صلاح أبو سيف
كان آخر رؤيتي لصلاح أبو سيف، وهو يعبر ميدان التوفيقية.
قلت مداعبًا: أحيا بالأمل أن تُخرج فيلمًا عن رواية لي.
قال وهو يسرع في خطواته ناحية شارع عرابي: أنا الآن مخرج معتزل … فلا تأمل سوى أن أقرأ لك.
وإذا كان صلاح أبو سيف قد أكد أن قرار اعتزاله السينما يعود إلى تقدم أعوام عمره، وهو ما تزامن — كما عرفنا فيما بعد — بتمكن السرطان من أجزاء في جسمه … فلعلِّي أتصور أنه لا تقدم العمر، ولا المرض، كان باعثًا حقيقيًّا لقرار أبو سيف بالاعتزال. فقد كان الرجل يمارس حياته بصورة كاملة، وشارك في كل المناسبات التي أقيمت لتكريمه في عيد ميلاده الثمانين، وابتسم لإشفاقي عليه وهو يتابع، إلى وقت متأخر من الليل، فقرات الاحتفال بتكريمه في أسيوط!
أراد صلاح أبو سيف أن يُخرج فيلمًا محوره العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة. فكرة قديمة ناوشته منذ بدايات عمله في الإخراج. ثم تصور أن مكانته، والرحلة التي قطعتها السينما المصرية، والتطور المذهل الذي أنجزته السينما العالمية، والوعي الذي تحقق للمتلقي من خلال وسائل الإعلام العالمية … ذلك كله، يتيح له إخراج الفيلم؛ الحلم القديم.
ونشطت أقلام تهاجم الفكرة، وتهاجم الرجل.
ومع أن أبو سيف لم يكن قد أعلن عن قصة الفيلم، ولا المشاهد التي سيتضمنها، فقد قيلت بذاءات، رافقتها آراء سخيفة وشتائم.
والمؤسف أن الرجل واجه عنتًا في توضيح موقفه. كان شرح العلاقة الجنسية الصحيحة هو الهدف، وليس الإثارة التي تستهدف الغرائز. وأسعدني — وقتئذٍ — تكليف الزميل والشاعر الشاب يسري حسان بأن يجري حوارًا مع أبو سيف عن الدلالات الفنية والاجتماعية التي يرجوها من إخراج الفيلم.
لكن الحملة تواصلت بغباء، دون أن تعي مكانة الرجل الذي تحاول النيل منه، وأننا إذا كنا نعتز برموزنا الثقافية والإبداعية من مثل طه حسين والحكيم ومحفوظ وإدريس وسيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم، فإن صلاح أبو سيف يقف في المقدمة بين هؤلاء، وأنه ثروة قومية حقيقية يجب الحفاظ عليها من محاولات العبث والتشويه!
وأعلن الرجل اعتزاله العمل السينمائي. أرجعه إلى ظروفه الصحية وتقدُّم عمره، وإن لم تنقطع أحاديثه عن الدلالات المفيدة والجميلة في الفيلم الذي عزف عن إخراجه، والتي ناوشته على مدى أكثر من أربعين عامًا!
•••
أصارحك بأن أفلام صلاح أبو سيف كانت هي الأقرب إلى نفسي؛ لعدة عوامل: أهمها المصرية الحقيقية التي تعبر عنها، وتنبض بها. أنت في أفلام أبو سيف تتنفس البيئة المصرية، تشاهد أشخاصًا تلتقي بهم في حياتك العادية … فضلًا عن أن واقعية أبو سيف ترفض البهلوانيات والشقلباظات والميلودراميات الفاقعة التي تدين السينما المصرية بفضلها لمخرجين أقدموا على الإساءة بما لا يبارى! إنها واقعية تحترم عقل المشاهد، وتحسن مخاطبته، ولا تبهره برقصات واستعراضات وأحداث مفتعلة وصرخات متشنجة ونحيب … ولعلِّي أسمح لنفسي بالمقارنة بين واقعية أبو سيف في القاهرة الجديدة — على سبيل المثال — وواقعية الأفلام المأخوذة عن روايات نجيب محفوظ — الثلاثية تحديدًا — لناظر مدرسة الروائع الشهير …
من ميزات صلاح أبو سيف الواضحة أنه لم يكتفِ بالمتاح. البديهي أن يكون السيناريو سابقًا لعملية الإخراج، لكن نظرة أبو سيف إلى صناعة السينما حرصت على البانورامية … فهو يجد في الفيلم السينمائي تعبيرًا عن مجموعة مواهب تتضافر في تقديم عمل فني متكامل. لذلك كان التفات أبو سيف إلى موهبة نجيب محفوظ في تقديم الصورة السينمائية، فعرض عليه أن يكتب السيناريو للسينما، وأفلح في أن يخرج محفوظ من صومعة الإبداع الروائي — لسنوات — قدم خلالها إلى السينما المصرية مجموعة من أجمل الأفلام، مثل: لك يوم يا ظالم، مغامرات عنتر وعبلة، الوحش، ريا وسكينة، المنتقم، درب المهابيل، شباب امرأة، الفتوة، هذا هو الحب، الطريق المسدود، أنا حرة، بين السماء والأرض، وغيرها … ولعلنا نلحظ أن اشتراك صلاح عز الدين في كتابة سيناريو فيلم «بداية ونهاية» كان هو إسهامه الوحيد في السينما المصرية، وقد جاء بمبادرة من صلاح أبو سيف!
