بُعبُع العلم
ليسمحْ لي القارئ بأن أُوجز ما ذهبت إليه حتى الآن. لقد بدأت ببيان أن تفسير قابلية البشر للتغير أصعب مما كنا نظن. فنحن لسنا مجرد حيوانات تصوغها مجتمعاتها وثقافاتها في قوالب على نحو سلبيٍّ كل في إطاره؛ بل إننا أيضًا نصنع مجتمعاتنا بفعالية ونشاط، ونعيد صناعتها بما نصوغه من أساليب جديدة للحياة. ويستلزم هذا قدرات ذات فعالية وتأثير تثير الإعجاب. ولهذا دفعت بأننا طورنا تلك القدرات، وهي القدرات التي لخصتها في عبارة الروح الاجتماعية. وتشتمل هذه القدرات على الذكاء الاجتماعي والوعي المكثف بالذات وبالآخر وبالابتكارية والفكر الروائي. وهذه جميعها تمثل الطبيعة البشرية المشتركة التي تشكل أساسًا لقابلية التغير الاجتماعي والثقافي.
واستطلعت في الفصول الثلاثة الأخيرة هذه القدرات ودلالاتها. وأعطيت أولوية وأسبقية للفكر الروائي؛ لأنه لم يحظَ بدراسةٍ كافية من حيث هو، علاوة على أنه يوجز الروح الاجتماعية البشرية على النحو الذي يُتيح للناس، إمكانية العمل وهم على وعي بفيض الأحداث الغارقين فيها. وأوضحت كيف أن عالمنا الاجتماعي ومعارفنا بالعالم الاجتماعي في تفاعل شامل. وأبرزت كذلك الطبيعة التحولية للخبرة التحولية للخبرة البشرية — أو أن شئنا عبارة أخرى قلنا: ما لدينا من خصوبة إبداعية فريدة تميز الأشكال الاجتماعية — وكيف أنها وثيقة الصلة بهذه الخاصية التفاعلية.
وهكذا عالجت ولو بطريقة تخطيطية عادة مساحة كبيرة من دائرة المسائل التي تؤلف في مجموعها مشكلة علم الأنثروبولوجيا والبشرية من حيث هي وحدة في تنوع. وأتجه الآن إلى المساحة الباقية وأعني بها مسألة علم الأنثروبولوجيا ذاته.
لعل خير وسيلة للتعبير عن المشكلة ما يلي: علم الأنثروبولوجيا ابتكار إنساني شأن سبل الحياة والفكر الأخرى التي ناقشتها هنا. ويعيش أيضًا داخل صورة للحياة تتصف بأنها مبتكرة ومتغيرة ولها خصوصيتها المميزة. ويشكل كذلك جزءًا من الفيض المتحول للخبرة الاجتماعية البشرية. ويعتبر في ميزان العلوم طائفة حديثة العهد ومحدودة المجال من المؤسسات والأفكار التي بدأت تضرب بجذورها منذ أواخر القرن التاسع في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا. ثم ازدهر خلال القرن العشرين. إنه بعبارة أخرى يشكل أساسًا نتاجًا لوضع محدد في زمن محدد، ألا وهو مجتمعات النظام الاستعماري والنظام الاستعماري الجديد على شاطئ شمال الأطلسي، مثلما أن البوذية واليانية نتاجان لوضع مُغاير.
ولكنَّ عملًا مثل هذه المقارنة الآن من شأنه أن يقوض قدرًا كبيرًا من الثقة التي يستشعرها كثيرون من الأنثروبولوجيين في كتاباتهم. حقًّا إننا إذا ما أخذنا الأمر إلى غايته فإنه سوف يقوض القسط الأكبر مما قلته هنا؛ إذ لو نظر علماء الأنثروبولوجيا إلى أنفسهم باعتبارهم فقط شكلًا واحدًا من بين أشكال أخرى كثيرة للحياة، وأنهم مجرد إمكانية بشرية علاوة على إمكانات أخرى … إذن كيف يتسنى لمثل هذا الإطار المحدود أن يتحدث عن وباسم أنواعنا المتباينة في مجموعها ما لم يكن حديثه بدافع من غطرسة مطلقة ولا أساس لها؟ ترى ما الذي يبرر الثقة في أن علماء الأنثروبولوجيا لديهم شيء خاص وموثق يمكن أن يقولوه؛ بينما هم أنفسهم غالبًا ما يؤكدون على أن المعرفة نسبية من حيث علاقتها بوضعها التاريخي والثقافي؟ وهذا سؤال كثيرًا ما أثاره الباحثون. إنه حقًّا سؤال أصيل في طبيعة المبحث العلمي، وملائم تمامًا؛ ذلك لأنه يتعين على علماء الأنثروبولوجيا بحكم فنهم البحثي أن يرتابوا في فروضهم الأولية. إذن كيف لهم من دون هذا أن يتعلموا النظر بوضوح إلى الفروض الأولية التي يسوقها الآخرون؟ ولكن حدث خلال العقد الأخير، أو ما يقرب من ذلك، أن أثارت المشكلة شكوكًا أكثر شمولًا وإثارة فيما يتعلق بقيمة وطبيعة المشروع الأنثروبولوجي.
وبناء على هذا تبدأ المعارف الأنثروبولوجية كمعارف شخصية عن ناس محددين في مكان بذاته وفي وقت بعينه. ويمكن اعتبار هذا مظهر قوة؛ بيد أنه أيضًا هدف للاعتراض بحجة أنها، وهي معارف شخصية فقط، معارفك أنت وحدك، ومن ثم ليست بالضرورة معارف صحيحة عن الآخرين. ويعكس هذا بصورة دقيقة ومصغرة حالة الريبة بمعناها الأشمل؛ إذ يقال: إن علم الأنثروبولوجيا هو معارف مجتمعك، ومن ثم فإنه ليس معارف صحيحة لكل شخص في كل زمان.
وسوف أسوق حجتي بعامة على النحو التالي: نعم يرتكز البحث الأنثروبولوجي على الخبرة الشخصية، بل ويرتكز حقيقة على القدرات الذاتية. وهذ القدرات هي ذات القدرات التي تُتيح للناس الارتباط والاندماج في الحياة الاجتماعية وتعلُّم المعايير الجمالية كأنهم أطفال في أول الأمر، أو تتيح لهم تعلم أو ابتكار معايير جمالية جديدة أو أشكال حياة، وهم في سن النضج والبلوغ. ومثلما يتعلم المهاجرون سبيلهم في الحياة داخل المجتمع المضيف، وكذلك مثلما يشارك من اعتنقوا عقيدة دينية جديدة في مؤسسات هذه العقيدة الجديدة عليهم، كذلك الحال بالنسبة للباحثين الأنثروبولوجيين عند محاولاتهم فهم أسلوب حياة جديدة. ويمكن القول في هذا الصدد: إن العمل الميداني الأنثروبولوجي هو ضربٌ ثانوي من ضروب موضوع أكبر في الحياة البشرية، إنه يمثل عملية لقاء متصلة، في خصم فيض الأحداث، مع ظروف وملابسات اجتماعية جديدة وغير مسبوقة. ويواجه الأنثروبولوجيون ذات الصعوبات التي واجهها رامون، وإن توافرت لهم ميزات أكثر منه. وسبق لي أن أكدت أن الناس مهيئون بقوة للتصدي لهذه الطوارئ المتجددة باطراد؛ ولذلك ليس لنا أن ندهش إذ نجد الباحثين الأنثروبولوجيين قادرين بدورهم على النهوض بمهامهم.
