الثور والقديس
وإليك القصة وحدها مستقلة؛ بيد أن القصة في الإطار الذي رويت فيه تعني ما هو أكثر بكثير؛ وذلك أولًا لأنها رويت باعتبارها إسهامًا في منازعة ماكرة لتكون حجة توضح كيف يجري عرض العقيدة اليانية. وبدا لي في ضوء فحواها، بقدر إدراكي لها آنذاك، أن حكاية تحكي مثل هذه البطولة جديرة بأن تُصاغ في مذهب تجريدي مؤلف من ألف كلمة. أو إذا ما عبرنا عن هذا بكلمات جيروم برونر فإن راوي القصة بدا وكأنه يقول ضمنًا إن الروايات أسمي من الاستدلال العقلي، وإن الفكر الروائي ليس مجرد صورة بديلة؛ بل هو فعلًا وحقًّا أفضل من الفكر القائم على نموذج إرشادي قياسي. وهذه إحدى الأفكار التي تضمنتها القصة فيما يلي.
سبب ثانٍ، وهو أن الملابسات الفعلية التي أحاطت برواية القصة بدت وثيقة الارتباط بمعنى القصة. إن معرفة واقع أن القصة رواها شخص بذاته لشخص آخر محدد أضافت جديدًا، يمكن القول بدقة وتحديد: إنه ما كان بالإمكان أن نجده في كلماتها الأصلية. وهذه فكرة ثانية. والحقيقة أنني بعد تأملٍ أدركت أن روايتها هي ببساطة شديدة جزء من معناها، وأن معناها جزء من روايتها. وأنني لا أستطيع أن أستخلص منها شيئًا دون اعتبار الجانب الآخر دائمًا، وإلا فإنني سوف أشتط وأفسد المعنى في إجماله. ولهذا تلونت القصة بصبغة الواقع الراهن زمن روايتها؛ بوجودي أنا الأجنبي والمستمع في آن واحد، وبوجود راويها علاوة على آخرين شاركوا في الاستماع.
قد يبدو هذا من ناحية أمرًا له آثاره التي تدير الرأس. هل معنى هذا أن المترجم لا بد أن يُقحم نفسه، وأن صورة إثنوجرافية عن مجتمع ما لا بد أن تضم في صدرها باحثًا أنثروبولوجيًّا، ليجمع تفاصيل مشهد كان يبدو من نواحٍ أخرى مشهدًا واضحًا ومهمًّا؟ ثم إنه من ناحية أخرى يقنع بتكرار نقطة سبق أن أبرزتُها، والتي أعتقد أنها ليست موضع اعتراض؛ ذلك أنني أوضحت في الفصل السابق أن القصص، مثل القصة التي رواها بن إلى لوت عن لقائه نيجل، أو القصة التي رواها الرسول إلى أوديب، كلٌّ منهما تمثل جزءًا من فيض أحداث متدفقة. إنها تجري بين أشخاص وذوات موجودة متفاعلة. ولا ريب في أن كل قصة هي سلسلة من المعاني المحتملة والتي يمكن الأعراب عنها، عن طريق كتابة القصة وأرسالها عبر باب ضيق يصل إلى ملء غرفة من علماء اللسانيات؛ بيد أن المعنى الحقيقي لكل قصة إنما يظهر مباشرة في علاقته بحالة شبكة الأشخاص المعنيين بالرواية. كذلك لنفترض بالمثل أنني اندفعت صوب مركز شرطةٍ وقميصي ممزق، وشَفَتي تنزف دمًا، وأخذت طريقي توًّا إلى الضابط لأقُص عليه قصة زائفة تحكي أن لصًّا سرقني وأنا في الطريق الآن. هنا لن نجد انفصالًا بين فيض الأحداث وتدفقها وبين تفسير الحدث؛ فالإطار والقصة كلاهما شيء واحد. إن الفارق كله ليس فقط في الكلمات الزائفة، وربما الناقصة، وإنما أيضًا يأتي الفارق من أمور أخرى مثل: من المتكلم؟ ومع من؟ تمامًا مثلما وجدنا الفارق عندما قال الروسي كلمة «حسن» للجالس معه.
وتعتبر القصة التي سأحكيها غير مختلفةٍ من ناحية عن قصص الفصل السابق؛ إذ إنها هي وغيرها عن شخصيات وحالاتهم الذهنية داخل حبكة روائية. إنها من النوع الذي يتعين أن نفهمه لكي نعمل عملًا يمكن تفسيره داخل فيض الأحداث. ونحتاج جميعًا إلى فكرٍ روائي. ولكنَّ ثمة فارقًا محوريًّا. القصة الحالية لم تكن، أو لم تكن صراحة، تتناول فيضًا من الأحداث الراهنة، وإنما هي عن شيء وقع منذ مائة عام. علاوة على هذا، وكما علمت فيما بعد، أنها قصةٌ ذائعة على نطاق واسع جدًّا بين أبناء العقيدة اليانية في كولهابور. والحق أنني وجدتها مطبوعة كجزء من سيرة حياة البطل؛ ولهذا نرى أن شخصيتها ذات طابعٍ عام أكثر من سواها. ثم إنه توجد لها، وسوف توجد لها، روايات أخرى أو كتابات وقراءات أخرى في أطر مغايرة، وهذا من شأنه أن يصرف انتباهنا عن القصة في إطارها إلى القصة في ذاتها، باعتبارها حبكة غير مجسدة أو ربما سلسلة متوالية من الكلمات. وتبدو القصة في هذا الضوء وكأن لها حياة خاصة بها، شأن الأسطورة أو الخرافة، فكلٌّ منهما له حياة خاصة به.
إنها حقيقةٌ تبدو جزءًا مما يمكن أن يسميه علماء الأنثروبولوجيا بسهولة وعن يقين الثقافة اليانية، وهي واحدةٌ من موضوعات كثيرة شديدة التباين تؤلف في مجموعها المعارف العامة والممارسات المشتركة للعقيدة اليانية حسبما يؤمن بها اليانيون في المنطقة. وأذكر الآن أنني منذ أن شرعت في عرض وجهة نظري أوضحت رفضي لأي أنطولوجيا للحياة البشرية تنظر إلى الأفراد، باعتبارهم على صلةٍ مباشرة بموضوع مشتركٍ بينهم على نحو غامض نسميه ثقافة؛ ولكن ثمة حالة وهي حالة من نوع شائع جدًّا نظرًا لوجود أمور أخرى كثيرة جدًّا مثل تلك التي يعرفها جميع اليانيين أو من لديهم خبرة بممارستها، ويمكن تفسير هذه الحالة على أحسن وجه وأيسر وسيلة في ضوء هذه المفاهيم. إذ يبدو وكأن بالإمكان رسم فقاعة فكر فوق رءوس، لنقل ثلاثين ألف نسمة من أبناء العقيدة اليانية ممن يتصادف أنهم يعرفون القصة؛ ونملأ فقاعة الفكر بالقصة وبكل الموضوعات الأخرى ذات الصلة ونسمي هذا الثقافة اليانية. وتعتبر القصة في نهاية الأمر واحدة من بين موضوعات كثيرة مشتركة، والتي تمثل مواقف وقيم اليانيين. ويمكن إدراجها ضمن الموضوعات الذهنية التي تمايز اليانيين عن سواهم. إذن لماذا نُكِدُّ ونجهد أنفسنا لبيان أن القصة لها أهمية تفاعلية بين الذوات المشتركة، إذا ما تلاءمت بصورة محكمة مع صنف معروف لنا جيدًا؟
سأكتفي الآن بتقديم إجابة موجزة عن السؤال. إذ من الضروري، كما أشرت سلفًا، أن نكون قادرين على تحديد كيفية اختلاف أسلوب حياة ما عن أسلوب حياة أخرى. ولقد أثبت مفهوم الثقافة فائدته الجمَّة في هذا الصدد كأسلوب لتفكيك الأبنية المعقدة للحياة الاجتماعية الفعلية. وسوف أطرح بعد قليل وصفًا مطابقًا لأفكار العقيدة اليانية على هدي الأسلوب التفكيكي؛ بيد أنني أريد كذلك أن أُعيد تجميع الحياة الاجتماعية. وتستلزم عملية إعادة التجميع هذه أمورًا كثيرة، من بينها أن تتوافر لنا فكرة واضحة عن ماذا أو من يفعل ماذا لمن في فيض الأحداث.
