عبد الناصر

عظيم المجد … والأخطاء

لا يعصم المجد الرجال وإنما … كان عظيم المجد والأخطاء.

الجواهري

عبد الناصر، هذا الذي أحبه. أعتبره أبي. أعيب عليه غياب الديمقراطية وزيادة أعداد الأميين. أتذكر خوفي من أجهزته ومعتقلاته، وأتذكَّر — في الوقت نفسه — حبي الشخصي — والموضوعي — له، متلاحمًا بحب الغالبية من أبناء جيلي. لا يتجه إلى المطلق، لكنه يجد ملامحه في استعادة الهوية الوطنية والقومية، وانتشار التصنيع، وبناء المجتمعات الجديدة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والانفتاح — ثقافيًّا — على كل التيارات، ورفع الحظر عن كل ما كان يعد — قبلًا — من المحرمات.

تعرفت إلى اسمه — للمرة الأولى — في حوار بين رجلين على رصيف مقهى «مهدي اللبان» أسفل بيتنا. سأل الأول وهو يشير إلى «التشريفة» التي انتظمت في امتداد الشارع، ربما إلى سراي رأس التين: لمن الموكب؟

قال: جمال عبد الناصر.

– من؟

– جمال عبد الناصر.

أردف موضحًا: إنه أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة.

ثم تعرفت إلى الرجل نفسه. تأملت ملامحه وابتسامته ونظراته الحادة، حين كنت أذاكر في حدائق سراي رأس التين. وتجمع الناس، ترقبًا لموكب محمد نجيب. وكانت تفصيلات الخلاف بينه وبين عبد الناصر غائبة عن وعيي القاصر — آنذاك — وطال انتظار الناس، وأنا بينهم. ثم اتجهت النظرات والخطوات إلى شاطئ الأنفوشي. بدا أن الموكب الذي غادر السراي حالًا، قد اتخذ طريقًا غير التي احتشد الناس على جانبيها. وجرفني التيار إلى قرب السيارة المكشوفة التي كان يستقلها مجموعة من الضباط، عرفت من بينهم محمد نجيب وجمال عبد الناصر. كانا الشخصيتين الأهم، وكانت الصحف تنشر صورهما دائمًا.

كان الناس يهتفون بعصبية — أدركت فيما بعدُ بواعثها — لمحمد نجيب، والرجل يرد على الهتافات محييًا بعصاه. فلما أراد عبد الناصر أن يشاركه التحية، تعالى الهدير الغاضب: مش لك … مش لك!

لكن عبد الناصر ظل على تمسكه وابتسامته ويده الملوِّحة، دون أن تشغله — أو هكذا تظاهر في الأقل — الصيحات الرافضة!

ثم استمعت — مصادفة — إلى حديث إذاعي للشيخ أحمد حسن الباقوري، محوره شخصية عبد الناصر. أسأل: لماذا تكرهونه؟ … يجيبون: لأن منخاره طويل! … هل لطول الأنف — أو العكس — صلة بالزعامة؟ …

من الراديو أيضًا، استمعت إلى عبد الناصر — ليلة محاولة اغتياله الشهيرة في المنشية — وهو يخطب في الجموع التي أفزعتها طلقات الرصاص: أيها الرجال … فليبقَ كلٌّ منكم في مكانه. أيها الأحرار … فليبقَ كلٌّ منكم في مكانه! … ثم تأكيده على العزة والحرية والكرامة التي خلقها في نفوس المصريين. غلطة تغتفرها لعبد الناصر ميلودرامية الموقف الذي كان يواجهه. ثم كان تعرفي النهائي — فيما بعد — إلى عبد الناصر، واعترافي به، أبًا، أخشاه وأحترمه، وأحبه كذلك، لأسباب موضوعية ووجدانية في آنٍ معًا.

في مناسبة أخرى، سأروي لك فرصة — كم أسفت لضياعها! — حاول الصديق الراحل عبد الحميد السحار أن يهبها لي، فأسجل تاريخ الثورة بروايات عبد الناصر، وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة.

والحق أني لم ألتقِ بعبد الناصر في حياتي. لم أصافحه، أو أجلس إليه وأناقشه، ويعرف أني فلان الذي يحبه، ربما لأن صوته — على حد تعبير البسطاء من أبناء شعبنا — قد علا بكلمة «لا» للكبار جدًّا، ولأسباب أخرى سأحدثك عنها.

مرة واحدة، أتاحت لي المصادفة — يرفض بعض علماء التربية كلمة المصادفة، ويفضلون كلمة القدر — أن أشاهد جمال عبد الناصر عن قرب.

كنت قادمًا من شارع أمريكا اللاتينية في طريقي إلى دار الجمهورية، عندما استوقفني سرادق كبير في ملاصقة جامع عمر مكرم. تمهلت — بتلقائية — خطواتي، ثم توقفت أمامي سيارة سوداء، وامتدت أيدٍ كثيرة لتفتح بابها الخلفي، ولمحت — الأدق: شاهدت — جمال عبد الناصر.

بدا طويلًا، أطول مما تعرفت إليه في الصور، متين الجسد، هادئ الملامح، وإن كان بريق عينيه أول ما شد نظري. بريق هادئ غريب، لا أذكر أنه استوقفني في آخرين حتى الآن.

وهتفت دون وعي: عبد الناصر أهه! …

وأنعس الصدى صرخة من أفواه، أحاط بي أصحابها، وأيديهم تأخذ وضع التأهب الذي نشهده في أفلام «الويسترن» الأمريكية: بس … اسكت …

وسكت.

كنت — بالصرخة — قد دخلت في غيبوبة، فلم أستطع التحرك، ولم أدرِ — أو أفكر — ما هي الخطوة التالية. ظللت في وقفتي ساكنًا، بليدًا، محملقًا في عبد الناصر، وإن فقدت الأشياء معناها. تضاءل الشوق والتطلع والحب والإعجاب. حل بدلًا منها استكانة غريبة، وآلية تتابع دون فهم، وفي حيادية مطلقة.

وبعد أن أفلحت في انتزاع قدمي من الطريق، والجلوس إلى مكتبي في الجريدة، كرَّت الصور: عبد الناصر وهو يحيط بعينيه مشيعي جنازة أحمد حسني وزير العدل المصري في الستينيات، ويهز رأسه ببطءٍ محيِّيًا، ويداه في جيب جاكتته. ورويت لزملائي عن لقائي بعبد الناصر. أضاف الخيال وحذف، وامتدت الثواني، فأصبحت دقائق كاملة … لكنني لم أزعم أن الرجل قد أحس بي، أو أن نظرته النافذة قد شملتني فيما شملت من العشرات الذين كانوا ينتظرون قدومه لبدء الجنازة.

