عبد الحليم حافظ

مأساة شاب مصري

بعد أن أنهيت كتابي «مصر في قصص كتابها المعاصرين»، الذي كان نشدانًا لصورة المجتمع المصري في الإبداعات الروائية والقصصية. تمنيت أن يسعفني الوقت، فأكتب عن صورة المجتمع المصري في الأغنية. بدت لي الأغنية — في رحلة التعرف إلى التاريخ المصري، في عصوره المختلفة — تلك الرحلة التي أتاحها لي كتاب «مصر …» — أكثر صدقًا في التعبير عن ملامح المجتمع المصري، وإبراز المناخ السائد في كل عصر، وتطورات الحياة اليومية، ونوعية العلاقات، وطبيعة المشكلات والهموم، وتطلعات الجماعة والأفراد.

ومع تلاحق الرسائل الجامعية، واتساع قاعدة الباحثين الجادين بصورة عامة، فإني أرجو أن تجد «صورة المجتمع المصري في الأغنية» سبيلًا للمناقشة في دراسات علمية، تنفسح أمامها — وتنفسح بالتالي أمامنا — بانوراما الحياة المصرية بكل أبعادها وملامحها وقسماتها وزواياها الواضحة والمهملة، من خلال المعطيات الغنائية، سواء على مستوى الأغنية المجهولة المصدر — والتي اصطلح على تسميتها بالشعبية — أو الأغنية الفردية والجماعية التي تنتمي — بالبنوة — إلى مؤلف وملحن ومؤدٍّ.١

والحق أني ترددت كثيرًا في كتابة هذه السطور. ففيما عدا القلة من الأسماء الجادة: كمال النجمي وفؤاد زكريا ورتيبة الحفني وسمحة الخولي وأحمد الجندي ومدحت عاصم وجلال فؤاد وفرج العنتري ومحمود كامل. وغيرهم، فإن الكتابة في فن الغناء تتجه إلى السلبية عمومًا، تشغلها الإثارة أضعاف ما تشغلها الموضوعية والمناقشة الجادة. روى لي زميل صحفي، أن ناشرًا كلفه — عقب وفاة عبد الحليم حافظ — أن يؤلف كتابًا عن المطرب الراحل. وبدأ الصحفي في إعداد مراجعه، فسأل الناشر في دهشة: هل تريد تكرار ما كتبه الآخرون؟ … وروى له قصة، اعترف — ضاحكًا — أنها غير صحيحة، عن غرام بين المطرب الراحل وفتاة مغربية، فماذا تفعل الفتاة المسكينة الآن؟ وأفاض الصحفي في رواية القصة الوهمية — وأشهد أن له قلمًا بارعًا — وتناقلتها عنه أقلام وأفواه، وتحولت الأكذوبة — بقدرة ناشر وصحفي — إلى حقيقة!

لكن الفكرة ما لبثت أن فرضت نفسها في إلحاح غريب، تسبقها، وتحيط بها، بواعث كتابتها. بدا لي أن ابتعاد الدراسة العلمية عن تناول حياة عبد الحليم حافظ، خطأ ينبغي تداركه، لا يذويه آلاف الورقات التي روت علاقات عاطفية تنتسب إلى خيالات أصحابها، بأكثر مما تنتمي إلى الواقع — لم تكن الفتاة المغربية حب التصور الوحيد في حياة عبد الحليم — أو عانقت الوهم في نوادر وأعاجيب تغيب معها إنسانية الإنسان، أو قصرت همها على جوانب الإثارة الصحفية في إطلاقها.

•••

وابتداء، فإن الحديث عن «المطرب» عبد الحليم حافظ ليس — وحده — هدف هذه الكلمات. ذلك ما تحدثت عنه — ولا تزال — عشرات الكتب وآلاف المقالات، فضلًا عن برامج الإذاعة والتليفزيون وغيرها. ما يشغل هذه الكلمات هو التحدث عن عبد الحليم شبانة، شاب مصري، ولد ونشأ في قرية مصرية، عانى من المشكلات ذاتها التي عاناها — ويعانيها — الملايين من أبناء مصر. بل إن حياة عبد الحليم شبانة، بدءًا بالميلاد وانتهاء بالموت، ربما تمثل أقصى — بالصاد — الظروف في معاناته للضياع والفشل والنجاح في آن. الصورة البانورامية لحياة عبد الحليم تجسيد لما كان يحلم به، ويأمله، ويعانيه، الملايين من أبناء ذلك الجيل الذي شهدت طفولته أحداث الحرب العالمية الثانية، وتزامن شبابه مع قيام ثورة ٢٣ يوليو، وما أبانت عنه شيئًا فشيئًا، وبإسهامات الشباب أنفسهم، من تغيرات عميقة في هيكلية المجتمع المصري، وفي صورته الظاهرة أيضًا. وفي المقابل — وربما في خط متواز — فإن فن عبد الحليم حافظ جزء يصعب إسقاطه من تاريخ مصر، حتى بالنسبة للذين قد يترددون في أن يسودوا الصفحات بتناول حياة مطرب. أتذكر قول أستاذنا نجيب محفوظ: «لأني روائي، فقد تصورت عبد الحليم بطلًا لأكثر من رواية بدا لي أكبر من كونه حالة فريدة من نوعها، وأعظم من اعتباره ظاهرة متفردة. فالقلق دائمًا يعذبه. همومه كثيرة ومتعددة، والحيرة الشديدة تبدو واضحة عليه، دون أسباب بينة لمن حوله.»٢

كان عبد الحليم حافظ ظاهرة قومية، لها أبعادها النفسية والاجتماعية والسياسية. واستطاع — بأغنياته — أن يشكل وجدان جيلين. بل إن هذا الدور ما زال قائمًا إلى الآن.

•••

ولعله يجدر بي — في البداية — أن أطمئنك أن ثقافتي الموسيقية لا تزيد — وربما تقل — عن ثقافة الكثيرين من الذين تعد الموسيقى، وما اتصل بها، بعض اهتماماتهم، بصرف النظر عن تميز موضعها في تلك الاهتمامات. نحن نستمع إلى المقطوعة الموسيقية، أو الأغنية، في البيت أو السيارة، وربما دندنت أفواهنا — عفوًا — بمقطع من لحن أو أغنية، وقد نلم ببعض المعلومات عن أعمال هذا الفنان أو ذاك، أو يكون لنا رأي في الموسيقى الأقرب إلى أذواق الناس، والمطرب الأقرب إلى آذانهم … لكن الموسيقى — والغناء بالتالي — فن يصعب إدراكه إلا بالتخصص. ومع ذلك، فإن مجرد محاولة السير في طريق ما، تكفي لتبين بعض ملامحها. فإذا تزامنت هذه المحاولة مع محاولات مرادفة، للتأمل والنقاش والسؤال، فإن النتيجة لن تكون إيجابية إطلاقًا، لكنها — كذلك — لن تكون سلبية بأي حال. ولعلِّي أضيف: أن توخي الموضوعية في محاولة التأمل والسؤال والنقاش والفهم والتفهم، لا بد أن تفضي إلى أجوبة سداها العلمية؛ لأن أصحابها — وذلك ما سنحرص عليه — هم أولئك الذين أتيح لهم إدراك التخصص الموسيقي.

ولنبدأ من البداية.٣

الغناء في حياتنا

يعد التعبير الجمالي خاصية إنسانية أساسية، وإن اختلفت وسائل ذلك التعبير من مجتمع لآخر، وأشكاله، انطلاقًا من بدهية أن ثقافة أي مجتمع هي التي تفرز معطياته. وما من شك أن الموسيقى — والفن عمومًا — وسيلة أولى في تعبير المجتمع — أي مجتمع — عن إحساسه بالجمال، حتى إن بعض العلماء يعتبرون الفن أحد العموميات UNIVERSALS في الثقافة الإنسانية ككل.٤ ويذهب المصلح الديني جون هوس John Hus إلى أن الغناء مثل الصلاة، يرتقي بالغناء صوب الإله. وإذا كانت الموسيقى قد ارتبطت — منذ فجر الحياة الإنسانية، وربما إلى الآن — بالمعتقدات الدينية، والممارسات السحرية (استخدامها في الترانيم الدينية على سبيل المثال) فإن الموسيقى — والتعبيرات الجمالية بعامة — لم تعد تلح — في زماننا الحالي — على الصلة بالدين، أو هي قد اتخذت طابعًا دنيويًّا لا يرتبط بالدين بصورة قاطعة، أو يبتعد عنه في أقل تقدير. وقد أفلح علماء الأنثربولوجيا في وضع أيديهم على الفترات التي ظهر فيها العديد من الفنون التشكيلية، لكن بداية التاريخ الموسيقي ظلت لغزًا يرفض التحديد، أو حتى مجرد التخمين، ومع ذلك، فإن الكثيرين من علماء الثقافة والأنثروبولوجيا يشيرون دائمًا في كتاباتهم إلى صورة شهيرة في أحد الكهوف من الفترة المجدلينية، تمثل ساحرًا — أو ربما كائنًا إعجازيًّا — وهو يؤدي بعض الرقصات، ويتخذون من ذلك دليلًا على وجود الموسيقى في تلك الفترة، باعتبار أن الرقص يصاحبه — في الأغلب — الإيقاع الموسيقي بشكل ما. ومهما تكن دلالة هذا الرسم، فالملاحظ أن كل الشعوب المعاصرة التي توصف بأنها شعوب بدائية، تعرف الموسيقى والرقص؛ مما يدفع الكثيرين من الأنثروبولوجيين إلى القول إنه من المحتمل — على هذا الأساس — أن تكون الموسيقى قد عُرفت — في الأقل — في العصور الحجرية القديمة، إن لم تكن عُرفت منذ بداية ظهور الثقافة الإنسانية ذاتها، قبل ذلك بقرون طويلة.٥ وقد أمكن إيقاف نزيف «أوديوس» — بطل الأسطورة الإغريقية — بواسطة الغناء؛ لأن ما تضمه الموسيقى من قدرات سحرية يشفي أخطر الأمراض. واعتبر أفلاطون الموسيقى محركًا رئيسيًّا ساميًا للبشر، وأنها هي الصدق والحقيقة الكائنة منذ بدء الخليقة. ومن خلال الموسيقى عرف العالم النظام، وتحقق له التوازن. وقال أفلاطون: «لا ينبغي أن تُمنع النفس من معاشقة بعضها بعضًا. ألا ترى أن أهل الصناعات كلها، إذا خافوا الملالة والفتور على أبدانهم، ترنموا بالألحان، فاستراحت لها أنفسهم. وليس من أحد كائنًا من كان إلا وهو يطرب من صوت نفسه، ويعجبه طنين رأسه، ولو لم يكن من فضل الصوت إلا أنه ليس في الأرض لذة تُكتسب من مأكل أو ملبس أو مشرب أو نكاح أو صيد، إلا وفيها معاناة على البدن، وتعب على الجوارح؛ ما خلا السماع؛ فإنه لا معاناة فيه على البدن، ولا تعب على الجوارح.»٦
أرفض قول سترافنسكي إن الموسيقى ليس لديها القوة للتعبير عن أي شيء على الإطلاق. الموسيقى — في مقولة لكونفوشيوس — أداة فعالة لتحقيق الانسجام في الحياة. وهي — في تعبير هيجل — أكثر الفنون ارتباطًا بالنفس البشرية؛ لأنها داخلة ومتحدة بالنفس، وليست خارجة عنها كباقي الفنون، وعندما تنجح الموسيقى في التعبير عن تلك المشاعر الروحية والأحاسيس السامية بوسائل حسية، هي الأصوات والأنغام وصورها المتعددة. عند ذلك فقط تحتل الموسيقى مكانتها كفن حقيقي، بغض النظر عما إذا كان محتواها قد عبر عنه بطريقة مستقلة ومباشرة من خلال الألفاظ، أو إذا كان قد تحقق انفعاليًّا عن طريق موسيقى الأنغام نفسها، وارتباطاتها الهارمونية، وآثاراتها النغمية.٧ وهي — الموسيقى — في تعريف جوتة: واسطة في كل ما لا يستطيع الإنسان أن ينطق به. وثمة دعوات — ربما منذ كاندنسكي — لمزج الفن التشكيلي والموسيقى والإبداع الأدبي في بوتقة واحدة. وقد قرن العقاد الموسيقى بالفلسفة في أن «كلتيهما تترجم للإنسان عن وحي البداهة ولغة الحيلة في ضمائرها العميقة، فلا يعلم الإنسان لحقائق الفلسفة العالية برهانًا أوثق من إقناع البديهة، ولا يعرف للطرب الذي تنير به الموسيقى سرائر حياته تعليلًا عبر ذلك الإحساس البديهي.»٨ وزاد بيتهوفن: «فقدر الموسيقى أعلى من كل فلسفة، وأعمق من كل حكمة» والذي تنفتح له موسيقاي يتحرر من كل المحن التي تثقل كواهل الآخرين». وبدون الموسيقى — القول لنيتشة — تصبح الحياة مجرد غلطة. ولعلِّي أذكِّرك بالأبحاث التي يطالعنا بها العلماء، يؤكدون فيها أن العديد من الأمراض النفسية — والعضوية أيضًا — تعالج الآن بالموسيقى في غالبية المستشفيات الأوروبية. وفي متحف اللوفر بالعاصمة الفرنسية، يوجد تمثال إغريقي يمثل أربع نساء يقمن بعجن الخبز، بينما وقفت إلى جوارهن امرأة خامسة، تعزف على الناي، حثًّا على مواصلة العمل.٩ وأكد وليم جرين رئيس اتحاد العمال الأسبق في الولايات المتحدة الأمريكية أهمية الموسيقى للعامل، ووصفها بأنها «صديقة العامل»؛ لأنها — أولًا — تهدئ أعصابه، فتخفف عليه عبء العمل، وثانيًا: تبعث في نفسه السرور والمرح، وثالثًا: تبعد عنه الشعور بالملل. وقدم جرين آراء العمال في ميادين عمل مختلفة، أجمعوا على زيادة معدلات الإنتاج وقلة معدلات التعب «إذا صاحبت عملهم موسيقى هادئة.»١٠ وثمة حلم بأن تكون الموسيقى — مستقبلًا — ضمن الدواء في روشتة الطبيب، بل أن تكون هي العلاج الأساسي في تلك الروشتة، فينأى الإنسان عن العقاقير والسموم الصناعية، توصلًا إلى سلامته العضوية والنفسية. بل إن الموسيقى ضرورية، لا للتعليم فحسب، وإنما لتكوين دولة قوية سليمة.١١
ويرى علماء الأنثروبولوجيا أن الموسيقى مرت — في بواكير نشأتها — بمرحلتين:
  • مرحلة غناء وتنغيم لصوت الإنسان، وتعبر عنها موسيقى العصر الباليوليثية التي استغرقت أزمانًا طويلة.

  • مرحلة التعبير الموسيقي باستخدام الآلات.

