داود حسني
لم أكن التقيت به من قبل. بدا لي رجلًا مهمًّا بقامته الطويلة، وميل جسمه إلى الامتلاء، فهو عملاق كما وصف أستاذنا نجيب محفوظ عمر الحمزاوي بطل روايته «الشحاذ»: «كان طويلًا، وبالامتلاء صار عملاقًا.» لهجته الطيبة ناقضت مظهره. قدم لي نفسه: إبراهيم داود حسني. موظف بوزارة الداخلية.
استطرد قبل أن تشرِّق بي الظنون وتغرِّب: أنا ابن الفنان الراحل داود حسني.
وجلس. وتحدث عن أبيه. أعرف أن داود حسني كان يهودي الديانة، فهل ابنه — هذا الجالس أمامي — يهودي أيضًا؟ وهل تأذن وزارة الداخلية — رغم كل تسامحنا الديني — ليهودي أن يشغل وظيفة فيها، بينما نذر الحرب تومض في الأفق (١٩٦٦م). كتم الحرج كل الأسئلة داخلي، واكتفيت بأن أهبه سمعي لما قدِم من أجله.
في زيارة تالية، قدم لي أوراقًا مكتوبة بخط اليد، وقصاصات صحف قديمة. وطلب — بعشم الصديق — أن أكتب عن أبيه.
ولأني كنت مشغولًا آنذاك فيما لا أذكره الآن، فقد قرأت أوراق إبراهيم داود حسني بطريقة «الجشتالت» — القراءة السريعة — وكتبت عن ذكرى الفنان المصري الكبير الراحل، وإضافاته المهمة إلى الموسيقى العربية. ثم أودعت الأوراق ملفًّا أودعته أرفف مكتبتي، ضمن مئات الملفات التي أزمع أن أتناول ما تحمله في وقت لاحق.
وعدت إلى الملف، أضيف إليه بعض المعلومات، ثم أنشغل عنه بكتابات أخرى، لكنني عدت إلى ملف داود حسني بالدعاوى الصهيونية الغريبة التي حاولت — مؤخرًا — نسبة ذلك الفنان المصري إلى إسرائيل، ولم تكن ثمة دولة بهذا الاسم في حياة الرجل.
•••
وصفه أحمد شوقي بأنه «كنز فني عظيم لا يفنى، ودرة ثمينة لا تقدر بثمن». ولد في مايو ١٨٧٠م في زقاق اللقاني بوكالة الصنادقية بالسكة الجديدة، وبالقرب من جامع الأزهر وجامع الإمام الحسين، ومن زقاق المدق الذي استلهم منه نجيب محفوظ رائعته الروائية. أبوه خضر، وأمه فوز، وتنتسب إلى بيئة الصحراء. أستاذ طفولته أصوات المؤذنين في الجوامع، والتراتيل في الكنائس. وكان العصر عصر نهضة وتقدم في الموسيقى. عبده يطعم الموسيقى المصرية بالأنغام التركية، وعثمان يضيف إلى الموسيقى الموجودة بما يجعلها أكثر تطورًا وتعبيرًا عن روح العصر. وكما يقول إبراهيم، فقد كان لذلك كله تأثيره في الطفل داود حسني. ولمحت أمه نزوعه إلى حب الفن واستماعه إلى الأذان على المنابر والتواشيح والأدعية والابتهالات والأذكار. وكان يترك الحي الصاخب إلى صحراء الدرَّاسة، أو إلى الغيطان القريبة (لم تكن أبنية الأسمنت قد استولت على كل مساحة القاهرة!)، يحرك — والتعبير لإبراهيم — أنين السواقي شجونه، ويبعث فيه نَوح الحمام وتغريد الطيور النشوة والطرب، وينصت إلى الطبيعة الصماء فيسمع بعقله الباطن وإحساسه أنغامًا لا يدركها إلا الفنان. وحين أدخله أبوه مدرسة الفرير بالخرنفش، ذوى ميله للدرس والعلوم أمام هوايته للفن، وظهر نبوغه في حصة الأناشيد الدينية بالمدرسة. ثم أصبح رئيسًا لفرقة الأصوات، لكنه اضطر إلى هجر الدراسة لظروف اجتماعية، واشتغل صبي مجلد.