وحتى وفاته، فقد كان لقائي بعبد الناصر حلمًا أتوق إلى تحقيقه. أيقظ عبد الحميد السحار فكرة اللقاء لكتابة تاريخ الثورة. وماتت الفكرة قبل أن تأخذ ملامح محددة … لكن الحلم بلقاء عبد الناصر لم يغادر موضعه في خيالي، أفكر فيه، وأتصور حدوثه، وأسخر من تصوري. ويذوي الحلم إلى حد التلاشي. ثم ما يلبث في لحظة ما، ولمناسبة ما، أن يعود فأناقشه من جديد، وهكذا. حتى أضيئت الأنوار — فجأة — في الثامن والعشرين من سبتمبر ١٩٧٠م في سينما ميامي … كنت أشاهد العرض الأول لفيلم عربي — لا أذكر اسمه — وقال صوت في ميكروفون السينما: نأسف لإيقاف العرض … فقد مات الرئيس جمال عبد الناصر!

•••

قل لي من هم أصدقاؤك، أقل لك من أنت.

لست أذكر صاحب الكلمات، وإن كان بوسعنا أن نبدلها: قل لي من هم أعداؤك، أقل لك من أنت.

وكم أعجب لتلك الاتهامات التي تحاول النيل من ذكرى الرجل بدعوى أي شيء. حتى تصرفات زوج ابنته، الذي كان موظفًا عاديًّا، ثم أثرى في رئاسة السادات، تبرزها الصحف المعارضة، بتأكيد أن صاحب تلك التصرفات هو الطفل المعجزة زوج ابنة عبد الناصر. ومع أن عبد الناصر — في تقديرهم — قد جر مصر — والبلاد العربية — بحماقاته التي لا تبارى — إلى حرب مدمرة، فإنه — كما قالوا — كان أول من سعى بصلح مع إسرائيل. وزاد البعض فنسب إليه العمالة لإسرائيل. أسرف البعض في اجتهاداته، فأكد أنه يهودي لأن أمه يهودية. واليهودي هو من أنجبته أم يهودية. وكان عبد الناصر — حتى أسلم الروح — هدفًا لحملات معلنة ومستترة. حتى الثورة التي تولى قيادتها، لم تكن سوى لعبة أمريكية!

فيدل كاسترو هو الذي سأل عبد الناصر، إن كانت التماسيح لا تزال في النيل عند القاهرة. لم يكن بريجنيف صاحب السؤال — ولم يكن السؤال بالتالي — محاولة من الزعيم السوفييتي لتنبيه عبد الناصر إلى المسافة الهائلة بين القاهرة وموسكو، وأننا في عصر التماسيح، وأنهم في عصر سفن الفضاء. وكانت العلاقة بين البلدين سيئة جدًّا، وازدادت سوءًا (مجلة أكتوبر، العدد ٤٨٢).

كلام مغلوط، أملته رغبة موتورة في النيل من عبد الناصر — ولو بالافتراء! — لأنه منع أحد الكتاب من الكتابة، بعد أن شغل الناس بالسلة، وتحضير الأرواح، وخرافات الجان والعفاريت. ولم يكن سبب المنع أن الرجل كتب عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام بما يتضمن تحريضًا ضد عبد الناصر.

الغريب أن الرجل يعترف بأن الدول ذات المصالح التي هددتها مصر، أرادت أن ترغمها على السقوط (مجلة أكتوبر، ١٩٨٢/٤/١٨م) وإن كنت لم أفهم تمامًا قول الكاتب: «إن الدول ذات المصالح المهددة، أرادت أن تبني بأصابع جمال عبد الناصر حفرة عظيمة تدفنه فيها» (المرجع السابق).

كانت دول الغرب الأوروبي تجد في الرجل — بالفعل — تهديدًا مباشرًا لمصالحها في المنطقة، وفي خارجها أيضًا، فهو محرك، ومؤيد لثورات الجزائر وجنوب اليمن والعديد من دول العالم الثالث. وبلغ التصور لدوره في ذلك المجال حد الادعاء بأنه أمر بإرسال برقية تأييد عندما عرض فيلم «ثورة على السفينة بونتي في القاهرة».

نكتة كما ترى!

إذن، فقد كان هناك تآمر من دول الغرب ضد عبد الناصر؛ لأنه ضد مصالحها. وكانت تلك القوى — لاعتبارات موضوعية — أقوى من عبد الناصر.

وكان الرجل — في نظر اليهود — هتلر الجديد الذي يشغله الإلقاء بهم في البحر، وهو الذي خاض ضدهم أربع حروب: ١٩٤٨م، ١٩٥٦م، ١٩٦٧م، وحرب الاستنزاف من ١٩٦٩-١٩٧٠م. بل إن بعض القادة العرب وجدوا في عبد الناصر خطرًا يفوق الاستعمار الصهيوني، والاستعمار الأوروبي والأمريكي، وخطر الشيوعية أيضًا. كان خطرًا من داخل البيت، يجسده واحد من الوطنيين، ووجدوا فيه محرضًا لشعوبهم على التخلص من الأنظمة التي تحكمها. المعادلات الزعامية في عالمنا العربي تستند إلى نظرة غريبة قوامها المصلحة الشخصية؛ فالشيوعية عندهم أهم من الاستعمار؛ لأن معنى دخول الشيوعية بلادهم خروجهم هم منها، حتى الخطر الصهيوني يبدو أقل بكثير من خطر الشيوعية؛ لأن الصهيونية — وكانوا لا ينظرون إلى أبعد من مستوى أقدامهم — لم تكن تهدد مصالحهم الخاصة من قريب ولا بعيد. من هنا، سر الاكتفاء ببيانات الشجب والتنديد التي اشتهر بها قادة المنطقة العربية. كان المستقبل أمام تلك الزعامات مؤلمًا، في ضوء الشعارات التي رفعها عبد الناصر: حرية، اشتراكية، وحدة. وكان معنى تطبيق شعار واحد منها عزلهم من ثرواتهم، ومن سلطاتهم؛ ذلك لأنهم كانوا يحكمون شعوبًا تعاني افتقاد الشعارات الثلاثة جميعًا. أما في الداخل، فقد كان كبار الرأسماليين والإقطاعيين يرون في عبد الناصر عميلًا للمعسكر الشيوعي، ينفذ أوامر الكرملين، فضلًا عن حقده الشخصي على كل الأغنياء؛ لأنه ولد فقيرًا، وكان أبوه ساعيًا للبريد!