وهنا يبرز السؤال: ما هي طبيعة المعارف التي يُنتجها الأنثروبولوجيون من خلال اللقاءات؟ أرى أن هذا في الحقيقة أمر شديد التعقيد مؤلف جزئيًّا من معارف يومية الطابع؛ مثل قراءة الأفكار والرواية. وتأسيسًا على هذا ينشأ بناء فوقي من معارف نموذجية قياسية. وهذه المعارف هي نتاج جمعي، جرى صنعها والتصديق عليها داخل مؤسسة اجتماعية مميزة وفقًا لمعاييرَ خاصة في زمن محدد. وهذا من شأنه في الواقع أن يجعل المعارف الأنثروبولوجية نسبية وليست مطلقة؛ ولكن يتعين علينا النظر إلى أنواع أخرى من المعارف لنتبين أفضل سبيل لتقييم هذه النسبية.
لقد أكدت، على سبيل المثال، أن الرهبان البوذيين لهم إنتاجهم الجمعي ممثلًا في آدابهم المقدسة، التي أُنتجت واعتُمِدت داخل مؤسسة اجتماعية مميزة وفقًا لمعايير خاصة. ترى هل علم الأنثروبولوجيا كذلك أيضًا؟ أم أنه مثل نواتج بشرية أخرى شأن المعرفة العلمية التي يجري إنتاجها وتطبيقها جميعًا، والتي قدمت لك هذا الحاسوب الموضوع على مكتبك؟ إننا وإن كنا ننظر إليها حسب هذه المعايير، إلا أنني أقترح أن نتناول المعارف الأنثروبولوجية باعتبارها معارف لها مصداقية حتى نضع ثقتنا كاملة في علم إثنوجرافيا (جيد)، وبذلك نبرر ما ينفقه الباحثون الأنثروبولوجيون من مال وصحة في العمل الميداني، وما ينفقونه من وقت ويتحملونه من معاناة في سبيل الكتابة.
فن أم علم؟
إنه لعسير علينا أن نقول قولًا منصفًا في مثل هذا الحيز الصغير عن دراسة سبيربر الرائعة، وإن استطعنا أن نجمل موقفه الأساسي فيما يلي: إن لنا من الناحية الواقعية أن نأمل في الوصول إلى «تفسير واقعي» أو «ملاحظة صريحة واضحة» أو «وصف» من خلال علم الأنثروبولوجيا، وليس من بحث أنثروبولوجي يتصور نفسه مرتكزًا على بحث إثنوجرافي نظري أو ميداني على نحو ما هو مطبق الآن؛ ذلك أن علم الأنثروبولوجيا بمعناه الصحيح أقرب ما يكون إلى علم النفس المعرفي؛ ولكن علم النفس المعرفي يقع صراحة عند سبيربر داخل دائرة «العلم». هذا بينما يعتبر الإثنوجرافيا من ناحية أخرى مبحثًا تأويليًّا يهدف إلى فهم وترجمة الثقافة، أي تحويل ما هو غير مفهوم إلى شيء مفهوم. أما علم الأنثروبولوجيا فهو على النقيض من ذلك يهدف إلى تفسيرٍ علميٍّ، ويتناول تحديدًا خصائص عقلية معينة. ويمكن أن تصبح تفسيرات الإثنوجرافيا هي المادة العلمية للأنثروبولوجيا ولكن في حالة واحدة فقط؛ أن تقترن «بتعليق وصفي ملائم يوضح مضمونها التجريبي». ويمكن القول، في ضوء مثال «العقيدة الدينية عند النوير»: إن مثل هذا التعليق سوف يتضمن بيانًا صريحًا عما قيل وعن القائل، وكذا استنتاج الباحث الإثنوجرافي؛ ولكن الدليل الإثنوجرافي على النحو المبيَّن ليس واقعيًّا، أي ليس مشاهدة بسيطة واضحة ولا وصفًا. إنه تأويل، كما أن مضمونه التجريبي غير محدد؛ إذ إننا لا نستطيع أن نقول بوضوح لا لبس فيه ما هو موضوع بيان ما، ولا من هو صاحبه. كذلك ليس بوسع مبحث الإثنوجرافيا في مجموعه أن يتطلع إلى أن يحتل مكانة علمية أصيلة.
لهذا فإن سبيربر واضح ومحدد تمامًا؛ ولكنني سأختلف معه بوضوح وجلاء وتحديد أيضًا، إنني سأدفع بالحجة المعاكسة التي تقول إن نظرية المعرفة العلمية التي تُشكل أساسًا لهذه الملاحظات هي نظريةٌ خاطئة. أعني بهذا أن التعارض الضمني بين «الملاحظة الصريحة الواضحة» وبين تأويل إيفانز-بريتشارد هو تعارضٌ زائف، ومن ثم نستطيع أن نتصور أنه «لاحظ» شيئًا يشبه «الاعتراض الصامت»، وأن «الاستدلال» قد توصل إليه الباحث الإثنوجرافي مباشرة، وأن مثل هذه الروايات التأويلية الواضحة يمكن بسهولة إضفاء معنى تجريبي مفيد عليها.
بعُبُع العلم
يُمثل الشطر الأكبر من هذا الفصل انعطافةً ولكنها ضروريةٌ. وتكمن المشكلة في صورة مجتزأة مُسلَّم بصحتها من العلم، والتي تؤثر بعمق في الكثيرين من كُتاب العلم الاجتماعي. وقد يبدو غريبًا معالجة مشكلة الأنثروبولوجيا بأن تبدأ بالتفكير أولًا في علم الفيزياء أو النبات. وقد يبدو أيضًا أمرًا لا معنى له حتى مجردُ التفكير في الأنثروبولوجيا داخل مثل هذا الإطار؛ ولكن الحقيقة أنه مثلما كان لا بد أن يتحدث بوذا وحَواريُّوه عن المجتمع في ضوء نظرية المنازل الاجتماعية، مهما كان رفضهم للافتراضات التي تقوم عليها هذه النظرية، كذلك نجد لزامًا علينا أن نتحدث عن المعرفة في ضوء المعرفة العلمية. وهكذا نجد جريتس، كمثال، يُبدي ملاحظة بشأن غرابة بناء معارف علمية زائفة، تأسيسًا على خبرات هي في الغالب الأعم سِيَر ذاتية للحياة. والهدف الذي يرمي إليه هو تفسير فكرته عن الدليل الإثنوجرافي؛ ولكنه يجد أن سبيله الوحيدة إلى ذلك هي المقارنة بينها وبين العلم. ولقد اعتدنا، نحن مجتمعات شمال الأطلسي، أن ننظر في الحقبة الراهنة إلى العلوم الطبيعية باعتبارها النموذج الأمثل للمعرفة، والنموذج الأمثل لليقين والوضوح، ومن ثم نُشير إلى ضروب المعارف الأخرى بالقياس إلى العلم من حيث إنه العلامة الإرشادية الهادية.
والتزامًا بفضيلة الضرورة سأستهل حديثي بمعالجة المعرفة العلمية. وسوف أذهب إلى القول بأن المعرفة العلمية، من حيث هي علامةٌ إرشادية هادية مطلقة الدلالة، هي مفهومٌ غير واقعي ومضلل للعلم. وإن الفهم الأكثر واقعية للعلم من شأنه أن يغرس في أذهان الباحثين الأنثروبولوجيون ما يدعمهم ضد الحاجة إلى تشويه صورة نشاطهم عن طريق المقارنة. وإننا ما إن نتحرر من القلق بشأن حسم مسألة ما إذا كان الأنثروبولوجيون يقدمون علمًا أم لا، حتى يكون بوسعنا أن نحدد الطابع الفعلي لمشروعنا بطريقة أكثر وضوحًا وحسمًا.
وتتضمن الواقعية الاجتماعية المعدلة جانبًا ضروريًّا يقضي بأن ثمة تمثلات ذهنية مختلفة لموضوع ما، وأن هذه التمثلات قد تكون متنافسة، ولكنها يمكن أيضًا أن تكون مجرد بدائل حيث يقدم كل بديل بعض المزايا عند معالجة موضوع البحث. وهي علاوة على ذلك مفهوم للعلم يتلاءم مع نظرة أرحب عن معنى التغير العلمي وقابلية التحول، علاوة على أنها مؤسسة على معلومات تاريخية. ويمكن القول، في ضوء الأهداف التي أرمي إليها: إن رؤية هاكنج تساعد على الإطاحة بمفهوم الإطلاقية الميتافيزيقية الذي نربطه دون تفكير بالعلم حين نعزو صفة «الحق» للأحكام العلمية.
