الأفغاني

ومدرسة متاتيا

بدأت علاقتي بقهوة متاتيا قبل أن أرحل من الإسكندرية إلى القاهرة. كنت في إجازة صيف عند عمتي بالمنيرة. اشتريت بعض حاجياتي من الموسكي، ومضيت في اتجاه ميدان الأوبرا. أمام القهوة العريقة صادفت بائع صحف. اشتريت منه «أشعب أمير الطفيليين» لتوفيق الحكيم في كتاب الهلال، و«شجرة اللبلاب» لعبد الحليم عبد الله في الكتاب الذهبي. سألت عن كتب نُشر عن صدورها. أشار البائع إلى القهوة خلفنا، وقال: ما تريده سأحتفظ به لك غدًا في القهوة.

أضاف موضحًا: قهوة متاتيا.

كنت قد قرأت عن المقهى من قبل في كتب التاريخ والتراجم، وفي دوريات دار المحفوظات بالقلعة — وكان ذلك لقائي الأول بها — في مواجهة حديقة الأزبكية، وبالقرب من مبنى البوستة العمومية في ميدان العتبة. البواكي ذات الأعمدة الهائلة تذكرك بقاهرة الخديو إسماعيل، وإن انتمت القهوة إلى البيئة الشعبية بالنصبة والكراسي ونوعية الزبائن والمناقشات والنداءات وماسحي الأحذية وبائع الفول والطعمية أمام باب زجاجي مغلق.

لم تعد متاتيا — من يومها — مجرد قهوة أمر عليها. استعدْت تاريخها القديم منذ كان يجلس عليها جمال الدين الأفغاني، ومن حوله تلاميذه، أبرز نجوم الحياة المصرية.

أتصور المكان الذي كان يختاره الأفغاني لجلوسه: في داخل القهوة، أو في خارجها؟ وما صورة القهوة في ذلك الزمن، والأماكن المحيطة به؟

كان الأفغاني يقضي نهاره في المطالعة والاعتكاف في خان أبي طاقية، بحارة أم الغلام، بجوار الجامع الحسيني. ثم يخرج بعد الغروب متوكئًا عصاه، فيقصد قهوة متاتيا. يظل هناك إلى آخر الليل، يتبادل المتحلقون حوله من التلاميذ والمريدين عشرات الأسئلة. يسأل، ويجيب عن الأسئلة، وتتناول المناقشات قضايا الفلسفة والتاريخ والاجتماع. يقول الصحفي سليم عنحوري: «إن الفئة التي كانت تتألف حوله على هيئة نصف دائرة، فيها اللغوي والشاعر والمنطقي والطبيب والكيماوي والتاريخي والجغرافي والمهندس والطبيعي، وإنهم كانوا يتسابقون على إلقاء أدق المسائل عليه، فيحل إشكالها فردًا فردًا، ويفتح أغلاق طلاسمها ورموزها واحدًا واحدًا، بلسان عربي لا يتلعثم ولا يتردد، بل يتدفق كالسيل من قريحة لا تعرف الكلال، فيدهش السامعين، ويفحم السائلين، ولا يدع هذا الشأن شأنه حتى يشتعل رأس الليل شيبًا، فيقفل إلى داره بعد أن ينقد صاحب المقهى كل ما يترتب له في ذمة الداخلين». ويصف الإمام محمد عبده أسلوب الأفغاني في المناقشة — وقد شهد كل مجالسه في مصر — بأن له «سلطة على دقائق المعاني وتحديدها وإبرازها في صورها اللائقة بها، كأن كل معنًى خُلق له، وأن له قوة على حل ما يعضل منها، وكأنه سلطان شديد البطش، فنظرة منه تفك عقدها، وله لين في الجدل، وصدق في صناعة الحجة لا يلحقه فيها أحد.»

ظلت متاتيا — بعد رحيل الأفغاني — مجلسًا للأدباء والصحفيين، حتى بعد أن تغير اسمها. ذكَّرني هدم المقهى باغتيال ميدان المرسي أبي العباس، بكل ما كان يحمله في داخلي من ذكريات شخصية وعامة. غياب الوعي التاريخي هو المدان في هدم المقهى وإلغاء ميدان أبي العباس.

•••

جمال الدين الأفغاني، الذي بدأ في عام ١٨٦٩م رحلة أسطورية إلى معظم بلدان الشرق، يوزع السعوط بيمناه، والثورة بيسراه، توخيًا لتحقيق هدفين: إصلاح الإسلام ليساير المدنية الحديثة، وتحرير الشرق من سيطرة الغرب … ذلك الأفغاني، هو مفتاح كل الأحداث التي شهدتها مصر، منذ عهد إسماعيل إلى نهاية الثورة العرابية.