كانت تلك المهنة — كما قال — أنشودة الصبا؛ لأنه عمل في مكتبة سكر. وكان صاحبها الشيخ إسماعيل سكر ملحنًا للأذكار، فشجع داود حسني على المضي في هوايته الموسيقية. ودفع به — يومًا — إلى الإمام محمد عبده، الذي قال بعد أن استمع إليه: سيكون لهذا الصبي شأن في عالم الغناء، وإن شاء فبوسعه احتراف فن الموسيقى! (كنت قد تعاملت مع مطبعة «سكر»، ولم أكن أعرف أن صاحبها القديم هو الملحن الشيخ إسماعيل سكر، وأن الإمام محمد عبده كان يزور المطبعة الواقعة في أحد دروب الغورية). وكان لتلك الكلمات وقع السحر في نفس الصبي، فانصرف إلى الموسيقى والغناء، ووضع العديد من الألحان، استمع إلى بعضها محمد عثمان وهو على فراش المرض، فقال: اسمعوا بعدي داود حسني فهو خليفتي على عرش التلحين.
وصدقت نبوءة محمد عثمان، فقد حمل داود حسني لواء التلحين المتطور بعد عبده الحامولي ومحمد عثمان.
ويشير إبراهيم إلى أن جده لأبيه كان رجلًا عصاميًّا، جمع مالًا وفيرًا من صناعة الحلي من الذهب البندق عيار ٢٤، الذي تتزين به الريفيات أقراطًا وعقودًا. وكان ميالًا للموسيقى، ويجيد العزف على العود. مع ذلك، فإنه رفض أن يصبح موسيقيًّا؛ لأن الموسيقى كانت — حينذاك — سبة وعارًا. وحاول الرجل أن يمنع ابنه من الاتجاه إلى الفن، لكن داود الصغير أصر على أن يسير في طريق الفن إلى نهايته، فركب قاربًا شراعيًّا، استقر في مدينة المنصورة. والتقى هناك بأستاذه الأول المعلم محمد شعبان، وهو أستاذ عبده الحامولي. وأخذ داود إلى القاهرة ليدلي بدلوه في عالم الفن الذي أحبه. ولما علم أبوه بعودته، قرَّبه إليه، وترك له حرية اختيار الهواية التي يحبها، وأعطاه عوده هدية.
سمع محمد عثمان بالمغني الناشئ فقربه منه، ولقبه بسارق الألحان ذي الأذن الذهبية. وجعل منه ابنًا روحيًّا، وأعطاه فرقته الموسيقية لتعزف له في الحفلات المختلفة. ثم استمع إليه عبده الحامولي بعد أن توقف داود عن الغناء احترامًا للحامولي. وقال الحامولي: إن أخلاق هذا الفنان الناشئ وفنه يبشران بمجدٍ باسِمٍ لهذا الفنان الأصيل!
صار فن داود حسني — من بعد — باعتراف مؤرخه محمود كامل — امتدادًا لفن محمد عثمان. بدأ بتقليده في الهنك والرنك، وفي طريقة التلحين، وظل — لسنوات — يسير على النهج الذي رسمه محمد عثمان في تلحين الدور، ويقلده في أدائه. وكان يعمد إلى تغيير نبرات صوته حتى يجيء أداؤه أقرب ما يكون من صوت محمد عثمان (داود حسني، ١٢).
بدأ مطربًا، وكان يجيد تقليد كبار مطربي عصره: عبده الحامولي ومحمد عثمان وغيرهما. وحتى يمارس داود حسني مهنة التلحين، فقد تقدم إلى مشيخة الفن. ناقشه شيخ الطائفة وأعضاؤها في أصول الصنعة؛ النغمات والإيقاعات وطبقات الصوت، وكل ما يتصل بفن الموسيقى، وقلده شيخ الطائفة الحزام إيذانًا له باحتراف التلحين.
كان أول دور لحنه هو «الحق عندي لك يا اللي غرامك زايد». ثم قدم أدواره الأولى: عزيز حبك، حبك يا سلام، أنا الغرام وانت الجمال. وعزفت الموسيقى النحاسية تلك الألحان، وتهافت على أدائها المطربون والمطربات، فغنى له عبده الحامولي «سلمت روحك». كما ظهرت أدواره: أسير العشق، الحسن أنا عشقته، على عشق الجمال اعتاد فؤادي، يا طالع السعد افرح لي … إلخ.