والآن إذا ما قبلنا هذه النظرة العامة إلى العلم فإنها في ظنِّي ستعود بالنفع العظيم، بالنسبة إلى كتابات سبيربر وآخرين لم يعقدوا مقارنة صريحة بين الأنثروبولوجيا والعلم الطبيعي، وكذا بالنسبة للنظرة الواقعية المطلقة التي يعتنقونها؛ ذلك أن النظرة المطلقة تقضي بأن البينة العلمية والحجة العلمية تتجاوزان الروح الاجتماعية والتاريخانية، وهما خصوصيتان تميزان عالمنا البشري. وإذا عمدنا إلى تقييم الإثنوجرافيا تأسيسًا على هذا المعيار فإنه سيبدو بالضرورة عملًا غير آمن وعابث؛ بيد أننا نرى أن الممارسات العلمية غير متجاوزة لعالمنا البشري، إنها أنشطةٌ بشرية أيضًا، وجزء من التاريخ البشري، وجانب مما يفعله البشر عمليًّا مع بعضهم البعض، ولبعضهم البعض وللعالم الطبيعي. ومن ثم فإن العلم حسب هذا المنظور يغلب عليه الطابع الإقليمي، إنه أكثر محلية وأقل كونية وكذا أقل فعالية مما كنا نظن سابقًا. وهكذا يسقط أحد قطبي التعارض بين المعرفة التأويلية والمعرفة العلمية. وحريٌّ بنا أن نتحرر من القهر القوي الذي يُكرهنا على مقارنة المعارف الأنثروبولوجية بمعيار صارمٍ شديد الصرامة. وإنما يجب التحرر من ذلك السوط الذي يلهبنا ويدفعنا دفعًا إلى الحقيقة المطلقة. إن مثل هذا القهر والإكراه هو علة ردة الفعل المتمثلة في الزعم بأن الإثنوجرافيا هي نتاج روائيين راودتهم أحلام بشأنها.
نمط المعرفة المشتركة بين الذوات
حيث إننا اتخذنا سبيلنا إلى هذه الانعطافة في العلم فإننا نستطيع أن نستعيد مزيدًا من الأفكار كذلك. وأود الآن أن أطرح بعض الأفكار التي استخدمها زيمان لتشخيص الكثير من صور العلم الطبيعي؛ مثل الصورة المسماة عنده «المعارف الموثوق بها». وأعترف بداية بما ينطوي عليه هذا من خطر؛ نظرًا لأنني حين أُطبق هذه الأفكار على الإثنوجرافيا قد يظن البعض أنني أوكد أن علم الإثنوجرافيا، شأنه مثلًا شأن علم النبات، انتهى … إنه ليس كذلك. وإن ما أريد قوله هو أن ثمة خطة عامة تستهدفها مجتمعات شمال الأطلسي، في ممارستها من أجل الابتكار الجمعي للمعرفة، مثلما أن هناك قدرات بشرية مشتركة تشكل الأساس لهذا الابتكار. وحدث أن ذلك المخطط العام وطائفة من هذه القدرات أضحت الآن مفهومة على أحسن وجه فيما يختص بالعلوم الطبيعية.
وتعتبر شمولية الملاحظة العلمية سمة بارزة في فهمنا المعترف بصحته للعلم، وإن كان طابعه الجمعي دون ذلك؛ ولكن مبدأ قابلية التغيير المتبادل قد لا يفيد، بطبيعة الحال، هذا المعنى على الإطلاق، إذا ما كانت المشاهدات التي أجريت هي مشاهدات خاصة لها سماتها المميزة؛ إذ بهذا المعنى نجد كل صرح العلم مرتكزًا على قابلية الإجماع الإدراكي، أعني قدرة الناس على إدراك الأشياء إدراكًا مشتركًا، والاتفاق بشأنها، وأن تكون المدركات الحسية قاسمًا مشتركًا بينهم.
وتؤدي الرسالة وظائف أخرى إضافية كذلك؛ إنها على سبيل المثال قد تضع في الأرشيف معلومات أخرى عن التواريخ أو المواضع أو الوقت، أثناء النهار، أو عن الأشخاص الحاضرين، أو غير ذلك من تعبيرات تحدد معالم بذاتها. ويتألف الأرشيف في مجموعه من شبكة متداخلة من الصور بما تحمله من رسائل. وقد يكون بعض هذا الأرشيف افتراضيًّا؛ ولكن أن نفكر في الشبكة المتداخلة أو في أي من مكونتها الفردية باعتبارها مجرد مكونات ذات قيمة حقيقية إنما نغبن واقعَ تعقُّد بِنيتِها واستخدامنا لها. وهذا هو المعنى الذي تقصر دونه بوضوح النظرة الوضعية المنطقية إلى العلم. وتماثل هذه النقطة ما سبق أن قلته عن الفكر الروائي والقائم على نموذج قياسي؛ فالفكر القياسي، أو على الأقل الحالات التي ذكرتُها عنه، يتألف من قضايا يمكن أن تكون، ببساطة وعلى نحو مباشر صريح، صادقة أو كاذبة. وهذا هو مكمن قوة الفكر القياسي؛ ولكنه أيضًا موطن ضعفه وقصوره، ذلك لأنه عاجز عن استيعاب ما هو مدرك في نمط أو في قصة.
أخيرًا فإن من المهم ملاحظة أن القدرة على إدراك النمط، والقدرة على إنتاجه ليستا شيئًا واحدًا. مثال ذلك أن رسم خط لزهرة حقل قد لا يستطيع رسمه إلا شخص لديه الدربة والمهارات اللازمة، هذا بينما أي شخص توافرت لديه قدرة بصرية معقولة يمكنه أن يدرك النمط فور حدوثه. ونجد الخبرة على الطرف الآخر من العملية تتدخل بدورها حيث يستطيع المرء، أن يُدرك النمط الذي تم إنتاجه أخيرًا، وأن يقرأ الرسالة حتى إن عجز عن الإفادة بها كثيرًا، مثلما أفترض أن غالبية قرَّاء هذا الكتاب يفيدون قليلًا جدًّا من صورة مجهرية لخلايا سويق إحدى زهرات الحقل؛ بيد أن عالم الكيمياء الحيوية بوسعه أن يحل النمط في إطار نافع، ويفيد به من أجل معالجة مادة السليلوز داخل بنية أخرى. ومن ثم فإن النمط الذي يمكن الإجماع عليه ما هو إلا جزء واحد، ولكنه جوهريٌّ، داخل نسيج المعرفة العلمية الذي صيغ بجهد جهيد.
وتتسم حجة زيمان بالتعقد والتشابك؛ بيد أنني، وفاء بهدفي الذي أنشده، أريد أن أخرج منها بسؤال واحد: هل تتضمن الممارسة الإثنوجرافية أي شيء يتطابق مع معرفة النمط بالاشتراك بين الذوات المختلفة؟ وليلاحظ القارئ أن هذا السؤال يتضمن القياس التالي. إن عالم الأنثربولوجيا، شأنه شأن عالم الفيزياء أو النبات، قد تتوافر له مؤهلات معينة، تتمثل في القدرة على معرفة أنواع محددة من الأنماط لا لشيء إلا لكونه إنسانًا. ويدرس علماء الأنثروبولوجيا البشر، ومن ثم فهل هناك أنماط بشرية يمكن لعلماء الأنثروبولوجيا التعرف عليها، مستخدمين في ذلك المؤهلات الأصلية التي توافرت بهم منذ البدء، وأتوا إلى الوجود مجهزين بها، علاوة على قدر قليلٍ محتمل من الخبرة؟
الأنماط البشرية
ولعل أبسط إجابة هنا وفي الأمثلة التالية، القول: إن هذا أمرٌ مفهوم كقصة، وإن لدينا ثراءً وافيًا من أدوات الفكر الروائي؛ ولكنني أريد الآن أن أنقِّب عميقًا باحثًا عن بعض الأسباب التي نفهم بها الروايات من خلال الثقافات.