ومن هنا، يأتي رأي كارل بيشر Karl Busher بأن الغناء بدأ لمصاحبة العمل الجماعي الرتيب، كوسيلة للحث والتشجيع على المواصلة والاستمرار.١٢ وفي العصور الوسطى، قسمت الفنون إلى مجموعتين: كل مجموعة تتألف من ثلاثة فنون: الأولى هي الفنون الموسيقية، وتشمل الموسيقى والشعر والرقص، والثانية تشمل المعمار والرسم والنحت. ثم أضيفت السينما — بعد ظهورها — فنًّا سابعًا.

وكان الشاعر المنشد اليوناني، موسيقيًّا في الوقت نفسه. وكانت قصائد هوميروس، وأناشيد بندار، تنشد دائمًا مع الموسيقى. بل كان الشاعر والموسيقي في اليونان شخصًا واحدًا.

•••

ثمة رأي بأن الموسيقى — بدون كلمات — لغة مبهمة، لا يفهمها إلا المؤلف نفسه. وبتعبير آخر، فإن الموسيقى تصبح أكثر تعبيرًا بسبب الكلمات١٣ لأن «الغناء أقدم في حياة الإنسان، وأصل من موسيقى الآلات.»١٤ وكما يقول أفلاطون، فإن الشعر والموسيقى زوج إلهي من الأصوات الساحرة.
والملاحظ أن أصول الغناء وقواعده قد ارتبطت — منذ البداية — بالشعر العربي، فضلًا عن الكلمة العربية المفردة. فالتفعيلة هي إيقاع مفرد، قائم على سلم الغناء العربي، أو الموسيقى العربية، واشتقاق المفردات العربية يرتكز إلى التوازن الصوتي في السلم الموسيقي. والآن، فإن معنى الموسيقى في الوجدان العربي يكاد يقتصر على الغناء، ومناقشة قضايا الموسيقى العربية، في الصحف والكتب، تعني — بالضرورة — مناقشة أوضاع الأغنية العربية. لذلك فإن الموسيقى تظل عاجزة عن أن تقف وحدها، بوصفها فنًّا مستقلًّا قادرًا على أن يوصل رسالته إلى المستمعين، فلا تصل هذه الرسالة إلا بواسطة ارتباطها بالكلمات الشعرية أو الغنائية، أو بإسهامها في تجسيد دلالات الحركات الراقصة.١٥ ولا شك أن الأدب عامة، والشعر خاصة، ثم الفنون عمومًا، والغناء تحديدًا، أشد تأثيرًا في الوجدان الجمعي من ألوان الأدب والفن الأخرى. وللشعر تأثير في النفس أشد من تأثير النثر، وللغناء فعل في النفس أشد من الشعر نفسه؛ لأن المستمعين إلى الغناء، والمتأثرين به، هم في العادة أكثر عددًا من الذين يقرءون الشعر ويفهمونه.١٦

•••

وللأسف، فإن بعض ذوي الاتجاهات الدينية المتطرفة، ما زالوا يرون في الموسيقى ضربًا من ضروب الكفر والزندقة، وأن كل من يغني أو يعزف على آلة موسيقية، ينتسب إلى الملاحدة؛ ذلك لأن الإنسان — في تقديرهم — عندما يطرب للموسيقى، إنما يتخلى عن إيمانه الكلي بربه. وبتعبير أشد تحديدًا، فإن الموسيقى تجر سامعها إلى الشهوات؛ لأنها من صنع الشيطان.١٧
والحق أنه ما من نص ديني يحرم على المسلم سماع الموسيقى، أو عزفها. قال الله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. وقال بعض المفسرين في معنى قول الله: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ، هو الصوت الحسن. وقال أعرابي: يا رسول الله، هل في الجنة من سماع؟ فقال : «نعم يا أعرابي، إن في الجنة لنهرًا، على حافتيه الأبكار من كل هيفاء وخمصانة، فيغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط، فذلك هو أفضل نعيم أهل الجنة.» وفي الخبر: «إن في الجنة أشجارًا عليها أجراس من فضة، فإذا أراد أهل الجنة السماع، بعث الله تعالى ريحًا من تحت العرش، فتقع في تلك الأشجار، فتتحرك الأجراس التي عليها، بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربًا.»١٨ وعن أبي هريرة: «لأهل الجنة سماع من شجرة، أصلها من ذهب، وثمرها اللؤلؤ والزبرجد، يبعث الله ريحًا، فتحرك بعضها بصوت ما سمع أحد صوتًا أحسن منه.»١٩ وعن أبي موسى الأشعري، عن الرسول : «من استمع إلى صوت غناء، لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين. قيل: ومن الروحانيون يا رسول الله؟ … قال: قراء أهل الجنة.» وكان أول من ضرب بالدف — عند ظهور الإسلام بالمدينة المنورة — فتيات من بني النجار، استقبلن رسول الله عند هجرته إليها في مكة، وهن يضربن الدف، وينشدن مرتجزات.
نحن جوارٍ من بني النجار … يا حبذا محمد من جار.٢٠
ويقول حجة الإسلام الإمام الغزالي: «من لم يحركه الربيع وأنواره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج، ليس له علاج». ويؤكد: «أن السماع في أوقات السرور، تأكيدًا للسرور وتهييجًا له، مباح … إن كان ذلك السرور مباحًا كالغناء في أيام العيد، وفي العرس، وفي ليلة الوليمة … إلخ. ووجه جوازه أن من الألحان ما يثير الفرح والسرور والطرب، فكل ما جاز السرور به، جاز السرور فيه». ويقول إخوان الصفاء: «إن لصناعة الموسيقى تأثيرات في نفوس السامعين مختلفة، فمن أجل ذلك يستعملها كل الأمم من بني آدم، وكثير من الحيوانات أيضًا. ومن الدليل على أن لها تأثيرات في النفوس، استعمال الناس لها، تارة عند الفرح والسرور، في الأعراس والولائم والدعوات، وتارة عند الحزن والغم والمصائب، وفي المآتم، وتارة في الأعياد، وتارة في الأسواق والمنازل، وفي الأسفار، وفي الحضر، وعند الراحة والتعب، وفي مجالس الملوك ومنازل السوقة، ويستعملها الرجال والنساء، والصبيان والمشايخ، والعلماء والجهال، والصناع والتجار، وجميع طبقات الناس …»٢١ وإلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، كان المغنون يتوارثون أداء الغناء العربي الشائع، مثل الحداء والنصب والسناد.

ثم تبدَّى تأثير الفتوحات الإسلامية التي جرت في عهد الخليفة الثالث — عثمان بن عفان — فقد تلاقت الحضارات والمدنيات العربية والمصرية والفارسية، وتفاعلت، وأفرزت معطيات جديدة، جاءت تعبيرًا فعليًّا عن ذلك الامتزاج بين الحضارات والمدنيات. أحدثت الفتوحات الإسلامية تأثيرًا كيفيًّا آخر، تمثل في تغير النظرة إلى محترفي الغناء، وتحققت انتصارات مؤكدة، وبدأت الحضارة الإسلامية العربية، تنبئ عن ملامحها في أقطار كان لها حضاراتها ومدنياتها، التي تختلف — بصورة مؤكدة — عن حضارة ومدنية جزيرة العرب. وبعد أن كانت المعارضة الشديدة للغناء هي موقف طبقة الحكام والأشراف، منذ العصر الجاهلي، بحيث كان فن الغناء مقصورًا على القيان والموالي، فإن الغناء صاحب استقبال أهل المدينة للرسول في دخوله إلى مدينتهم قادمًا من مكة. وقد شارك في أول غناء في حضرة الرسول، نساء المدينة المنورة ورجالها وأطفالها. ولم يكن — كما كان الحال قبلًا — مقصورًا على الموالي والقيان. ثم أبطل الإسلام كل غناء فيه جاهلية، وأذن الرسول — في الوقت نفسه — بالغناء إذا كان بريئًا، ولغير غرض. مر بجارية تغني: هل عليَّ — ويْحَكم — إن لهوت من حرج؟

فقال: لا حرج إن شاء الله.

وقد انتهر أبو بكر ابنته عائشة، لما شاهد جاريتين تغنيان في بيت الرسول، فقال الرسول: يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا.

ويروى أن النبي شاهد رقص الأحباش وغناءهم، وكانت ترافقه السيدة عائشة، فلما امتنعوا عن الغناء والرقص توقيرًا لمقدمه، قال الرسول: «جدوا يا بني أرفدة، حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة.»

ويروي جابر بن عبد الله الأنصاري، عن السيدة عائشة، أن فتاة من الأنصار قريبة لها قد زوجت، فسأل النبي: أهديتم الفتاة؟ … قالت عائشة: نعم. قال: أرسلتم لها من يغني؟ قالت: لا. قال الرسول: الأنصار فيهم غزل … لو أرسلتم من يقول:

أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم
ولولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمرا لم تسمن عذاريكم٢٢
وفي عصور إسلامية تالية، أذن الأمراء والأشراف للمغنين بالتردد على قصورهم وبيوتهم. وتعالت الألحان والأصوات المطربة من جنبات تلك القصور والبيوت. وأعلن بعض الخلفاء — في بساطة — حبه للغناء. ويروي يحيى بن عبد الرحمن، أن المغني رواح بن المعترف، غنى للناس في الحج الأكبر. وكان فيهم الخليفة عمر، فاستحسن — الخليفة — غناءه. ومر عمر برجل يتغنى، فقال: إن الغناء زاد المسافر.٢٣ ورغم ما اشتهر به عمر من حرص على الجدية، في تصرفاته العامة والخاصة، فإنه قد قال — يومًا — لأبي عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف: دعوا أبا عبد الله، فليغنِّ، من بنيَّات فؤاده. وغنى أبو عبد الله فعلًا إلى موعد السحر، فنهضوا للذكر والصلاة.
وقد كتب في الموسيقى — والغناء أيضًا — العديد من علماء ومؤرخي العرب، أمثال ابن سينا والرازي والخوارزمي والكندي والفارابي والمسعودي والموصلي وابن الهيثم والأصفهاني والفراهيدي. ولعل كتاب الأغاني — تحديدًا — هو الأول من نوعه في ذلك المجال، ليس على مستوى الثقافة العربية وحدها، وإنما على مستوى الثقافة العالمية عمومًا: «هذا كتاب ألفه علي بن الحسين بن محمد القرشي، الكاتب المعروف بالأصبهاني — الأصفهاني — وجمع فيه ما حصره، وأمكنه جمعه، من الأغاني العربية، قديمها وحديثها، ونسب كل ما ذكره منها إلى قائل شعره، وصانع لحنه، وطريقته من إيقاعه.» وقدم الأصفهاني في كتابه ما يقرب من الأربعمائة شاعر، والمائة صوت غنائي. والقارئ لكتاب الأغاني يحس «أنه لم يكن للناس حينئذٍ — العصر العباسي — شغل بشيء سوى الغناء، حتى ليصبح هواية بعض الخلفاء وأبنائهم وبعض الولاة والقواد، فإذا هم يسهمون في صنع أدواره وأصواته، على نحو ما هو معروف، عن الخليفة الواثق وإبراهيم بن المهدي وأخته علية وعبد الله بن طاهر وابن دلف.»٢٤ ويروى عن الرشيد قوله: الشعر والغناء خير دواء. وفي كتابه «تأثير الموسيقى في الإنسان والحيوان» دلل ابن الهيثم على تأثير الموسيقى في شفاء الأمراض النفسية — والعضوية أحيانًا — وهو تأثير يمتد إلى الحيوان، فيشفيه كذلك من أمراض نفسية وعضوية. وكان ابن سينا يجمع بين الموسيقى والعقاقير. ويقول: «إن أحسن العلاجات وأنجعها، هي العلاقات التي تقوم على تقوية قوى المريض النفسانية والروحية، وتشجيعه ليحسن مكافحة المرض، وتحميله محيطه، وإسماعه بما عذب من الموسيقى، وجمعه بالناس الذين يحبهم.»٢٥

•••

أكد علم الآثار — في حفرياته القديمة — أن بدايات الموسيقى العربية ترجع إلى قدامى المصريين، الذين حققوا تقدمًا موسيقيًّا متكاملًا، سواء في الآلات الإيقاعية، أو في آلات النفخ، أو الآلات الوترية. سبقت الموسيقى الفرعونية حضارة الفراعنة نفسها. وكما قال مؤرخ إغريقي، فإن «صوت الموسيقى في مصر، سُمع قبل ظهور أول شعاع من فجر الحضارة الفرعونية.» وكانت الموسيقى — في مصر الفرعونية — بعدًا رئيسًا في احتفالات المصريين الدينية. وكانت تصاحب الأحداث الرئيسية في حياة الإنسان: الميلاد والوفاة والرقص للآلهة، فضلًا عن التمثيل والغناء. ولا يخلو من دلالة، استخدام المصريين — إلى عهد قريب — للموسيقى الجنائزية في تشييع موتاهم. الموسيقى حتى في الموت. وفطن المصري القديم إلى أهمية الموسيقى والغناء في المثابرة على العمل وزيادة الإنتاج، فكانت تلك الأغنيات التي ما زال المصري الحالي يؤدي مقاطع منها حتى الآن، مثل التنغيم الأشهر الذي يؤديه الفواعلية: هيلا ليصه! … ونتذكر قول أرنست فيشر: «إن عملية العمل الجماعية تتطلب إيقاعًا يوجد التناسق في العمل. ويقوي من أثر الإيقاع ترديد قرار لفظي موحد.»٢٦ وكان الطبيب المصري «أمحتب» أول من استخدم الموسيقى في العلاج. كما أنشأ أول معهد طبي في التاريخ للعلاج بالذبذبات الموسيقية. وكما يقول أفلاطون، فإن التقاليد المرتبطة بالموسيقى — في مصر القديمة — كانت من الأصالة بحيث وضعت على اعتبار أنها من صنع الآلهة. ويروى أن كهنة معبد أبيدوس، الذي كان أكبر مركز للطب عند قدماء المصريين، كانوا يعالجون الأمراض بالترتيل المنغم، ارتكازًا إلى أن الموسيقى تقرب المرضى من الآلهة، وتحقق رضاء الآلهة على المرضى، فتشفي الأمراض بالتالي.

وإذا كان الحداء هو أصل الغناء في الجزيرة العربية، فإن الجمل المنغمة، الحاضة على العمل، هي أصل الغناء في مصر القديمة. الغناء مرادف للعمل في حياة شعبنا … تلك هي الصورة النمطية منذ استوطن المصري واديه. فالفلاح يرفع الماء بالشادوف وهو يغني، والحمَّال يعِين نفسه على رفع الأثقال بالغناء، والفواعلية وعمال البناء يرددون الأغنيات التي يعود بعض مفرداتها إلى أيام الفراعنة. وثمة أغنيات الحصاد وجني القطن وملء المياه، حتى الباعة الجائلون يعلنون عن بضائعهم بألحان مبتكرة، أفاد منها ملحنون حاولوا أن تكون ألحانهم تعبيرًا عن نبض البيئة، وفي مقدمتهم: العظيم سيد درويش.