أعجب لمؤرخ صرف جهده لإهالة كومات الأوساخ على زعامة عبد الناصر. يرى أنها كانت المدخل والبداية للمأساة التي تحياها بلادنا الآن. المؤرخ نفسه كتب من قبل — في مجال حديثه عن عبد الناصر — أن ثورة يوليو انتهت في مارس ١٩٥٤م، لتحل بدلًا منها ثورة جديدة اسمها ثورة العامل والفلاح؛ فمنذ ذلك الحين أخذت زعامة مصر والعالم العربي تأتي إلى عبد الناصر منقادة دون أن يطلبها. فحين حطم احتكار السلاح في المنطقة العربية، وحرر الإرادة العربية منذ قرون، لم يكن يسعى وراء زعامة، إنما كان يسترد كرامة. وحين أمم قناة السويس لم يكن يطلب مجدًا شخصيًّا، وإنما كان يستردُّ حقًّا مسلوبًا. وحين رفض الإنذار البريطاني-الفرنسي أثناء العدوان الثلاثي، لم يكن يفعل إلا ما هو جدير بوطني يؤمن بقدرات شعبه وإمكانات بلاده. وعندما رفض مبدأ أيزنهاور، ووقف موقفًا صلبًا ضد الإمبريالية، لم يكن في ذلك إلا تعبيرًا وامتدادًا لموقف الشعب المصري قبل الثورة ضد كل ألوان التبعية والاستغلال. وحين خاض معارك القومية العربية والثورة الاجتماعية، لم يكن يهدف إلى أن يكون زعيمًا، وإنما كانت حركة التاريخ الغلَّابة التي استجاب لها عبد الناصر، ولم يقف عكس اتجاهها، هي التي جعلت من عبد الناصر زعيمًا، «زعيمًا رغم أنفه» (الجمهورية ۱۹۸۲/۱٠/٤م. وثمة خطأ واضح في جملة «وحرر الإرادة العربية منذ قرون»).

يغيظني أن الذين تفرغوا للهجوم على عبد الناصر — عقب رحيله — لم يحاولوا — في حياته — فتح أفواههم بملاحظة أو اعتراض، بل أدوا — بمهارة — دور المطيباتية وحملة المباخر والمؤيدين لكل ما اتخذه من قرارات وقوانين. ولعلِّي أصارحك أني أتعامل مع الأقلام التي تعاملت مع عبد الناصر، بحذر، لأن أصحابها أضيروا من الرجل شخصيًّا، فهم إذن موتورون: صحفي أقيل من عمله، تاجر أممت تجارته، سياسي اعتُقل، أو مُنع من ممارسة حقوقه السياسية … إلخ.

ثمة من أحبوا عبد الناصر، وإن لم يؤلهوه، ولا حاولوا هدمه. أيدوا ما يستحق التأييد في سياسته، وانتقدوا، وأعلنوا الرفض لما يستحق ذلك. عماد عبد الحميد في روايتي «النظر إلى أسفل» واحد من هؤلاء الذين أعجبوا بقيادة عبد الناصر وتوجهاته، وإن لم يضعوا فوق رأسه هالة القداسة، فهو بشر يخطئ ويصيب، ومن واجبهم أن يعلنوا تأييدهم لقراراته الإيجابية، ومن حقهم أن يأخذوا عليه القرارات المناقضة.

حاولت — دومًا — أن تكون نظرتي إلى عبد الناصر في إطار الموضوعية، التي تقر الإنجازات، وتعيب السلبيات، بصرف النظر عن الأصوات الزاعقة، التي يصل تأييد بعضها لعبد الناصر والناصرية، اتهام كل من يحاول المناقشة بالخيانة والعمالة والخروج على الخط الوطني، إلى غير تلك الصفات التي ألِفتْها أسماعنا. للأسف — في العقود الأخيرة — كما يصل رفض بعضها الآخر لكل ما أفرزته الناصرية حد اعتبار الفترة من ٢٣ يوليو ١٩٥٢م إلى نهاية عهد السادات، ظلامًا متصلًا، وأن كل ما صدر عنها غاب عنه الخير والعمل لصالح الشعب.

كلا الرأيين — بالقطع — خاطئ؛ لأن الإنجازات الإيجابية لتلك الفترة واضحة، والإنجازات السلبية واضحة كذلك. والتأييد أو الرفض في إطلاقه خطأ وخطيئة؛ لأنه لا يرتكز إلى الموضوعية، ولا إلى تغليب العقل فيما يعرض أمامنا من حقائق. أبدى ملاحظة على جوانب — أتصور أنها كانت خاطئة — في سياسة عبد الناصر. يبدي محدثي دهشته: ألا تحب الرجل؟! … والحق أني أرفض أن تكون نظرة الرضا عن كل عيبٍ كليلة. لا أحد فوق الرأي والنقد والمساءلة. وكما قال الجواهري شاعر العراق الكبير، فقد كان عبد الناصر — بحق — «عظيم المجد … والأخطاء».

عرف عبد الناصر المثقف — ذات يوم — بأنه «الذي يفكر في أحوال المجتمع ككل، يفكر بأي صورة من الصور في المجتمع؛ فبصرف النظر عن تفكيره؛ قد يكون تفكيره يمينيًّا، وقد يكون تفكيره نقديًّا، ولكنه يفكر بالنسبة للمجتمع. إنه الشخص الذي تتجاوز اهتماماته حدود مصلحته الخاصة، لتحيط بمصلحة المجتمع ككل» (من خطاب عبد الناصر إلى المثقفين في جامعة القاهرة ١٩٦٨/٤/٢٥م). المثقف — في تقدير عبد الناصر — ملتزم، والتزامه معناه محاولة الارتقاء بالمجتمع، والارتقاء بالحياة، عن طريق المشاركة في العمل، والقيادة السياسية والفكرية، وهو دور يصعب — إن لم يكن من المستحيل — أداؤه بالعزلة، وإنما بالاقتراب والاندماج في المجتمع.

الميزة الأهم في شخصية عبد الناصر أنه قال: لا. قالها للكبار؛ لا لمجرد التباهي بقوة مفتقَدة، وإنما للتعبير عن رفض مواطنيه للقهر والإملاء والتسلط، بصرف النظر عن القوة التي كانت وراء ذلك.

في قصتي «الرائحة» يقول الطبيب للراوي: غلطتان كفيلتان بهز الأساس الذي شيَّدت الثورة فوقه كل ما بنته: زيادة أعداد الأميين، وغياب الديمقراطية.

ويتساءل الراوي: فماذا عن التصنيع والسد العالي وتوفير فرص العمل ومجانية التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية؟

يقول الطبيب: لا أريد أن أبدو في موقف المعارض للثورة. إني محب يرجو لمحبوبه الكمال!

أثق أن كلمات الطبيب كانت هي التعبير عن موقفي من عبد الناصر وثورة يوليو. أحببت عبد الناصر — وما زلت — كأنه أبي. أعجبت بالكثير من آرائه ومواقفه وتصرفاته، وآلمتني — في المقابل — آراء ومواقف وتصرفات صنعت بقعًا في الثوب الأبيض. وإذا كانت زيادة أعداد الأميين تطرح السؤال عن الإنجاز الأهم لثورة ما، فإن المعتقلات وعمليات التعذيب والقوانين الاستثنائية، تحتاج إلى العشرات من علامات الاستفهام والتعجب في آنٍ.