ومن ثم حريٌّ بالباحث الأنثروبولوجي أن يسأل أولًا عن الخاصية الثقافية في مسألة با رانجفوري؛ إذ من المحتمل، على سبيل المثال، أن بعض الانفعالات التي كشف عنها با رانجفوري هي من الخصوصيات المميزة للأسلوب والتقاليد الصوتية عند شعب تيكوبيا. فالصوت المرتفع المتهدج، والدموع المنسابة، كمثال، ليست من العادات البريطانية، أو أنها على الأقل ليست بريطانية أصيلة عند علية القوم. ومن المرجح كذلك — وهو ما أوضحه فيرث بعد ذلك — أن المناسبة التي حدثت بشأنها الانفعالات حددتها بحزم وصرامة مفاهيمُ محلية عن القانون والالتزامات، كما حددتها الظروف الخاصة بحياة با رانجفوري وعلاقتها بالآخرين. والحقيقة أن بعضًا من هذا البعد نجده كامنًا أصيلًا في الإجراءات والأحكام من قبل المحيطين به. وربما نجد أن الأحداث المقترنة بمحنة با رانجفوري إنما سايرت المزاج الثقافي للحياة في تيكوبيا، مصداقًا لما سماه إدوارد شيفلن «السيناريو الثقافي»، وهو مفهومٌ خاص يُبين كيف تمضي الروايات عن الحياة الواقعية. وينبغي أن نُشدد هنا على أن ثمة مهارة أدبية أسهمت بدورها في عرض النمط الذي جرى التعبير عنه بلغة نثرية سلِسة منمَّقة.
إن الأضحية عند قبائل الدنكا تثير عددًا من المسائل التي لم يكن تمييزها يسيرًا في الأمثلة السابقة. وأقول بداية ما ذكَّرني به روبرت لايتون من أن العمل الميداني يتراءى بداية للباحث الإثنوجرافي، في صورة من الفوضى والتشوش وعدم الفهم؛ إذ يبدو كل شيء غامضًا، حتى أكثرها بساطة، مثل حفل في بدايته أو حين يكون قائمًا على قدمٍ وساق. ومن ثم يكون مفهومًا لنا لماذا عجز لينهارت في البداية عن وضع تقييم كامل للنمط الذي يراقب من خلاله. ولذلك نراه يسلم عندما كتب عن الموضوع بأن النتيجة «يبدأ يشعر بها المشاهد الأجنبي نفسه.» غير أن فكرة إمكانية الإجماع لا توجب إمكانية استنباط الأنماط بسهولة وعلى نحو مباشر. وإنما الشرط المسبق الوحيد هو أنه ما إن يتم استنباط الأنماط حتى تغدو مفهومة لدى جميع الأطراف.
ويمكن القول أيضًا: إن حديث لينهارت الزاخر بالأسلوب الفني إنما ينافح ضد إمكانية الإجماع الموثوق بها. ولكن مرة أخرى نقول: إن فكرة إمكانية الإجماع لا تحول دون الحذر وبراعة العمل عند تصوير الأنماط. مثال ذلك: أن رسمًا تخطيطيًّا لزهرة الحقل يكون عملًا فنيًّا؛ ولكن هذه الحرفية الفنية، وهي أبعد ما تكون عن السطحية والخداع، مطلب ضروري لا مناص منه بالنسبة لأرشيف علم النبات.
ويلزم عن هذا، إضافة إلى ما سبق، أن الأنماط المشتركة بين الذوات لا يلزم تصورها باعتبار أن لها صورة واحدة صحيحة معتمدة؛ إذ يمكن أن تكون هنا أساليب أخرى ومغايرة تمامًا لتصور موضوع ما؛ زهرة أو أضحية. ولكن هذا لا يعني تخطئة إمكانية الإجماع أو الطابع المثبت لنمط متصور. ويمكن تقصي بُعد جديد للموضوع المطروح للبحث عن طريق ابتكار تصور جديد دون تخطئة تصور سابق. ولهذا السبب نفسه يتعين ألا نعتبر الرسالة المقترنة بالنمط رسالة وحيدة أو بسيطة أو نهائية ومغلقة؛ وإنما، وكما تعلمنا من مثال قبائل الدنكا، أو من وسائل الحياة الأخرى، قد نحتاج إلى الكشف عن مزيد من النتائج الأخرى الملازمة للأضحية عند الدنكا، وذلك باستخدام رسائل جديدة.
وأخيرًا ليس ثمة ما يبرر الاعتقاد بأن قابلية الإجماع بالنسبة للأنماط، والتي يعرض لها الباحثون الإثنوجرافيون، تتألف من معجم أنماط. وهنا مرة أخرى نجد من المفيد عقد مماثلة مع التعرف على النمط العلمي الطبيعي. فنحن لا نفترض أننا سنفشل في تعلم أو في التعرف على صورة طائفة كبيرة ومتنوعة بغير حدود من أنواع الأزهار، حتى إن بدا اختلافها شديد الضآلة عن زهرة الحقل. وأيا كان الشيء الذي يتيح لنا أن نتبين الأنماط فإنه ليس قاموسًا مقدرًا مسبقًا شاملًا الصور التي تتطابق مع ما هو موجود في العالم. كذلك، وعلى سبيل المماثلة، نحن لسنا بحاجة إلى افتراض أن الحياة البشرية بها عدد محدود من الأنماط التي يمكن تمييزها، وأن لا وجود لسواها. إن جوهر دراسة ريتشارد هوفستادتر التي يدافع فيها عن قدرة البشر على التعرف على الموضوعات الرئيسية أو الأنماط والتنوعات، إنما يهدف إلى تأكيد أن هذه القدرة، ولأسباب عملية، قابلة للامتداد والتوسع إلى ما لا نهاية.
الأنماط الروائية
تحدثت عن قابلية الامتداد اللانهائي لعملية التعرف على النمط، لأنني بصدد الانتقال إلى موضوع مألوف: الرواية أو السرد الروائي. والروايات هي أكثر الأنماط تعقيدًا، إذ يصوغها بشر لهم نوايا ومواقف وأفكار مندمجة ضمن فيض من الأعمال. ونحن نرى قصة فيرث عن با رانجفوري أدركوا أطراف الواقعة شيئًا فشيئًا. لقد انفجر غاضبًا من أبيه رأس البيت دون أن يُغادر البيت بصورة تقليدية، أعني دون التزام بقواعد السلوك اللائقة بوضعه كابن وواحد من العامة. وتحدث الحاضرون إلى فيرث باعتباره طرفًا محايدًا نسبيًّا، وطلبوا منه ان يمسك بيد با رانجفوري من المِعصم ويعيده لكي يعتذر. وعندما تم ذلك:
وضحت لنا (لجميع الحاضرين أمام الشيخ) خلفية انفجار (با رانجفوري) غاضبًا وأسباب ذلك. علمت أن صديقي فقد ابنه في البحر منذ بضعة شهور مضت. وكان يريد التجهيز لإقامة قدَّاس ديني خاص بشعائر الدفن … ولكنه حين قصد أباه يسأله أن يعطيه فأسًا ليبدأ قطع بعض الأشجار لإعداد الكفن أطال الشيخ العجوز في الكلام دون أن يعطيه جوابًا قاطعًا. وظن الابن أن أباه رفض مطلبه. وهنا اندفع الابن خارجًا من البيت. (وتكشف فيما بعد بشكل شخصي أنه أرجع ذلك إلى مناورة من جانب إخوته، وقد شك في أنهم يريدون إقامة حفلٍ راقص قبل إجراءات الحداد. ولذلك أعطى أولوية لمسألة استنزافهم لموارد الأسرة). وشرح الأب الموضوع الآن وأوضح أنه لم يرفض طلبه حين سأله أن يعطيه الفأس، وإنما كان فكره مشغولًا بأمر آخر. وقال لو أن ابنه تمهل قليلًا لأعطاه الإذن لكي يمضي في سبيله من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة بالجنازة. وأعطاه الفأس بعد هذا البيان. وأصبح الطريق الآن ممهدًا لإعداد طقوس الجنازة.