أفلح داود حسني — في توالي ألحانه — أن يجاوز بالأغنية العربية نطاق التخت والتطريب، إلى تصوير معنى الكلمات واللحن، وإلى الإقدام على تلحين الأوبريت. كما أدخل على الموسيقى مقامات غير مطروقة، وأدخل أنغامًا لم يسبق إليها أحد. ووضع من نغمة العجم «الحب سلطانه قاسي». وكان أئمة الغناء في عهده يتحاشون الغناء بتلك النغمة.
ولما ظهر اختراع الفونوغراف لأول مرة في مصر سنة ١٩٠٦م، طلبت الشركات ألحان داود حسني. ولحن لشركة جرامفون التي احتكرت ألحانه لمدة عشر سنوات. وكان يأخذ في تلحين الدور عشرة جنيهات. ثم أنهى احتكار شركة جرامفون له، ورفع سعر التلحين للأسطوانة الواحدة إلى عشرين جنيهًا، وتعامل مع معظم الشركات الموجودة آنذاك. فلما امتد به العمر لحن للأجيال الطالعة من المطربين: عبد اللطيف البنا، زكي مراد، سيد الصفتي، محمد إدريس، توحيدة المغربية، زكية المغربية، اللواندية، بمبة العوادة، أسما الكمسارية، منيرة المهدية، فتحية أحمد، صالح عبد الحي. ثم احتضن — في مرحلة تالية — أصوات ليلى مراد — المطربة التي وعينا على حب صوتها — ونادرة ونجاة علي وفاطمة سري وأسمهان وعلية فوزي وبديعة مصابني وماري الجميلة وخيرية يوسف ومحمد عبد المطلب ومحمد أنور وعبد الله الخولي. وغنت له أم كلثوم أحلى أدواره مثل: روحي وروحك في امتزاج، يوم الهنا حبي صفالي، شرَّف حبيب القلب، اللي عرف معنى الأشواق، يا فؤادي إيه ينوبك في الغرام، جنة نعيمي في هواكي، كل ما يزداد رضا قلبك عليه … إلخ.
وفي أعوام ما قبل الحرب العالمية الأولى، قدم داود حسني ألحانًا خفيفة كان الناس يرددونها في البيوت والشوارع، وهي ما اصطلح على تسميتها بالطقاطيق مثل: قمر له ليالي، جننتيني يا بت يا بيضة، ليله في العمر ما فيش منها، أدي الخضرة وادي المية … إلخ.
ثم طور أغنياته وأدواره وقصائده ومونولوجاته وموشحاته، ووضع نغمات ومقامات جديدة على الموسيقى المصرية، حتى نسب إليه فضل إنشاء المدرسة الحديثة بين مطربي الشرق ومطرباته. وبلغ مجموع ما قدمه من ألحان أكثر من ٥٠٠ مقطوعة غنائية، كانت — كما وصفها إبراهيم — تعبيرًا متفوقًا عن البيئة المصرية، وعن خصوصية الموسيقى المصرية.
واتجه داود حسني إلى المسرح الغنائي في الفترة من ١٩١٩م إلى ١٩٢٠م، فألف لفرقة عكاشة أوبريت «صباح» فحققت نجاحًا كبيرًا، وتواصل عرضها أربعة أشهر، وامتازت ألحانها بالحركة، وخاصة في أناشيد الفلاحات ورقصات الفجر وأغنيات النور، وأيضًا أغنيات الطبيعة. ووصف سيد درويش لحن يا بنات النيل في الأوبريت بأنه أحسن لحن صوَّر الفلاحات. ثم قدم داود حسني أوبريت «معروف الإسكافي»، فوصفها رئيس أوركسترا باريس بأنها أفضل كثيرًا من الأوبريت الفرنسية المأخوذة منها. ثم قدم أوبريت «ناهد شاه» المأخوذة عن قصة خيالية. ولحن للريحاني: الليالي الملاح، أيام العز، الشاطر حسن، البرنسيس. أما منيرة المهدية فقد قدمت له: الغندورة، قمر الزمان، صاحبة الملايين. وقد نجحت أوبريت «الغندورة» إلى حد إقدام منيرة المهدية على إنتاجها. وتوج داود حسني جهوده في المسرح الغنائي بوضع أوبرا كاملة هي «شمشون ودليلة» التي ضمَّنها عصارة تجاربه وخبراته وموهبته. ثم قدم أوبرا «أيام كليوباترة» التي وضع كلماتها أستاذنا حسين فوزي. كما لحن داود حسني لأم كلثوم العديد من الأغنيات في مطالع حياتها الفنية: شرَّف حبيب القلب بعد الغياب … يا فؤادي إيه ينوبك … كل ما يزداد رضا قلبك عليَّه … حسن طبع اللي فاتني … قلبي عرف معنى الأشواق … روحي وروحك في امتزاج … البعد علمني السهر … جنة نعيمي في هواك … إلخ. ولحن داود حسني لصالح عبد الحي وليلى مراد ونجاة علي ونادرة وأسمهان.