•••

كانت شعبية عبد الناصر عام ١٩٥٤م في أدنى مستوياتها. قرأت عن أزمة مارس، والتطورات التي أفضت إليها، وشاهدت انعكاساتها في المظاهرات الصاخبة التي عمت شوارع الإسكندرية، وتحطيم المتظاهرين لصور عبد الناصر وشعاره الأشهر: «ارفع رأسك يا أخي، فقد مضى عهد الاستعباد»، وهتافهم: «أين خالد محيي الدين؟ (أذكِّرك بما رواه شاكر المغربي في روايتي «النظر إلى أسفل»، والمظاهرات التي شارك فيها رفعت القباني في «حكايات الفصول الأربعة»). أما الدور الحقيقي لمحمد نجيب في الثورة، فيعرض له خالد محيي الدين: «… قبل قيام الثورة بوقتٍ كافٍ، تم إعلام نجيب بأن هناك حركة، وعُرض عليه دوره فيها، ووافق على أن يتحمل المسئولية. وقد طلب الاشتراك في وضع خطة الحركة، فقيل له إنه لا داعي لذلك. ولكن شرح له — تقريبًا — مضمون الخطة، ودوره الذي يقضي بأن يحضر بعد الخامسة صباحًا لتولي المسئولية («الثقافة العراقية» — سبتمبر ١٩٧٥م).

أشير كذلك إلى الروايات التي قالها أنور السادات عن زعامته المبكرة لقيادة الثورة، واختيار عبد الناصر بدلًا منه نتيجة اعتقاله — اعتقال السادات! اختلاف كل رواية عن الأخرى بصورة مؤكدة — خمس أو ست روايات — كل واحدة كأن صاحبها شخص آخر غير الذي سرد الروايات الأخرى المناقضة. أما من حاولوا مسايرة السادات في ادعاءاته زلفى، فقد ابتلعوا كلماتهم المسايرة عقب رحيله، ولم تعد زعامة عبد الناصر للثورة موضع شك.

أتصور حماسة الناس لمحمد نجيب؛ لأنه كان امتدادًا لزعامة الأبوة المتمثلة في عرابي وسعد زغلول ومصطفى النحاس. توالي الزعامات المصرية التي تجمع بين طيبة الآباء وحنكة المجربين.

هذا مجتمع يدين بالقبيلة، بالأبوة، باحترام الشيخ واعتباره حكيمًا. تلك هي المشاعر التي احتضن بها الناس سعد زغلول ومصطفى النحاس ومحمد نجيب. الطيبة والتلقائية والارتكان إلى التقدم في العمر، بتصرفات قد لا يقدم عليها الأقرب إلى الشباب. كان عبد الناصر في أوائل الثلاثينيات، بينما جاوز نجيب الخمسين. يذوب في حشود الناس بعفوية الأب الذي لا يغضبك حتى حدته، إنما هو تعبير عن محبة أبوية، تشفق عليك، وتخشى أذيتك.

أذكر أني كنت أقف في ميدان المنشية وأنا صبي، والنحاس يغادر بناية على ناصية الشارع المفضي إلى سوق راتب. لمح بين الحشود شابًّا تسلَّق عمود إنارة ليمكنه المتابعة. هتف النحاس بأبوته الطيبة: حاسب يا بني؛ إوعى تقع!

انتصر محمد نجيب بكهولته، وانهزم عبد الناصر بشبابه. تعاطف الناس مع الأب، وأخذوا على الابن ما تابعوه في الصحف من تصرفات تسيء إلى مشاعر الأب وتصرفاته جميعًا. فلما أقدم عبد الناصر على غير المألوف، والخارق، وأمم قناة السويس، أهمل الناس المقارنة، ووضعوه في موضع البطولة. دعك من وصف أحدهم لتأميم القناة بأنه كان مجرد خطبة حماسية، وأن مصر «ظنت أنها أفلتت من العقاب بنجاحها في تسيير الملاحة في قناة السويس بالملاحين المصريين، بعد انسحاب المرشدين الغربيين»، وأن عبد الناصر لما أمم القناة كان هو الرجل الوحيد في العالم أجمع الذي كان يؤمن بأن قرار تأميم شركة القناة لن يترتب عليه رد فعل انتقامي من الغرب» (مجلة أكتوبر، ۲۷/١٩٩٤/٢م).

أصارحك بأن الأسباب الحقيقية للخلاف بين عبد الناصر ومحمد نجيب كانت غائبة عني تمامًا. كنت أتصور أن ما حدث هو مجرد انعكاس لخلاف على السلطة بين عبد الناصر ونجيب. لم أفطن إلى سيطرة مجموعة سليمان حافظ على أفكار محمد نجيب وتوجهاته — وهو ما تناوله فيما بعدُ أستاذنا محمد أنيس. فشعار المرحلة هو: الاتحاد والنظام والعمل. شعار براق كما ترى، ومؤلفو الأغنيات يُضمنونه أغنياتهم، ولا حديث عن القضية الوطنية. الاستقلال الناقص ببقاء القوات البريطانية في القناة، والعدالة الاجتماعية التي كانت في مقدمة مبادئ الثورة الستة. جريدة صباحية أجرت حوارًا مع محمد نجيب إبان توليه رئاسة الجمهورية، رفض فيه فكرة الثورة، واكتفى باﻟ «نهضة» إطارًا للتغيير الذي يحدث، أو ينبغي أن يحدث. أما عبد الناصر فقد ظلت الثورة شعاره ووسيلته وهدفه إلى النفس الأخير. النيات الطيبة قد تكون طريقًا إلى جهنم، وقد تكون عاملًا في توقف العجلة، ثم دورانها إلى الخلف. كان أسلوب محمد نجيب هو مهادنة السراي والإقطاع والأحزاب والإنجليز. أما عبد الناصر فقد اختار أسلوب الثورة على كل تلك المؤسسات. حدث ما حدث في ٢٣ يوليو بهدف التغيير الكلي والشامل في بنية المجتمع، سعيًا وراء تغيير صورته المستقبلية: إلغاء الثوابت الظالمة، واجتثاث الإقطاع، والقضاء على احتكارية رأس المال، وتقريب الفوارق بين الطبقات … إلخ. قامت في ٢٣ يوليو ثورة، فلما أراد صانعو تلك الثورة استمرارها حتى نهاية الأفق، أصر محمد نجيب على أن تنتهي في حد «النهضة» ولم يكتفِ بإبداء رأيه ضمن المجموعة التي اختارته واجهة للثورة، لكنه تحالف مع القوى التي شغلها إعادة الأمور إلى نقطة الصفر، فكان ما كان من أحداث مارس ١٩٥٤م.

ويطرح السؤال نفسه: من الذي أراد سرقة الثورة … ذلك الذي أصر على السير في طريقها إلى غايته، أم الذي حاول الميل إلى مسارات أخرى تبعد عن الهدف؟!