لنحاول أولًا فصل البراعة الفنية في التصور الوارد في هذه الفقرة عن النمط ذاته. هناك بعض المصطلحات — إقامة قداس ديني خاص بإجراءات الدفن، والكفن، وشعائر الحداد، وحفل راقص، وشعائر الجنازة — والتي يجب افتراض أنها تشير إلى كلمات في لغة شعب تيكوبيا وممارساتهم وعاداتهم، والتي لم تتحدد بعد. وتتمثل الخدعة الفنية جزئيًّا في ذلك التنوع الرائع الذي صادف تقديرًا في النثر الإنجليزي التفسيري، كما يتمثل جزئيًّا أيضًا فيما توحي به الإنجليزية إزاء كلمات «جنازة» و«دفن» و«حداد»؛ وكذا في التباين الواضح بين «حفل راقص» و«شعائر جنائزية». ويُلمح فيرث بهذا التباين إلى أن التعارض القوي بين مثل هذه الأنشطة عند نقلها إلى اللغة الإنجليزية إنما شعر به أيضًا أبناء شعب تيكوبيا. وقد كان في غاية الأهمية بالنسبة إلى با رانجفوري. ولهذا، وحسب هذا الفهم، لسنا بحاجة إلى معرفة المحتوى الفعلي «لحفل راقص» أو «شعائر جنائزية»؛ ذلك لأن دلالتهما يحددها فيض الأحداث. ويمكن أن نسوق حجة مناظرة فيما يختص بحديث وسلوك «الشيخ الرئيس». ونحن نعلم في سياق القصة أن الابن «استأذن» أباه ليأخذ الفأس، وأن الأب «لم يرفض» وأن إذنَه كان شرطًا لازمًا. ولهذا فحتى لو لم نعرف الكثير عن شيوخ تيكوبيا، فإننا لم نفهم بالفعل خصائصهم وثيقةَ الصلة بالموضوع في هذه المتوالية من الأفعال وردود الأفعال، ونعني بها القدرة على الإذن أو الامتناع عن الإذن.
ولكن، لعل الأمر لا يزال غير واضح تمامًا بشأن مكونات النمط. وأحسب أن بالإمكان أن يكون حديثنا أكثر وضوحًا. ولنا أن نستهل الحديث بتفريغ الفقرة على مستويات زمنية مختلفة؛ إذ نجد في الصدارة، أي في الماضي القريب وفي الحاضر، من رواية فيرث أحداثًا عن الشجار والمصالحة تقع على مدى دقائق أو ساعات. ويعتبر هذا الفيض الحدثي واضحًا فيما يتعلق بفهم وعي الذات والآخر والفعل ورد الفعل، والتمركز حول إدراك حالة الحزن عند با رانجفوري وسببه المباشر، وكذا رفض أبيه إعطاءه الفأس. ويبين لنا فيرث، علاوة على هذا، أن شعب تيكوبيا له طريقته في المصالحة، وهي طريقة خاصة به (أن يمسك بيد با رانجفوري من المعصم ويعيده إلى أبيه. وهو شكل خاص من أشكال الاعتذار). ونستطيع أن نميز في هذا قدرًا أكبر من المعقولية الميسورة، حيث إن الحزن غالبًا ما يستثيره ما فعله أ مع ب، ومن ثم فإن المصالحة تستعيد الوئام والانسجام بين أ، ب.
بيد ان هذا الفعل الذي يأتي في الصدارة أصبح هو ذاته مشكلة الحاضرين. إنهم ببساطة لم يعرفوا تفسير تلك الوقائع، والتماس تفسير لها استلزم البحث والتنقيب في فيض أكبر من الأحداث، وهو فيضٌ استغرق شهورًا وأعوامًا. ويتألف هذا الفيض الوقائعي من تفسير تحقق أخيرًا: فقدان ابن با رانجفوري في البحر، وحزن با رانجفوري بسبب هذا، وفجيعته زيادة على ما حدث إذ رفض أبوه السماح له بالفأس. ومرة أخرى نجد شيئًا ذا طابعٍ عمومي هنا، ولكن نكتشف أيضًا شيئًا عن با رانجفوري نفسه، ورطته وشخصيته في هذه الورطة، ذلك أن شخصيته وسط خضم الأحداث هي التي جعلت الصدارة مفهومة.
ولكن لا يزال ثمة وضع أوسع نطاقًا علاوة على ما سبق. ونعني به نطاقًا يُقاس بالعقود والأجيال، والذي تولَّى فيه الشيخ العجوز سلطانه، وأنجب أبناءً تحركهم الغيرة والمنافسة … إلخ، وكل هذا يجري وفقًا للأساليب المميزة لشعب تيكوبيا آنذاك. ويعرض الباحثون الأنثروبولوجيون عادة هذا الإطار الأوسع في صورة مفككة، أعني في صورة معايير أو مخططات للتنظيم الاجتماعي. ويلخص فيرث في فقرة توضيحية هذه الخلفية في عبارة تكاد تكون مماثلة لذلك. غير أن هذه المادة ترتكز بدورها على مادة روائية؛ مثل الأساطير والخرافات أو الأحداث المروية، التي تربط ماضيًا مفهومًا ومعقولًا بأحداث الماضي القريب والحاضر. وسبق لي أن أفضت في الحديث عن هذه النقطة. إذ إن الناس المشتركين في الحدث يكونون بحاجة إلى الفهم الروائي، لأن هذا هو ما يمكِّنهم من العمل بطريقة مسئولة ومفهومة. ويحتاج الباحثون الأنثروبولوجيون بدورهم أيضًا إلى مثل هذا الفهم الروائي. ولكنهم يتخذون هذا الفهم منطلقًا لهم ليمضوا بعد هذا في بناء شيء آخر، أعني وضع نظرة عن المجتمع أو الثقافة داخل إطارٍ فكري نموذجي قياسي مميز للبحث الأنثروبولوجي.
وأحسب أن من الأهمية بمكان أن نُشدد على أن فهم الآخرين، والذي يستبقه الفكر الروائي، ليس فهمًا مطلقًا وموضوعيًّا، أو من نوع المعرفة الديكارتية القاطعة التي تشبه الأشعة السينية حين تكشف عن الخلايا الرمادية عند شخص ما. وإنما هو، إذا صحَّ التقدير، فهم ينبع فقط داخل إطار الأخذ والعطاء في الحياة العامة، ومن ثم فإنه رهن الزمان والمكان والحضور والنبض الواقعي للأحداث، والعلاقات التي يغوص فيها هؤلاء الأشخاص. لم تكن حالة با رانجفوري أنه تيكي (غير راغب) بوصفها النفسي ومظاهرها العضوية اهتم بها أبناء تيكوبيا، أو التي تمثل تفسيرهم لها، وإنما دلالة تلك الحالة بالنسبة لما يجري من أحداث. إنه لم يكن تيكي (غير راغب)، بالمعنى المجرد أو المطلق، بل بالمعنى النسبي قياسًا إلى أشخاص مشاركين — أبوه وإخوته وابنه المتوفى — وقياسًا إلى الحالة المتغيرة بسرعة التي وجد نفسه فيها هو والحاضرين الآخرين. وحسب هذا المعنى الخاص بالمشاركة بين الذوات نجد أن رمز تيكي (غير راغب)، كان بذرة تحمل إمكانات النمو لتغدو رواية مسهبة ومحكمة عن أشخاص وعلاقات ووقائع؛ أي حبكة لها شخصياتها التي تفي بمطالب اللغز في مراحله الأولى.