وصفه الفيلسوف الفرنسي رينان، بعد أن التقى به: «خيل إليَّ من حرية فكره ونبالة شيمه وصراحته، وأنا أتحدث إليه، أني أرى وجهًا ممن عرفتهم من القدماء، وأنني أشهد ابن سينا أو ابن رشد.» ويقول فؤاد في قصة صلاح ذهني في الدرجة الثامنة: «إن مصابيح الشرق أشعلها جمال الدين الأفغاني.» بل إن فؤاد دوارة يجد الأفغاني هو الأب في رواية نجيب محفوظ «الطريق» مستدلًّا على ذلك بما سمعه سيد الرحيمي عن سيرة والده: «لا أسرة له في مصر، كان أبوه مهاجرًا من الهند، وقد عرفه صاحبي في نادي الصفوة، فتوطدت بينهما أسباب الصداقة، وعن سبيله عرف ابنه الوحيد سيد، وهو ابن وحيد لا أخ له ولا أخت، وقد مات الأب منذ أربعين عامًا، تاركًا لوريثه ملايين الجنيهات التي اقتناها من تجارة المشروبات الروحية، فلا أحد له في مصر إلا الذرية التي يحتمل أن يكون أنجبها في مغامراته العديدة.» فؤاد دوارة — لكي يستقيم له مدلول هذه الكلمات — يتصور أن والد هذا الأب المجهول هو جمال الدين الأفغاني «الذي عاش فترة من حياته في الهند، وقدم مهاجرًا إلى مصر (١٨٧١م) يحمل في حقائبه بذور أول ثورة فكرية عرفتها مصر الحديثة. وكان يجتمع في قهوة البوسطة (متاتيا) بنخبة من المثقفين المصريين من أمثال سعد زغلول وأديب إسحاق وسليم نقاش والمويلحي وغيرهم، ينشر أفكاره الثورية بينهم، ويحثهم على ضرورة نشر الوعي السليم بين جماهير الشعب.» ولأن هؤلاء المثقفين — أو نادي الصفوة — هم الذين قادوا الثورة المصرية في مختلف أبعادها، فإن الأفغاني يعد بلا جدال «الأب الحقيقي لكل هذه الحركات التحررية، ولن ندهش بعد ذلك أن يكون لقبه المتداول بين أشياعه هو «السيد»، وهو الاسم نفسه الذي اختاره نجيب محفوظ لوالد الأب المفقود. وبصرف النظر عن صواب هذا التفسير أو خطئه، فليس ثمة شك أن كلمات الأفغاني الحاسمة، الواضحة، أضافت إلى بواعث الثورة التي شارك في قيادتها بعض تلاميذه: «إنكم معشر المصريين قد نشأتم على الاستعباد، وتربيتم على حجر الاستبداد. لقد تناوبتكم أيدي الغاصبين من الرعاة، ثم اليونان والرومان والفرس، ثم العرب والأكراد والمماليك، وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، وينهش عظامكم بأداة عسفه، ويستنزف قوام حياتكم — التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهكم — بالعصا والمقرعة والسوط، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة، لا حس لكم ولا صوت. انظروا أهرام مضر وهياكل منفيس وآثار طيبة وحصون دمياط، شاهدة بمنعة آبائكم وأجدادكم. هبُّوا من غفلتكم! واصحوا من سكرتكم! … عيشوا كباقي الأمم أحرارًا، أو موتوا مأجورين شهداء. أنت أيها الفلاح المسكين، تشق قلب الأرض لتستنبت ما يسد الرمق، ويقوم بأود العيال. لماذا لا تشق قلب ظالمك؟ لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون أتعابك؟ … (جاءت هذه الكلمات — كما قيل — في خطبة للأفغاني قبل عزل الخديو إسماعيل، يحض الفلاح المصري على الثورة. والحق أننا لا ندري أين، ولا متى، ألقى الأفغاني هذه «الخطبة»؛ فمن المعروف أنه كان يتحدث، ويناقش، ويحاضر، ولا يلقي خُطبًا) … إذا صح أن من الأشياء ما ليس يوهب، فأهم هذه الأشياء الحرية والاستقلال؛ لأن الحرية الحقيقية لا يهبها الملك أو المسيطر عن طيب خاطر، وكذلك الاستقلال، بل هاتان النعمتان إنما حصلت، وتحصل عليهما الأمم، بالقوة والاقتدار.»»