الفيلسوف والراوي
وفي هذه المناسبة التي أعرض لها هنا كنت جالسًا في مكتب أحد التجار المشتغلين بالإمدادات الزراعية، وسوف أُشير إليه بكلمة «الفيلسوف» أو «السيد ف». وأعرض فيما يلي موجزًا لما سجلته في مذكراتي عن الدراسة الميدانية. وقد أسقطت بعض الفقرات المتكررة. وتحدث السيد ف الفيلسوف باللغة الإنجليزية.
سأكتفي بأن أسمِّي الرجل الذي حكى لي القصة «الراوي» أو السيد س. إنني لم أعرف اسمه. ولاحظت أنه حكى لي القصة بانفعال وحماس. ولكنه لزم الصمت عندما عاد الفيلسوف، وظل صامتًا ولم يتكلم بعد ذلك.
وليسمح لي القارئ أن أملأ بعض فراغات الخلفية (بطريقة التفكيك). يمثل اليانيون طائفة من الأقليات المعروف عنهم شدة الورع والنسك إلى حدِّ الغلو. ويؤمنون بأن الأرواح تمضي في دورة من الابتلاء الذي لا نهاية له من ميلاد إلى ميلاد. وسبب هذه المعاناة الأبدية هو ما نتسبب نحن فيه للكائنات الأخرى من آلام بدنية ومعنوية؛ ذلك أننا بهذه الأفعال نُدنِّس أرواحنا. وتفضي هذه الأعمال الدنسة حتمًا وبانتظام يكاد يكون قانونًا، إلى المزيد من معاناة وآلام إعادة الميلاد. وسبيلنا إلى الوقاية من هذا الدنس هو الالتزام بممارسات تحول دون إيذاء الآخرين. حقًّا أن أهيمسا هي محور العقيدة اليانية، وتعني الامتناع الكامل عن الإيذاء والعنف. وتتضمن موقفًا عامًّا من الحياة علاوة على ممارسات دينية. ونذكر من بين هذه الممارسات التزام النزعة النباتية والصدق والحديث اللين العطوف؛ ولكن يؤكد اليانيون كذلك على ممارسات أخرى من بينها ضبط النفس، ومن ذلك العزوبة والتحلل من الماديات. وإذا كنا لا نجد نصًّا صريحًا عن هذا في أهيمسا، إلا أن الأمر عند اليانيين يصل إلى حد تجنب الإيذاء؛ فالعزوبة كمثال تعني تجنب عنف الاتصال الجنسي الذي من شأنه في رأي اليانيين، أن يسبب الموت لصور من الكائنات الحية الدقيقة التي لا حصر لها والتي تسكن مهبل المرأة.
أحسب أن ما قدمته عن اليانية كافٍ كإطار عام لها؛ إذ يكفي هذا لفهم القصة، ولكي نملأ الفراغات بما يساعد على الاستيعاب، كأن نفهم معنى أهيمسا والأفكار التي تبرر مثل هذه الأفعال المناقضة للفطرة. وهذا هو نوع الفعالية التي نتوقعها من الترجمة الثقافية ومن تفكيك فيض الأحداث. وسأحاول الآن أن أعيد تدريجيًّا فيض الأحداث إلى وضعه الأول.
قصة قصيرة قاسية
- (١)
كشفت عن فيض من الأحداث.
- (٢)
ضمن شخصيات محددة.
- (٣)
أوضحت مواقف ومعتقدات ومقاصد الشخصيات.
- (٤)
كشفت عن علاقة بين الأحداث وبين المقاصد والمواقف.
ونجد ما هو أكثر في النسخة المكتوبة … مثال ذلك أن سيدهاساجار لزم الأرض عدة دقائق وأنه كان آنذاك من رقيق الأرض، وأن مالك الثور هو سيده؛ بيد أن هذه التفاصيل لا تضيف شيئًا جوهريًّا إلى الإطار الروائي الذي سمعته من الراوي. إنها تنقل لنا بإيجاز شديدٍ، ولكن بقوة وانفعال كبيرين، المعنى المباشر والمجسد لأسلوب الياني في التفكير والمدى الذي يمكنه أن يمضي إليه.
حقًّا أن إيجاز القصة قسمة من أبرز قسماتها. وهدف القصة البرهنة على مواقف شخصياتها وحالاتهم الذهنية. لقد كان سيدهاساجار متألمًا ولكنه ملتزم الشفقة والرحمة أي أهيمسا. وكان المالك معنيًّا وتوَّاقًا لأنْ ينقذ سيدهاساجار. ومع هذا فإن الحالة الذهنية الوحيدة المذكورة صراحة في القصة ليست منسوبة إلى أي منهما وإنما إلى الثور الذي لم يفهم.
ما الذي يجري هنا؟
لذا فإن القصة تُشير إلى ما هو أبعد منها، أي إلى موقف مقترن بحالات الذهن المصاحبة. إن الأمر ليس مقتصرًا على مجرد الكلمات المكتوبة أو المنطوقة. وهذه في الحقيقة مشكلة عامة معروفة في علم اللغة، إن موضوع أي خطاب إذا ما أخذناه باعتباره مجرد شريحة في حديث أو كتابة، يمكن أن يكون في واقع الأمر أشياء كثيرة. فثمة متواليات كاملة من الموضوعات والمعاني، ربما متواليات غير محدودة. بحيث تشغل قصة واحدة جهود علماء اللسانيات. ترى ماذا عسى أن يكون هذا المعنى البديل في قصة سيدهاساجار؟ حسن. أحد المعاني أن سيدهاساجار ليس مجنونًا ولا شديد البلاهة بحيث يدع ثورًا هنديًّا ارتفاعه أكثر من ستة أقدام، يدوس على يديه ويظل واقفًا دون أن يُبدي حراكًا أو احتجاجًا. هذا معنًى استنبطته حين حكيت القصة على أسماع ناس غير متعاطفين مع العقيدة اليانية، من الأوروبيين والهنود على السواء. ولكن أحد اليانيين الذين حكيت لهم القصة شعر بأن سيدهاساجار أتى فعلة تُلقي بصاحبها إلى التهلكة دون مبرر. وبناء على هذه التفسيرات يمكن أن يكون سيدهاساجار بطلًا سواء بمعنى ساخر وقاسٍ في سخريته، أو باعتباره شخصية مضللة دونكيشوتي حسن النية.