وما زلت أذكر ذلك الصباح الأجمل، حين تناهى إليَّ — في الصباح الباكر — في غرفتي بفندق «نيو كاتراكت» بأسوان، صوت يغني، لم أسمع أصفى ولا أحلى منه. وسعيت إلى الشرفة أبحث عن مصدر الصوت. كان مراكبيًّا نوبيًّا شابًّا، يخوض في مياه النيل بقاربه الصغير، ويتعالى صوته بكل ما لديه، في أغنيات لم أستطع فهم لهجتها النوبية، وإن كانت ألحانها قد تسللت — في داخلي — بالعذوبة والنشوة، فتمنيت أن تظل اللحظة ممتدة، بلا انتهاء.

الغناء يبدأ في حياتنا — كأفراد — منذ الميلاد إلى الموت، منذ أغنيات المهد إلى التعديد الذي يعد — في حقيقته — لونًا من الغناء. ففي الأسبوع الأول للميلاد، عندما يقام حفل «السبوع»، وتغني الأمهات للأطفال على دقات الهون: برجالاتك برجالاتك … ويرد الأطفال وراءها: يا رب يا ربنا … يكبر ويبقى قدنا … ثم يصبح الوليد طفلًا، وتسلمه الأم إلى النوم بأغنية مثل: ننه نام … وادبح لك جوزين حمام … وتحثه على السير بأغنية مثل: حبلي طويل يا امه … وقع في البير يا امه … إلخ. ومثل: طلعت أدب … نزلت أدب … لقيت الديب بيقزقز لب … ومثل: هينا مقص وهينا مقص … هينا عرايس بتترص …

وفي قاهرة القرون الوسطى، كان السلطان يخرج على رأس الأمراء ورجال الدولة، للإشراف على موكب المحمل وهو في طريقه إلى الأقطار الحجازية. ويسعى الناس أيضًا إلى رؤية الموكب، يُبدون الفرحة ويرقصون وينشدون:

بيع اللحاف والطراحة حتى أرى ذي الرماحة
بيع لي لحافي ذي المخمل حتى أرى شكل المحمل

وحين اشتدت الضائقة الاقتصادية في عهد السلطان ركن الدين بيبرس الجاشنكير، خرجت المظاهرات في شوارع القاهرة تردد أغنية جماعية مجهولة المؤلف والملحن: سلطاننا ركين (تصغير ركن) ونائبنا دقين (تصغير دقن، والمقصود سلار نائب السلطنة، والذي لم يكن بلحيته سوى شعيرات!) يجينا الماء منين؟ … جيبوا لنا الأعرج (الناصر محمد الذي كان معزولًا عن السلطنة. وكان به عرج خفيف) ييجي الماء ويدَّحرج!

وعندما تأهب موكب قطر الندي، أو أسماء بنت خمارويه — ابن أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية — للتوجه إلى بغداد، حتى يتم زفافها إلى الخليفة المعتضد، فإن الشعب ما لبث أن ألف أغنية، رددها أفراده، وما زلنا نغنيها إلى اليوم:

يا الحنة يا الحنة يا قطر الندى
يا شباك حبيبي يا عيني جلاب الهوى

وإبان اشتداد عسف المماليك، غنى البسطاء من أبناء مصر: إيش تاخد من تفليسي … يا برديسي! (أحد حكام المماليك).

وبعد أن قرر الباشا (١١۳٧ﻫ) زيادة الضرائب، سار الأولاد في مظاهرات يرددون:

باشا يا باشا يا عين القملة، مين قالك تعمل دي العملة
باشا يا باشا يا عين الصيرة، مين قالك تدبر دي التدبيرة

وحين تعاظم العسف العثماني، غنى الأولاد في الشوارع:

يا رب يا متجلي أهلك العثمانلي!

وبعد افتتاح السكك الحديدية بخمسة وأربعين يومًا، وقع أول حادث، لما سقطت عربة قطار في النيل. وكان القطار يعبر النيل على معدية بالقرب من منطقة «كفر العيس». ومات في الحادث واحد من أشقاء الخديو عباس؛ لأنه لم يستطع القفز لبدانته. وتخوف المصريون من ركوب القطار، ورددوا الأغنية: كان العطشجي فين … لما الوابور وقع انكسر؟! … ومن يومها، أصبح القطار موضوعًا رئيسيًّا في الأغنية المصرية. وأذكرك بأغنية وابور الساعة المقبل على الصعيد!

وأعلن الخديو توفيق عمالته للإنجليز، فسارت المظاهرات في شوارع القاهرة تهتف:

يا توفيق يا وش القملة
مين قالك تعمل دي العملة.

وعندما أخذ أفراد الجيش المتطوعون أماكنهم في الطوابي، لمواجهة القصف المتوقع من السفن الإنجليزية، غنى الناس:

العسكر في الطوابي، يا رب انصر عرابي
الميه في الأبريق، يا رب خد توفيق.
وسأل زكي نجيب محمود جدته لأبيه — ذات يوم — مازحًا: كيف تعرفين عمر ولدك الأكبر؟ … أجابت: أعرف ذلك من أني كنت عندما أهدهده وهو في عامه الأول، كنت أتغنى بقولي: اللهم انصرك يا عرابي!٢٧

فلما تمكنت قوات الاحتلال — بالولس! من دخول الأراضي المصرية، ردد الناس:

يا عزيز يا عزيز كبه تاخد الانجليز.

أما الأغنية التي تقول:

الحب كبش في قلبي قربت أروح منه طوكر
فهي ترتكز إلى إقدام سلطات الاحتلال البريطاني على إرسال ألف مسجون مصري إلى هذه المدينة السودانية لزراعة أراضيها. وعانى هؤلاء المسجونون الإهمال وانعدام الرعاية، حتى لقد هلك منهم كثيرون، ومن هنا، فإن اسم «طوكر» كان يوحي بالرهبة والفزع!٢٨

وكان من أغنيات أواخر القرن التاسع عشر:

حبيبي هجرني شوفوه لي يا ناس، شرد مني وف إيده الكاس
كوى قلبي، ده يصح يا ناس، أترجاه يعمل معروف
وقد سمع اللورد كرومر هذا الدور. فلما ترجم له «حبيبي هجرني شوفوه لي يا ناس» … قال: هكذا المصري، حتى الحبيب يكلف الآخرين بالبحث عنه، ولا يجتهد هو في أن يبحث.٢٩

وبعد مذبحة دنشواي، تعالى الموال: يوم شنق زهران — كان واحدًا من الذين نفذ فيهم حكم الإعدام — يوم صعب وقفاته.

ويقتل مناضل مصري — هو إبراهيم ناصف الورداني — سياسيًّا خائنًا، فيصدر الحكم بإعدامه. ويغني الناس، صبيحة تنفيذ الحكم، أغنية مطلعها:

يا ميت صباح الفل يا ورداني

وسارت مظاهرات تضم طلاب المدارس الثانوية والنساء، تغني:

قولوا لعين الشمس ماتحماشي أحسن حبيب القلب صابح ماشي

وفي الصباح، مشى حبيب القلب، أعدم إبراهيم ناصف الورداني.

وعندما نفت قوات الإنجليز الخديو عباس حلمي الثاني، ردد الناس في الشوارع:

يا أمة الإسلام ليش حزينة
إن كان على عباس بكره يجينا
والطبل والمزمار بيرقع في أراضينا

وغنوا:

الله حي … عباس جي …

والطريف أنه قد صدر في ١٩١٥م قانون بفرض غرامة على من يردد تلك الأغنية!

وجنَّد الاحتلال الإنجليزي آلافًا من الشبان المصريين، ضمن قواته في الحرب العالمية الأولى، وانتشرت أغنيات مجهولة المؤلف والملحن، يدعو الأقل منها إلى الانخراط في «الجهادية»، فهي أغنيات صدرت — بالتأكيد — عن سلطة الاحتلال، أو أعوانها، ويصور معظمها معاناة الشبان المصريين ويلات الحرب، وظروفها القاسية، ولعل أشهرها:

يا عزيز عيني أنا بدِّي أروح بلدي
بلدي يا بلدي والسلطة أخدت ولدي

وفي المقابل من هذه الأغنية، فقد ظهرت أغنية في الفترة نفسها تعبر عن وجهة نظر سلطات الاحتلال:

ياللي رمالك الهوى حود على السلطة
يقلعوك الهلاهيل ويلبسوك سترة

ومن أغنيات الحرب العالمية الأولى:

بردون يا وينجت … بلادنا خربت … خدتو الشعير … وجمال وحمير … والقمح كتير … ارحمونا

وتفاقمت أحداث ثورة ١٩١٩م، وشملت المظاهرات والإضرابات وأعمال العنف معظم المدن والقرى، وسقط العشرات ما بين قتلى وجرحى، وغنى المتظاهرون:

لا سجون ومدافع رشاشة، ولا خفنا عذاب في جهاد باهر
ننصاب برصاص نربط شاشة، ع الجرح ونرجع نتظاهر

وعلت الأصوات بالأغنية:

يا عم حمزة … إحنا التلامذة … واخدين ع العيش الحاف … والنوم من غير لحاف … لا رصاص ينفع … ولا ميت مدفع … يا عم حمزة …

وأنشد الأطفال في الشوارع:

يا مصر ماتخافيش دا كله كلام تهويش
إحنا بنات الكشافة دا ابونا سعد باشا
وأمنا صفصف هانم

وتطالب المرأة بحقوقها السياسية والاجتماعية، فيغني سيد درويش:

يا ما شفنا من الستات طلعوا وعملوا مظاهرات

وتغتال مجموعة من الشبان المصريين سردار الجيش المصري (١٩٢٢م) فتغني منيرة المهدية:

شال الحمام حط الحمام من مصر السعيدة للسودان

ويبرأ شباب الوفد من تهمة اغتيال السردار، فتخرج مجموعات من الناس يغنون:

ماهر والنقراشي والشيخ أحمد جاد
والشيشيني معاهم والناس الأمجاد
وتطلب أغنية من الشعب — كما يقول السحار في مذكراته — أن يبلَّ الشربات؛ لأن رجال الوفد قد بُرِّئوا من تهمة الاشتراك في قتل السردار.٣٠

وتعكس الأوضاع السياسية تأثيراتها على الواقع الاجتماعي، فتبين الأغنية عن ذلك بكلمات مثل:

شفتي بتاكلني أنا في عرضك خليها تسلم على خدك

أو:

إرخي الستارة اللي في ريحنا … أحسن جيرانا تجرحنا … يا مبسوطين بالقوي يا احنا

أو:

سلفني بوسة من خدك … إنت خفيف حتى ف سكرك … تسكر وتظهر ما في قلبك

أو:

جوزيني يا أمه جدع قيافة كامل المحاسن واللطافة

أو:

بلاش هزار يا بيه أحسن بابا محرَّج
إوعى إيدك يا ابن الإيه من بعيد كده واتفرج

ومع الحرب العالمية الأولى، شاعت بين النساء المصريات مودة الذهاب إلى الكوافير، وانتشرت أغنية يقول مطلعها:

البيه والهانم عاملين أبونيه قص الشعر لزمته إيه؟

وتصدر الدولة قانونًا، يجعل السادسة عشرة حدًّا أدنى لسن زواج الفتاة، فيؤلف المصريون أغنية مطلعها:

أبوها راضي وأنا راضي وما لك أنت وما لنا يا قاضي؟

وأقدم الكثير من نساء الطبقة الوسطى، إلى جانب نساء الطبقة الأرستقراطية — على التخلي عن رداء الرأس التقليدي كالطرحة أو المنديل بأويه، أو بجزء من الملاية اللف، ارتدين البرنيطة بدلًا من ذلك، وقالت الأغنية:

آدي وقت البرنيطة
بلا هوسة بلا زيطة
الناس بيسبونا
اعمل نفسك حيطة
دي هوسة دي دوشة
ده فلفل ده شطيطة

وعندما بدأ تردُّد النساء على محال «الكوافير»، قالت الأغنية:

ياما نشوف حاجات تجنن البيه والهانم عند مزين

واقتحمت ميدان الطيران — للمرة الأولى — فتاة مصرية هي لطفية النادي، وقالت الأغنية:

شوفوا أنا مصرية
وراكبة الطيارة
مش بس الغربية
بتطير لك بمهارة

بل إن الهجانة يقتلون شابًّا، قتل وأصاب العشرات، ونشر خيمة فزع في مناطق الصعيد. ولأن الطبيعة المصرية ترفض السلطة، وتتحداها، وتشجع البطولة المناوئة لها، حتى لو كانت البطولة غير حقيقية. يرتدي ثوبها مجرم فإن الخيال ما يلبث أن ينسج حكاية حب، فضح كذبها قاتل ياسين: اللواء صالح حرب، بين ياسين وابنة عمه بهية. وتنتشر الأغنية:

يا بهية وخبريني على اللي جتل ياسين
جتلوه السودانية يا ابويا من فوق ضهر الهجين

وليلة زفاف الملك فاروق على الآنسة صافيناز يوسف ذو الفقار. ولم تكن مكانته قد تغيرت بعد في نفوس الناس. غنى الطلبة والعمال في الشوارع والميادين:

فاروق فاروق يا نور العين يا وردة حمرا على الخدين

•••

ثمة تعريف للأغنية الشعبية أنها «قصيدة غنائية ملحنة، مجهولة النشأة، بمعنى أنها نشأت بين العامة من الناس في أزمنة ماضية، وبقيت متداولة أزمانًا طويلة.»٣١ الأغنية الشعبية — في تعريف آخر — «وثيقة الصلة بواقع الحياة الشعبية، وما يشيع فيها من عادات وتقاليد، تحرص على بث المعلومة في قوالب موسيقية محدودة ومتوارثة.»٣٢ أما ريتشارد فايس، فهو يرى أن الأغنية الشعبية ليست بالضرورة هي الأغنية التي خلقها الشعب، لكنها الأغنية التي يغنيها الشعب، والتي تؤدي وظائف يحتاجها المجتمع الشعبي.

وإذا كانت الأغنية الشعبية — أغنية الجماهير المجهولة المؤلف والملحن — قد خفت صوتها في أعوام الثورة، فلعل أغنيات الثلاثي صلاح جاهين وكمال الطويل وعبد الحليم حافظ، كانت عاملًا لا تخطئه الأذن، في ذواء الأغنية الشعبية؛ حيث رافقت أغنيات عبد الحليم مسيرة المجتمع في كل أبعاده، وهو ما نعنى بتناوله في فقرات قادمة.

أما آخر الكلمات الملحنة، التي لم يعرف مؤلفها ولا ملحنها، فهي ذلك النشيد الذي ودعت به الجماهير بطلها جمال عبد الناصر:

الوداع يا جمال يا حبيب الملايين … الوداع!