•••
تتلمذت على صلاح أبو سيف في الدفعة الأولى لمعهد السيناريو. وكان المعهد وليد فكرة لأبو سيف؛ ثقة منه بأن السيناريو هو البعد الأهم في الفيلم السينمائي، وعلى حد تعبير نجمة السينما العالمية مارلين ديتريش، فإن كاتب السيناريو المتفوق يستطيع أن يضع سيناريو جيدًا من قصة تافهة، والمخرج المحدود الإمكانات يستطيع — إذا التزم بتعليمات كاتب السيناريو المتفوق — أن يقدم فيلما جيدًا، ولأن صلاح أبو سيف لم يكن مجرد مخرج سينمائي تشغله أفلامه، وإنما تشغله صناعة السينما ككل، فقد وجد في رئاسته لمؤسسة السينما، في أوائل الستينيات، فرصة لتحقيق الأسلوب العلمي في السينما، من خلال خريجين متخصصين في المجالات المختلفة، وفي مقدمتهم كتاب السيناريو … والتحقت مع عدد كبير من الأدباء والإعلاميين بالدفعة الأولى، نتتلمذ علي أبو سيف وصلاح عز الدين وعلي الزرقاني ومجموعة ممتازة من أساتذة فنون السينما.
وأزعم أني أفدت من آراء صلاح أبو سيف في الفارق بين الرواية المكتوبة والسيناريو السينمائي، بأكثر مما أفدت من كتب النقد الأدبي والسينمائي. أتذكر موافقته لي بأن القصة تكتب نفسها، لا يشغلني قبل كتابتها إلا البداية، ثم أترك الأحداث والشخصيات تتخلق أثناء كتابة العمل، حتى تتكامل ملامحه في النهاية … لكنه كان يرى السيناريو السينمائي في المقابل من ذلك، فهو يعتمد على المشاهد البصرية التي يتداخل فيها الفلاش باك والتقطيع والضوء والظلال وغيرها من مقومات العمل السينمائي، بما يفرض الوعي بكل ما يكتبه كاتب السيناريو. المخرج لا بد أن يعرف من السيناريو أن المشهد رقم ٦١ — مثلًا — يتطلع فيه البطل بجانب وجهه إلى البناية التي يهم بدخولها …
•••
وحين فاز أستاذنا نجيب محفوظ بجائزة نوبل، تحامل أبو سيف على مشاغله، وظروفه الصحية، وشارك في المؤتمرات والمهرجانات التي أقيمت احتفالًا بنوبل محفوظ.
وأذكر أني التقيت به في قرية الدوميين بمحافظة الشرقية. كنا مجموعة من الأدباء والفنانين والإعلاميين، دعتهم الزميلة الناقدة السينمائية خيرية البشلاوي إلى قريتها. اقتنع العمدة — ربما بتأثير كلمات خيرية البشلاوي، التي أعتبرها مثلًا للمثقف الموسوعي الثقافة — فأقام سرادقًا في داير الناحية، دعانا إليه، مع مواهب جميلة من أبناء القرية.
وتحدث أبو سيف عن محفوظ: قراءاته للروايات التي وظفت التراث الفرعوني (وكان أبو سيف متابعًا جيدًا لكل الإبداعات التي يصادفها في المكتبات، أو عند باعة الصحف، بصرف النظر عن معرفته بمؤلفيها، أو العكس) ووجد في الروايات الثلاث لغة سينمائية مؤكدة، وهي اللغة التي تتعامل بالصورة كمفردة أساسية. واعترف أبو سيف أنه بذل جهدًا حتى اقتنع محفوظ بأن يحاول كتابة السيناريو السينمائي.
كان محفوظ قد وجد في الرواية مجال إبداعه الحقيقي (أذكرك بِحَيْرة كمال عبد الجواد بين الفلسفة والفن!) واقتنع محفوظ بالضفاف المشتركة للرواية الكتاب، والرواية الفيلم … ووجد في أبو سيف عونًا له على الخطوات الأولى. وأضيف أن نجيب محفوظ قد أسهم بما يصعب إغفاله في أهم الأفلام التي قدمها أبو سيف!
•••
لقد أصدرت — ذات يوم — كتابًا بعنوان «مصر في قصص كتابها المعاصرين»، ناقشت فيه صورة مصر في الأعمال الروائية والقصصية، وكانت روايات نجيب محفوظ شرايين هذا الكتاب … وأمنيتي أن يكتب باحث شاب عن صورة مصر في الأفلام السينمائية.
أتصور أنه سيجد في أفلام صلاح أبو سيف شرايين الدراسة المأمولة!