وإنني لا أناصر أيًّا من التفسيرين وإن كانا بعيدَين تمامًا عن أن يكونا تفسيرين من نسج الخيال. ذلك أن أتباع العقيدة اليانية عمدوا طوال تاريخهم إلى الدفاع عن أنفسهم ضد الكثير من التأويلات السلبية. وكثيرًا ما استهل اليانيون مناقشاتهم عن اليانية بالدفاع عن بعض ممارساتهم، مثل العري عند النساك أو الصوم حتى الموت. وتشيع بعض الشكوك بشأن مدى الحدَّة التي تلتزم بها طائفة شديدة الإخلاص مثل ديجامبار في كولهابور. ومن ثم فإنني إذ أعيد تجميع القصة فلن أسقط السؤال: ما الذي حدث ليبرر لي الاعتقاد بأن سيدهاساجار بطل بالمعنى الدقيق وليس بالمعنى الساخر؟ وهذا ليس مجرد سؤال أكاديمي؛ ذلك لأنه يصل بنا إلى السؤال عن كيف يتأتى لي أو لغيري الثقة في فهم ما كان يجري؟
تعبيرات ملتبسة
إذن أين لنا أن نبحث عمَّا يؤكد أن قصة السيد س كانت هي المعنية حقًّا وصدقًا؟ لقد وضعت علامة تأكيد في المذكرات الخاصة بدراستي الميدانية تحت كلمتي «هذا هو» في الاقتباس السابق. وكان معنى هذه العلامة أن أضع يدي على تأكيد ورد فيما قاله السيد س. وأعتقد علاوة على هذا — وهو ما بإمكاني أن أُقيم الدليل عليه — أنه في تأكيده إنما عاد ليشير إلى أمور حدثت وسبق ذكرها، وأثبتت أن هذا حديث مخلص استهدف الثناء على العقيدة اليانية وعلى سيدهاساجار.
إذن لنعد إلى البداية. لقد بدأ اللقاء كله مع محاضرة الفيلسوف. ولكن قد يكون مفيدًا أن نعود القهقري إلى ما هو قبل ذلك، ونتحدث قليلًا عن الكيفية التي أخذت بها على عاتقي هذه اللقاءات. لقد التقيت بضربة حظ بأتباع العقيدة اليانية، وذلك في اجتماع سنوي عام داخل معبد محلي وأنا لا أزال أستهل أول أعمالي الميدانية، وأخذوا على عاتقهم مساعدتي رسميًّا وجمعيًّا، وهكذا وعلى الرغم من أن هذه المساعدة لم يتم عرضها علي دون استثناءات، إلا أنني كنت عادة أستطيع الاعتماد على تعاونهم معي.
علاوة على هذا، فإنني كنت كلما عمدت إلى مناقشة أحدهم في بعض الأمور، وكان ذلك دائمًا مع رجال — إذ لم تتهيأ لي فرصة الحديث إلى نساء مؤمنات باليانية — إنما تجري المناقشة بطريقةٍ خاصة؛ إذ كنت أطلب المساعدة، وإذا ما وجدت استجابة مواتية أسأل محدثي في لهفةٍ، بينما أكتب سريعًا في مذكراتي وأرمي ببصري بين الحين والآخر إلى محدثي؛ لأبين له أنني حريصٌ على كل كلمة يقولها. ولم يكن هذا بدقة منهجًا، كما أنني لم أتوصل إليه من خلال فن بحثي؛ وإنما كان نهجًا انبثق تلقائيًّا بينما كنت أُجري دراسة ميدانية في سري لانكا. ويحمل هذا النهج طابع أسلوب حل اللغز في الرواية البوليسية. إنني لم أتظاهر باللهفة والاهتمام؛ بل كنت فعلًا متلهفًا ومهتمًّا، واستمر هذا الاهتمام يلازمني وأنا في كولهابور. وأود أن أُشير هنا إلى أنني كنت على يقين تام من جدوى وفعالية هذا الأسلوب، الذي حقق بالفعل إجابات صادقة بمقارنته بمناسبات أخرى لم يثمر معي. وسرعان ما اكتشفت أنني حين كنت أسأل رجال الأعمال اليانيين عن عملهم وليس عقيدتهم الدينية، لم يكن ثمة محل للمذكرات أو اللهفة.
أفادت هذه الخلفية في خَلق مناخ عام عملت من خلاله؛ ولكن كان لا بد أن يبدأ كل لقاء بداية جديدة بشكل أو بآخر. ووجدت أحيانًا أن اهتمامي الواضح لم يكن ليثير شيئًا جديدًا. وأجد أحيانًا أخرى وقد انطلقنا معًا في حوار مهم متعادل وشامل. ولكن غالبًا، وعلى نحو ما حدث مع السيد ف الفيلسوف، ما كنت أصطدم بصيغة المحاضرة الدينية الفلسفية. لقد كان اللقاء معه أشبه بحوار قهري، إذ كان مطلوبًا مني أن أؤدي فيه دورًا محددًا ومحدودًا للغاية، وهو دور الفتى الغِرِّ أو الغريب الجاهل أخلاقيًّا.
توضح لي مذكرات البحث الميداني كيف حدث هذا. لقد كانت النغمة السائدة والحاكمة لكل اللقاء مع السيد الفيلسوف تغلُب عليها أسئلته الخطابية. وهذه أسئلة لا تنتظر سوى إجابات موجزة محدودة النطاق. ولقد كانت بعض أسئلته في الحقيقة من نوع: «هل امتنعت عن ضرب زوجتك؟» وهو نوع من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة؛ ولكنها تتجاهل هذه الإجابة منذ البداية.
– هل تأكل اللحم؟
– اعتدت على هذا، وإن كنت قد امتنعت.
– حسن. هذه هي أهيمسا. أهيمسا دائمًا كسب وفائدة لك.
نصل الآن إلى إحدى النقاط الأساسية في هذا النقاش برمته. إننا إذا ما طرحنا جانبًا كل ما قيل نجد أن أعمال كل من السيد ف الفيلسوف وأعمالي تعاونا معًا وصولًا إلى غاية محددة هي تأسيس علاقة. وإن العلاقة التي تمخضت عن ذلك إنما وجهها إلى حدٍّ كبير السيد ف الفيلسوف مع استسلامي لهذا. لقد وُضعت في قالب تربوي له مراتبة المحكمة والصارمة، تبدأ بالفيلسوف المعلم. ولقد كان ملائمًا تمامًا أن يلتزم السيد ف الفيلسوف خطأً أخلاقيًّا ساميًا، وأن يجري تعليقات لها انعكاساتها على خلفيتي الاجتماعية والثقافية؛ ولكن لم يكن ملائمًا بالنسبة لي أن أفعل ذلك. كان مناسبًا أن أكشف التفاصيل عن نفسي، وأن أغدو صفحة مفتوحة لمثل هذه التعليقات؛ بيد أن السيد ف لم يقدم في المقابل معلومات عن نفسه، ذلك لأنه يؤكد لنفسه وضع الهيمنة. وطبعي أنه في مثل هذه العلاقة، وهي علاقة تربوية أخلاقيًّا وروحيًّا، لم تكن التفاصيل الشخصية عن السيد ف أمرًا ضروريًّا من حيث المبدأ؛ وذلك لأن العلاقة لم تكن، على سبيل المثال، علاقة ثرثرة شخصية أو ضيافة متكافئة.