•••

يقول العقاد: «إن أقاليم مصر الوسطى والعليا لا تتميز بمرائي النائحات والنائحين وحدها، بل تتميز بالتعبير الاجتماعي، حيث كان في الغناء والتنظيم الموزون. فما اشتغلت خواطر الأمة المصرية قط بأمر عظيم، إلا ظهر التعبير الشعبي عنه في أغنية من أغاني الصعيد الأعلى، لا تلبث أن تطوف أنحاء القطر من أقصاه إلى أقصاه، وقد تكرر ذلك في الحرب الماضية — الأولى — والحرب الحاضرة — الثانية — في مناسبات متوالية.»٣٣

وسرادقات العزاء ظاهرة أساسية في احتفالاتنا بالمناسبات الدينية كرمضان والعيدين وموالد الأولياء. حتى بعد الوفاة، فإن الموسيقى الجنائزية ترافق جنازة الميت إلى مثواها الأخير. وثمة — في القرى والأحياء الشعبية — «المعددة» التي تنعى أفضال الراحل، وتستدر الدموع بكلام منظوم.

•••

والحق أن الغناء ظل محدود التأثير في الحياة المصرية، حتى القرن التاسع عشر. ثم بدأت — وتوضحت — علاقة الفن بتطورات الحياة الاجتماعية في أبعادها المختلفة. وظهرت أسماء: عبده الحامولي وألمظ ومحمد عثمان وغيرهم، ممن تعد أغنياتهم تعبيرًا صادقًا عن البيئة المصرية آنذاك. ثم حول سيد درويش — من خلال كم وكيف غنائي متميز — تلك الملامح المتناثرة، إلى بانوراما متسعة الأبعاد، تشمل — في الدرجة الأولى — تطورات الحياة اليومية، لملايين البسطاء والشغيلة والفئات والطوائف التي يتشكل منها مجموع الشعب المصري.

ومنذ ثورة الترانزستور، وانتشار أجهزة الريكورد كاسيت، فإن الظاهرة الواضحة في مجال الحرفيين والورش والمتاجر الصغيرة وسيارات التاكسي، ذلك الكم الهائل من الأشرطة الموسيقية والغنائية، لا يشغل السامعين إليها — في الأغلب — معاني الكلمات، ولا دلالات الألحان، إنما هي موسيقى وأغنيات، مواد مسلية، تخفف من عناء العمل، وتقضي على ما قد يرين عليه من رتابة أو ملل.

•••

لست أذكر القائل: «لا يوجد كائن إنساني لا يغني، ولا يحيا بالغناء» … لكن الأغنية بعدٌ مهم في حياتنا اليومية فعلًا، بل إنها إسهام يصعب إغفاله في تشكيل وجداننا. قد يتجه هذا الإسهام إلى السلبية بما يقدمه من أغنيات هابطة الشكل والمحتوى، وقد يتجه إلى الإيجابية بما يقدمه من أغنيات تعانق التفوق في عناصرها المختلفة. الأغنية — الفردية بخاصة — هي الوسيلة الأكثر انتشارًا في حياتنا. نحن نلتقي بها في البيت والشارع والسيارة، نقلتها ثورة الترانزستور إلى أماكن تغيب عنها وسائل الحياة العصرية. ومن هنا، فإن التعامل مع الغناء كوسيلة للطرب، وقضاء وقت الفراغ في الترويح عن النفس، والاستمتاع المسترخي، خطأ ينبغي إسقاطه؛ «فالأغنية سلاح خطير له صفة الانتشار والتأثير، وهي بذلك وسيلة بث مختلف المشاعر عند العامة والخاصة.»٣٤ بل إن الأغنية الفردية هي الأقرب للطبيعة العربية. نستمع إلى الموسيقى الخالصة، لكننا نحب الموسيقى التي يصاحبها الغناء، خاصية يتميز بها المتلقي العربي، طبيعة يتفرد بها، تضافرت في تشكيلها عوامل تاريخية وحضارية وبيئية، يبدو النظر إليها، ومناقشتها، في ضوء المفاهيم التربوية، ظلمًا فادحًا. ذلك هو الذوق الفني لشعب ما. مفروض أن نفهمه ونتفهمه، ولا نضعه في المقارنة مع ذوق آخر، لشعب آخر.

•••

روى ناظم حكمت لبابلو نيرودا، أنه تعرض — ذات يوم — لمحاكمة على بارجة عسكرية. فلما تواصل صمته، أجهده محاكموه بالمشي، ثم دفعوه إلى مرحاض علا فيه الغائط بحوالي نصف المتر. وأحس الشاعر بدوار، وتهيأ للإغماء. ثم تذكر أن هذا هو ما يريده معذبوه، أن يضعف وتخور قواه، فيسهل انتزاع الاعترافات التي يريدونها منه. وبدأ ناظم حكمت يغني بصوت خفيض في البداية، ما لبث أن علا واشتد. أنشد أغنيات الغزل، ومواويل الفلاحين، وأناشيد العمال والشباب والطلبة.

وقال نيرودا معقبًا: يا أخي، إنك أجبت بهذا عن كل الشعراء. ليس ثمة حيرة فيما يجب أن نفعله. المهم أن نعرف متى نبدأ الغناء.٣٥

ورواية أخرى للفنان الراحل حسن فؤاد، عن ذلك الشاعر — الذي لم يذكر اسمه — دفنوه في الرمال، فيما عدا الوجه، وصوبوا إليه — للتخويف — فوهات رشاشاتهم. رمقهم بنظرة متسامحة، وابتسم، ثم علا صوته وعلا، بواحدة من تلك الأغنيات التي تتحدث عن مصر والحب والشوق، والشمس التي قد تخفيها سحب طارئة، لكنها تبين عن تألقها في النهاية!

البداية

تعرفت إلى اسم عبد الحليم حافظ — للمرة الأولى — في مناسبة أتذكَّرها جيدًا — وطالما تذكَّرها هو أيضًا. كنت في الرابعة عشرة، أو نحوها، عندما صحبني أحد أقاربي إلى مسرح الأزاريطة، أشاهد حفلًا نجمه الأول مطرب اسمه عبد الحليم حافظ.

لم يكن عبد الحليم صوتًا معروفًا — بالنسبة لي على الأقل. أذكر أني استمعت إليه في أغنيتين: يا حلو يا اسمر، ولقاء. وأحببت الأغنيتين، لكنني كنت أحب — في الوقت نفسه — محمد قنديل في «الغورية» و«أهل اسكندرية»، ومحمد فوزي في معظم أغنياته، وكنت مفتونًا بصوت ليلى مراد. كان ذهابي إلى ذلك الحفل الساهر مناسبة يصعب أن تخطئها ذاكرتي؛ فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي أذهب فيها إلى حفل ساهر. كان التردد على تياترو أحمد المسيري في شارع التتويج، أيام عيدَي الفطر والأضحى، هو تعرُّفي الوحيد — قبلها — إلى دنيا المسرح الغنائي. صحبني والداي، في صباي الباكر، إلى فوزي منيب، وإن كنت لا أذكر ماذا شاهدت على وجه التحديد، بل إني لا أذكر طبيعة العروض التي قدمتها فرقة المسيري، فيما عدا أغنية عبد الوهاب الشهيرة «ياللي زرعتوا البرتقان» تغنيها الفرقة في بداية كل عرض، وعند انتهائه. لك أن تتصور مشاعري وأنا أعد نفسي للذهاب إلى حفل عبد الحليم … لكن المفاجأة كانت في انتظاري على مبنى مسرح الأزاريطة، فقد رُفعت صورة الفنان الذي أتيت لأشاهده وأستمع إليه — ولم أكن حتى أمني النفس بذلك وأنا أستقل الأوتوبيس في طريق الكورنيش — ووُضعت مكان الصورة صورة مطرب آخر، كان مشهورًا آنذاك، هو كارم محمود. وبالطبع فقد دخلت، وشاهدت، واستمعت (بالمناسبة: كارم محمود مطرب أحبه) لم أناقش بواعث تغيب مطرب الحفل، وإحلال مطرب آخر مكانه. شغلني الحفل في ذاته، وأدهشتني العلاقة بين الراقصة — اسمها هرمين — ومتقدمي الصفوف من الحضور، تبدت في عبارات إعجاب بذيئة، قابلتها استجابة من الراقصة في التأود والتثني، وأعجبتني فقرة الساحر. ثم عرفت — فيما بعد — أن تلك الأمسية كانت هي التالية لطرد الحاج صديق — متعهد الحفلات — عبد الحليم حافظ من فوق خشبة المسرح، بعد أن غنى «أيها الراقدون تحت التراب». وكانت «أيها الراقدون» التي عناها الحاج صديق، هي رائعة عبد الحليم «ظالم» … لكن ذلك كان رأي الرجل.٣٦

•••

كانت تلك هي بداية تعرفي إلى عبد الحليم حافظ. استمعت إليه في أغنيات قليلة، دون أن يلفت انتباهي بتميز مغاير لما يقدمه مطربو الفترة. فلما أتيحت لي فرصة مشاهدته، وسماعه عن قرب، كان قد عاد إلى القاهرة وهو يعاني صدمة تحدث عنها — فيما بعد — كثيرًا … لكنني أعطيته انتباهي شيئًا فشيئًا، حتى فرض تميزه وامتيازه، وأصبح ذلك المعلم الفني والاجتماعي والسياسي، في آنٍ معًا، في حياة جيلنا.

•••

ماذا عن الجانب الآخر من الصورة؟

المطرب الذي أتيت لسماعه، أنهى متعهد الحفلات تعاقده، وأتى بمطرب آخر بدلًا منه … فماذا عن المطرب الذي لم أستمع إليه؟

يقول عبد الحليم حافظ: «مرت أيام طويلة وأنا أحاول أن أنسى ما حدث لي في الإسكندرية. الحقيقة أنها كانت صدمة كبيرة كادت تطيح بكل آمالي. لا يعلم هؤلاء الذين صرخوا في وجهي في حفلات الإسكندرية: انزل انزل انزل … مدى العذاب الذي عانيت منه بعد هذه الحملات». ويضيف: «طوال هذه الفترة، لم يتركني محمد الموجي ولا كمال الطويل. كانا دائمًا يحاولان بقدر الإمكان التخفيف عني، ومشاركتي همومي، وبدأت أقتنع بأن العيب ليس في لحن الموجي، الذي يحمل معه التجديد الذي لم يألفه الناس، وليس العيب أيضًا في كلمات سمير محجوب. لا، ليس العيب في الكلمات ولا في اللحن والأداء … وتسرع الجمهور في حكمه عليَّ، وكاد يدمر كل آمال النجاح والمستقبل. يجب أن أحاول مرة ثانية وثالثة. إذا جاءتني فرصة أخرى للغناء في الحفلات العامة أمام الجمهور، لن أرفضها، وسأقدم أغنية «صافيني مرة» …»٣٧ مرة أخرى، لن أستسلم للفشل.٣٨

•••

وقبيل الثالث والعشرين من يوليو ١٩٥٢م، تجدد الأمل لعبد الحليم في فرصة تفوق تلك التي حرمه منها جمهور الإسكندرية. استمع وجيه أباظة إلى صوته — رفض مطلق لليأس — وطالبه بأن يعد نفسه لحفل غنائي كبير، في ذكرى مرور عام على قيام ثورة يوليو — وبقدر ما كان الامتحان قاسيًا — الأدق أنه كان مخيفًا! فقد كان نجوم ذلك الحفل كل الأسماء اللامعة في دنيا الغناء المصري آنذاك: الأطرش وفوزي وكارم وعبد العزيز محمود وشادية وغيرهم … وأعد عبد الحليم نفسه للحفل بواحدة من الأغنيات التي قدمها في الإسكندرية «صافيني مرة»، فضلًا عن أغنيات أخرى سبق له كذلك تقديمها في الإسكندرية، ورفضها الجمهور …

وبدأ الحفل: غنى الأطرش، وغنت شادية. واتجه عبد الحليم إلى الفنان يوسف وهبي — وكان مسئولًا عن تنظيم البرنامج — ودار حوار، رواه عبد الحليم، ورواه يوسف وهبي، مع اختلاف بسيط، لا يجعل إحدى الروايتين كاذبة في مواجهة الأخرى: متى سأغني؟

– إنت مين؟!

– عبد الحليم حافظ.

– فيه فرقة موسيقية حتطلع الساعة واحدة بعد منتصف الليل … وتغني انت بعدها.

– لا.

– لا … دي عايزة مذكرة تفسيرية … فأنا الذي أنظم البرنامج، وأنظمه على كده.

– إما أن أغني الساعة ١٢ أو لا أغني أبدًا.

– يا سلام … ولو ماغنيتش الساعة ١٢ الناس حاتمشي؟!

– بالعكس … يمكن الناس تفرح لو ما غنيتش … لكن أنا حامشي إذا ماغنيتش الساعة ١٢.

– إنت منين؟

– من الحلوات شرقية.

– إنت متعلم؟

– نعم، إلى حد ما … خصوصًا بالنسبة للموسيقى.

– طيب … أنا حاخليك تغني الساعة ١٢.

– متشكر!

– أنت عندك إصرار … ومن لديه إصرار لا بد أن ينجح … وإن شاء الله ستنجح في هذه الليلة … وأنا الذي سأقدمك بنفسي رغم أني لا أقدم هذه «النمر» … لكني سأقدمك بنفسي.

وكأنما شاءت الظروف أن يكون الميلاد الجديد — ألم يكن كذلك؟! — مغلفًا بمسحة درامية، تجعله عالقًا بالأذهان. شارك المطرب في حفل عيد الثورة الأول، وشارك في المناسبة نفسها بتوالي الأعوام؛ فالمناسبة ليست متفردة في إطلاقها، وقد جاء التفرد من اختيار الظروف، حين أعلن يوسف وهبي — بصوته الأشهر. عن قيام الجمهورية، قبل أن يغني عبد الحليم بساعة واحدة. وقدم يوسف وهبي الصوت الجديد بقوله: «ومع إعلان ميلاد جمهورية سنقدم لكم ميلاد مطرب جديد، هو عبد الحليم حافظ.»

وتحقق الميلاد الجديد.٣٩

البيئة

عرف عبد الحليم حافظ — في مراحل حياته المختلفة — اليتم والفقر والمرض، فاكتسب بذلك ملامح الشخصية المأساوية. وكما تحدث عبد الحليم بنفسه عن قصة حياته، فقد فرضت المأساة نفسها، منذ الأسبوع الأول لمولده. ماتت أمه أثناء الاحتفال بسبوعه، واقترحت إحدى سيدات الأسرة إرضاعه بالحليب من ثدي الأم المتوفاة، فيموت، ويرتاح من عذاب اليتم. وامتص الرضيع — فعلًا — بضع قطرات من لبن أمه، لكن والده تنبه لما حدث، فأخرج قطرات الحليب من فمه، وتوزع إرضاع عبد الحليم — فيما بعد — بين قريبة له، هي: أمينة السعيد علي، وبعض نساء الحلوات، فضلًا عن معزة صغيرة، كان يشرب — أحيانًا — من حليبها. ومات الأب قبل أن ينتهي العام، فأصبح عبد الحليم يتيم الأبوين، وكفلته عمته أشهرًا قليلة، ثم ماتت هي الأخرى، فكفله — وإخوته الأربعة — خاله الحاج متولي عماشة الموظف بوزارة الزراعة، نقلهم ليعيشوا معه في مدينة الزقازيق، مع ابنه الوحيد، وباع — بعشرة جنيهات — بيت أبيهم في الحلوات.