كلمات «تنقر حبة القلب»!

وقد تركت هذه الكلمات — أو الصيحات الجَسور المخلصة — أثرها في نفوس المصريين، وتلاميذ الأفغاني بصفة خاصة، فجعلوا من طاقاتهم صدًى لها؛ «فتحوا أعينهم — على حد تعبير جرجي زيدان — وإذا هم في ظلمة، وقد جاءهم النور فاقتبسوا منه — فضلًا عن العالم والفلسفة — روحانية أرتهم حالهم كما هي؛ إذ تمزقت عن عقولهم حُجُب الأوهام، فنشطوا للعمل في الكتابة، وأنشئوا النصوص الأدبية والحكمية والدينية» (تاريخ العرب والعالم، أغسطس ١٩٨٠م).

كان بيته في خان أبي طاقية. وكان يقيم فيه بعض مجالسه، بالإضافة إلى مجالس أخرى في بيوت أصدقائه ومريديه، أهمها قهوة متاتيا. كان الأفغاني يقضي نهاره في المطالعة والاعتكاف، ويخرج بعد الغروب متوكئًا على عصاه، فيقصد القهوة.

ويلخص الإمام محمد عبده رحلة أفكار الأفغاني من بيته إلى أرجاء البلاد، بأن طلبة العلم كانوا ينتقلون بما يكتبونه من معارف الأفغاني وآرائه وتعاليمه إلى بلادهم أيام الإجازات، وكان الزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم ينشدونه في الناس، «فاستيقظت مشاعر، وانتبهت عقول، وخفي حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد، خصوصًا القاهرة.» أما الراوي في رواية حافظ إبراهيم «ليالي سطيح»، فهو يصف شخصية الأفغاني وتعاليمه بأنها كانت «الحافز الأول على توجيه ما كان في مصر وقتئذٍ من يقظة الخواطر، وتنبه الشعور في الوجهة المؤدية إلى النهضة الفكرية والأدبية. ثم لم يلبث الحكيم الأفغاني الثائر أن تطرقت إلى أحاديثه بمجلسه في قهوة البوستة (متاتيا) المذاكرة في الأحوال السياسية، فانقلب مجلسه إلى محاضرات في السياسة والحرية والوطنية. ولما كانت الدعوة إلى هذه المبادئ لا تهز النفوس إلا إذا تمت للداعين أداة التعبير القوي والقدرة البيانية؛ فقد شجع الأفغاني تلاميذه ومريديه على القراءة في كتب الأدب، فكان من ذلك أن ازدهرت دولة الأدب على يده» (ليالي سطيح، ١٥١).