لقد تهيأ الوضع على النحو الذي يجعل المستمع يأخذ محتوى رسالته باعتباره أمرًا مهيبًا ومعارف علوية، تتنزل من أعلى عليين إلى أسفل وهي في صورة حكمة العصور. وهيأت العلاقة ذاتها المفتاح الضروري الذي يهدينا إلى الكيفية التي نتلقى بها الرسالة. وأنا هنا، بمعنًى من المعاني، لا أقول شيئًا أكثر مما عرفته مع بداية اللقاء من أننا جميعًا قد أخذنا الأمور مأخذًا جادًّا، وهذا هو ما يعرفه الناس جميعًا بما في ذلك الباحثون الأنثروبولوجيون؛ ولكن إذا ما سألنا كيف تأتت هذه الجدية، فإننا نجد عمليًّا أنها ذات صيغة أو صورة محددة، وأن بالإمكان أن تأخذ أشكالًا جديدة لمحادثة جادة على نحو ما جرى في محادثات أكثر ندية كنت قد بدأتها مع اليانيين والبوذيين؛ غير أن تلك الجدية التي أعدَّ لها العدة السيد ف كان لها مذاقٌ وجوٌّ خاص. إنها من نوع الجدية الخاصة بالأمور المهمة للغاية التي يتعين فيها أن تكون للمعلم هيمنة على من يتلقون عنه. ليس ثمة مجال للتشكك والتساؤل بشأن هذه التعاليم على نحو ما هو الحال في محادثات تعتمد على الأخذ والعطاء. وطبعي أن أضاف هذا جديدًا إلى كلمات السيد ف وهو جديد لم نكن لندركه لو أننا قرأنا تعاليمه على صفحة مزقها شخص ما من كتاب وتركها فوق مقعد إحدى المركبات.
حقًّا إننا نستطيع أن نرى أن كلماته لم تكتسب معنًى تأسيسًا على العلاقة فحسب؛ بل كان لها أيضًا مجال في الاستعمال العملي؛ إذ كان بالإمكان أن تصبح جزءًا من محاولة لإثبات السمو الأخلاقي لليانيين، وللعقيدة اليانية وتفوقهم على الآخرين جميعًا، خاصة الغربيين. ولكن هذا اللقاء لم يتطور إلى هذا الحد، وإن كان هذا التصور قضية عامة تجلت في لقاءات أخرى مع اليانيين.
سيدهاساجار مرة أخرى
ولكن ذكر الراوي لجده، وقوله إن الحدث وقع قريبًا جدًّا من البيت الذي نحن فيه، اقترن هذا كله بالإطار الأنيس المتواضع للقصة ذاتها، وصنعت هذه العناصر تأثيرًا مختلفًا تمامًا عن التأثير الذي كان سائدًا مع حضور الفيلسوف؛ ولكن هذا كله أوحى، ولو بشكل ضئيل جدًّا، بطبيعة حياة السيد س وعائلته وأفكاره. ولقد كان هذا أمرًا مختلفًا جدًّا عن المناخ السائد مع المتحدث السابق الذي لم يبح بشيءٍ عن نفسه وهو يُقدم تعاليمه. وهكذا تغيرت العلاقة ونشأ ارتباط أكثر صراحة وأقل اغترابًا بين الراوي وبيني. علاوة على هذا فإن الإطار الروائي، وقد أصبح حميمًا إلى نفسي نسبيًّا، أقنعني، آنذاك، بأن هذا الحدث وقع إلى حدٍّ كبير داخل عالم الخبرة المعيشة للراوي وجده. أو أنني شعرت، بعبارة أخرى، أن هذه ليست حكاية خرافية دارت أحداثها في مملكة قاصية، كما هو الحال بالنسبة للعديد من الحكايات في العقيدة اليانية. إنها بدت وكأنها معارف موضوعية بشرية وليست من عالم آخر، أي وكأنها حكاية من بين أحداث الحياة اليومية، وإن بدت في صورة أدب شعبي بطولي فذ. وتأكد لي هذا بعد اكتشافي للكراسة المتضمنة قصة سيدهاساجار؛ فقد وضح أن الحدث وقع قريبًا جدًّا من هنا، وغالبًا في حياة جد السيد س، الذي استمع بدوره إلى الحكاية على لسان آخرين. إن هذا التجاور والقرب من موقع الحدث البطولي، وأولئك الذين حدثونا عنه بحفاوة ونحن جلوس وسط أكياس السماد! كل هذا يشكل، أو بدا لي أنه يُشكل، جزءًا من رسالة الراوي وجزءًا مما أراد أن ينجزه. لقد توافق هذا مع حماسه الشديد واستدعائه لحادثة سيدهاساجار من الماضي البعيد ويصنع منها خيطًا يصل ما بيني وبينه هو وجده، حتى نصل إلى سيدهاساجار نفسه. لقد عشنا في نفس العالم، وأضحت أعمال سيدهاساجار وثيقة الصلة بالحاضر، مثلما كانت كذلك في الماضي. وراودني شعور بأن السيد س يضرب على صفحة المائدة بالورقة الرابحة، أو كمن أحضر لفافة أوراق مالية رابحة. وقال كما اعتاد اليانيون أن يصيحوا في ترتيل متناغم ما معناه: «هذا هو الدين القيِّم الصحيح!» إن ما نراه شيء يتجاوز حدود التربية المهيبة للفيلسوف.
لهذا أريد أن أؤكد على نوعية حديث الراوي الذي استهدف جذبي إلى وسط الحبكة مع شخصيات أخرى موجودة بالفعل في السابق. وهذه الشخصيات ليست مقتصرة على سيدهاساجار والثور وصاحبه؛ بل وأيضًا جد الراوي ومن هم حول الراوي وأنا أحدهم الآن. لم يكن هؤلاء شخصيات داخل إطار القصة؛ بل جزءًا من القصة ذاتها ومشاركين في حياتنا ولو بقسط ضئيل.
وطبعي أن كان بإمكان الفيلسوف أن يفيض في حديث حميم، وأن يحدثنا عن حكماء قدامى أو معاصرين أكدوا هذه القضايا الأخلاقية وأنا أنصت له في خضوع؛ ولكن ما كان له أبدًا أن يبلغ قدر الراوي في التأثير؛ وسبب ذلك واضح تمامًا: أن شخصية الرواية التي يرويها السيد س تطابق تمامًا شخصية القصة التي تجري أحداثها هنا داخل المكان؛ ولهذا فإن الحركة من أحدهما إلى الآخر، ومن الماضي إلى الحاضر، ومن شخصيات يروي عنها داخل الحبكة إلى شخصيات معيشة نُعايشها الآن داخل الحبكة، إنما كانت حركة يسيرة وتلقائية وعفوية. وارتكزت على سلسلة من الناس يعملون الآخرين خلال القصة المعنى الحي والمعيش للعقيدة اليانية.
