّ عن اتفاق عام أساسي. والحقيقة أنه قد تزايدت باطرادٍ البراهينُ التي تُثبت من خلال الرصد الميداني لكثير من أنواع الحيوانات أن استراتيجيات التعاون، خاصة استراتيجيات الغيرية المتبادلة، واسعة الانتشار. وليس المقصود هنا الإشارة ضمنًا إلى أن الشفقة المنزهة عن الغرض والتناغم الطوباوي قد كانا هما السائدين وحدهما في السلالة البشرية أو في أي سلالةٍ أخرى. إن الشقاق والتحالف، وكذا الولاء والغدر كانت دائمًا موضوعات متواترةً، سواء في تاريخنا القديم أو القريب؛ بيد أن التحدي الحق كان دائمًا العمل بطريقة «حصيفة» مع استجابة سريعة وتوازن هادئ تجاه كلٍّ من أبناء العشيرة والآخرين.
ابتكار التاريخ
على مدى هذه العملية وخلالها؛ نشأ بالضرورة تنوع في العلاقات بين الأشخاص، وهو التنوع الذي نسلم بأنه بشريٌّ عن يقين. لقد ظهرت استعدادات عائلية وعشائرية مختلفة وعلاقات إنتاج وعلاقات تبادل دائمة بين قوًى سياسية، وهيمنة من خارج العشيرة وقدرة على مزيد من التلاعب بهذه الإمكانات عن طريق الكلام. ونشأ هناك ما يمكن وصفه بقدرة كل شخص على الدخول في أشكال كثيرة من العلاقات، واصطناع علاقات جديدة وأشكال جديدة للحياة. ومع ظهور هذه الأشكال ظهرت أشكالٌ لعلاقات سببية مقترنة بها؛ ليس فقط العلاقات السببية الإيكولوجية والقوى الانتخابية المؤثرة في جميع الكائنات الحية؛ بل ظهرت حينذاك العلاقة السببية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهي علاقةٌ سببية بشرية واضحة. ولنا أن نقول: إن هذه الحيوانات انطلقت في مسارٍ هو التاريخ. وإذا كنت في السابق قد كشفت تدريجيًّا عن بعض أجزاء من رؤية موريس جودليير التصويرية لهذه النقطة، فإنني سوف أعرض الآن رؤيته كاملة:
ابتكر البشر، على مدى مسار وجودهم، سُبلًا جديدة للتفكير والعمل والتأثير؛ سواء للتأثير في أنفسهم أو في الطبيعية المحيطة بهم. ومن ثم أنتجوا الثقافة وخلقوا تاريخًا (أو التاريخ).
وطبَعي أن هناك حيوانات اجتماعية أخرى هي أيضًا نِتاج تاريخ؛ ولكنه تاريخ لم تصنعه هي بنفسها؛ ذلك هو … تاريخ تطور المادة الحية وأنواع الحيوان والنبات (التي ظهرت) على مدى وجود الأرض.
وكما أكد علماء الأنثروبولوجيا والآثار ببراهينَ متزايدةٍ باطراد، فإن مثل هذه العلاقة السببية الاجتماعية البشرية المتميزة تعمل وتؤثر في ظروف أقل تباينًا اجتماعيًّا بكثير عما هو الحال في مجتمعات الحَضَر الصناعية. لقد تأكدت بالوثائق السببية الاجتماعية على نحو ما ثبت على سبيل المثال بين الجماعات المعاصرة التي لا تزال تعيش حياة ما قبل التاريخ، أو تعيش على جمع الثمار والذين يمكن تصورهم، دون ذلك، وكأنهم خاضعون أساسًا لتأثير البيئة الطبيعية المباشر. ونلحظ بين سكان أستراليا الأصليين المعاصرين على سبيل المثال أن حجم الجماعة وتكوينها عندهم يتجاوب مع حالة العلاقات القائمة بين الأفراد وبين الجماعات، كما تتجاوب مع ضرورة العيش في بيئةٍ قاسية. ويمكن الوصول إلى رؤية مماثلة بشأن الجماعات التي تعيش على الرعي أو الزراعة. علاوة على هذا فإن ظهور الابتكارات العظمى والبالغة التأثير — الملوك، والنقود، والكتابة، والطباعة، والرأسمالية، والقومية — هيأت مجالًا لكي تظهر دائمًا وأبدًا أشكالٌ جديدة في العلاقة السببية الاجتماعية. معنى هذا أنه أصبح بوسعنا، ليس فقط خلق أشكال جديدة من الحياة الاجتماعية؛ بل وأيضًا خلق أشكال جديدة من العلاقات السببية. ولقد أوضح، على سبيل المثال، المؤرخ فرناند بروديل كيف أن ابتكار صكوك الائتمان في إيطاليا في أواخر العصر الوسيط، أدى إلى ظهور إمكانية جديدة تتمثل في أن المضاربة على هذه الصكوك، يمكن أن تُؤثر في أسعار المواد الغذائية الأساسية في هولندا أو ألمانيا البعيدتين تمامًا. وإن الشيء اليقيني أن العالم الحديث أصبح على معرفةٍ جيدة بمثل هذه العلاقات السببية، في صورة التحولات المراوِغة، والقوية المؤثرة، للنقود والموارد عبر العالم والتي تستهدف فائدة البعض وإن تسبَّبت في أضرار لا توصف للآخرين.