•••

يقول أندريه موروا: «إن هؤلاء الأطفال الذين يشعرون بأنهم مرفوضون من قبل ذويهم، دون أن يعرفوا لماذا، يتوقون أكثر من غيرهم للانتصار على العالم من أجل تعويض إحساسهم العميق الجذور بالفقد المبكر الذي حدث لهم.» والثابت علميًّا أن شخصية الفرد تتكون في السنوات الخمس الأولى من حياته. أما المراحل التالية فهي عملية تطور ونمو، لكل منها خصائصها الخاصة، وكل الأحداث التي تحياها وتواجهها شخصية الطفل أثناء رحلة التكون، تعكس تأثيراتها على المراحل التالية، ومراحل حياته عمومًا.

ولقد كان «اليتم» هو مدخل حياة عبد الحليم جميعًا … فإلى أي مدى تأثرت شخصيته بذلك الحدث الأهم، وإلى أي مدى عكست ذلك التأثر في قادم أيامه؟

إن تغيُّر البيئة الطبيعية التي ولد فيها الطفل يؤثر على نفسيته، وقد يدخله محارة الحزن، وربما دفعه إلى التمرد. ونحن نلحظ أن الحزن ظل سمة لشخصية عبد الحليم الفنية والاجتماعية، إلى آخر حياته. أما التمرد، فهو قد أخذ — في الطفولة — مظهرًا سلبيًّا، حين تكرر هروبه من المدرسة، فألحقه خاله بالملجأ … وهو قد أخذ — في الصبا والشباب — مظهرًا إيجابيًّا، عندما جاوز مألوف الآخرين، ورفض الانضمام إلى الطابور الذي كان يقفه مطربو الفترة، وأصر أن يقدم فنًّا مغايرًا، متميزًا … وهو ما أفلح فيه فعلًا، واعترف به الجميع.

•••

في الثالث عشر من ديسمبر ١٩٣٥م — وكان عبد الحليم قد بلغ السادسة — ألحقه خاله بكتاب الشيخ أحمد في الزقازيق، لكنه أدمن الهروب، خوفًا من عصا الشيخ والعريف في رواية، وتعبيرًا عن نفسية تنزع إلى الشقاوة والعفرتة في روايات أقاربه فيما بعد، فأدخله خاله الملجأ حتى لا يهرب، وتخلصًا من شقاوته ومتطلباته المادية في آنٍ.

أمضى عبد الحليم في الملجأ ثماني سنوات، أضافت إلى شخصيته — بالتأكيد أبعادًا جديدة — وبدأ شغفه آنذاك بالأناشيد والأغنيات، وتكرر هروبه — من الملجأ أيضًا — إلى موسيقى المطافئ بالزقازيق، يعلمه الشاويش عبد الحي — رئيس الفرقة الموسيقية — كيفية العزف على آلة «الكلارنيت»، وكانت تلك أول آلة موسيقية يتعلم عبد الحليم العزف عليها.

وحين قدم عبد الحليم — للمرة الأولى — إلى القاهرة في ١٦ نوفمبر ١٩٤٥م، فإن عالمه كان قد تحدد في الغناء والموسيقى. سبقه إلى ذلك شقيقه الأكبر إسماعيل شبانة، الذي حصل على دبلوم معهد الموسيقى العربية. وكان الأول على دفعته. وتخصص عبد الحليم في آلة «الأبوا» التي تشبه «الكلارنيت». وفي ٢٥ مايو ١٩٤٨م تخرَّج عبد الحليم في المعهد، في الدفعة نفسها التي كانت تضم كمال الطويل وأحمد فؤاد حسن وفايدة كامل وعلي إسماعيل.

كانت تلك هي الظروف المأساوية التي عاشها عبد الحليم، كما حرص على روايتها، بعد أن حذف منها، وأضاف إليها، وعالجها بالأضواء والظلال.

أجاد عبد الحليم تقديم الجانب المأساوي في حياته، بما حرك تقبُّل ذلك الجانب في نفوس المصريين. النظرة إلى اليتيم في مصر تختلف تمامًا عن النظرة إليه في بلاد أخرى. الإشفاق عليه، ورعايته، والتسامح عن أخطائه، والتقيد الصارم بتعاليم القرآن الكريم، حتى من الذين يخالفونه في معاملاتهم اليومية. أذكر أني حاولت التوسط لبيع سيارةَ أسرةٍ مجاوِرةٍ مات عائلها. عرضت الأمر على تاجر للسيارات المستعملة. قلت لأحرك مشاعره: لاحظ أن الأطفال يتامى! ورفض بالمنطق نفسه: لأن الأطفال يتامى؛ فهو إذن يخشى أن يظلمهم. وأذكر أن الحديث عن يتم عبد الحليم وظروفه المأساوية بعامة، في بدايات حياته، كان يغلب على الإعجاب بصوته. وأسهم عبد الحليم — بالطبع — في ذلك إلى غير حد — فهو لم يكن مجرد صوت ذكي — تحدث كثيرًا عن المأساة التي لازمت حياته. رافق أحاديثه صوت هامس، وعينان تنبضان بالحزن. قيل — يومًا — عن عبد الحليم حافظ، إنه «يعيش حياة شاب بلا شباب». وبقدر ما كان هذا المعنى صادقًا في التعبير عن حياة عبد الحليم، وبقدر تلاحق الأحداث الشخصية في حياته، فإنه — على المستوى الفني — أفاد من تلك المأساة الشخصية، أو حاول الإفادة في أقل تقدير، فلامس الوجدان المصري الذي يميل إلى الأسى والحزن والتعاطف والمشاركة والتكافل. كان في ميلاده موت أمه (ألا يصلح ذلك — في ذاته — مدخلًا لمأساة عنيفة من النوع الذي يهز الوجدان المصري؟) … ثم كانت وفاة الأب في العام التالي، ثم وفاة العمة التي كفلته في البداية، فإدخاله الملجأ حتى يحدَّ خاله من نفقاته، في رواية، أو يفر من شقاوته في رواية أخرى … كان ذلك كله نواة شخصية ميلودرامية، أسهم في تجسيدها وإكسابها ملامحها وقسماتها وتحديد معطياتها، ظروف كأنها المصادفات، ولعلها المصادفات تحديدًا، فضلًا عن الشخصية ذاتها: عبد الحليم شبانة الذي أفلح في التقاط الجزئيات التي يكاد لا يلمحها الآخرون، أو يُعْنون بها، فحقق — بتكاملها — لوحة بانورامية متفوقة اسمها: عبد الحليم حافظ.

لقد رويت حكايات عن رفض سيدات الحلوات — قريته — إرضاعه، باعتباره «وليد شؤم»؛ الأمر الذي يتناقض مع نظرة المجتمع المصري — والمرأة المصرية بخاصة — إلى اليتيم، ووجوب الإحسان إليه ورعايته.

استمعت إلى رواية مغايرة — أتصور أنها الأدق — أثناء زياراتي المتعددة للحلوات — في صحبة صديقي الشاعر حسين علي محمد (وهو من ديرب نجم القريبة من الحلوات): رضع الوليد عبد الحليم من غالبية نساء القرية، تنافسن في إرضاع الوليد اليتيم، وليس العكس. وإذا كان قد أتيح له الزواج — والكلام للمزارع رمضان إبراهيم — فإنه كان من الصعب أن يجد فتاته من أبناء الحلوات؛ ذلك لأن عبد الحليم قد رضع — في طفولته — من أثداء العديد من أمهات الحلوات، وبالتالي فإن بنات القرية أصبحن أخوات له بالرضاع. ربما ترين على الصورة مبالغة، أشبه بما روى عن الإمام الحسن، حين صادف مجموعة من النسوة، فقال لهن مداعبًا: من منكن تقبل الزواج من ابن بنت رسول الله؟ … فقلن في وقت واحد: كلنا مطلقات ابن بنت رسول الله! والمعنى واضح: فالحسن — رضي الله عنه — قد اتُّهم بتعدد زوجاته، ولكن ليس إلى حد صعوبة التعرف إلى من لم يتزوجها، ومن أقدم على تطليقها. الأمر نفسه بالنسبة لعبد الحليم — وأعتذر لفارق التشبيه! — رضع — في طفولته — من أثداء كثيرة، بحيث يصعب — وهنا المبالغة. أن يختار فتاته، إن كان قد تزوج من الحلوات.

التكافل ظاهرة مصرية أو تكاد، يبين عن هويته بصورة أوضح في الريف؛ لأنه — في الأغلب — يضم أسرًا متصلة الأصول، فعندما يتعرض أحد أبناء القرية — مثلًا — لأزمة مفاجئة، فإن الرجال يلتفُّون حوله «ليُخرج كلٌّ منهم محفظته، ويفرقع كباسينها في إقدام، ويقدمها للرجل ليأخذ ما يعوزه»٤٠ ولما توشك جاموسة أحدهم على الاحتضار، ويهمُّون بذبحها، يقبل الجميع على شراء لحمها بغير مساومة، باعتبار أن واجبهم ليس فقط في التعزية الكلامية، ولكن في تهوين الخطب على صاحبها بتعويض بعض ثمنها. عرفٌ توارثوه منذ آلاف السنين.٤١ وجوانب التكافل الاجتماعي متعددة، تشمل كل ألوان الحياة وظروفها، حتى ظروف العمل العادية … ففي الأفراح والمناسبات السعيدة المماثلة، كالولادة والختان وما شاكلها مما يحتفل به الناس، تجد نظام «النقوط» سائدًا على نطاق واسع، بأكثر مما هو عليه في المدن، وبصورة تكاد تكون منظمة، بحيث يستطيع صاحب «الفرح» أن يحسب بدقة ما سيحصل عليه من هذه النقوط. وفي بعض القرى تدفع «النقوط» في حالات الزواج على نوعين: أحدهما يسمى «فتح الصدر»، ويُدفع للعروس في ليلة الزفاف، قبل أن تغادر منزل أسرتها، وهو لحساب والدها أو أسرتها. والثاني يسمى «الصبحية»، ويدفع للعروس في يوم الصبحية ليكون من نصيب العروسين. وتمتد مظاهر التكافل في الأفراح إلى المعاونة المادية في مستلزمات «الفرح»، مثل المساهمة بالأثاث الذي يلزم لإقامة الحفل من كراسي وموائد ومصابيح وأدوات طعام وغيرها، والمساهمة في «الوقود» اللازم لطهو الطعام وصنع الخبز … إلخ. أما المآتم، فيبدو التكافل فيما يقدمه أهل القرية من معونات وخدمات لأسرة المتوفى. وفي كثير من الحالات، فإن أي شخص — حتى لو كان من غير أسرة المتوفى — يتولى الإنفاق على جميع مستلزمات المأتم من ماله، ثم يقدم في النهاية حسابًا عما أنفقه للأسرة، ولا يسترده إلا في الوقت المناسب. وقد يطول هذا الوقت تبعًا لظروف الأسرة. كذلك فإن تقديم المعونات المادية والخدمات في المآتم أمر مقرر، يتم بصورة تلقائية، فيعدُّ أقارب المتوفى وجيرانه موائد الطعام للمعزِّين، وكل بيت يُخرج مائدة إلى الدوار، أو يأخذ بعض هؤلاء المعزين وأفراد أسرة المتوفى لتناول الطعام عنده، ويعد كل منهم مكانًا لمبيت من يفد من بلد بعيد. وتنقضي أيام المأتم دون أن يشعر أهل المتوفى بأزمة ما، فضلًا عن اشتراك أهل القرية — والقرى المجاورة — في تقديم واجبات العزاء، وتطوع الكثيرين منهم في القيام بالخدمات، وتقديم الأدوات اللازمة، حتى إنه لا يوجد في الريف «حانوتي» محترف، بل إنه نادرًا ما يستخدم الفراشون في إقامة المآتم على النحو المألوف في المدن. وفي غير الأفراح والمآتم، يبدو التكافل واضحًا في النكبات التي تحدث، سواء كانت مقصورة على فرد واحد، أو تعرَّض لها الجميع.٤٢

•••

كان الكتَّاب هو أول «المعاهد» التي التحق بها عبد الحليم في حياته. والكتاب هو المعهد الأول الذي التحق به هؤلاء الذين ينتمون — بالميلاد — إلى ما قبل الخمسينيات من هذا القرن.

ومن الخطأ تصور أن «الكتاب» — كظاهرة — كان يقتصر على الريف وحده، ولكن الكتاب كان — في الوقت نفسه — ظاهرة مدنية بصورة واضحة. ولم يكن ثمة أحد الأحياء يخلو من بضعة كتاتيب، تدفع الأسر بأبنائها إليها في سني ما قبل التعليم الأولي — مرحلة الروضة الآن — ليتعلموا — من ناحية — مبادئ القراءة والكتابة وبعض آيات القرآن الكريم، وليريحوا أسرهم — من ناحية ثانية — من متاعبهم الصغيرة. وكان البديهي أن يتجه عبد الحليم من الكتاب إلى المدرسة الأولية، أو الابتدائية. والتحق عبد الحليم بالمدرسة فعلًا، لكن الحاج متولي عماشة — خاله — ما لبث أن ألحقه بملجأ في مدينة الزقازيق.