وليسمح لي القارئ بأن أستعرض على نطاق أوسع دلالة ما ذهبت إليه وأكدتُه هنا. إن بالإمكان في ضوء منظور جري تفكيكه، أن نجد رواية سيدهاساجار مفهومة تأسيسًا على بيان تجريدي من الدوافع. وتشكل هذه الدوافع تفسيرًا في ضوء الثقافة. وهذه من النوع الذي يلجأ إليه علماء الأنثروبولوجيا حين يعمدون إلى سد الثغرات الخلفية العامة. ولهذا فإن الدوافع المجردة التي تدفع هنا إلى قتل البدن و«الأهيمسا»، إنما تمثل إضافة شاملة ودون تمييز إلى الحالات الذهنية التي نعوزها إلى سيدهاساجار. ونحن حين نستخدم هذه التجريدات لا نكون بحاجة إلى التساؤل بشأن الإطار الذي رويت فيه قصته.
وإذا ما عنَّ لنا أن نعيد تجميع قصة سيدهاساجار، فسوف يظهر لنا شيء مغاير؛ إذ سوف يبين لنا أن المحاورين المشاركين لم يكونوا يتحدثون إلى بعضهم البعض تأسيسًا على خلفية مشتركة يأنسون إليها، أي فقاعة فكر عامة مشتركة؛ ذلك أننا نحن المتحاورين آنذاك لم نفترض أن كلًّا منا يعرف ما يعرفه الآخر. وأكثر من هذا أننا لم نودع المعاني التي نقصدها في كلمات لنتبادلها هنا وهناك؛ وإنما على النقيض، فإن المعني الذي أراد الإفصاح عنه كل من السيد ف والسيد س كان لا بد من التباحث والتحاور بشأنه في اتساق مع الحوار بشأن العلاقة. ولا سبيل إلى إدراك روح القصة إلا إذا ما تحاورنا بشأن العلاقة؛ إذ من دون هذا سيخرج تفسير القصة عن سيطرة السيد س مهما كانت درجة وضوح كلماته، ومهما كان عمق اقتناعه بها.
وطبعي أن يُقال إن هذا صحيح فقط نظرًا للوضع الخاص الذي كنت فيه، أي باعتباري غريبًا جاهلًا، ولكن حيث إن اليانيين الكبار أنفسهم يفعلون الشيء ذاته تقريبًا مع أبنائهم ومع بعضهم البعض طوال الوقت، إذن فليس هذا تأويلًا في موضعه. إن العلاقات بين اليانيين، أو على الأقل بين اثنين يتحدثان عن العقيدة اليانية، لها دورها المتمم بالضرورة والملازم لأسلوب الحديث المشترك عن العقيدة. فمثلما أن جهاز اكتساب اللغة عند الطفل الرضيع يستلزم أولًا وجود جهاز دعم اكتساب اللغة، كذلك فإنه يتعيَّن نقل حقائق العقيدة اليانية والتعريف بها في إطار اجتماعيٍّ ملائم. ويتسق مع هذا ما نراه من نزوع إلى أن يسود جوٌّ له خصوصيته المميزة داخل هذه الأوضاع بين اليانيين مثلما هو الحال بين الهنود بعامة؛ إذ تجد انحيازًا نحو الحديث المتسلط، أعني تجاه علاقةٍ قائمة على الطاعة العمياء للمعلم، وهيمنته دون حقِّ السؤال والاعتراض. ولكن في جميع الأحوال نجد أن تأسيس العلاقة ضروريٌّ لتفسير القصة تفسيرًا صحيحًا.
وهذا هو السبب في أنني أعرض هذا اللقاء الموجز في بلد بعيدٍ ليكون مثالًا لحقيقة بشرية أكثر شمولًا: أن كل امرئ يبحث العلاقات بغية البحث عن المعاني. إننا إذا ما أسقطنا من حسابنا مناخ التسلط فإن رواية قصة سيدهاساجار ستظل محتفظةً بعنصر جوهري، هو خلق معنى مشترك من خلال العمل المشترك على أساسٍ تفاعليٍّ بغية بيان أي التفسيرات هو الذي نقبله. وهنا، وحسب هذا المنظور، نجد أن حالة الباحث الأنثروبولوجي المرتبطة بالأشخاص موضع الدراسة ليست إلا مثالًا واحدًا، وليس حالة خاصة جدًّا من بين سلسلة أوسع نطاقًا من شأنها أن تشتمل في النهاية على جميع التفاعلات البشرية. إن معنى القصص كلها أو كل الكلمات المنطوقة في الحقيقة رهن طبيعة العلاقات البشرية التي تتولد عنها هذه القصص، ومن ثم فإن كل المعاني، شأن كلمة «حسن» على لسان الروسي، هي معانٍ تفاعلية من خلال علاقات.
ما معنى هذا بالنسبة لقصة مثل قصة سيدهاساجار التي لها، على نقيض قصص الفصل السابق، حياتها الخاصة داخل أوضاع مختلفة ووسائط اتصال مختلفة؟ إنني أؤكد بإصرار هنا على أن جميع المعاني هي معانٍ تفاعلية، ومن ثم، وبناء على هذا، فإن الروايات المختلفة لا بد أن تكون رهن إطارها ووضعها. وهذا قولٌ مقبولٌ على نطاقٍ واسعٍ حتى ليمكن الزعم أنه قول مبتذل بين أوساط غالبية الباحثين الأنثروبولوجيين، بل أيضًا المؤرخين وأصحاب النظريات الأدبية. ولكن حريٌّ بنا أن نلحظ أنه إذا ما ارتضيناه فسوف تلزم عنه بالضرورة نتائج كثيرة. إحدى هذه النتائج، والتي سوف أعرضها تفصيلًا في الفصل التالي، هي أن أمورًا مثل قصة سيدهاساجار تُسهم في الطابع التحولي للحياة البشرية. فمن ناحية تبدو القصة وكأنها ذات النمط المعبر عن العنصر الثقافي الخير الذي يتم الحفاظ عليه وهو ذاته الذي يُحافظ على القيم الثقافية. ونجد من ناحية أخرى أنها خاضعةٌ تمامًا لتأثير التقلبات التي تطرأ على العلاقات الاجتماعية الواقعية التي رُويت في إطارها. ليست هناك قصة لها معنى واحد صحيح على نحو ما نظن في سذاجة. هذا إذا ما أخذنا الحاشية الثقافية بعد أن يفككها الباحث الأنثروبولوجي باعتبارها تفسيرًا شاملًا. إننا بحاجة إلى حواشٍ ثقافية؛ بيد أننا بحاجة أيضًا إلى أن نكون حذرين يقظين إزاءها.
تضارب الآراء
لنحاول الآن استطلاع الفكرة الأخرى لهذا الفصل، وهي التفوق الظاهر للفكر الروائي على الفكر القائم على نموذجٍ أساسي؛ ذلك لأنني اعتقدت آنذاك، ولا أزال على اعتقادي، ان السيد س استهدف أيضًا ضمنًا نقد السيد ف الفيلسوف. وهذا جزء من المعنى الذي استهدفه التأكيد على الكلمات التي اختتم بها قصة سيدهاساجار؛ إذ قال: «هذا هو الدين القيم الصحيح … وهذه هي العقيدة اليانية!» إذ بدا هنا وكأنه يريد أن يضيف «وليس ما قاله لك.»