وكما نعرف، فقد ظل أثر تعاليم محمد عبده — مثلًا — في مجالات الدين والأخلاق والتربية والإصلاح الاجتماعي واضحًا في الحركة الفكرية المصرية، منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى ما بعد ثورة ١٩١٩م. من الطبيعي أن يكون الأزهر — عبر تاريخه الطويل — هو واجهة الحياة الدينية في المجتمع المصري. وكان علماؤه يمثلون الزعامة الشعبية، وإن عبروا — أحيانًا — عن الرجعية الفكرية، حتى لقد حرص الأفغاني — طيلة الأعوام الثمانية التي قضاها في القاهرة — على أن يلتقي بمريديه وتلاميذه في بيته بخان الخليلي، أو في قهوة متاتيا، ولم يدخل الأزهر إلا زائرًا ومصليًا، دون أن يسند ظهره إلى أحد أعمدته ليلقي دروسه. مع ذلك، فلم يصل جمود الأزهر إلى الحد الذي أصبح فيه — كما يقول سلامة موسى — أهم ما يعوق الفكر الحر! ويقول محمد عبده: إن طلبة العلم وطلبة جمال الدين كانوا ينتقلون بما ينالونه إلى بلادهم أيام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستيقظت مشاعر، وانتبهت عقول، وخف أصحاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد، وبخاصة في القاهرة (أحمد عرابي، ٤٣). أما قاسم أمين، فقد كان الصدى المباشر لأستاذية الأفغاني وكلماته المسئولة، كتابَيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة». وأما عبد الله النديم، فقد استحدث بعض الأشكال الفنية التي يمكن نسبتها — مع محاولات علي مبارك — إلى بدايات القصة المصرية، والتي حاول فيها دعوة المصريين إلى التمسك بالقيم والمثل الموروثة، والتنبه إلى الواقع المجحف الذي يحيون أسارى له. وثمة فقرات من رواية ليالي سطيح يؤكد بها حافظ إبراهيم على لسان بطله الأسطوري، حقيقة مهمة: إن تأثير الأفغاني لم ينتهِ برحيله، ولا بالقضاء على الثورة العرابية، وإنما ظلت أفكاره ومبادئه وتعاليمه مثلًا لأجيال متعاقبة من المثقفين في كل المجالات. فهو أستاذ سعد زغلول وعبد الله النديم ومحمد عبده وحفني ناصف وأديب إسحاق وسليم نقاش وعبد السلام المويلحي وعبد الكريم سلمان وإبراهيم المويلحي ومحمود سامي البارودي وأبو الوفا القوني وإبراهيم اللقاني وعلي مظهر والشاعر الزرقاني وعبد الرحمن البرقوقي والشيخ حسن الطويل والشيخ علي يوسف وعبد القادر المغربي وعبد الحميد الزهراوي وحسين وصفي رضا وإمام العبد ومحمد الشربتلي، وهو صحفي كان يحرر خمس صحف ومجلات أسبوعية في وقت واحد وغيرهم، كانت أفكاره معلمًا ومرشدًا لهم، وإن لم يشر الفنان إلى ابتعاد محمد عبده — عقب اغتيال الثورة عن السياسة، وابتعاد أديب إسحاق عن طريق الثورة، وتحوله إلى طلب الاعتدال. كان أشد الكتاب ثورية قبل أحداث الثورة، وأسرف في الدعوة إليها حتى أغلق رياض باشا جريدته «مصر». فلما قامت الثورة بالفعل، أعلن الرجل حكمته الغريبة، واحتمى بالإقطاع، وقضى فترة الثورة مختبئًا في بيت الشواربي، فأهمل العرابيون اعتبار «مصر» لسان الثورة — وهو ما كان منتظرًا! — واستعانوا بصحف أخرى مثل «الطائف» و«المفيد». ثم تحول الرجل إلى عميل للخديو إسماعيل، ينفق عليه وهو في باريس، باعتباره أحد الألسنة التي تحاول أن تعيده إلى مصر (وصفه عرابي بأنه من مرتزقة الأدباء)، وثمة أقدم سليم نقاش على بيع نفسه للخديو، وللإنجليز، وأسهم في تهيئة الأذهان لمذبحة الإسكندرية بنشر بيان مكذوب في جريدة «المحروسة» عن اضطرابات صدرت في القاهرة (أصدر سليم نقاش — فيما بعد — كتابه «مصر للمصريين» في تسعة أجزاء، سرد فيه وقائع الثورة العرابية، ومحاكمات العرابيين، وأنصف عرابي وثورته إلى حد كبير)، ووقوف أحمد فارس الشدياق إلى جانب توفيق ضد العرابيين في جريدته «الجوائب»، ونشره بيان الباب العالي ضد قادتها، تأثرًا بالإغداق المادي لتوفيق عليه، وتحول سليم عنحوري — بعد أن تبدى شبح الهزيمة — ضد الثورة، وهاجم قادتها، ووقف في صف الخديو، ونظم قصيدة طويلة في مدح بريطانيا، واشترى سلطان باشا عبد السلام المويلحي — زعيم المعارضة في عصر إسماعيل، وأحد أقطاب المجلس خلال الثورة — فخان الثورة … ونماذج أخرى محيرة، مثل إبراهيم الهلباوي الذي كان يتردد — دومًا — على مجلس الأفغاني في متاتيا، ثم قبل وظيفة المدعي العمومي في محكمة دنشواي. وقد وافق على الوظيفة السيئة متطوعًا، فلم يكن يشغل منصبًا حكوميًّا، يدفعه إلى خيار الاستقالة من الحكومة. ومع أن الأفغاني كان وراء إنشاء ميخائيل عبد السيد جريدته «الوطن»، فإنه ما لبث أن تحول بها عن الأهداف التي أنشئت من أجلها. وفي الوقت الذي كان الأفغاني يناصر — على صفحات «العروة الوثقى» — ثورة المهدي، كان أحد تلاميذه — الشيخ أحمد الجداوي — يهجوها بقصيدة شهيرة، قامت الحكومة بتوزيعها في أنحاء السودان، فطلب المهدي رأسه. أما لطفي السيد، فقد خرج بدعوة «مصر للمصريين» في إطار التساهل والمعقولية مع الاحتلال. وظل سعد زغلول أسير أحلامه الشخصية حتى أيقظته الجماهير المصرية بثورتها العظيمة، ودفعته إلى موقع الزعامة المتفردة فيها. وعمل إبراهيم المويلحي سكرتيرًا للخديو إسماعيل في منفاه بأوروبا بضع سنوات، واندلعت نيران الثورة العرابية، وخبت، وهو في الخارج، ثم سافر إلى الآستانة في ١٨٨٥م فعين عضوًا في مجلس المعارف عشر سنوات، ثم عاد إلى مصر، ودافع — فيما بعد — عن وقفة الخديو عباس تحت العلم البريطاني ليستعرض قوات الاحتلال (العقاد: محمد عبده، ٢١٤: ٢١٥). حتى البارودي الذي قضى بضع سنوات في المنفى لقاء إصراره على الثورة، خذلته نفسه، فتظاهر بنصح العرابيين بالكف عن الثورة، واعتكف في الريف، ثم عرَّض بقادة الثورة في شعره إبان إقامته في المنفى. ومن قبل، كان البارودي عضوًا في الوزارة التي قررت نفي الأفغاني من مصر، ولم يعترض على القرار، الأمر الذي أحزن الأفغاني فقال: «لم يبقَ في المسلمين أخلاق؛ فهذا محمود سامي البارودي عاهدني، ثم نكث، وهو أفضل من عرفت من المسلمين!» أما القول بأن قاسم أمين «كان واحدًا من تلك الحلقة الذهبية التي أحاطت بجمال الدين الأفغاني»؛ فالثابت أن قاسم أمين ولد في ديسمبر ١٨٦٣م؛ أي إن سنه خلال الفترة التي قضاها الأفغاني في مصر كانت بين الثامنة والسادسة عشرة، وهي سن لا تتيح له — في الأغلب — أن يصبح واحدًا من تلك الحلقة الذهبية.