وهنا يفرض السؤال نفسه: لماذا؟ … هل هي قسوة ناظر المدرسة، كما روى عبد الحليم، أو أنها الظروف المادية التي أرغمت الحاج متولي عماشة على أن يتخلى عن إعالة ابن شقيقته، أو أن ذلك التصرف كان تعبيرًا عن يأس الحاج متولي من انتظام الصبي في الدراسة؟

كان عبد الحليم شبانة رابع إخوته، وهو الوحيد بينهم الذي ألحقه خاله بالملجأ … فهل كانت الظروف المادية — وحدها — هي الباعث لأن يدخل الملجأ؟

يقول إسماعيل شبانة، شقيق عبد الحليم: «إن أخي كان متعلقًا الموسيقى حقيقة، لكن دخل خالنا في تلك الأيام من وظيفته كان لا يزيد على أربعة جنيهات، فلم يسمح له هذا الدخل المتواضع بالإنفاق علينا نحن الإخوة الأربعة، بجانب أفراد أسرته، فألحقه بالملجأ كصبي يتيم، كما ألحقني أنا وأخي محمد عاملَين في مصانع الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، لنعتمد على أنفسنا في الحياة.»٤٣

والحق أن حياة الملجأ تبدو حلقة شبه مفقودة في حياة عبد الحليم شبانة، عبرتها الأقلام المؤرخة كأنها لم تكن، أو أشارت إليها في استحياء، ربما حتى لا تغضب الفنان في حياته، أو حتى لا تسيء إلى ذكراه بعد رحيله. وأتذكر السيرة الذاتية لعظيم فرنسا جان جاك روسو — كما كتبها بنفسه — أو تناول صوفيا لورين مأساة طفولتها التعسة، وما كتبه الممثل الإيطالي مارسيلو ماستروياني عن حياته: عري كامل للذات، وصراحة قاسية، وتجربة يصعب إلا أن تضفي ظلالًا قائمة على الشخصية النجم التي رسم لها البعض — في مخيلته — صورة أقرب إلى الكمال، وربما إلى القداسة. بيت الشعر القديم يقول:

عين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ
وعين المساوئ تبدي المساوئا

وهذه هي النظرة التي نتناول بها سير عظمائنا الراحلين. نحن نرتفع بهم بلا مناسبة، ونهبط بهم بلا مناسبة كذلك. أما الدراسة التي تعنى بالمناقشة والتحليل، وتقصِّي البواعث والأسباب، فهي غائبة عن تناول سير العظماء الراحلين، سواء في روايات هؤلاء العظماء أنفسهم، أو في روايات الآخرين لسير العظماء. ومن القليل الذي نعلمه عن حياة عبد الحليم في الملجأ أن «الصنعة» التي تعلَّمها هي «تصليح البسكليتات والدراجات البخارية». وكان معلمه الأسطى حسين علي زينهم، الذي ظل على صلة طيبة بعبد الحليم.

ظل عبد الحليم في الملجأ سبع سنوات، منذ التحق به وهو في التاسعة، حتى غادره في ١٩٤٥م، بعد أن حصل على الشهادة الابتدائية، وكان في السادسة عشرة من عمره آنذاك.

تبيَّن إصابته بالبلهارسيا حين كان في العاشرة من العمر. ومن الواضح أنه لم تبذل محاولات لعلاج المرض أثناء إقامته في الملجأ.

في عدد أغسطس ١٩٣٨م من مجلة «المجلة الجديدة» التي كان يصدرها سلامة موسى، نطالع بحثًا عن الخدمة الاجتماعية في مصر، يستعرض طبيعة الملاجئ، وأنها تنقسم إلى نوعين: الملاجئ الأهلية، وهي التي يتولى إنشاءها ومراقبتها والإنفاق عليها عدد من المتصدِّين للعمل الاجتماعي. والملاجئ الحكومية، أو التابعة لهيئات شبه حكومية، مثل المجالس البلدية والمحلية. وكان مجموع عدد الملاجئ آنذاك ٥٦ ملجأ، ثلاثون منا أنشأها أفراد من الأجانب، أو جمعيات خيرية أجنبية، وأحد عشر ملجأ أنشأتها جمعيات أهلية، وبعض الأفراد من المتصدين للعمل الاجتماعي. أما الباقي — وهو خمسة عشر ملجأ — فقد أنشأته الحكومة، أو الهيئات الحكومية.٤٤ وتم إنشاء معظم تلك الملاجئ منذ ١٩٣٣م، نتيجة للدور المشبوه المتعاظم الذي كانت تؤديه البعثات التبشيرية تحت ستار العمل الاجتماعي. وكانت صورة الملاجئ المصرية عمومًا «جرامات من الأرز والخضر وقطع اللحم والفاكهة، تقدم في الظهر، وفي المساء». ويروي البحث أن أحد أعضاء مجلس الشيوخ زار مأمور مركز تابع لمديرية المنيا، فلاحظ أن المأمور قد جعل في مقدمة اهتماماته جمع الأطفال بواسطة شرطة المركز، وإرسالهم بالتالي إلى ملجأ المنيا. وسأل عضو مجلس الشيوخ عن السبب، فأخبره المأمور — ببساطة — أن ملجأ المنيا — على ضخامته — يعاني قلة في النزلاء، لذلك فإن المديرية ترغم — هذا هو تعبير المأمور! — كل مأمور على تقديم عدد معين من الأولاد، يتم جمعهم بواسطة الشرطة. وقال المأمور: لقد أتعبنا أولاد الكلب هؤلاء بسبب كثرة هروبهم من الملجأ، واضطرارنا إما للبحث عنهم، أو لإحضار أولاد جدد. وكان من الحوادث المألوفة — في الفترة نفسها — محاولات الانتحار والشغب، بل والثورة التي كان يقوم بها نزلاء ملجأ العجزة في السيوفية بالقاهرة، مقابلًا للمعاملة السيئة من مدير الملجأ — وكان سجانًا سابقًا — والممرضين — وكانوا من فتوات الحي — ليسهل عليهم كسر أنوف النزلاء! وكانت لائحة النظام الداخلي للملاجئ الصادرة في ٣١ أكتوبر ١٩۳۳، تضم من بين بنودها عقوبات تأديبية، تصل إلى الحجز المنفرد لمدة خمسة عشر يومًا.٤٥
كانت تلك صورة الملاجئ في مصر، عندما قضى عبد الحليم سنوات من صباه، نزيلا في أحدها. وبالطبع، فقد كانت الصورة نفسها — مع اختلافات بسيطة — هي ما تعرَّف إليه، وعاناه، عبد الحليم شبانة في ملجأ الزقازيق. ولعلِّي أستطيع التأكيد على أن الأعوام التي قضاها عبد الحليم في ملجأ الزقازيق، كانت تمثل انعطافة حادة وبالغة التأثير، في مسار حياة الفنان عمومًا. كان يُتْم الصبي عبد الحليم هو الحجة التي استند إليها متولي عماشة في إلحاق الصبي بالملجأ. فالملاجئ لا تقبل إلا يتيم الأب، أو الأبوين. وأحيانًا، تقبل الصبي الذي ارتكب جريمة وحال صغر سنه دون إدخاله السجن. وأتصور أن الصبي قد أدرك قسوة المأزق، وأن عليه أن يغادره إلى ظروف استثنائية، فلا يصبح خريجًا نجارًا أو ترزيًّا أو حدادًا، وإنما «شيئًا» مغايرًا لما اعتادت الملاجئ أن تدفع به إلى المجتمع. كان الملجأ — في أقل تقدير — معلمًا مهمًّا وحاسمًا، في طريق الفنان عبد الحليم حافظ، وإن لم يكن قد أعد نفسه لذلك بعد. بل إن أستاذنا سيد عويس يرجع ذلك الإحساس بالشجن والأسى والحزن، الذي تميزت به أغنيات عبد الحليم، بطفولة الفنان القاسية، تلك الأيام التي أمضاها في ملجأ الأيتام على وجه التحديد: «إني أعرف جيدًا إحساس اليتيم، فقد عملت فترة طويلة مديرًا لمؤسسة أيتام. ولقد كانت طفولة عبد الحليم — وبالذات تلك الفترة التي أمَضَّه فيها اليتم — وراء موهبته التي لا شك فيها.»٤٦ عمومًا، فقد وجد عبد الحليم في الملجأ فرقة موسيقية تعزف على الآلات النحاسية. وأظهر ولعًا بالموسيقى لفت انتباه مدرسه — واسمه محمد بدر ندا — فاحتضنه وعلمه العزف على آلة «الأبوا»، بالإضافة إلى مادة «الحياكة» التي كان عبد الحليم قد بدأ في تعلمها ليعمل ترزيًّا٤٧ عقب تخرجه.
وبعد أن حقق عبد الحليم مستوًى طيبًا من التحصيل العلمي، تقدم للحصول على الشهادة الابتدائية، وحصل عليها فعلًا. وكانت تلك هي الشهادة العلمية الأولى والأخيرة التي حصل عليها عبد الحليم.٤٨

•••

كانت البلهارسيا رفيق عبد الحليم شبانة في انتقاله من الزقازيق إلى القاهرة. لم تكن رفيقًا يشعره بوجوده، فيرضى عنه أو يسخط، يوافق على رفقته أو يحاول الابتعاد، يقبل صداقته أو يرفضها. كانت ملتصقة بأمعائه، تتغذى — في صمت — بها. عندما أجرى الدكتور تانر جراحته الأولى لعبد الحليم استأصل جزءًا من معدته التي كانت قد تهرأت دون أن يدري. وعلى الرغم من أن البلهارسيا — كتسمية — كانت قد واجهت الصبي عبد الحليم في صباه، فإنه كان قد نسيها — أو تناساها. عادة المصريين أنهم يسكتون عن المرض إلا إذا عضتهم أعراضه بأنيابها. شكوى كل الأطباء أن المريض لا يقصدهم إلا وهو «خلصان». ثمة تزاوج بين التواكلية والمعتقدات الموروثة بأن الشافي هو الله، والخوف من المجهول. والمجهول هنا هو المرض نفسه. وقد رفض عبد الحليم — قبل أن يجاوز الثانية عشرة — أن يمتثل لنصيحة شقيقه محمد شبانة، بأن يعالج نفسه من مرض البلهارسيا في المستشفى الأميري بالزقازيق. فر من شقيقه ثلاث مرات، حتى لا يتعاطى حقن الطرطير، ولزم المرض جسده، إلى أن فاجأه ذات ليلة بنزيف دموي، ثم تلاحقت الأزمات، وتلاحقت العمليات الجراحية بالمعدل ذاته: ٦٧ عملية جراحية، أزيل فيها الطحال ونصف المعدة وأربعة ضلوع، فضلًا عن مئات الحقن في المريء.

كان عبد الحليم شبانة — في المحصلة النهائية — أحد ضحايا الواقع المتردي الذي كان يحياه المجتمع المصري قبل الثورة. الفقر والجهل والمرض، شعار أذكر أن الصحف — أيام طفولتي — كانت تتبارى في الإشارة إليه، كأنما تجد لذة في ترديده. وكان عبد الحليم واحدًا ممن ينطبق عليهم ذلك الشعار بصورة مؤكدة، في أحد أبعاده على الأقل. وكما قالت السيدة في قصة «مورافيا الطفل» لموظف التعداد: لأنه لا توجد في بيوتنا كهرباء، فنحن ننام مبكرًا، ولأننا ننام مبكرًا، فإننا ننجب كثيرًا … كما قالت السيدة ذلك، تعبيرًا عن الواقع المتخلف الذي كانت تحياه قرى الريف الإيطالي، فإن المأساة التي التصقت بأمعاء عبد الحليم منذ طفولته إلى وفاته، مردُّها إلى أنه لم يكن في بيوت الحلوات مياه نقية. كان أبناء القرية يلجئون إلى مياه الترعة في استعمالاتهم اليومية من شرب وغسيل وغيرها. تغيظني تلك الرواية السخيفة عن الشقاوة التي دفعت الطفل عبد الحليم إلى الاستحمام في الترعة، فكان ما كان من إصابته بالبلهارسيا. وهل كانت مياه البيوت، وتلك التي يشربونها، ويستحمون بها، ويغسلون ثيابهم وأوعيتهم، شيئًا آخر غير مياه الترعة؟!

•••

وحكاية البلهارسيا في بلادنا قديمة، تعود إلى البدايات الأولى لنشوء المجتمع المصري، وبالذات منذ عرف الزراعة والاستقرار على ضفتَي الوادي. استوطن طفيلي البلهارسيا مجاري الترع والأنهار، واستتر بالقواقع المنتشرة في آلاف العروق التي كانت تستمد مياه حياتها من الشريان الرئيسي: نهر النيل.