•••

بعد نكسة يونيو ١٩٦٧م قال موشى ديَّان: «إننا نهدف إلى البقاء لأطول مدة ممكنة على هذا الجانب من قناة السويس، ونحن نريد أن يكون بقاؤنا هناك محسوبًا بشدة على مصر. هل تعرف الموجات الصوتية التي تطلقها محطات الطيران باستمرار لكي تسمعها الطائرات طول الوقت؟ … نحن نريد أن يكون وجودنا على الضفة الشرقية للقناة مثل هذه الموجات الصغيرة ذات الصفير المستمر. هدفنا من ذلك إحداث أكبر قدر ممكن من التأثير على كبرياء جمال عبد الناصر، وهو رجل شديد التمسك بكبريائه الوطني، وإحداث أكبر قدر ممكن من التأثير على أعصاب الشعب المصري التي اهتزت بالفعل نتيجة للمعركة العسكرية … هذا التأثير بالنسبة لجمال عبد الناصر، وبالنسبة للشعب المصري، قد يؤدي بالأمور في مصر إلى فرقعة تنهار معها مصر من الداخل، ومن المرجح إذا حدث هذا، أن يقوم في مصر نظام جديد يبتعد عن الفكرة العربية، ويعقد صلحًا مع إسرائيل.»

ما يهمني بالنسبة لعبد الناصر تحديدًا، ذلك الوصف الذي حدد به ديَّان شخصيته: إنه شديد التمسك بكبريائه الوطني. كانت هذه هي الصفة الأهم التي أحببتها في عبد الناصر، وجاوزت كل صفاته ومبادئه وأفعاله — سلبًا وإيجابًا — في آن معًا. كان رجلًا من صعيد مصر. الكبرياء الوطني هو المحرك الأول لكل تصرفاته، وحرصه أن تكون مصر — والتعبير له — أكثر البلدان المستقلة استقلالًا. حتى أعدى أعداء عبد الناصر لم ينكروا أنه كان يسعى — وربما أخفق في مسعاه — لتحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي للبلاد، فضلًا عن تحقيق مستوى المعيشة الأفضل والعدالة الاجتماعية بين المصريين كافة. هزم المصريون — والعرب — في أيام عبد الناصر، لكنهم لم يشعروا بالمذلة لحظة واحدة. كان يلفهم إحساس المحارب الذي قد يخسر معركة أو معارك، لكنه يحرص على النصر النهائي. كنا على ثقة من أنفسنا، ومن هويتنا، ومن طموحاتنا. وكنا على وعي بمن هو الصديق، ومن هو العدو في الوقت نفسه.

إذا وضعنا صيحة عبد الناصر في مطالع الخمسينيات: «على الاستعمار أن يحمل عصاه على كتفه ويرحل» في إطارها المكاني والزماني، فإن معنى الصيحة خطير، لأنها قيلت ومعظم أفريقيا وآسيا والمنطقة العربية يعاني الوجود الاستعماري. وحين قال عبد الناصر: «خلقت فيكم العزة، وخلقت فيكم الكرامة» تفهَّمنا القول، تفهمنا دلالاته، فلم نرفضه أو نسخط عليه، مثلما فعل كتاب المرحلة الساداتية الذين حاولوا عزل كلمات عبد الناصر عن إطارها التاريخي.

إن مجرد الاستيلاء على السلطة، لم يكن هدف عبد الناصر، وإنما تبع ما حدث تغييرات، ومحاولات للإضافة والتطوير والتقدم. تحققت إيجابيات، وتحققت سلبيات كذلك. لكن الهدف لم يتبدل، وهو التخلص من عوامل التخلف، واللحاق بالعالم المتقدم.

وعندما أثير الاتهام — بإيعاز من الرئيس السادات — ضد عبد الناصر، بأنه اختلس عشرة ملايين جنيه، وافق الاقتصادي الكبير الدكتور على الجريتلي على قبول رئاسة اللجنة التي تتولى دراسة الاتهام. وانتهت اللجنة إلى قناعة بأن الاتهام مقصود به تشويه سمعة عبد الناصر. وقال الجريتلي لأحمد بهاء الدين إنه قبِل رئاسة اللجنة لثقته من النتيجة «فقد كان عبد الناصر أكثر كبرياء من أن يقبل بأية مساءلة» (أحمد بهاء الدين: حواراتي مع السادات).

يغيظني أن البعض يناقش التجربة الناصرية وكأن مصر كانت جزءًا منفصلًا عن العالم، جزيرة لا شأن لها بأحد، ولا شأن لأحد بها، لا تواجه قوًى استعمارية (الولايات المتحدة ودول الغرب) ولا قوًى استيطانية (إسرائيل) بل ولا عملاء في الداخل يعملون — بحسن نية، أو بسوء نية — لصالح تلك القوى.

كان بناء جيش قوي من بين الأهداف الستة التي أعلن عنها بيان الثورة الأول. حاول عبد الناصر في مطالع أعوام الثورة أن يشتري السلاح من الولايات المتحدة. لكن دالاس وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، رفض تزويد مصر بالأسلحة لأسباب عديدة، من بينها إصرار واشنطن على احتواء الثورة الوليدة. واتجه عبد الناصر إلى المعسكر الشرقي «فاتح شو إن لاي» بالأمر في اجتماعات باندونج (١٩٥٥م) وتمت — بالفعل — أول صفقة أسلحة مع الاتحاد السوفييتي عن طريق تشيكوسلوفاكيا. وكما يقول لطفي واكد — أحد قيادات الضباط الأحرار — فقد ظل عبد الناصر يراهن — إلى مؤتمر باندونج — على الولايات المتحدة. ثم تبين له متانة التحالف الأمريكي الإسرائيلي، وتبين له بالتالي حتمية مساندة الولايات المتحدة لإسرائيل في أية معركة قادمة بينها وبين العرب. ثمة قول نقله المليونير اللبناني الراحل إميل البستاني (سبتمبر ١٩٥٧م) عن عبد الناصر: «أمرت باعتقال ١٨ شيوعيًّا، بينهم أولئك الذين حضروا مهرجان الشباب في موسكو، وكل من سافر إلى هذا المهرجان وُضع تحت الرقابة، وقد سُمح لهم بالسفر لتعرف السلطات المصرية الشيوعيين منهم.» أضاف عبد الناصر: «لن أسمح للفنيين الروس بالحضور إلى مصر، بل سأوفد المصريين للتدريب في روسيا. وفي رأيي أن سوريا قد ارتكبت خطأ كبيرًا بالسماح للروس بالقدوم إليها» (أخبار اليوم، ١٩٨٨/٤/٢م). أراد الغرب — الولايات المتحدة تحديدًا — احتواءه. وتراوحت المحاولات بين الترغيب والترهيب، مثل إقامة حلف بغداد، ودعوة مصر للانضمام إليه، وتقديم ٤٠ مليون جنيه معونات مالية لمصر في ١٩٥٤م، وتشجيع الهجوم الإسرائيلي على مصر في فبراير من العام نفسه، كنوع من الضغط على القيادة المصرية، وإشعارها بضعفها وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها بدون وجودهم. وكان ذلك الهجوم الإسرائيلي هو مبعث التنبه المصري الحقيقي إلى أن الإصلاح في الداخل يجب ألا يشغل مصر عن الخطر القابع وراء الحدود، وإلى أنها جزء من الجسد العربي. من هنا، كان سعي عبد الناصر لإتمام صفقة الأسلحة السوفييتية (أتذكر خطابه في ميدان المنشية، وهو يؤكد أن الأسلحة سوفييتية، وليست تشيكية).