حكايات ثلاث
وكما أوضحتُ، فإن هذه القصة تتلافق تمامًا مع نهاية قصة مسيرة الحضارة التكنولوجية، ابتداء من اليونان وحتى الولايات المتحدة. إنها حدثٌ باكر في مسيرة التقدم المظفرة، وهي المعادل بأكثر الكلمات رصانة واعتدالًا للصورة الكاريكاتورية التي تصور الإنسان مخترع النار أو العجلة.
وحاول فيما بعد المفكر المسيحي تيلهارد دي شاردان أن يمزج قصة تطور العقل التقني مع هذه الفكرة، ووافق على أن البشر تطوروا فعلًا؛ غير أنه أصرَّ على أنه كانت هناك على الرغم من ذلك عند نقطة إعجازيةٍ ما، طفرة قادت الإنسان من حالة اللامعنى إلى المعنى.
وظاهر القول إن القصتين على خلافٍ، وإنْ ظلت كلٌّ منهما موازية للأخرى دون أن تفترقا. وقد كتب طوبياس في العام نفسه تفسيرًا للذكاء التقني والذي صادف قبولًا من شاردان:
وحين نتأمل هذا الكلام فإننا لن ندهش إذ نجد قصة الذكاء التقني تمضي في اتساق وموازاة مع القصة الأخرى؛ ذلك لأن المسيرة إلى الحضارة التكنولوجية غالبًا ما نُعبر عنها وكأنها تحمل معها التنوير وصورة روحانية أرقى.
ولقد أبديت حماسًا فاترًا لكل من القصتين. حقًّا ثمة شيء في كل منهما يمكن التوفيق بينه وبين قصة التفاعل المتبادل التي عرضتُها. إنني، على سبيل المثال، لا أنكر أن الإنجازات التقنية كانت ذات شأن كبير. بيد أنني، اقتداء بما رآه همفري، جعلتها ثانوية وتابعة بالنسبة لتطور الذكاء الاجتماعي. وبالمثل فإنني أسلم في الفصل التالي بأن ثمة شيئًا إضافيًّا في كلام البشر يجعله أقوى فكريًّا بكثير من أي شكل عرضنا له حتى الآن للتواصل الحيواني؛ ولكنني سوف أؤكد على أن الكلام معتمد أيضًا على النشوء السابق للذكاء الاجتماعي، وللوضع الاجتماعي الذي يمكن في إطاره أن تزدهر مهاراته الخاصة. ولا حاجة بنا إلى أن نتصوره شعلة مقدسة تفجرت، أو أن نراه إضافة إلى كمٍّ جوهريٍّ وغامض انتقل بالإنسان من حالة البهيمية إلى الإنسانية.
وهناك فوارق كثيرة بين قصة همفري وهاتين القصتين السابقتين؛ ولكن الشيء الأساسي هو أن قصة همفري قصة متدرجة، على نقيض الأخريين؛ إذ نراه في عرضه يوضح أن «شيئًا ما جديدًا وأصيلًا حدث في حقبتنا التاريخية»، وقد حدث على نحو بطيءٍ وثابت وهادئ ومطرد خطوة خطوة. وبدأت القصة في الماضي البعيد ولكل سلالة الرئيسات، وأفضت إلى ظهور فصيلةٍ متباينة من أشكال الروح الاجتماعية. وإن الروح الاجتماعية الخاصة بالبشر هي أهم ما يعنينا، وتتميز ببعض الانعطافات الخاصة بها، وإن لم تختلف جذريًّا عن غيرها.