واللافت أن عبد الله النديم فضل — منذ البداية — أن يختط طريقًا مغايرة لطريق الأفغاني وتلاميذه، وطالب باللجوء إلى الجماهير، بدلًا من النشاط المغلق داخل محافل الماسونية!

أما قادة الثورة العسكريون فقد كانوا — لفترة طويلة — يعادون «شيعة السيد جمال الدين» — والتعبير لمصطفى عبد الرازق — ذلك لأن الأفغاني ومريديه كانوا يتعاطفون مع رياض الذي كان إسقاطه في مقدمة أهداف الثورة. وكانت مقالات الإمام محمد عبده — على سبيل المثال — قبل إسقاط الوزارة الرياضية تدور حول أن «عقلاء الناس يجتهدون أولًا في تغيير الملكات، وتبديل الأخلاق، عندما يريدون أن يضعوا للهيئة الاجتماعية نظامًا محكمًا». ويؤكد صلاح عيسي أن عرابي لم يكن «من الذين تأثروا بالأفغاني» (صلاح عيسى: الثورة العرابية، ٢٢٥). ويقول عرابي في المذكرات التي أودعها عند بلنت: «أتذكر أني رأيت الشيخ جمال الدين، ولكني لم أكلمه» (التاريخ السري، ٦٢١). من هنا يبدو رأي عبد المنعم شميس في صلة الأفغاني بالثورة العرابية أقرب إلى علامة استفهام هائلة: «يجب أن نقف وقفة عند ثورة عرابي الذي لم يكن شخصية مهمة، رغم كل الأضواء التي سلطت عليه، ولكن ثورته كانت أهم من شخصيته، وهي ثورة شعبية كاملة، كانت أفكارها وأهدافها أكبر من أفكار أحمد عرابي، ومن أهدافه، وهي في جملتها من النتائج الحتمية للثورة الإسلامية التي قادها جمال الدين الأفغاني، وأشعلها في مصر. الأفغاني هو الأستاذ، وكان عرابي سيفًا من سيوفه، ولكنه سيف انكسر في معارك التل الكبير، واستلَّ جمال الدين سيفًا آخر من السودان هو سيف المهدي الذي اجتز رأس جوردون باشا، وأبكى الملكة فيكتوريا على قائدها حامل سيف الإمبراطورية البريطانية. وكان في برقة سيف ثالث هو سيف السنوسي الذي حمله من بعده عمر المختار، فأذل إمبراطورية موسوليني الرومانية الجديدة فوق أرض برقة.»