-
أولًا: إن المعارف التي اكتسبتها من القصة تضمنت ما هو
أكثر مما حدث فعلًا مع سيدهاساجار والثور. إن ما
عرفته عن الراوي وجَدهِ قليل جدًّا كما سبق لي أن
ذكرت، ولكنه قليلٌ ومهم للغاية. ووجدت نفسي على
حين غِرة، وبفضل هذه المعلومات، أتخذ توجهًا
جديدًا ليس نحو عالم مثالي من الوصايا المجردة؛ بل
نحو فيضٍ حقيقي من العلاقات والتفاعلات داخل القرى
المجاورة، ومن ثم، وحسب هذا المعنى، فإن إيجاز
اللقاء كان موحيًا بما تعجز عنه نظرة مروعة إلى
عالم مختلف.
وليسمح لي القارئ بأن أُتابع هذه النقطة وأمضي معها شوطًا أبعد من ذلك؛ إذ بينما كنت في آخر المطاف أتسكَّع حول معبد مجاور في كولهابور، ألفيت العالم المحلي للمؤمنين باليانية زاخرًا بالقصص والحواديت عن أفعالٍ دينية خارقة أو عادية. وأحسب أن هذا عادة هو ما يجري من حديث بين الناس عند المعبد؛ ذلك لأنه ضَرْب من الثرثرات ذات الطابع الديني. ولا ريب في أن ما قاله جون هافيلاند عن الثرثرات العادية يصدق على هذه الثرثرات ذات الطابع الديني؛ إذ قال:«اعتدنا النظر إلى الكفاءة الثقافية للمرء باعتبارها مؤلفة من مجموعة من الشفرات: مخططات موجزة، لنقل عن النباتات والحيوانات، وأنساق النسب وعن هياكل سياسية (عقيدة دينية) … إلخ، وفي رأينا أن المخططات المفاهيمية لها وجودها، المستقل، السابق على أي صورةٍ خاصة بالحيوانات، أو فئة لعشيرة حقيقية، أو لإجراء سياسي عملي. ولكن في الثرثرة تجد أن هناك ما هو استثنائي غير ذي صلة بالموضوع ويسبق ما هو حقيقي فعلي، وأن العرضي الطارئ يحدد المبادئ العامة، إذ يكون الحديث عن هذا كله باعتباره قائمًا موجودًا. وفي الثرثرة يغدو العالم أكثر مما هو في المخططات والشفرات، إذ ينصبُّ على من يكون هو، مع توسع واستفاضة تفوق الواقع كثيرًا، وينبني على التاريخ وعلى الصيت والسمعة وعلى الخصوصيات وعلى الاستثناءات والحوادث العرضية. وهكذا نجد الثرثرة تفرط في تمجيد الاستثنائي.»4ويُشير مصطلح «المخططات» الموجزة الوارد ذكره إلى مدرسة أمريكية حديثة، تتصف بالنشاط والإنجازات وهي من مدارس الأنثروبولوجيا الثقافية، أعني الأنثروبولوجيا المعرفية. وينزع الباحثون في هذه المدرسة في الغالب الأعم إلى النظر إلى الثقافة باعتبارها واقعًا مستقلًّا. ولكن أودُّ الآن أن ننظر عن كثب أكثر إلى هذا التمجيد الزائد لما هو استثنائي. تكمن في مركز الحياة الدينية للمؤمن الياني العلماني ثقافةٌ غنية خاصة بشعائر وطقوس احتمالية لقتل البدن. ويجري تنظيم هذه الاحتفاليات داخل البيت، وفي احتفالات أكثر تعقيدًا داخل المعابد المحلية وفي صورة رواية القصص. وهذه ليست حيات النسُك muni؛ بل هي الأرضية أو الأساس الذي تنبثق منه حياة النسك والزهد. ويحدد مذهب النسك العلماني الشعائر الأساسية لقتل البدن. وتتمثل هذه في التعهد بالصوم. ويتم الصوم ضمن شعائر وطقوس عِبادية أخرى تتفاوت درجة تعقدها وتتسم بالحيوية فضلًا عن أنها قد تكون باهظة التكلفة أحيانًا. ونذكر من بين هذه الطقوس والشعائر، كمثال، الطواف حول المعبد، ووضع أكاليل الزهور وثمار الفاكهة والأرز ومجموعات المصابيح وغير ذلك. ويتم هذا بطريقةٍ احتفالية أمام أيقونة، ومع ترتيل بعض العبارات، ونذر بالصوم وَفقًا لطريقةٍ محددة؛ كأن ينذر مثلًا بصوم الأيام التي يكتمل فيها القمر بدرًا على مدار عام بأكمله. ويعرف العابد تفسير مثل هذه الأعمال من عبارات تأخذ صورة القصة التي تُفيد أن شخصية ما أسطورية أخذت عهدًا في مناسبة كذا وكذا. وهكذا فإن كل عهد أو قسم يغدو مفهومًا ليس على أساس عبارات أخلاقية مجردة؛ بل في ضوء رواية ترتبط بهذا العهد وحده دون سواه. ولهذا فإن الغالبية العظمى ممن يأخذون العهد هم نساء دنيويات يفهمن أولًا ما الذي يعتزمن فعله، وذلك بأن يتوحدن مباشرة مع إحدى الشخصيات الأسطورية. ولا يوجد أي تفسيرٍ دخيل طارئ يقطع هذا التوحد المباشر ويفصل بين ما تفعله من قطعت على نفسها العهد الآن وما الذي يجري آنذاك.
-
ثانيًا: يتم أخذ العهود في إطار من العلاقات التي لها
دور حيوي في فهمها؛ إذ تأخذ المرأة العهد على يد
كاهن، وهذه هي أول علاقة وثيقة الصلة. ويقصُّ
عليها الكاهن القصة ويصف أسلوب أداء العهد. وتبدأ
بعد هذا شعائر الصوم في البيت ونعرف أن وجبات
الطعام في بيوت اليانيين، شأن الوجبات في الغالبية
العظمى من البيوت الهندية، هي مسألة شعائرية، أي
لها شعائر خاصة من شأنها أن تُضفي على العلاقات
طابعًا دراميًّا؛ إذ يتناول الرجال طعامهم معًا،
فالعادة أن يأكل الرجال والأطفال قبل النساء
اللاتي يقمن على خدمتهم، وهكذا. ومن هنا، وكما
أشار لي أكثر من شخص من اليانيين، جاء الامتناع عن
الأكل، وبخاصة عدم إعداد طعام فاخر للخدمة عليه
ممن لن يطعمه، وهو ما له أثره القوي في الخيال وفي
العلاقات القائمة بين أصحاب الشأن جميعًا. وتلحظ
هنا الفوارق الدقيقة التي يمكن أن تظهر بين التفوق
واللوم، أو بين الخضوع والحسد، أو الإعجاب والذنب.
وقد أطلق أرجون أبادوراي على هذا عبارة «سياسة
المعدة
Gastro-politics
للبيت الهندي».5 وعلاوة على هذا فإنه بسبب حالة
الانغلاق التي تسود مثل هذا المجتمع المحلي، حيث
الزواج داخلي بين أفراده والعلاقات محصورة بين
أبنائه، فإننا نجد أن هذه المعارف السياسية
والدينية المرتبطة بالمعدة إنما يكتسبها المرء من
داخل البيت وتشيع داخل المجتمع المحلي. ويعرف
المرء تاريخه المحلي الخاص والجغرافية الاجتماعية
والنفسية بكل ما فيها من خطوط منازعة أو شطحات،
مثلما يعرف الساحات التي يتحرك فيها يوميًّا. وهذه
معارف ذات طبيعة خاصة جدًّا وروائية، إنما تشبه
تمامًا، أو في الغالب، الثرثرة.