رفض دالاس تزويد مصر بالأسلحة. ورفض كذلك صفقة الأسلحة الروسية. المثل المصري يتحدث عن ذلك الذي لا يرحم، ولا يجعل رحمة ربنا تنزل! هذا ما فعله دالاس. وكان العقاب الذي اختاره لمصر، ولعبد الناصر، هو سحب عرض بلاده بتمويل إنشاء السد العالي. وتبعه — في موقفه — حكومة إنجلترا، فالبنك الدولي. وأعلن عبد الناصر. — في رد فعل سريع — تأميم قناة السويس، والإفادة من مواردها في تمويل السد العالي.

ومثلما رفض دالاس — وحكومات الغرب — تزويد مصر بالأسلحة، ثم تزويد المعسكر الشرقي لمصر بالأسلحة، فقد رفض قرار تأميم القناة، وكان ذلك كله إرهاصًا بالعدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر ١٩٥٦م. وبعد أن كانت صبيحة الثالث والعشرين من يوليو ١٩٥٢م مجرد دولة تابعة للنفوذ الغربي، فإنها — في رابع أعوام الثورة — أكدت استقلالها، وعدم تبعيتها. وأكدت — في الوقت نفسه — انتماءها إلى الدوائر الثلاث التي حددها عبد الناصر في «فلسفة الثورة»: الإسلامية والعربية والأفريقية، وهو الانتماء الذي أسفر عن ملامحه بصورة محددة، وواضحة، في اتباع سياسة عدم الانحياز. وإذا كان ما حدث عام ١٩٥٦م — في تقدير بعض الأقلام — هزيمة لمصر، فإن ما حدث — في ذلك العام الباهر — بداية تاريخ جديد للأمة العربية، بداية نزوعها الفعال نحو التحرر والاستقلال، والتخلص من النظم الرجعية والأتوقراطية. بل لقد كانت تلك الأحداث عاملًا مباشرًا في تأميم البنوك الأجنبية وشركات التأمين والوكالات التجارية التابعة لإنجلترا وفرنسا، وتبدت — للمرة الأولى — ملامح القطاع العام في حياتنا الاقتصادية.

•••

نحن نلحظ أن كلمات مثل العروبة، والقومية العربية، قد خلت — أو كادت — من كل التصريحات والخطب التي ألقاها عبد الناصر، إلى يوم تأميم القناة في ٢٦ يوليو ١٩٥٦م، حيث أكد أن «القومية العربية تتقدم وستنتصر. إنها تسير إلى الأمام، وهي تعرف طريقها، وتعرف سبيلها». وكان ذلك هو بداية التوجه الإيجابي من مصر عبد الناصر إلى العرب.

كان التأكيد على عروبة مصر في دستور ١٩٥٦م هو التأكيد الحاسم في تلك القضية التي تراوح فيها الجذب والشد. ولم يعد في تعبير «القومية العربية» ما يثير النقاش، أو يدعو إلى التساؤل، مثلما كان عليه الأمر قبل الثورة. والجندي الذي التقى به عبد الناصر فارًّا من الميدان، فلما سأله عن سب فراره، قال الجندي: لست أدافع عن بلدي! … هذا الجندي كانت «المصرية» هي مفهومه للوطن. ولم تكن «العروبة» سوى معنًى يثير من الجدال والنقاش والأسئلة أكثر من أن يكون حقيقة مؤكدة. وكان عبد الناصر — فيما بعد — هو بطل نموذج الوحدة الرائد مع سوريا، وهو الذي حرر العراق والجزائر واليمن، ودافع عن الاستقلال العربي ضد مبدأ أيزنهاور … إلخ. ومع أن عبد الناصر لم يكن زعيمًا جزائريًّا، فقد فوجئ الفرنسيون — وهم يفتشون جثث الشهداء الجزائريين — بصورة عبد الناصر معلقة في سلاسل على صدورهم. كانوا يعون دوره في معركة تحرير الجزائر، ويقدرونه.

أجهضت تجربة محمد علي في معركة نفارين، وأجهضت تجربة عبد الناصر في معركة سيناء. وكان بين التجربتين الرائدتين تجارب وإرهاصات وعهود مخاض وثورات، لكن اختلاف كل من محمد علي وعبد الناصر في شمولية التجربة، فهي لا تقتصر على القطر أو الإقليم، لكنها تتجاوزه إلى الأقطار، أو الأقاليم العربية، وهي تستهدف التغيير الشامل، التحول، في كل أرجاء الوطن العربي.

•••

تعرفت مصر في عهد عبد الناصر إلى سياسات — وتطبيقاتها — مثل الحياد الإيجابي، وعدم الانحياز، وتصفية النفوذ الاستعماري في العالم. وقد أصبح عبد الناصر — حتى بعد أن لحقته الهزيمة القاسية في ١٩٦٧م — رمزًا لحركات التحرير في دول العالم الثالث، وأعدم شاه إيران — في الفترة من ١٩٦٧م إلى ١٩٧٠م — أكثر من خمسة آلاف من ضباط الجيش الإيراني بتهمة «الناصرية». وكانت القيادات الثورية لضباط دول أمريكا اللاتينية من معتنقي أفكار عبد الناصر. بل إن النكتة التي أرادت النَّيل منه، حين أمر بإرسال برقية تأييد للثورة على السفينة بونتي، تلك النكتة تعكس — في بعد آخر — إيمان عبد الناصر المطلق بالثورة، وبالعمل الثوري، وبأهمية أن تكون الثورة في حياة الدول النامية أسلوب حياة، ومنهاج عمل، وأداة لنقل العالم الثالث من ربقة التخلف إلى آفاق التقدم.

•••

وصف الجواهري عبد الناصر بأنه «عظيم المجد والأخطاء». وكان عبد الناصر كذلك بالفعل. تغيرت جغرافية مصر في عهده إلى حد كبير. حلت الاشتراكية بديلًا للإقطاع والرأسمالية، وتحكم السد العالي في مياه النيل، ووصلت الطاقة الكهربائية إلى مناطق لم تعرف الكهرباء من قبل، وتحول الأزهر إلى جامعة حديثة، وزاحمت الصناعة الزراعة في صورة الإنتاج، والأربع عشرة مديرية التي كانت نبضًا للتعبير الشعبي الشهير، أصبحت محافظات، وزاد عددها بإنشاء المناطق والمدن الجديدة. تغيُّر مؤكد لم تشهده مصر منذ آلاف السنين، غيَّر من استاتيكية الإيقاع ومألوفه. عبد الناصر هو مجانية التعليم، والقضاء على الإقطاع (هل قضى عليه)؟ وتوزيع الأراضي على الأجراء وصغار الملاك، والإصلاح الزراعي، وبناء الاقتصاد الوطني، والقطاع العام، والسد العالي، وتأميم القناة، وتوصيل مياه الشرب والكهرباء إلى القرى، والوحدات المجمعة، والرعاية الاجتماعية والثقافية، والتصنيع … إلخ.