وقد أكدت الأبحاث العلمية أن شدة العدوى بالبلهارسيا في الريف المصري — والوجه البحري بالذات — تزيد مائة مرة عن مثيلتها في ريف البلدان النامية الأخرى، فضلًا عن أن أعراض المرض تظهر في سنوات باكرة، لندرة المقاومة من ناحية، ولتكرار التعرض لمصدر العدوى من ناحية أخرى. ومثلما أن أمراض القلب والسرطان وضغط الدم وغيرها، ترتبط بالمجتمعات الصناعية، والتقدم الصناعي عمومًا، فإن البلهارسيا — تحديدًا — ترتبط بالتوسع في المشروعات الزراعية، وما يستتبعه من إنشاء شبكات ضخمة من مجاري الري والصرف، فتتخلق بيئة ضخمة صالحة لتكاثر القواقع الناقلة للمرض. الفضلات البشرية تهيئ للطفيلي فرصة إتمام دورة الحياة، ومن ثم زيادة العدوى، وتفاقم المرض، ولدى الصغار بخاصة. ويقول أستاذنا سعيد عبده: «إن «دودة البلهارسيا» تغزو جسم الإنسان خُفية وهو يخوض في الماء الملوث، أو يستحم، أو يلعب، أو يتوضأ، أو يغسل ثيابه فيه، فلا يحس من آثار هذا الغزو — إن أحس شيئًا. إلا حكة بسيطة بعد أن يغادر المياه، وما أكثر ما تعزى هذه الحكة البسيطة إلى أسباب كثيرة في الريف، ما عدا سببها الأصيل. ثم إن الدودة تعيش في جسده قانعة بما تأكل منه، وما تعيث فيه من فساد، لا تتظاهر كما تفعل الكوليرا مثلًا، أو الملاريا أو الطاعون، وهي لا تتكاثر في جسم عائلها كما تفعل الميكروبات، وإنما تتكاثر بتكرار وتوالي العدوى. يضاف إلى ذلك، أنها تعيش أزواجًا أزواجًا، ذكورًا وإناثًا، في أطول وأروع قصة غرام بين الكائنات الحية، مسرحها الوريد البابي الذي يحمل الدم من أحشاء البطن كافة إلى الكبد، حيث ينتقل منها إلى القلب، ثم إلى الرئتين، ليلقي بشحنة من الفضول، ويتزود بشحنة جديدة من الأوكسجين. فإذا خصبت الأنثى، وبدأت تبيض، انفلتت من حضن زوجها، وسبحت ضد تيار الدم في الأوردة الصغيرة بقدِّها الأهيف الرشيق — أسلوب فنان! — حتى تصل إلى أقرب مخارج الفضلات من الجسم، إلى المثانة والأمعاء، فتضع بويضاتها ذات الشوكة المعروفة هناك، فلا يبقى أمامها إلا مرحلة بسيطة للخروج من الجسم، والوصول إلى الماء، وإلى القواقع التي تنتظرها فيه. بيد أن قلة من البويضات، بل وبعض الديدان، يجرفها تيار الدم إلى الكبد، فيعزل أكثرها هناك، ويمضي أقلها مع الدم إلى القلب، ثم إلى الرئتين، وربما لغيرهما من الأعضاء، وفي كل مكان تسجن فيه البويضة أو الدودة، يحاول الجسم أن يتخلص منها كجسم غريب، وتنشأ معارك بين الجسم وبينها، تنتهي بأورام صغيرة، تضغط على ما حولها من خلايا حيوية هامة، كخلايا الكبد والرئتين، وتعرقل سير الدم في الكبد، فيتضخم الطحال، وتمتلئ الأنسجة بالماء، ويحدث الاستسقاء، إلى غير ذلك من ألوان الفساد، والذي كثيرًا ما ينتهي بضمور الكبد، وعجزها عن القيام بوظائفها المهمة، هي وسواها من الأعضاء.»٤٩ والحقيقة أن الكبد لا تسلم من التأثر بالبلهارسيا في كل الأحوال. فالكبد هي مركز الحضانة لديدان البلهارسيا في مراحل نموها الأولى، مع أن الديدان تتحرك، وكل ذكر يحمل أنثاه في اتجاه مضاد لتيار الدم المتدفق نحو الكبد. ويبدو هذا أكثر حدوثًا علاج مرضى البلهارسيا بمركَّبات الأنثيون، فتضعف الديدان قبل موتها، ولا تقوى على مقاومة تيار الدم، فيحملها تيار الدم معه إلى الكبد، حيث تموت، وينتج عن ذلك إصابات مؤثرة بالكبد، وخاصة في حالات العدوى الشديدة.
البلهارسيا أحد أخطر الأمراض المتوطنة في المجتمع المصري. بعض المصابين بها يتبولون الدم بصفة شبه مستمرة. تصوَّر عددٌ من الرحالة الأجانب أن الرجال في بلادنا يحيضون كالنساء! والبعض الآخر تنتهي به إصابته بالبهارسيا إلى الإصابة بالسرطان (وأتذكَّر رائعة يوسف إدريس القصيرة «لغة الآي آي»). وقد ظلت البلهارسيا مرضًا متوطنًا منذ أيام الفراعنة — ولا تزال — لغياب الأسباب التي تكفل القضاء عليها. فالمعتقد القديم يؤكد أن الجسم البشري يقوى على ما تقوى عليه الأرض حين تشرب من ماء النيل والترع والقنوات. وشرب المياه وتصريف الفضلات في — ومن — موضع واحد، والسباحة في المياه العذبة — رغم أخطارها — تصرف الغالبية العظمى من الصبية والشباب في الريف المصري.٥٠ كذلك فإن غياب الفهم الصحيح لأخطار البلهارسيا، ووسائل تلافي الإصابة أو القضاء عليها، قد يجعل من انتشار المرض خطرًا مؤكدًا.
وإذا كانت رحلة المرض قد انتهت بعبد الحليم إلى الموت، فإن الرحلة ذاتها تشكل في خاتمتها — نتيجة لمضاعفات المرض — ربع الوفيات في الريف المصري: «كانت تكتب الفصلين الأولين عادة من مأساة المرض لدى أكثر من ٤٠٪ من الفلاحين المصريين، وتترك لأمراض أخرى كتابة الفصل الثالث، وإسدال الستار الأخير على المأساة.»٥١ وكان ذلك ما حدث لعبد الحليم شبانة. تسللت البلهارسيا إلى جسده، واستوطنت أمعاءه، دون أن تبين عن خطرها، حتى فاجأته بالنزيف ذات ليلة في عام ١٩٥٥م. في آخر التقارير الطبية عن مرض عبد الحليم، كتب الدكتور يس عبد الغفار: «إن سبب متاعب عبد الحليم المرضية يعود إلى مرض البلهارسيا، وهو مرض أصاب الآلاف من الأطفال المصريين، لكن المرض — في حالة عبد الحليم — أخذ شكلًا خاصًّا؛ فقد تليف الكبد، وتضخم الطحال، واستتبع ذلك ارتفاع ضغط الوريد البابي، فانتفخت بالتالي الأوردة الموجودة تحت الغشاء المخاطي للمريء والمعدة. وحين تتفاقم حالته، فإن المريء يصاب بنزيف حاد، يواجه به المصاب موتًا محققًا إذا لم يتم إسعافه في الوقت المناسب.»٥٢ وقد بدأت عمليات النزف، فنقل الدم، منذ بداية ظهور المرض إلى ما قبل وفاة عبد الحليم بساعات.
والواقع أن محاولات الحد من انتشار المرض، الكارثة القومية التي اختطفت مواهب، وقصفت أعمارًا، وأحدثت دمارًا في الاقتصاد القومي، وأساءت إلى الصحة الجسدية والنفسية للمجتمع المصري عمومًا … المحاولات تعددت باكتشاف هذا الدواء أو ذاك، وبإنشاء السد العالي، الذي كان له الفضل في القدرة على التحكم في مياه النيل، وتوفير الطاقة الكهربائية اللازمة لتصنيع الريف، وميكنة الزراعة ووسائل الري، وحسن استخدام مياه النيل، والحد من تلوثها، أو الإسراف في استعمالها، سواء بتغطية المصارف، أو إبعاد المجاري المائية عن الرقعة السكانية للقرى، مع الإشراف على الامتداد العمراني بها، مما يؤكد قرب التخلص من توطن هذا المستعمر بأجساد المصريين. قال لي الدكتور ماهر، صيدلي مدينة ديرب نجم، التي تبعد عن الحلوات ببضعة كيلومترات: لو أن دواء Vansi Paopsule كان متوافرًا أثناء المراحل الأولى لإصابة عبد الحليم بالبلهارسيا، فلعله كان بيننا الآن، يغني!

•••

أضافت رحلة المرض بعدًا جديدًا في المأساة التي لامست مشاعر المعجبين بفن عبد الحليم حافظ، بالإضافة — طبعًا — إلى إعجابهم بفنه؛ فهو ذلك الشاب الذي فقد أمه لحظة ولادته، ثم فقد أباه، ثم قضى طفولته في الملجأ، ولم ينقذه من المصير المؤلم سوى موهبته الصوتية، وإصراره — أحدثك عن الإصرار في موضع آخر — وهو — في الوقت نفسه — ذلك الذي يطلق آهة ألم مع كل آهة استحسان يصدرها المعجبون بصوته، وهو يجري عملية ينقذه بها الأطباء من الموت، ليعد نفسه لعملية أخرى. وأذكِّرك هنا، بالمقارنات بين حياة عبد الحليم وحياة البطل في أفلامه، وما كان بينهما من تشابه أحيانًا، وتطابق في معظم الأحيان.

•••

بعث عبد الحليم — يومًا — برسالة إلى محرر جريدة «السياسة» الكويتية، قال فيها: «قرأت ما كتبته عن عدم رغبتي في الزواج؛ لأن مرضي يمنعني من أداء وظائفي كزوج، وأحب أن أقول لك، ولك مطلق الحرية في النشر من عدمه، إنه ليس عندي مانع طبي يحول بيني وبين الزواج، مثل المانع الذي يعاني منه مرضى القلب أو الذبحة. فالممارسة لحقوق الزوج الجنسية ترهق القلب ولا دخل لها بالكبد. وكل ما أخشاه من الزواج الآن هو العمر القصير، فلا أستطيع تربية أولادي، ولا ذنب لهم، ثم العذاب الذي ستراه الزوجة معي، كممرضة تصحو من عز نومها لأن موعد الأقراص قد حان. أرجو أن أكون قد أجبتك على ما أثرت على صفحات «السياسة».»٥٣ ويقول مجدي العمروسي: «اقتنع الفتى الذي أصابه المرض بضربة قاضية، وهو ما زال في بداية الجولة الأولى، أن الزواج خطر على حياته، وشقاء — في الوقت نفسه — على من ترميها الرياح في طريق حياته، فلم يفكر في الزواج.»٥٤
لم يكن عبد الحليم إذن «ذلك الفارس المغوار الذي ينجح في كل غزواته، ولم يكن هذا العاشق الأسطوري، كما صور نفسه في بعض مذكراته الشخصية، وكأنه كازانوفا العصر، يكفي أن يمنح امرأة ما نظرة، فيسقط هيكل جسدها تحت قدميه، لا، لم يكن عبد الحليم ذلك اﻟ «دوان جوان» المقدام. كانت المرأة بالنسبة له ينبوعًا من ينابيع فنه ليس إلا.»٥٥ كان عبد الحليم يعرف طبيعة مرضه جيدًا، وأن الزواج بالنسبة إليه سيظل مشروعًا مؤجلًا؛ ومن هنا، فإني أوافق على أن عبد الحليم «لم يكن لديه وقت للحب»، والأدق أنه كان لا يدري ما هي الخطوة التالية، إذا أقدم على اتخاذ الخطوة الأولى في علاقة عاطفية. أتصور أن الحب في حياة عبد الحليم كان بعض المظهر الاجتماعي الذي كان الفنان أحرص الناس عليه. أما الحب؛ فالزواج فذلك — بالفعل — ما لم يخطر له في بال. أرفض القول إنه كان نرجسيًّا، يتخذ من النساء المدلَّهات في حبه مرايا يرى فيها نفسه، مثلما كان يفعل إله الإغريق نرسيس. كانت العلاقة الجنسية — في ضوء ظروفه الصحية — أمرًا غاية في الصعوبة، ولم يكن بوسعه — حتى بأخلاق الرجل الشرقي العادي — أن يعلن ذلك.

وكان الخوف من الموت — أحدثك عنه أيضًا في فقرات تالية — تكوينًا مهمًّا آخر في شخصية عبد الحليم، ونظرته إلى المستقبل: مأساة الطفل اليتيم كانت تفرض نفسها عليه في ذاكرته، وترفض أن تجدد نفسها فيما قد تأتي به علاقة زوجية. لذلك فقد تحولت الفتيات — في حياة عبد الحليم حافظ — إلى «قدر» في حياة فنان شهير، استطاع أن يستغل — بذكاء لم يخنه — تلك السلبية في حياته، إلى إيجابية تضيف لرصيده الاجتماعي، والإعلامي (وهذا هو الأهم) وتثريه: المطرب الذي تحب الفتيات سماع أغنياته، يحِب ويحَب، ويُصدم في واحدة لأنها رفضت حبه، بينما تموت أخرى فتترك في قلبه فراغًا دائمًا، وثالثة، ورابعة … حكايات تداعب أخيلة الفتيات، لا يصبح صوت المطرب وحده شاغلنا، لكن حياته الشخصية أيضًا: مأساة اليتيم، أو المريض، تثير إشفاقنا، تحرك سجايا أصيلة في النفس المصرية. أما تمني الحب، والتغني بعذوبته وتباريحه وآلامه، فإنه ينشد مراياه في قلوب المحبين، وما أكثرهم!

•••

زرت الحلوات، صحبني إليها صديقي الشاعر حسين علي محمد. سارت أقدامنا بلا هدف، وحاولت عيناي التعرف إلى كل شيء. غلبتني الدهشة — والأسى أيضًا — للفقر البادي في وجوه الناس، وفي الطبيعة والأشياء. فقر لم أشهده في معظم قرانا المصرية. حاولت تصور ما كانت عليه الحلوات قبل حوالي الستين عامًا، حين شهدت ولادة عبد الحليم شبانة. أفزعني مجرد التصور: ظروف غاية في القسوة والرداءة والمستوى الأدنى من الحياة. اليتم إحساس عاناه الطفل عبد الحليم فترات، ونسيه — أو تناساه — فترات أخرى. البلهارسيا لم تعلن عن وجودها في جسده إلا بعد أن حقق ذاته، أو كاد. حياة الملجأ لم تكن شرًّا خالصًا، ولم تكن خيرًا كذلك، لكن الحياة في الحلوات كانت هي الواقع القاسي القائم، والمتصل، الصورة الثابتة التي لم تغادر مخيلة عبد الحليم شبانة، حتى بعد أن ترك القرية ومحافظة الشرقية، واستقر به المقام — نجمًا — في القاهرة.

كان حرصي الأول أن أسأل: ماذا فعل عبد الحليم للحلوات؟ … روى الأهالي عن مساعدات مادية ومعنوية لبناء الوحدة المجمعة، لكن الواقع في الحلوات لا يزال قاسيًا بعد. فإذا عبرناه بالخيال — كما اقترحت عليك — إلى أكثر من ستين عامًا مضت، وتأملنا صورة الحياة في الحلوات آنذاك. ثم تأملنا قصة الطفل اليتيم الأبوين، الذي يضطر خاله — بضغط الحاجة — لأن يدخله الملجأ، فيصر — الطفل — على تجاوز ظروفه القاسية، ويفلح بالفعل في أن يحقق لنفسه موضعًا صغيرًا، ما يلبث — بالإصرار — أن يتسع ويتميز، لكن البلهارسيا التي كانت قد تسللت إلى جسده — في سني الطفولة أيضًا — أبانت عن تأثيراتها المفزعة في الأيام التي تصور الطفل — بعد أن أصبح شابًّا — أنه قد بدأ يجني ثمار ما زرعه. ويدخل عبد الحليم صراعًا آخر — غير متكافئ هذه المرة — مع المرض، يقاوم أحيانًا — بتأثير إرادة الحياة — وينهزم أحيانًا أخرى — بتأثير الطاقة المقابلة، الكامنة داخل منا. وتأتي النهاية في الغربة — نهاية متميزة كذلك — ويكون الفنان قد حقق الكثير، لكنه كان يطمح إلى تحقيق الأكثر.

المغزى يطرح نفسه: مأساة شاب مصري، صعد من السفح إلى القمة، جاوز — بالموهبة والذكاء والإصرار — ظروفًا غاية في القسوة والرداءة، حتى استطاع أن يحقق ذاته وفنه … لكن ماضيه كان ملتصقًا بلحمه، فلم يغادره. أبان عن نفسه في توقيت يكاد يكون محسوبًا. وتصاعد الصراع، حتى انتصر الماضي في النهاية؛ لأنه كان قد أفلح — منذ البداية — في تحقيق ضربات قاتلة.

الإصرار

لا أذكر متى ولا أين قرأت أن عبد الحليم حافظ «أسطورة خلقت نفسها». قول لا يخلو من مبالغة، لكنه لا يخلو من صحة كذلك. ومثلما واجه ميلاد الحياة في مأساة موت الأم، فقد واجه الميلاد الفني مأساة لا أعرف أن مطربًا آخر واجهها. مع ذلك، فإن عبد الحليم حافظ بالذات هو الذي واجه — بمفرده — مأساة جمهور ساخط، يطالب بإنزاله من خشبة المسرح، ومتعهد حفلات يشفق على إيراد حفلاته، فلا يجد إلا أن يشارك الجمهور مطلبه بنزول المطرب.