والحقيقة أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفي بذلك اللغز هو قصة تضع حزن با رانجفوري في خضم فيض روائي لناس يعملون في تبادل مع بعضهم البعض. وهذه القصة، علاوة على هذا، وكما يعرضها فيرث، لم تكن بالقصة التي ابتدعها سرًّا هو أو أي إنسان آخر، بل انبثقت من بين الأحداث والكلمات التي تقع على مشهد جمع من الناس المعنيين بالموضوع. وليست المسألة هي الأحداث في ذاتها؛ بل وأيضًا تكشفها وتطورها واتساع نطاقها وشيوعها. وطبعي أنه قد تكون هناك تفسيرات متباينة للوقائع في أزمنة مختلفة تظهر أثناء وقوع الحدث أو بعده بوجه خاص. ولكن لكي يعمل المشاركون على نحو ملائم وثيق الصلة، لا بد لهم من الالتزام والتشبث بحد أدنى من الفهم المشترك، وأن ينمو هذا الفهم ويزداد جلاءً كلما تطورت المسألة في اتجاه الحسم.
والواقع أن المعيار الذي نُقيم على هديه قراءة الأفكار ليس هو المعرفة الشاملة؛ بل النجاح النسبي. وبناء على هذا الأساس نفسه فإن الصفات التي نعزوها إلى الدافع والموقف اللذين يظهران أثناء سرد الرواية بحاجة فقط إلى الوفاء بالتفسير النافع لتيار الفعل ورد الفعل. وكم هو عسير في الحقيقة أن نتبين المدى الذي تمضي إليه مثل هذه الصفات لتتجاوز ما يتم اكتشافه في تيار الفعل. إننا لا نستطيع أن نلتمس فهمًا علميًّا مطلقَ الصواب واضحًا جليًّا تمامًا لمثل هذه الحالات العقلية بمعزل عن التفاعل؛ ذلك لأن التفاعل هو وحده الذي يضفي عليها معنًى ويجعلها ميسورة للتصور الذي يمكن الإجماع عليه.
وقد نجد من يشك في البيِّنة الأنثروبولوجية لا يفتأ يسأل عن دقة التفسير الذي قدمه فيرث. ترى هل أقصد بكلامي أنه مجرد تفسير بسيط مباشر وصادق، أم أنه شيء آخر؟ لا بد أن يكون شيئًا آخر؛ ذلك لأنه ليس دقيقًا على نحو بسيط ومباشر، ولعل الأصوب أن نقول: إن النمط مركب أو مؤلف من عناصر، أي منتج فني، ولكن جاء إنتاجه في ظل شروط ذات طابع خاص؛ إذ لا بد أن يُبين في نظام واضح سهل تلك الأحداث والصفات الملائمة لتقديم تفسير للأسباب التي جعلت المشاركين يفعلون تلك الأفعال علاوة على بيان النتائج المترتبة عليها. والمعيار الذي يجعلنا ندرج أيا من التفصيلات هو إسهامُها في بيان كيف يفضي فعل إلى آخر. والنمط من حيث هو مركب جرى إبداعه شأن التفسير الذي قدمه لينهارت عن أضحية الدنكا، أو اسم زهرة الحقل.
والجانب السلبي لمثل هذا المركب هو عدم وجود أي ضمان بشكلٍ مطلق تتدرج تحته جميع التفصيلات الممكنة ذات الصلة، أو يضمن أن جميع وجهات النظر وثيقة الصلة قد تمَّ بحثها؛ إذ ربما كان الشيخ الرئيس لديه خطة أعمق كثيرًا من أي خطة أخرى تصورها الحاضرون، أو ربما كان هناك نزاع بشأن أمر آخر لم يرد ذكره وإن كان يجيش في الصدور. وربما كان فيرث نفسه، وعن غير قصد منه، الأداةَ لإحداث تأثير استعماريٍّ يُثير الشقاق. إن هناك احتمالات كثيرة لا حصر لها، وليس ثمة تفسير للأحداث البشرية يمكن وصفه بأنه تفسير يحول تمامًا دون أي مفاجآت عنيفة.
- (١)
أنه يُفسر تدفق الأحداث والوقائع.
- (٢)
الصفات التي نعزوها إلى المواقف والدافع ترتبط بالتفاعلات بين الناس ارتباطًا وثيقًا ومفهومًا.
- (٣)
هذه الصفات هي ما يكشف عنه المشاركون في خضم مسار الأحداث.
- (٤)
الفعل أو النشاط يرتبط على نحو واضح وحيوي بالظروف الخاصة بالحياة وسط شعب تيكوبيا.
- (٥)
متوالية الأحداث على النحو الذي رويت به، تتسم بالفعالية والاستقلال عن استخدام فيرث لها.
والملاحظ أن الخصائص الأربع الأولى وثيقة الصلة جدًّا بأمانة القصة. ولقد كان فيرث نفسه متورطًا تمامًا، ومن ثم كان في وضع يسمح له بتتبع الأحداث عن كثب. وكم هو عسير عليك أن تتطلع إلى نظرة أكثر تداخلًا من ذلك ولكنها الأخيرة التي تشتمل على كل المضامين المهمة. ونظرًا لأن القصة من حيث المبدأ مستقلة عن استخدام فيرث لها فقد أصبحت نوعًا من الملكية العامة؛ إذ يمكن أن يستخدمها آخرون، كما أن بالإمكان استخدامها لبيان وتوضيح أمور كثيرة ومختلفة للغاية: الغيرة والتنافس بين الإخوة، أو صراع الأجيال، أو القلق من أجل تهدئة شيوخ القبيلة، أو الفئوس وما لها من وضع خاص ومميز للغاية لدى شعب تيكوبيا آنذاك. وحسب هذا المعنى نجد أن متوالية الأحداث تتسم بطابعٍ مميزٍ يجعلها بيانًا أكثر منها حجة أو بندًا في الأرشيف وليس استدلالًا قائمًا على هذه البنود، وإنها بمنزلة الأساس وليست الصرح المرتكز على هذا الأساس. ومن ثم ولهذه الأسباب جميعها، نجد لنا الحق في قبول تفسير فيرث واستخدامه إلى حين ظهور أو تكشُّف معلومة جديدة تنطوي على قدر من الإثارة.
موقفان متعارضان
القصة القصيرة التي تبرر تكرار تقديم الأضاحي لدى شعب النوير تحمل طابعًا يكاد يكون مطابقًا للحكاية التي حكاها فيرث عن با رانجفوري. لقد رويت بإيجاز، وتُشير إلى فيض من الأحداث والوقائع التي يمكن فهمها في إطار واسع وأيضًا في إطار مباشر. ولا تُشير القصة إلى إمكانية استخدامها هي ذاتها استخدامًا نظريًّا؛ وإنما يمكن تعديلها لتتلاءم مع حالات كثيرة كهذه. ولأبدأ حديثي يعرض تعليقات سبيربر، الواحد بعد الآخر.
يقول سبيربر «هذه تصلح مادةً خامًا لرواية واقعية كأحسن ما نجد من روايات في غالبية الأعمال الإثنوجرافية. ومع هذا لن نجد فيها جملة واحدة تعبر عن ملاحظةٍ بسيطة مباشرة؛ ولكن أولًا: فكرة «الملاحظة البسيطة المباشرة»، وكذا فكرة «المادة الخام لرواية واقعية» هما فكرتان، وكما أوضحت مؤكدًا، غير ملائمتين؛ ذلك أن تصور الأنماط المستخدمة دليلًا في أي من الحالتين إنما اقتضى بذل قدر كبير من الفن والطاقة. ثانيًا: إذا ما ذهب الظن إلى أن «الملاحظة يمكن أن تكون مباشرة وفورية، وأن تتحقق دون مهارة أو تطبيق»، فإن هذا يكون زيفًا آخر. والجدير بالذكر أن إيفانز-بريتشارد لم يسقط من السماء، وإنما أمضي وقتًا طويلًا بين أبناء النوير. ولقد كان هذا الوقت حيويًّا تمامًا لتأسيس إدراكه وتصوره، ولكي يسجل رؤيته للأنماط داخل حياة النوير. ولهذا فإن ما تم تسجيله انطوي على قدر كبيرٍ من الحِرفية الفنية والخبرة، وهو ما يتحقق بالضرورة في أي مبحث علمي.