ومن ثم فإن دفاعي عن هذا الرأي هو الآتي: نحن معنيون حتى الآن بفهم اليانيين للعقيدة اليانية، ونجد أن فهمهم لها يتسم أساسًا بأنه محلي الطابع شخصي وخاص جدًّا وروائي. وهذه نقطة أوضحتها فيما سلف، عندما أكدت على أن معارف الناس لما هو عام وخاص، في خضم الحياة الاجتماعية، هي معارف متشابكة ومختلطة على نحو معقَّد. إن اليانيين المحليين يعرفون سيدهاساجار الذي عاش قريبًا من هنا، ولكنهم أيضًا يعرفون السيدة باتيل Patil، التي أخذت على نفسها عهدًا طويل الأمد في الشهر الماضي، وربما يعرفون، وعلى نحو غامض، الشخصية الأسطورية لأول من أخذ مثل هذا العهد على نفسه. وهم يعرفون عن السيدة شوجول Chaugule (وهذه جميعها أسماء غير حقيقية) التي ماتت بسبب صيام امتد بضعة أعوام، ويعرفون جينابا ابن العم الذي يُقيم بعيدًا عن هنا وقد أصبح ناسكًا. إن العقيدة اليانية تتضمن ما هو أكثر كثيرًا من القصص، ولكنني أؤكد أن الياني يفهم عقيدته أولًا وقبل كل شيء من خلال القصص ومن خلال الشخصيات بحالاتها الذهنية وحياتهم وسط فيض الأحداث.
الفكر القياسي مرة أخرى Paradigmatic thought
وهذه في رأيي نقطة مهمة لا يمكن إغفالها وبشكل كامل في نهاية الأمر. وليسمح لي القارئ بإبداء ملاحظة هي أن من الممكن للناس أن يدبروا شئون حياتهم الاجتماعية، وشئون دينهم دون متخصصين من أهل العلم، ودون هذا الضرب من الفكر القياسي النسقي الذي نجده عند السيد ف. وهذا هو تمامًا ما ذهب إليه الباحثون الأنثروبولوجيون إذ أوضحوا أن المجتمعات التي درسوها لا تنغمس في، أو لا تتوسع كثيرًا في، المعارف القياسية المعتمدة على نماذج متعلقة بمعاييرهم الجمالية. وهذا هو ما يثبت، على سبيل المثال، من خلال دراسة روزالدو لمنطقة إلونجوت أو دراسة شيفلن لمنطقة كالولي؛ إذ لم يكن لدى هؤلاء وأولئك متخصصون دينيون لصوغ نسق استدلالي عقلي خاص بكيفية تدبير شئون الحياة الاجتماعية.
ولكن نجد من ناحية أخرى أن العقيدة اليانية لها سدنتها المتخصصون في الشئون الدينية وقد ابتكروا أسلوبًا مميزًا للاستدلال. وحدث مؤخرًا تطور جديد تمثَّل في ظهور بعض العلمانيين الأنقياء الأتقياء أغلبهم، وليس جميعهم، من أبناء الطبقة الوسطى المتعلمين. وأخذ هؤلاء على عاتقهم مهمة دراسة هذا الفكر الذي يفسره الفيلسوف؛ ولكن مثل هذا التعليم قد يبدو في نظر بقية اليانيين المخلصين أمرًا ثانويًّا بعيدًا، أو غير ذي صلة بالموضوع على الإطلاق. إنهم على علم بأمور دينهم ويثقون في صدقهم، ولكننا لا نرى غير شواهد قليلة تبين لجوءهم إليهم في الواقع العملي.
ترى ما الذي عساها أن تفقده؟ لكي أجيب عن هذا السؤال أود أن أسأل أولًا: كيف تأتي لها في البداية فكرها النموذجي القياسي؟ الإجابة عن هذا السؤال صعبة؛ ولكن يبدو من الواضح بالنسبة للهند، على الأقل، أن عادة إصدار فكر عام ظهرت في وسطٍ له خصوصية مميزة، تمثل في حضارة توسعت سريعًا في بناء المدن وازدهرت في سهول شمال الهند خلال الألف الأولى قبل الميلاد. ونجد من بين أول التسجيلات الوثائقية في هذا العالم وثائق تُحدثنا عن ظهور بوذا على مسرح الحياة، ومعه ماهافيرا المعاصر له والقريب منه ومؤسس (أو أحد مؤسسي) العقيدة اليانية. ومن ثم فقد كانت بيئة قائمة على النِّدِّية والمنافسة الشرسة بين أصحاب التطلعات الدينية الطموحة — أو «المجاهدين» كما كانوا يُسمَّون آنذاك — وكان كل فريق واعيًا تمامًا بأساليب الحياة البديلة التي يطرحها الفريق الآخر. وشاعت هذه الخلافات على الملأ في صورة جدالٍ عام داخل قاعات حوار ومناظرة يبدو أنها شيدت خصيصًا لمثل هذه المناسبات. ولقد كان الشيء القيم الذي لا يُقدر بمال في هذا الوضع هو أن تتوافر قدرة على التعميم والتحدث من أجل الناس بعامة ومع أكثر عدد ممكن منهم، وأن تتوافر كذلك للمتحدثين بلاغة في وصف الأمور تكون أوسع نطاقًا وأكثر شمولًا وأمعن في التجريد، ومن ثم تكون (وبمعنى محدد تمامًا) أقوى تأثيرًا. وطبعي أن عمد اليانيون وجميع منافسيهم بدأب شديد على غرس وترسيخ هذه القدرة بمُضِي الأعوام والقرون.
وهكذا يمكن القول بمعنى من المعاني: إن صيغة الفكر القائم على نموذج قياسي، ظهرت إلى الوجود عند اليانيين في إطار وضع يماثل ذلك الوضع الذي وضعني فيه الفيلسوف، أعني وضعا يؤكد لغير المؤمن أو الوافد المستجد تفوق أسلوب الحياة عند اليانيين. ولا ريب في أن اليانيين كانوا سيفقدون القدرة على إثبات دعاواهم في ساحة الفكر الفلسفي والديني الهندي وهي ساحة لا ترحم، لولا هذه الطائفة التجريدية من الأفكار الأخلاقية التي تركز على أهيمسا وقتل البدن، ودون اللغة ذات الطابع الشمولي التي تفسر هذه الممارسات تفسيرًا تجريديًّا. وما كان لليانيين أن يجدوا يسيرًا عليهم اليوم أن يؤكدوا وجودهم، والتماس الهيمنة على الآخرين على نحو ما فعل معي السيد ف، أو على نحو ما يحاول اليانيون أن يفعلوا إذا ما انتقلوا إلى مجتمعات شمال الأطلسي، حيث يؤسسون الروابط للحفاظ على التعاليم اليانية والدعوة إليها.