وعلى الرغم من أستاذية داود حسني لسيد درويش في استلهام النغمات الشعبية، فإنه لم يتردد في استكمال تلحين أوبريت «هدى» التي بدأها سيد درويش، ومات قبل أن يكملها. كما وضع ألحان الفصل الثاني من أوبرا «سميراميس»، فتحققت في موسيقاها روعة الفن، فضلًا عن الأداء القوي لمنيرة المهدية.
وكان داود حسني أول من استخدم الفولكلور المصري في ألحانه. أذكِّرك بلحن «البدنجان أبو خل» الذي أداه شكوكو فيما بعد. وكما يروي داود حسني، فقد تعرَّف في حارة اليهود — حيث ولد ونشأ — إلى بائع باذنجان مخلل، كان ينادي على بضاعته بكلمات منغمة: البدنجان أبو خل! … والتقط الفنان اللحن، وطوره، وأضاف إليه! توظيف التراث بلغة هذه الأيام …
وفي مؤتمر الموسيقى العربية في ١٩۳٢م، واجه محمد عبد الوهاب اتهامًا من داود حسني بأنه يسطو على الموسيقى الغربية بما يسيء إلى موسيقانا الشرقية، ودافع عبد الوهاب عن نفسه بأنه يطعِّم الموسيقى العربية لتطعيم شبابها، ورفض داود حسني هذا الزعم، وقال: طالما بقي القرآن، بقيت الموسيقى العربية، الموسيقى العربية لا يمكن أن تفقد شبابها ما دام القرآن الكريم موجودًا في الصدور!
ومات داود حسني في ١٩۳٧.
•••
أختلف مع يوسف زيدان في أن إسرائيل تطرح ثقافتها — يصفها بأنها الثقافة الغربية المضفَّرة بعناصر من التراث اليهودي — كنسق مغلق على ذاته، كأيقونة، فلا يشتمل الطرح على أدنى حد من قبول التعامل مع ثقافتنا نحن (الأهرام ۱۸/١٩٩٥/٨م). إسرائيل تريد أن يكون لها ثقافتها، ولأنها بلا ثقافة أصيلة — فيما عدا بعض الدعاوى الأسطورية! — فإنها تريد أن تنتسب إلى الثقافة العربية، لا باعتبارها كذلك، وإنما باعتبارها ثقافة شرق أوسطية! إنها تحاول إيجاد جذور تراثية مزعومة في التربة العربية، تذيب ثقافة المنطقة لصالح خوائها الثقافي، تخترع هوية ثقافية بالسطو على ثقافة تختلف. — بالتأكيد — عن ثقافات متباينة بتباين الأقطار التي وفدت منها قوافل المستعمرين اليهود. لذلك قدموا للعالم فنون فلسطين والشام وسيناء باعتبارها فنونًا إسرائيلية؛ ولذلك تعلمت الراقصات الإسرائيليات الرقص الشرقي، وقهرني الغيظ وأنا أستمع إلى زعمهن بأنه رقص شرق أوسطي (دعك من عدم إعجاب البعض به)! ولذلك أيضًا نسبوا إلى إبداعهم فنانين بعضهم ولد ومات قبل أن تنشأ دولة إسرائيل، والمثل: داود حسني، الموسيقي المصري المولد والجنسية، واليهودي الديانة.