وتتعلق ملاحظة سبيربر الثانية بالجانب التالي من القصة التي رواها إيفانز-بريتشارد: «كنت حاضرًا عندما كان أحد أبناء النوير يدافع عن نفسه ضد الرفض الصامت من جانب أسرته وأقاربه لكثرة ما يقدمه من أضاحٍ.» ويبدي سبيربر الملاحظة التالية: «الرفض الصامت لا يمكن ملاحظته، وإنما يمكن فقط تخمينه.» ولكنني أرى على النقيض من هذا أن «الرفض الصامت» هو تمامًا من الأمور التي يدركها الناس على نحو مباشر.
ولنحاولْ معًا النظر إلى هذه المسألة عن كثَب أكثر. أولًا: إن ملاحظة إيفانز-بريتشارد جاءت في إطار روائي موجز، ولكنه واضح تمامًا لا لبس فيه. وتكشَّف هذا الإطار الروائي في الجمل التالية: «لقد تهيأ له (يقصد هذا الشخص المعني من أبناء النوير) أن يفهم أنه ساد شعور بأنه يبدد القطيع بسبب نهمه المتطرف للحوم. وقال: إن هذا ليس صحيحًا … وإن ما يرضي أسرته هو القول بأنه يبدد القطيع وإن كان قد ذبح ما ذبح من أجل خاطر ومصلحة أبناء الأسرة.» وقد يحق لسبيربر أن يشكو من أن أدوات السؤال: من؟ ومتى؟ وأين؟ في القصة أدوات غامضة، ولكن الفيض الروائي الأساسي ليس كذلك. لقد مضى زمن وهذا الشخص من أبناء النوير دائب على ذبح أفراد من قطيع الثيران لتقديم أضاح عديدة ومتكررة. وأدى هذا إلى استنزاف القطيع، أو هكذا بدا الأمر قاسيًا ووحشيًّا في عيون أسرته وعشيرته، وأعربوا عن اعتراضهم عليه … والآن يتحول العمل إلى المشهد المباشر العياني الذي شهده إيفانز-بريتشارد، لقد واجهوا احتجاجاته المطولة بالرفض الصامت؛ ولهذا فإننا نفهم «الرفض الصامت» في هذا الإطار باعتباره جزءًا من فيض الأفعال وردود الأفعال وسط جماعة من الناس هم الرجال من أبناء النوير وعشيرته. ونلحظ أن «الرفض الصامت» يكون مفهومًا وذا دلالة باعتباره نتيجة مترتبة على أحداث سابقة: الأضاحي المتكررة ورد فعل العشيرة إزاء ذلك. ويقود هذا إلى فعل جديد، ألا وهو احتجاجات الرجل ضد اتهام ضمني لم يصرح به أحد. ولا مجال هنا للسؤال عن فهم سريٍّ غامض لموجات المخ أو فهم معلومات تتجاوز حدود ما يمكن أن يكتسبه أي مشارك ذي أهلية.
وهكذا فإن إيفانز-بريتشارد كان بإمكانه أن يستخدم العبارة عن ثقة شريطة أن يكون مطلعًا على أسرار مجرى الأحداث الذي تخلله الرفض الصامت. والسؤال: ترى هل كان إيفانز-بريتشارد مطلعًا على كوامن مجرى الأحداث؟ يشك سبيربر في هذا. ويكتب قائلًا: إن الجزء السابق من الرواية إذا ما أفرغناه من عبارة «أُتيح له أن يفهم أن هناك شعورًا سائدًا»، إنما هو استنتاج مبني على أنواع مختلفة من السلوكيات المعقدة والمتناقضة في الغالب الأعم. وهذه الاستنتاجات لا يقوم بها، على الأرجح، الباحث الإثنوجرافي مباشرة، وإنما عن طريق من يمدونه بالمعلومات.
والملاحظ أن المادة المتوافرة لا تسمح بتقديم إجابة قاطعةٍ على هذا. ربما يكون سبيربر على حق. ولكن ثمة شاهدًا على نقيض ذلك؛ إذ إن إحدى الملابسات التي تجعلنا نميل بقوة تجاه تفسير إيفانز-بريتشارد تظهر للعيان لو أنه شاهد بالفعل مناظرة جرت في السابق بين النويري وأقربائه بشأن الأضاحي.
ونحن لا نملك وسيلة لمعرفة ذلك غير أن إيفانز-بريتشارد أشار أكثر من مرة إلى أن بحثه عن النوير تم دون الاستعانة في أغلب الأحيان برواة يمدونه بالمعلومات، وإنما استعان فقط بالعيش وسط النوير. ومن ثم فربما تهيأت له أسباب الثقة التي تدعم حكمه وتقييمه.
ولكن ماذا لو كان هناك من روى له فقط عن خلافات سابقة؟ هل كان من المحتمل أن يعمد الراوي إلى تلخيص وإيجاز الخلافات؟ ربما. ولكن إذا كان الراوي على دراية بالمعارف المحلية فإنه قد لا يتصور أن ما يُدلي به من معلومات، هو مجرد «استنتاج» أو «ملخص»، لو أنه أبلغ إيفانز-بريتشارد أن النويري وأسرته اختلفا وتشاجرا بشأن تكرار الأضاحي. وهذا هو ما يعرفه الجيران كأمر اعتيادي؛ إذ هناك من يسمع أصواتًا مرتفعة، وهناك من يسمع شجارًا ويعرف سببه. وليس لنا أن نتصور أن مثل هذه المعارف متناقضة، حتى إن بدت مركبة وهي كذلك يقينًا. إنها معارف ترتكز على القدرات العقلية المكينة التي فطرت عليها الروح الاجتماعية للبشر.
وتقضي أكثر القراءات معقولية بأن السوابق أدركها واكتشفها الشخص النويري نفسه من خلال الجدال الحاد والعنيف. ولعله قال شيئًا ما مثل: «تدَّعون دائمًا أنني أفرط في تقديم الأضاحي، وهذا زعم غير صحيح!» وتدعم كلمات إيفانز-بريتشارد هذه النظرة؛ إذ يرى أن الحديث التالي غير المباشر: «كان من مصلحة أسرته أن تقول إنه بدد القطيع» يفيد بأن مفتاح الشجار المستمر ظهر واضحًا على الفور أمام عيني إيفانز-بريتشارد عندما شرع النويري في الكلام. ولكن محاولة التوسع فيما قاله النويري لتصل إلى أنه «تهيأت له فرصة الفهم بأن …» ربما يكون مجرد استنتاج. ولكن عسيرٌ القول: إنه غير صحيح أو مضلل. لقد دخل إيفانز-بريتشارد بينما كان الجدال دائرًا، وتوافرت آنذاك له مفاتيح لكي يلتقط أطراف الخيط.
وأحسب أن المعنى الضمني هو ضرورة أن نعزو إلى إيفانز-بريتشارد نوعًا من المعرفة العلمية بالوقائع؛ إذ من الطبيعي أن مثل هذه المعرفة ليست شاملة ولا مجردة؛ ولكنها تتسم على الأقل بخاصية مستساغة، إذ إنها تنبثق عن مجرى أحداث يمكنه وحده أن يجعل التفاصيل مفهومة. ولا يصل بنا هذا إلى حد معاملة إيفانز-بريتشارد وكأنه من النوير، أو القول: إنه يفهم جميع أبعاد حياة النوير، بل ولا حتى الزعم بأنه قادرٌ على دعم موقفه في جدال مع واحد من النوير. وإنما الأصوب قبول الرأي بأنه، في إطار هذا الوضع الخاص، توافرت له صلاحية كافية تؤهله لأن يشق طريقه عن فهم واضح.