نعم، كان لعبد الناصر أخطاؤه، هي أخطاء فادحة بكل المقاييس، أخطرها استهانته بالقوى المعادية التي تحالفت لهزيمته في ١٩٦٧م. وتظل الأسئلة بلا أجوبة محددة: هل أخطأ عبد الناصر لأنه حاول إقامة اشتراكية بلا اشتراكيين؟ أم لأنه عُني بالقضايا الخارجية مدفوعًا بطموحات شخصية عارمة، وأهمل قضايا الداخل؟ … أم أن الخطأ في حرص عبد الناصر على التطبيق الاشتراكي في مجتمع متدين، قد تمثل الاشتراكية خروجًا على أعرافه الدينية؟ … أم أنه في الديكتاتورية وغياب الديمقراطية والحكم الشمولي والسجون والمعتقلات؟

والأسئلة كثيرة.

•••

كان من صفات عبد الناصر — وهي صفات تستحق التأمل بما يعد أساسًا لتحليل مواقفه — أنه كان يرفض المساومة، ويرفض أنصاف الحلول، ويعتز بكرامة شعبه بصورة بالغة (أذكرك بطلبه من الحكومة التركية سحب سفيرها من القاهرة؛ لأنه قال في حفل ديبلوماسي ما اعتبره عبد الناصر مساسًا بالشعب المصري) فضلًا عن اعتزازه بكرامته الشخصية.

مع ذلك، فقد كان من أهم ما يتميز به عبد الناصر قدرته الشجاعة على الاعتراف بالخطأ. يروي مصطفى أمين أن عبد الناصر ألقى خطابًا قبل الاستفتاء من الوحدة بين مصر وسوريا، لم يشر فيه إلى الرئيس شكري القوتلي، مع أن القوتلي سبقه بخطاب أعلن فيه تنازله عن الرئاسة، ومبايعته لعبد الناصر. وبعد أن أنهى عبد الناصر كلمته همس له مصطفى أمين: نسيت سيادتك أن تتحدث عن شكري القوتلي. فقال عبد الناصر مستدركًا آه! … ثم عاد إلى الميكروفون، وخطب من جديد، وحيا القوتلي على موقفه، ولقبه بالمواطن العربي الأول. وعقب انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة (١٩٦١م) قال: إن الانفصال هو نتيجة لخطأ الثورة بمهادنة الرجعية. وأعلن — في نكسة يونيو — مسئوليته الكاملة عما جرى، رغم أن مسئوليات الآخرين — كما أثبتت الوقائع المادية — كانت تفوق مسئوليته في الوقوع في حفرة الخطأ الكارثة. وعندما اندلعت مظاهرات الطلبة والعمال، فإن عبد الناصر لم يعتبرها «انتفاضة حرامية»، لكنه اعتبرها احتجاجًا مشروعًا ومطلوبًا على سلبيات كثيرة، كانت النكسة نهاية طريقها. وكان بيان مارس ١٩٦٨م تأكيدًا على سعي عبد الناصر لمجاوزة الأخطاء. بل إن كل التعديلات التي أجراها الرجل في بنية النظام، وفي الأفراد، كانت تستهدف تطوير الثورة، وتحقيق أهدافها …

أعرف أنه من الصعب القول أن هزيمة ١٩٦٧م لم يكن باعثها الصراع العربي الإسرائيلي فحسب، وإنما السبب الأهم غزونا المدبر من قبل دول كبرى لا قبل لنا بردها، ولا مقاومة قدراتها العاتية. ولكن ما الأمر وقد كان ذلك كذلك فعلًا؟! كانت الهزيمة واقعة مهما أفلح عبد الناصر في تلافي النقائص التي شابت استعداده للحرب. تمامًا مثلما كانت الهزيمة واقعة مهما أفلح عرابي في تلافي النقائص التي شابت استعداده لمقاومة الغزو الإنجليزي. أعاد التاريخ نفسه في ١٩٦٧م، فهو قد كرر هزيمة العرابيين في ١٨٨٢م بتشابه في معظم الملامح والقسمات والأبعاد. حتى الخيانة كان لها نصيبها المؤكد في الهزيمتين، والتآمر الأجنبي، والتآمر بالصمت — وربما بالتحريض — من القوى التي يفترض فيها المساندة. بالإضافة إلى ذلك (مصارحة واجبة!) فقد واجهنا الغزو الإسرائيلي المدعم بالمساندة المادية من قوى أجنبية، وبالتحريض، والصمت، من قوى عربية، ونحن نعاني — في الداخل — نقائص خطيرة. فثمة الديمقراطية الغائبة، وسيطرة قيادات هزيلة على أمور القوات المسلحة، وافتقاد التخطيط التكتيكي، فضلًا عن التخطيط الاستراتيجي … إلخ. وكان من مظاهر الاعتراف بالخطأ، تلك التغييرات الواسعة التي أجراها عبد الناصر في قيادات القوات المسلحة، وتنحية القيادات المتخاذلة وفاقدة الكفاءة والموهبة، وإعادة بناء القوات المسلحة من القاعدة إلى القمة، وتحديثها، سواء بالعنصر المادي، متمثلًا في السلاح المطور، والعنصر البشري، متمثلًا في الآلاف من الشباب الجامعي الذين ألحقوا كجنود بالقوات المسلحة. وقد بدأت عمليات الإعداد لاسترداد سيناء عقب الهزيمة مباشرة، بل إن عمليات العبور، بدءًا بإزالة السد الترابي وانتهاءً بالاقتحام، بدأت منذ ١٩٦٨م، وأقيمت بالفعل سدود ترابية في العديد من الأماكن، وأجريت التجارب الفنية عليها، حتى أمكن تحطيم خط بارليف في حرب ١٩٧۳م.

•••

الاتهام بأن عبد الناصر حاول طمس الفترات التي سبقت ثورة يوليو من أذهان المصريين، يلغيه تأكيد «الميثاق» على دور القيادات الوطنية المتعاقبة في تاريخنا المعاصر، بعكس ما فعله. ويفعله. قيادات الأحزاب المصرية المختلفة من إنكار للأدوار التي أسهمت بها قيادات أخرى في حياتنا السياسية. فالحزب الوطني وجد في الحركة العرابية هوجة، ونال عرابي العظيم من قيادات الحزب رذاذ الخيانة، والوفديون أساءوا إلى الحزب الوطني، وعابوا على قياداته نكوصها وفرارها من المعركة. وحتى «الكتاب الأسود» فإن كل قيادة عانت الملاحظات السلبية والمعيبة للقيادات الأخرى، إلى ما قبل قيام ثورة يوليو كما يتبدى في «الكتاب الأسود» الذي جرد النحاس — زعيم الوفد — من أبسط قيم الانتماء!