أدرجت دائرة المعارف الإسرائيلية اسم داود حسني، ضمن الفنانين الإسرائيليين، مع أن الرجل مات قبل أن تنشأ دولة إسرائيل، وقبل أن تزعم إسرائيل وجود حضارة لها، وما ينبثق منها من فنون وآداب وتاريخ وفلسفة … إلخ، وقد قرأت مقالًا لكاتب صهيوني في «معاريف» الإسرائيلية، يؤكد فيه أن إسرائيل شريكة في التراث الموسيقي العربي؛ لأن داود حسني يهودي، وقد هاجر بموسيقاه — من أين؟ — إلى مصر. نسي كاتب «معاريف» — الأدق أنه تناسى — أن داود حسني ولد في مصر، ومات في مصر، قبل أن يُقتطع من الوطن العربي ما سُمي بإسرائيل!
داود حسني موسيقار يهودي الديانة، لكنه ظل — إلى يوم وفاته — مصريًّا حتى أظافره. وطالما أعلن تباهيه بعروبته ومصريته. بل لقد أعلن — في أكثر من مناسبة — أن نبوغه الموسيقي يرجع إلى نشأته في حي الحسين الديني بوسط القاهرة، وكما روى لي إبراهيم داود حسني، فقد ألف كتابًا — لا أدري إن كان قد نُشر — يتضمن معالم من حياة أبيه، ويؤكد أنه كان مصريًّا لحمًا ودمًا، ردًّا على الدعاوى الإسرائيلية بأن الفنان الراحل كان إسرائيليًّا لا لشيء إلا لأنه كان يهودي الديانة. فضلًا عن أن داود حسني ولد ومات من قبل أن تنشأ دولة إسرائيل، ومن قبل أن تبدأ في لملمة ما تحاول نسبته إلى نفسها من حضارة هي — في الأصل — حضارة الشعب العربي الذي يحيا في هذه المنطقة منذ آلاف السنين.
•••
لأن الدول حضارات، والحضارة تعني الموروث من الثقافة، فقد حاولت إسرائيل — منذ إنشائها — أن تشكل حضارة ليست قائمة ولا متواصلة تاريخيًّا، فلجأت إلى الحضارة العربية تحاول أن تنسبها إلى نفسها: التاريخ والتراث الفني والإبداعي والأزياء، وغيرها من خصائص الشعب العربي في تلك المنطقة التي يحيا فيها منذ آلاف السنين … ذلك كله حاولت أن تدعيه لنفسها، وتقدمه للعالم باعتباره تراثها الخاص، وتعرف العالم على أزياء لبنانية، ورقصات سورية، وأغنيات مصرية … إلخ، أقدمت إسرائيل على تقديمها في أنحاء العالم باعتبارها تراثها الخاص … بل إن «يهوه»، أو «ياهو» في التراث الديني اليهودي، مأخوذة من القول «ياهو» على ألسنة العرب كلما تميزت بهم الأمور، والعرب تقول «هو الله» و«يا الله». واستغنى اليهود — بالضمير — عن اسم الجلالة، بحيث صار الاصطلاح «يا هو».