يُشير هذا إلى أن واقع الفكر البشري من حيث القوة والإبداع، هو أقوى وأقدر مما يستطيع أن يستوعب الفكر القائم على المخططات أو النماذج القياسية. إننا نستطيع أن نبتكر أو نكتشف أشكالًا جديدة من الفكر القياسي ومخططات جديدة على نحو ما نجد، على سبيل المثال، في المنطق الياني وفي الاستدلال القانوني عند سكان تروبرياند، أو في البرمجة الحاسوبية أو في الرياضيات؛ بيد أن مثل هذا الفكر لا يبتكرنا ولا يكتشفنا، أو لا يقود ويدبر شئون حياتنا إلا إذا ما تركناه يفعل هذا على نحو ما نخضع أنفسنا للاستدلال العقلي التزامًا بنسق تشريعي. والملاحظ أن الحواشي الثقافية التي يضعها علماء الأنثروبولوجيا هي في واقعها صورة من صور هذا الفكر القياسي. ولكن من الأهمية بمكان أن نُعيد تجميع مثل هذا الفكر ونرده إلى رابطته ونواته الاجتماعية؛ إذ من الممكن أن يُقيم السيد ف استدلاله العقلي وفقًا لمبادئه، وأن يعمل وَفقًا لهذا الاستدلال. ولكن ليس ضروريًّا بالنسبة للعقيدة اليانية أن يفعل اليانيون ذلك.
الصور والرسوم
وتنطوي العقيدة اليانية يقينًا، من حيث الخبرة المعيشة، على ما هو أكثر بكثير من الرواية وحدها. فهناك ترويض الحواس من خلال الرسوم والصور والأيقونات العديدة والمتنوعة الخاصة بالعبادات، وترويض الجسم من خلال أعمال الابتهالات والصوم، وترويض العواطف من خلال العلاقات داخل البيت والمعبد. وهذه جميعها متشابكة بالوعي الروائي تشابكًا وثيقًا؛ ولكنها تتجاوزه لتمضي في اتجاه مغاير لاتجاه الفكر القياسي. وغالبًا ما يجد هذا الفكر الجمالي والجسدي تعبيرًا واضحًا عنه من خلال الصور والرسوم والأيقونات، سواء جاء التعبير عنها من خلال طقوس صامتة أو جاء منطوقًا في صورة شعر وترانيم وتراتيل أو كلمات. ومن هنا فإن كل معبد ياني له أيقونة مركزية هي تمثال من حَجَر أو معدِن لواحد من النساك الأوائل مؤسسي اليانية (منذ زمن سحيق)، ويكون هو محورًا لشعائر كثيرة ومعقدة تشتمل على سلوكيات مجازية، أو كلمات منطوقة، وعلى تقدمات يجري تقديمها في إطار احتفالي!
وحريٌّ بنا أن نلحظ أيضًا أن ثمة إمكانية لمزيد من التحول كذلك داخل أُطُر اجتماعية بذاتها. إن ذات الرجل الذي قال لي: إنه «النصب نظير المجد» كان من بين من دفعوا قسطًا كبيرًا من تكلفة هذا النصب، وهذا شيءٌ جميل حتى الآن؛ إنه يصور نفسه أمامي في صورة من يفعل هذا لأسبابٍ تَقَوية خالصة؛ ولكنه كان في الوقت ذاته يتحرق شوقًا لكي يجد اسم عائلته منقوشًا على القاعدة باعتباره الواهب الوحيد. وتحول هذا إلى موضوع خلافي دار بشأنه لجاج كثير، نظرًا لأنه لم يتحمل كل تكلفة إقامة النصب. وهكذا، وفي خضم النقاش السجالي عرضت لي عملية تحول غير شعوري حين أبدى شخص ما ملاحظة وقال: «نصب مَجدِه». وهذه الملاحظة من نوع ملاحظات مألوفة لنا جميعًا. وترى هنا في مثل هذا التلاعب الخيالي جانبًا إبداعيًّا من العقل البشري في أدائه اليومي.
والملاحظ أن علماء الأنثروبولوجيا العاملين في مجال هذا الأسلوب الرمزي اكتشفوا، ولا يزالون يكتشفون، ثروة مذهلة للقدرة الابتكارية البشرية. ولكن التفكير المجازي لا يمكنه وحده أن يصل إلى عمق عملية الحفز أو الوعي الشامل لفيض الأحداث الاجتماعية، وهو ما يستطيعه الفكر الروائي. مثال ذلك: أنني التقيت رجلًا يانيًّا يتحدث عن قصة ما، أو ربما يروي أسطورة أو حكاية تشبه قصة سيدهاساجار، زاعمًا أنها أساس إخلاصهم وتفانيهم؛ بل وعلة انضمامهم إلى جموع النساك العرايا. إن التفكير المجازي له، دون ريب، وجوده العميق في مثل هذه القصص، وأرى هنا أن الصراحة التي اتسمت بها رواية سيدهاساجار، كما سمعتها، إنما هي أمر استثنائي يقينًا. ولكن التحول أو الانزلاق وثيق الصلة بهذا التفكير، أي التحول الذي يجعل الناس تأتي أفعالًا ليس تحولًا من صورة إلى أخرى كما هو الحال في الفكر المجازي؛ بل من حبكة إلى أخرى، ومن شخصية إلى أخرى. ويتضمن الحفز دائمًا، حيثما يكون، قدرة على أن يرى المرء نفسه، ويعيد تفسير ذاته في ضوء حياة شخص آخر وحبكة روائية أخرى. ومن ثم فإننا لكي نلائم كلمات دوجلاس هوفستادتر يتعين أن ندرك الموقف في اللحظة ذاتها على طريقة الحالة الشعورية، حين قال الرجل: «آه يا ألهي لو كنت أنا الذي في هذا الوضع»، وهي حالة شعورية تفضي إلى رؤية خاطفة مضمونها «لا لشيء إلا لأنني إنسان أستطيع أن أضع نفسي في مكان هذا البطل الياني سيدهاساجار». وعندي أن الحركة الذهنية لم تكن حركة فهم وتعاطف، على نحو ما كان الحال بالنسبة للرجل عندما لحظ عاملة الكازينو التي أنهكها التعب. وإنما كانت حركة مبعثها الوجل وتخيُّل ما سوف يكون عليه الحال إذا ما داس ثور هندي ارتفاعه ستة أقدام على يدي وظل واقفًا بلا حراك. ونجد من ناحية أخرى أن الأداء المطلوب هو محاولة نقل هذا الفهم إليك.
ولكن الحركة والأداء عند المؤمن الياني ربما تكون أكثر مدعاة للتحول. إنها قد تحرك الياني ليصبح ناسكًا، أو ليأخذ عهدًا داخل المعبد. والفرق كله هو في النهاية القصة بما أضفته على الأحداث من معان وأسباب حدوثها ثم ما حدث بعد ذلك؛ وهذا لأن كل ما يحتاج إليه المرء، أي امرئ، هو أن يعرف ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ وماذا حدث بعد ذلك؟ ولهذا فإن الوعي الروائي له جانب إيجابي فاعل، وكذا جانب سلبي خامل. إن الناس لا يسعهم فقط إدراك الانفعالات والمواقف من خلالها؛ بل بوسعهم أيضًا أن يجدوا فيها حافزًا للحركة؛ فالقصص، بعبارة أخرى، تحقق عنصر الإرادة والنزوع والخلق مثلما تستوعب المعرفة والعاطفة. وهذا هو السبب في التحليل النهائي في أن قصة السيد س عن سيدهاساجار كانت أقوى من الاستدلال العقلي عند السيد ف الفيلسوف.