•••

عبد الناصر هو الزعيم الوحيد الذي هتف بحياته هؤلاء الذين خضعوا لأبشع أنواع التعذيب من أعوانه؛ لأنهم كانوا يؤمنون بمبادئه. استشهد شهدي عطية الشافعي وهو يهتف بمبادئ عبد الناصر، ودافع اليسار عن عبد الناصر ضد الهجمة اليمنية التترية. وكان في مقدمة الذين دافعوا عن الرجل ومبادئه، رجال عُذبوا — لسنوات — في معتقلاته وسجونه! أستعير كلمات صلاح عيسى، الذي سدد قوائم كاملة من حريته، بالنيابة عن جيله: «جاء عبد الناصر ليكون تحدينا، ويكون كبرياءنا، ويكون غضبنا، وربما لهذا السبب أحببناه، وصبرنا على كثير من المكاره في عهده. ولأن حلمنا كان أعمق من حبنا، فقد عارضناه وخاصمناه، ولدَّ بعضنا في الخصومة، لكننا لم نكرهه يومًا، حتى ونحن في زنازين عهده، يضربنا الزبانية بالسياط، ويسحلوننا على البلاط، ويحاولون أن يذلوا كبرياءنا الرفيع» (الأهرام، ١٩٨٩/٢/٦م).

•••

يقول الفريق أول محمد فوزي: «إن عبد الناصر لم تكن له طموحات شخصية. ولم يتذوق متعة الحياة كغيره من القادة والرؤساء، أو حتى كإنسان عادي» (مذكرات الفريق أول محمد فوزي). ويقول عبد العزيز حجازي الذي عمل وزيرًا للخزانة في عهد عبد الناصر: «مما زاد من ارتباطي بعبد الناصر من خلال تعاملي معه، أني وجدت فيه وطنيًّا لا ينتمي إلى اليسار أو اليمين، ولكنه كان مصريًّا يسعى إلى خدمة شعبه، وأن ما أصاب عهده من أحداث، قد تكون أضرت بعض المواطنين، فهي أخطاء الحاكم الذي شغلته أعماله الكثيرة اليومية عما يدور في بعض المواقع من بعض معاونيه في مؤسسة الرئاسة، وقيادات التنظيم السياسي» («الأنباء» الكويتية، ۱۹۸۷/۱۰/۱۸م). أما مصطفى أمين — وهو من هو في معاداة عبد الناصر — فإن رأيه «أن عبد الناصر كان يحب مصر جدًّا، وأن المصيبة التي جاءت لم تكن منه، ولكنها ممن حوله». وأذكر قول يوجين أوستين رجل المخابرات الأمريكي: «مشكلتنا الحقيقية مع عبد الناصر أنه بلا رذيلة، مما يجعله — من الناحية العملية — غير قابل للتجريح، فهو لا يمكن شراؤه أو رشوته، أو حتى تهويشه. نحن نكرهه ككل، ولكننا لا نستطيع أن نفعل تجاهه شيئًا. إنه نظيف جدًّا جدًّا.»

وقد ظلت عائلة عبد الناصر من أفقر عائلات بني مر؛ القرية القريبة من أسيوط، بل إن بني مر دفعت ثمن أبوتها لعبد الناصر؛ رفض أن يعيد بناءها إلا بعد أن تُبنى كل قرى مصر، فظلت — أو كادت — على الصورة التي كانت عليها صبيحة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م.

•••

ذات يوم، زارني في مكتبي شاب في بداية عقده الثالث. دفع لي بمذكرة يستغيث فيها بجمال عبد الناصر كي يعيده إلى عمله الذي فُصل منه بلا سبب مفهوم.

قلت: ماذا تريد مني.

قال: تنشر صورة المذكرة.

قلت: قد لا أستطيع.

نطقت ملامحه بالعصبية: لماذا؟

– الرسالة لرئيس الجمهورية.

– أرسلتها إليه بالفعل.

تملَّكني قلق حقيقي، ولعله خوف. هل يتصور أني أنشر شكوى بعث بها إلى رئاسة الجمهورية؟!

سألت الشاب عن اسمه، وبلدته، وعمله؛ حاولت أن أصادقه — أعترفُ — لأصرفه عن فكرة نشر المذكرة.

حدثني عن تخرجه — بمفرده — في كلية الهندسة، دفعته المتخصصة في تكنولوجيا الطيران، عمله لستة أشهر في مصانع الطيران، قبل أن تستدعيه المباحث العامة، وتبلغه بفصله من عمله.

زارني الشاب مرات تالية. محور أحاديثنا استغاثاته المتوالية بعبد الناصر، تطالبه بإعادته إلى عمله.

بدا لي — ذات ضحًى — مرهقًا ومتوترًا بصورة لافتة. دفع لي ببرقية تضمنت كلمات قليلة، التقطت عيناي منها عبارة «هذا الظلم».

– هل وافق مكتب التلغراف على تسلم البرقية؟

– طلب بطاقتي، فأعطيتها له.

ودَّعته بإحساس شبه يقيني أن هذه هي زيارته الأخيرة لي. هل يسكت رجال الرئيس — بافتراض أنه لن يطلع على البرقية — عن الكلمات التي تتحدث عن الظلم؟! طالت غيبة الشاب، فأدركت أن ما توقعته قد حدث. لكن الشاب فاجأني بالزيارة. ثمة تغير لافت بدا على ملامحه وتصرفاته. قال كلمات كثيرة، اختلطت لتدافعها، وإن عرفت أن عبد الناصر أمر بتعيينه في وظيفة أخرى تناسب تخصصه.

قلت: لماذا لم يأمر بإعادتك إلى عملك الأصلي؟

ذكرت تقارير المباحث أني شوهدت في مظاهرة ضد الأمريكان. تخصصي — كما تعلم — دقيق، ويتصل بأمن البلاد.

أضاف دون أن تغادر الابتسامة ملامحه: من حق الدولة أن تخشى على أسرارها، ومن واجبها أن تعيد لي مستقبلي.

وأسأل: لو أن هذه الحكاية، التي عشت — بالمصادفة — أحداثها، تكررت في عهد سابق، أو لاحق، هل كانت تشهد نهايتها السعيدة؟ ألا تعيد — من ناحية ثانية — تسليط الضوء على جانب إنساني من شخصية عبد الناصر، أخفته مؤامرات السياسة، والأحقاد التي طفحت بها نوازع شخصية؟!

•••

سألني صديق: هل أنت ناصري؟

قلت: أنا أرفض الانضمام إلى أي تنظيم.

قال بدهشة: لكنك تعلن آراء يقولها الناصريون.

قلت: أنا أقول ما أومن به.

أردفت: أؤيد عبد الناصر الفكرة، لا عبد الناصر الرئيس.

– فلسفة أعجز عن فهمها.

– إني أؤيد الديمقراطية والاشتراكية والقطاع العام والتصنيع ومجانية التعليم، وأرفض السجون والمعتقلات.

هذا هو ملخص رأيي في تجربة عبد الناصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