مشكلة إسرائيل — إذا تجاوزنا أنها هي نفسها مشكلة في الجسم العربي! — أنها بلا حضارة حقيقية تدعي نسبتها إليها، فهي تحاول من ثم أن تخلق لنفسها تلك الحضارة. نسبت إليها الكثير من آداب العرب وفنونهم، وتاريخهم أيضًا. وكما يقول عبد المنعم الحفني، فمن المؤكد أن العبرية لهجة عربية، لكنها لهجة لم يقيض لها الانتشار والتطور (عبد المنعم الحفني: موسوعة فلاسفة ومتصوفة اليهودية، مكتبة مدبولي ١٢). ادعى اليهود أن العبرية أصل العربية، مع أن المفردات في العبرية لا تزيد على الستة آلاف وكان العبرانيون المتحدثون بالعبرية مجرد قبائل من البدو الرحل، يسعون وراء الماء والكلأ. والقول إن العبرانيين هم القوم الذين عبروا الفرات أو الأردن، ادعاء تنقصه الحقيقة؛ فالنهران يعبرهما أعداد هائلة من البشر، ليسوا جميعًا من العبرانيين، فالعبرانيون تسمية تطلق على بعض قبائل الرحل (المصدر السابق، ١١). وكانت العبرية لغة محكية، ومرتبطة بالتراث الديني اليهودي. بل إن الكثير من الكتابات الدينية لأحبار اليهود وعلمائهم في مصر، كُتبت باللغة العربية. حتى شروح التوراة، والتعليق على التلمود، استخدم اليهود اللغة العربية. كما كتبت وثائق الجنيزة اليهودية بالعربية في حروف عبرية. حتى الأهرامات زعمت أن الإسرائيليين بنوها زمن الفراعنة. وقد طالت وقفتي أمام المعابد المصرية القديمة، المتطابقة لما تبشر به وتنذر الأديان السماوية: الموت والبعث والحساب والصراط والميزان والجنة والنار … ذلك كله ينتسب إلى العقلية الدينية المصرية القديمة. وتاريخيًّا، فإن المعابد اليهودية الحالية، والمذابح بداخلها، مأخوذة عن المعابد والمذابح الفرعونية. والفارق أن هيكل أورشليم كان يخلو من الأصنام، وإن نصب اليهود أصنامًا في فترات متقطعة من التاريخ، في معابدهم خارج معبد أورشليم، وأن الملابس الدينية اليهودية ونظام الكهنوت اليهودي يكاد أن يكون صورة متطابقة للملابس الكهنوتية ونظام الكهنوت الفرعوني. والمقارنة تمتد فتشمل أمورًا أخرى كثيرة في النظم الدينية والطقوس وطرق المعيشة والتشريع الثقافي اليهودي، يتوضح فيها جميعًا ما اقتبسته من المؤثرات المصرية.
بالإضافة إلى ذلك، فقد نسبت إسرائيل إلى نفسها كل التراث الفلسطيني: رقصة الدبكة، الأطعمة الشرقية الشهيرة مثل الفول والفلافل والتبولة والشاورمة وغيرها، وضمَّنوا لغتهم العبرية الكثير من مفردات اللغة العربية.
وإذا كان الكثير من الدراسات العربية قد عُني بأوجه التشابه، أو التماثل، في الموروث الشعبي بين الأقطار العربية، فإن الدراسات الصهيونية حاولت — بتعمد — إزالة الحدود تمامًا، وخلط الحابل بالنابل، بحيث يصبح التراث/الموروث العربي جزءًا من تراث إسرائيل، والعكس ليس صحيحًا! ويتحدث فرج العنتري عن المركز البحثي اليهودي في صحراء النقب، هدفه التقليب في تراث المنطقة العربية، وانتخاب ما يتواءم مع ما يريدون من تراث إسرائيلي!
إنهم يرجعون مظاهر الحياة العربية: القيم والعادات والتقاليد، إلى منابع يهودية.
•••
إن أهم ما تشتمل عليه خصائص أية دولة هو الذاكرة القومية، بداية من المعتقدات والعادات والتقاليد حتى سلوكيات الحياة اليومية. وقد حاول اليهود — منذ أقاموا دولتهم — أن يخترعوا الذاكرة القومية التي ترتبط بالوجود الصهيوني في أرض فلسطين. وكان الأسهل السطو على ما تزخر به المنطقة من التراث والموروث، فهم ينسبون كل ما في المنطقة إلى حضارة يريدونها، وإن لم تكن قائمة بالفعل، ولعله يمكن القول إن إسرائيل بها مدنية متقدمة، لكن الحضارة تظل أمنية مستحيلة!
المجتمع الإسرائيلي في أرض فلسطين بلا ذاكرة حقيقية. ذكرياته تعود إلى البلدان التي كان يعيش فيها غالبية اليهود الذين ارتحلوا إلى فلسطين. قبل ذلك لم تكن ذاكرة، أو أنها شاركت بعض الشعوب — التي كان اليهود بعض مواطنيها — ذاكرتها الجمعية. ثمة ذاكرة إنجليزية وفرنسية وروسية. أما الذاكرة القومية، أعني ذاكرة اليهود الذين استوطنوا فلسطين، فهي غائبة، أو شاحبة في أقل تقدير. فالتراث والموروث ينتميان إلى الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى الشعوب التي ظل اليهود مواطنين فيها، حتى أتاحت لهم القوى الاستعمارية إنشاء دولة إسرائيل.