لذلك أقترح ألا يكون معيارنا لقياس مثل هذه المعارف معيارًا مجردًا، وإنما عمليًّا (براجماتيًّا: هل بوسعك أن تعمل وتتصرف على نحو ملائم وصحيح في ضوء تلك المعارف؟ أم أنك كنت تستطيع أن تتصرف على نحو ملائم وصحيح، لو أن الأمر اقتصر على المعرفة وحدها، خاصة أن المعارف يجري اكتشافها في وقتٍ لاحق للحدث أو نتيجة الإخفاق في اتخاذ تصرف صحيح؟) وأعتقد بالنسبة لحالة إيفانز-بريتشارد والنويري المحتج لنا أن نأخذ بهذه الصلاحية المحدودة بغية اكتمالها.
ولكننا في مجال آخر مثلما حدث حين لاحظ لينهارت أن تضرعات شعب الدنكا «بدأ يحس بأثرها المراقب الأجنبي نفسه» فإن عملية اكتمال المعارف اعتمادًا على النفس إنما تتم في تتابع سريع. ونجد في حالات أخرى، مثلما حدث عندما عرف فيرث كيف يمسك بيد با رانجفوري من المعصم ويعود به لكي يعتذر، فإن المعارف هنا تتوافر عن طريق التلقين. ونلحظ في حالات أخرى صعبة وشديدة الوضوح أن الدليل لا ينبثق بفضل جدارة مكتملة؛ بل نتيجة عملية تعلُّم ممتدة إلى أجل طويل جدًّا. وقد يذهب الظن إلى أن قلة خبرة الباحثين الأنثروبولوجيين تنسخ وتبطل شاهدهم؛ ولكننا نرى نقيض ذلك، إذ غالبًا ما تنشأ أقوى الشواهد إقناعًا من مجرد نقص الخبرة العملية والعمل على تصويبها.
من إمكانية الإجماع إلى الإجماع
بدأت حديثي بمفارقةٍ واضحة، وأعني بها مشكلة بناء معارف عامة موثوق بها تأسيسًا على مادة يتعذر اختزالها، فيما يبدو، إلى معارف شخصية أو خاصة بسيرة حياة ذاتية. ولكن ما إن نفهم علم الأنثروبولوجيا باعتباره نشاطًا حتى تنحل عقدة المفارقة تلقائيًّا.
ويعمد الباحث الإثنوجرافي، من أمثال إيفانز-بريتشارد في المحل الأول، إلى الانهماك في مثل هذه الخبرة العملية حالَ ما يلتقي بها في الوسط المحيط به. وليس بالضرورة أن يتحقق له هذا الانهماك كاملًا، وإنما يحققه بالقدر الذي يُهيئ له إمكانية المضي قدمًا في سبيله لكي يتعلم بنفسه؛ إذ يتعين عليه أن يحيا كشخص مسئول وسط من اتخذهم موضوعًا لدراسته. ويبدأ انطلاقًا من الخبرة التي يحياها في تعلم الأنماط التي يمكن الإجماع عليها. ويفعل الباحث الأنثروبولوجي هذا بنفس الطريقة تقريبًا، وبنفس المعدات إلى حد كبير شأن أي إنسان آخر: رحالة أو تاجرًا أو مهاجرًا أو طفلًا.
ولكن الباحث الأنثروبولوجي، على خِلاف هذه الشخصيات، يستخدم هذه المعارف استخدامًا آخر إضافيًّا؛ إنه يسجلها، وأعني بكلمة «التسجيل» بطبيعة الحال شيئًا أكثر من مجرد الكتابة وحدها لإثبات أحداث ومشاهد مختلفة؛ ذلك لأن الباحث الأنثروبولوجي يتأمل هذه الأحداث ويضعها في دائرة الشعور، ويقارن بينها وبين أحداث أخرى، ويحتفظ بها في الذاكرة. وهدفه من هذا الحفظ هو ابتكار نوع آخر من المعرفة، إنه نوع مؤسس على معارف النوير للأشخاص من خلال الأشخاص، ولكن يجري إثبات صوابها داخل مجتمع أوسع وأكثر انتشارًا لا يشتمل فقط على العالم الخاص بالباحث الأنثروبولوجي، بل وأيضًا عالم الرواة أنفسهم الذين أمدوه بالمعلومات. وتتحول المعرفة بالنسبة لهذا المجتمع من معرفة كيف؟ إلى معرفة أن، ومن معرفة فاعل يؤدي دورًا إلى وعي نقدي، ومن فكر روائي إلى فكر نموذجي قياسي. حقًّا إن مجرد اكتساب معارف اجتماعية صميمة وتحويلها إلى معارف قائمة على نموذج قياسي، هو ما يسم على الأنثروبولوجيا بقيَمِه المميزة وطابعه الخاص كمبحث علمي.
بات الطريق الآن طويلًا. طويلًا جدًّا يفصل ما بين المشاركة في مشاجرة دارت بين ابن وأبيه شيخ القبيلة، وبين استخدام هذا الحدث في نص إثنوجرافي. إنه بعبارة أخرى طريق طويل يفصل ما بين شكل من أشكال المعرفة وبين شكل آخر منها. واتسم الطريق على طوله بقدرٍ كبير من الجهد الذي يبذله الباحث الإثنوجرافي؛ مثال ذلك أن ثمة أمورًا كثيرة يتعين تسجيلها، من ذلك: إحصاء تعداد السكان المحليين، واستقصاء مناهج العيش والارتزاق، والنصوص الشفاهية … إلخ، ويمكن القول مرة أخرى: إن هذه الأشكال الأخيرة الخاصة بأشكال المعلومات التي يمكن حسابها وحصرها، يتعين وضعها جنبًا إلى جنب مع المعارف العملية للحياة الاجتماعية، ونسلط عليها ضوءًا كاشفًا لها جميعها. ويستلزم هذا كذلك قدرًا جهيدًا وعظيمًا من الفكر. وبعد أن يفرغ الباحث الأنثروبولوجي من بذل الجهد المشار إليه يكون لزامًا عليه أن يصوغ أحكامه بطريقة توحي بالثقة لدى قرائه. أعني، بعبارة أخرى، أن عليه أن يخلق توافقًا في الآراء وإجماعًا بين جماعة مفككة من الناس، أو حتى مشتتة الرأي ومتباينة الاتجاه، أي جماعة يمكن أن تضم الآن جماعة أصحاب فكر أنثروبولوجي من قبيل زملائه وأقرانه، وربما قطاعًا عريضًا من القراء في مجتمعه الخاص. ولكن أيا كان الإجماع الذي يتم التوصل إليه، فإنه قائمٌ على إمكانية الإجماع الخاص بالرواية وغيرها من الأنماط التي يعرضها عليهم.
إذن ثمة ما هو أكثر من ذلك مما يسهم في صنع المعارف الأنثروبولوجية. إنها ليست بحال من الأحوال مسألة مقتصرة على ربط حكايات قليلة ببعضها البعض، تحكي عن أشياء حدثت في ميدان البحث. ويكفينا الآن أن نقول: إننا نفرض شروطُا على المعارف الجديدة هي غريبة تمامًا عن نموذجها الأصلي؛ إذ يتعين بالضرورة أن تتلاءم مع نظرة أكثر تجريدًا عن المجتمعات البشرية، كما يلزم أن تكون قابلة للتصحيح أو يمكن إثبات زيفها. ويخلط بعض الباحثين الأنثروبولوجيين بين هذه المعارف وبين المهارة الأدبية التي لا تهدف إلى الإبهام؛ بل إلى التوضيح. ومع هذا فإن المعارف الأنثروبولوجية التي جرى إبداعها على هذا النحو، إذا لم تكن لتحفظ روحها الباعثة للحياة في المعارف الشخصية بين أبناء النوير عن بعضهم البعض وبين بعضهم وبعض، فإنها لن تكون أبدًا معرفة بل تخييلًا ووهمًا.