•••

قدِم جمال الدين إلى مصر بدعوة من مصطفى رياض، وهو رجل مشكوك في وطنيته. لكن الأفغاني لم يساوم على مبادئه لقاء القروش التي كان يتقاضاها من الحكومة المصرية. ظل يوزع السعوط بيمناه، والثورة بيسراه، حتى دفعه الخديو توفيق إلى مغادرة البلاد، وظل جمال الدين حريصًا على ما يؤمن به من أفكار وقناعات في كل البلاد التي زارها، وواجه فيها جميعًا تأمرًا ورفضًا من السلطات الحاكمة. وحين ودع الحياة، فقد كان الاتهام الذي وُجِّه إلى سدنة الباب العالي أنهم دسوا له السم في الطعام.

أما الاختيارات السلبية التي مضى إليها معظم تلاميذه، منذ بدايات التدخل الاحتلالي، فلم تكن — بالقطع — مسئوليته، بل إن نكوص معظم التلاميذ عن المسار الثوري لم يبدل انتشار كلمات الأفغاني ومبادئه في المجتمع المصري، وفي مثقفيه بخاصة، بحيث يمكن التعرف إلى ملامحها في وقفة فئات المجتمع المصري مناصرة للثورة العرابية، ثم انتزاع الأمل من قتامة اليأس، تواصلًا إلى أحداث ثورة ١٩١٩م.

لقد نفى أحمد عرابي أية صلة لحركته بالأفغاني وتلاميذه، وأشار عبد الله النديم إلى تحفظات معلنة على بعض مواقف الأفغاني وتصرفاته، لكن المناخ الذي عاشته مصر في الفترة التي أعقبت قدوم الأفغاني إليها لا بد أنه عكس إيجابياته حتى على هؤلاء الذين لم يجعلوه في موضع الأستاذ، ولم يجلسوا إليه في موضع التلمذة!

•••

يقول محمد عودة: «كانت الثورة العرابية، من البداية إلى النهاية، بكل مزاياها وعيوبها، ثورة مثقفين، وقد صنعها تلاميذ الأفغاني الذين تمخضت عنهم متناقضات عصر إسماعيل، وبداية الزحف الاستعماري، وكانوا هم الذين مهدوا لها، والذين وضعوا برامجها وخططها، والذين قادوا معاركها. وقد تميزت الثورة العرابية بأنها لحمت وصهرت المثقفين من الشعب — أي الكتاب والصحفيين والعلماء وذوي المهن الحرة — مع المثقفين في الجيش — أي الضباط الثوريين والمستنيرين، وتميزت بأنها صهرت المثقفين التقليديين — أي علماء الأزهر — مع المثقفين المصريين من خريجي البعثات الأوروبية مثلًا. وتميزت أيضًا بأنها جمعت بين المثقفين المصريين من مختلفي الديانات، ومختلفي الجنسيات، وكانوا جميعًا يحلمون بثورة تكون بداية بعث وتحرر شامل للشرق كله، كما قال عرابي.»

والواقع، أن سَدَى الثورة لم يكن كله من صنع تلاميذ الأفغاني. ولعل التعبير الأدق أنهم شاركوا في صنع الثورة؛ لأن عددًا كبيرًا من قادتها يصعب انتسابهم إلى أستاذية الأفغاني. ومع أن عرابي كان شديد التدين، فإنه ركز في نضاله على الجانب الاجتماعي، كالدفاع عن حقوق الفلاحين، ومساواة المصريين بالجاليات الأجنبية والمتمصرة. والقول إن الأفغاني هو مؤسس الحزب الوطني الأول، وأنه هو الذي بذر نبتة الثورة العرابية، يشحب أمام تأكيد الأفغاني أنه جاء إلى القاهرة للإصلاح الفكري لا للعمل السياسي. حتى عبد الله النديم، فضل — كما أشرنا — أن يختط طريقًا مغايرة لطريق الأفغاني وتلاميذه.

لا يعني هذا التهوين من أثر تعاليم الأفغاني في تجسيد الثورة، فهو — بحق — مفتاح معظم الأحداث في تلك الفترة. وحتى لا نتوه في تعبيرات غير محددة، فإن قيادة الثورة العرابية كانت لمثقفين يملكون القدرات الإيجابية في تجسيدها، وتحويلها إلى واقع، تعبيرًا عن القدرات السلبية التي يملكها الفلاح المصري ضد السلطة، والتي ما لبثت أن وجدت إيجابيتها عندما حمل الفلاح السلاح دفاعًا عن الثورة؛ لأنه كان يدافع عن إرادته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