والسؤال هو: هل كان عبد الحليم حافظ مطربًا بالمقياس العلمي؟

الإجابة بنعم أولًا، صعبة، إن لم تكن مستحيلة، على غير الأكاديميين، أو الذين احترفوا التلحين في أقل تقدير. ولا يزعم الكاتب أنه يمتلك النظرة الموسيقية الأكاديمية التي تتيح له الإجابة على السؤال الصعب، ومن ثم فإني أوثر أن تكون الإجابة لمتخصصين، أتيحت لهم الدراسة الموسيقية، وأسهموا في المجال الموسيقي، سواء بالكلمة أو اللحن أو الأداء أو النقد. أما الفنان كمال الطويل فإن رأيه أن «المطرب هو الذي يدخل الطرب إلى نفس المستمع. وكان عبد الحليم أحسن من يغني ويطرب. الصوت الذي يطرب في زمن الميكروفون هو الصوت الذي يؤدي بإحساس مرهف، وأن يوصل هذا الإحساس للمستمع.»٥٦ في حين يرى مدحت عاصم أن عبد الحليم لم يكن صوتًا جميلًا بالمعنى المتعارف عليه «ولكنه كان يتميز بقدرته على التعبير والأداء الجياش العاطفي. وهذا يرجع إلى موهبته الفطرية ودراسته الموسيقية وإجادته للعزف على عدة آلات موسيقية للعزف، منها: الكلارنيت والأبوا والكمان والعود والبيانو، إلى جانب حبه للفن الموسيقي وإخلاصه له؛ ولذلك فإن عمق الأداء يأتي في المقام الأول قبل حلاوة الصوت.»٥٧ ويقول الناقد الموسيقي العراقي عادل الهاشمي: «إن الذي يتأمل صوت عبد الحليم حافظ في بداياته الأولى، ويجري إحصاء دقيقًا لدرجات صوته ومقاماته، ويختبر نبراته الهادئة المنخفضة، يتحفظ في إمكانية نجاح هذا الصوت من خلال الميكروفون، إلا أن عبد الحليم حافظ أخضع أنفاسه بصرامة لكي يضبط النغمات المتنوعة، فهو نافخ لآلة الأبوا، وهي آلة أوركسترالية ذات نغمات دقيقة وحزينة، لا يسهل ضبطها. وكانت الفترة التي قضاها عبد الحليم في إتقان النفخ فيها قد أفادته كثيرًا». ويضيف الهاشمي: «إن صوت عبد الحليم حافظ جديد في تصوير النغمات الغنائية، متطور في مع المقامات الغنائية، وفيه جرأة وذكاء في مواجهة القفلات والزخارف اللحنية. على أن مساحته لم تكن ممتدة كما هي في أصوات من سبقوه. وبين حيز زمني دخل فيه صوته ألوانًا من الاختبار والدربة والصقل، وصار لديه قرار متين تلعب فيه الألحان باقتدار، يتجذر جمالًا، ويتفق وأصول الغناء العربي الصحيح.»٥٨ أما المؤرخ الموسيقي فرج العنتري فهو يرى أن صوت عبد الحليم — بالقياس العلمي — تينور غنائي رقراق، جيد التوصيل لفكرة المؤلف، صوت أحباله منتظمة، تتميز بجمال الرنين.٥٩
ولا شك أن عبد الحليم — مثل الغالبية من أبناء جيله، والجيل الذي سبقه، والأجيال التالية أيضًا — يدين للميكروفون بفضل تحقق معجزته الغنائية. فصوته — بالقطع — يختلف عن أصوات عبده الحامولي وسلامة حجازي ومنيرة المهدية وصالح عبد الحي وأم كلثوم وشهرزاد وفايزة أحمد وغيرهم ممن كان يسهل أن يصلوا — بلا واسطة ميكروفونية — إلى الآلاف الذين يستمعون إليهم في الساحات والشوادر قديمًا. وفي المسارح والملاهي الليلية الآن. كان صوت عبد الحليم — في رأي غالبية دارسي الموسيقى — مكتمل الأبعاد، وإن كان يفتقر إلى تلك الذبذبات العالية في منطقة الجواب، والعريضة في منطقة القرار. ومن هنا، كان الميكروفون أهم الأدوات التي استطاع صوت عبد الحليم — بواسطتها — أن يصل إلى آذان مستمعيه. وفي بداية حياته الفنية، فإن الموسيقار الراحل فريد الأطرش أبدى إشفاقه من ضآلة فرص النجاح أمام عبد الحليم؛ لأن مساحة صوته لا تزيد عن مقامين — وكان يعني بالمقام درجة صوتية واحدة — فعارضه رأي مقابل: إن صوته محدود، لكنه يعرف كيف يحسن استغلاله أكثر من أصحاب الأصوات ذات المقامات الكثيرة. المثل الأيرلندي يقول: ثلاثة أشياء لا يمكن تعلمها: الكرم والشعر والصوت الطروب، ومع ذلك فقد عُني عبد الحليم بتدارك ما يحتاج إليه صوته من الصقل، وعُني بامتلاك ناصية القرار، بما يثري التعبير، ويتفق وأصول الفن، مع توضح لهجته الخاصة التي يصعب اعتبارها خروجًا على القواعد الفنية لضعف في الصوت، أو عجز في الأداء، بل إن الرأي الفني العلمي يجدها ميزة للفنان — فيما بعد — فتبدت في النبرات والأداء جوانب جمالية مؤكدة. وجاوز عبد الحليم رأي لجنة الإذاعة الذي اتهم صوته بالميوعة، لتعوده على النفخ «الخواجاتي»، فتعلم متى يرفع صوته، ومتى يخفضه، وكيف يضبط أنفاسه، بما يتيح للصوت أن يخرج صافيًا، واثقًا، حتى لقد وجد البعض في رقة أدائه مزيجًا من محمد رفعت وعبد الوهاب، رغم التباين الواضح في مجال الأداء!٦٠

•••

عندما اعترض الفنان بليغ حمدي على نسبة مدرسة إلى اسم عبد الحليم حافظ أو أن تُسمى باسم المطرب الراحل؛ ارتكازًا إلى أن الأداء هو مهمة المطرب في تقديم العمل الفني، بصرف النظر عن تميز صوته، وتفوقه عمومًا، فإنه كان يدافع — في الحقيقة — عن طبيعة عمله كفنان خلاق. وقد يبدو رأي بليغ حمدي — من وجهة نظر موضوعية — أقرب إلى الصواب، وإن كان — بالنسبة لعبد الحليم تحديدًا — يحتاج إلى مناقشة: هل كان دور عبد الحليم حافظ هو مجرد الأداء في الأغنيات التي كان يغنيها بصوته؟

لقد كان عبد الحليم صوتًا موهوبًا … ولكن: هل تكفي الموهبة لصنع ذلك النجاح المتميز، الذي تمتع به عبد الحليم طيلة حياته؟

اختفت الآراء — كما أشرنا — في قيمة صوت عبد الحليم. وكان الإجماع في أنه لم يكن أحلى الأصوات. وذهبت آراء إلى أن صوت عبد الحليم كان عاديًّا إلى أبعد الحدود. يقول الفنان في حديث صحفي: أنا أدرس فني جيدًا. كلمات لها دلالة واضحة، تؤكدها رتيبة الحفني بقولها إن عبد الحليم كان فنانًا جادًّا، يُعنى بفنه، ولا يستطيع أن يقدم أغنية «سلق بيض» …٦١ الأغنية ليست كلمات فقط، وليست لحنًا فقط، وليست كذلك أداء فقط. إنها مثلث متساوي الأضلاع، يصعب أن يحقق اكتماله وقوته إذا عانى أحد أضلاعه ضعفًا ما. محمد عبد الوهاب يؤكد أن عبد الحليم لم يكن مجرد أداة لتوصيل كلمات المؤلف وألحان الموسيقي إلى المتلقين، وإنما كانت له آراؤه مع الملحنين والمؤلفين الذين غنى لهم، وكانت هناك مناقشات دائمة بينه وبينهم، وعليه أن يقنعهم بوجهة نظره، ويقنعوه بوجهة نظرهم. ويقول عبد الوهاب: «كان إحساس عبد الحليم يقوده إلى الاختيار الأحسن لأعماله. كما سيطر على أدائه وتصرفاته في كل ما يتعلق بفنه. وكان هذا الإحساس يعطيه دفعات قوية وجرعات كبيرة لتأكيد نجاحه وتفوقه على جيله. وكان يستخدم ذكاءه في كل معاملاته الفنية وغير الفنية، فلا يقدم على عمل ما إلا وذكاؤه يحدد له مساره ومواقع أقدامه». ويقول: «من المؤكد أن عبد الحليم تميز بالذكاء والإحساس، ومن خلالهما كان ينتقي الكلمة التي يغنيها، ويختار اللحن الذي يؤديه، وأكثر من هذا، كان يشعر في اللحن بالجملة الحلوة، والنغمة التي يمكن أن تشد أو ترضي الجماهير، فكان يضع فيها كل ثقته ويخلص لها، بحيث يخرج الناس بعد سماعهم لهذه الأغنية بشيء يلفت نظرهم، ويثير انتباههم، شيء مميز عن باقي الأغنية. ولم يكن عبد الحليم يستطيع الوصول إلى تحقيق ذلك إلا من خلال ذكائه وإحساسه.»٦٢ وفي ملاحظة لواحد من أصدقائه: «لم أره منذ بدأ مشواره يأخذ كلمات من مؤلف كقضية مسلَّم بها. ما عليه سوى أن يعطيها للملحن، ويغنيها بعد ذلك لم يحدث ذلك مطلقًا، بل كان يناقش كل مقطع، وكل كلمة، ولا يقبل إلا ما يرتاح إليه، وما ترتاح إليه أذنه، ويعرف أن هذا سيصل منه إلى قلوب محبيه مباشرة، وما يتواءم ويتناسب وتفكيره، والهدف الذي قرره لذاته. أما الألحان، فإنه لم يغنِّ لحنًا على الإطلاق دون أن يناقشه ويتحسسه ويهضمه ويرتاح إليه، ولم يخشَ أية شخصية عملاقة قدمت إليه ألحانًا أو كلمات، في وقت كان فيه في أول درجات سلم الفن، بل كان يناقش ويناقش، حتى يقتنع تمامًا.» ويقول محمد الموجي: «لا أخفي أنه كان يتدخل في اللحن، لكن ليس في جوهره، إنما يطلب جملة لحنية مميزة، يشعر معها بالارتياح.»٦٣
إذن، فالقول إن عبد الحليم كان مؤديًا، وأنه لم يكن يمتلك سوى صوته، مردود عليه بأنه كان يمتلك موهبة الاختيار والتذوق. ولقد كانت المشكلة الأولى في ألحان فريد الأطرش — هذا الذي يمتلك موهبتَي التلحين والصوت — أنه لا يدقق في اختيار كلماته، فهو يلحن أي شيء يقدمه له المؤلفون. أما عبد الحليم، فإنه كان يختار الكلمات بنفسه، ويحذف، ويضيف، ويتابع اللحن بنفسه، ويحذف أيضًا ويضيف. ولم تكن قيادته للفرقة الموسيقية إلا استمرارًا لمعايشته الكاملة للحن، منذ يبدأ المؤلف في وضع كلماته، حتى يكتمل اللحن في صورته النهائية. وأذكرك بأن أولى أغنياته الفردية التي غناها من ألحان كمال الطويل، كانت قصيدة الراحل صلاح عبد الصبور «لقاء» التي رفض كمال الطويل — في البداية — اختيار عبد الحليم لها، وطلب منه أن يختار كلمات بسيطة … لكن عبد الحليم أصر على اختياره «لأنه كان يفضل أن يركب الصعب»، ونجحت القصيدة الأغنية فعلًا.٦٤ وقد شهد الطويل — دون أن يطالبه أحد بتلك الشهادة — أن عبد الحليم أسهم بدور مؤكد في صياغة ألحانه «لأنه كان يشارك بروحه في إخراجها قبل أن يغنيها، فكثيرًا ما يقترح أثناء التلحين نغمة جميلة تُكسب اللحن روعة وحلاوة.»٦٥ وفيما عدا استثناءات قليلة — أم كلثوم مثلًا — فإن الملحن هو الذي يختار مؤلفي الكلمات، وواضعي الألحان في حد سواء. وكان يناقش المؤلف، ويشير بتعديلات يرى أنها تساعد على اكتمال الأغنية، والمثل الأوضح: ذلك التباين بين أغنيتَي «رسالة من تحت الماء» و«قارئة الفنجان» والقصيدتين المنشورتين في ديوان نزار قباني «قصائد متوحشة». الأمر نفسه بالنسبة للملحن الذي كان عليه أن يقنع المطرب بلحنه أولًا، قبل أن تبدأ الفرقة الموسيقية في أداء بروفاتها. وظل تخلي عبد الحليم عن سمير محجوب — مؤلف «صافيني مرة» وغيرها من الأغنيات التي بدأ بها عبد الحليم حياته الفنية — سؤالًا معلقًا، بل يشير بالاتهام إلى عبد الحليم، ومعنى الصداقة في حياته. ثم فسر عبد الحليم الأمر بقوله: أنا أحاول المعاصرة في الكلمة. وكانت المعاصرة — كما أرادها الفنان وتصورها — في كلمات صلاح جاهين والأبنودي ونزار قباني ومرسي عزيز وغيرهم. ونستطيع أن نضع أيدينا على هذا المعنى، في قول سمير محجوب إن علاقته بعبد الحليم كصديق لم تنقطع طوال السنين، لكنه لم يعد يسأله عن إبداعه.٦٦ وكان بوسع عبد الحليم أن يتجه إلى التلحين، كما فعل العديد من المطربين، سواء أكانوا ينتمون إلى الجيل السابق، أم إلى جيله — محرم فؤاد مثلًا — أو الجيل التالي — هاني شاكر مثلًا. ومن المؤكد أن ثقافته الموسيقية كانت ستعينه على أداء دور الملحن إذا أراد، لكنه قصر دوره على الغناء، دون أن يجاوز ذلك إلى التلحين: «من حسناته أنه لم يلحن رغم كونه درس العزف، ولكنه كان ذا شخصية فرضها على الملحن، على عكس كثيرين من المطربين والمطربات الذين اكتفوا بترداد اللحن وترجيعه. ساوى شخصيته بشخصية الملحن، وكوَّن بذلك إحدى أكبر ميزاته، مطربًا صاحب شخصية مستقلة، اتُّهم بأنه كان يغير اللحن، لكنه قولب اللحن على ما يناسب شخصيته الصوتية. وعندما حصل على شخصية جماهيرية، فرض التطويل في الغناء، كما فعلت أم كلثوم.»٦٧ ولا يخلو من دلالة، حرص عبد الحليم أن يقود الفرقة الموسيقية بنفسه.

•••

القيمة الأولى لصوت عبد الحليم — بالإضافة إلى عذوبته — أن له شخصية مستقلة في الأداء. كان ذلك رأي عبد الوهاب لما استمع إلى صوت عبد الحليم شبانة للمرة الأولى في بيته. بيت عبد الوهاب — غنى عبد الحليم: جبل التوباد، وعلى إيه بتلومني. وكانت ملاحظة عبد الوهاب أن عبد الحليم لم يحاول تقليد أدائه للأغنيتين. ومثلما نجحت أم كلثوم في عصر منيرة المهدية لأنها لم تقلد منيرة، نجح عبد الحليم حافظ في عصر عبد الوهاب؛ لأنه لم يقلد عبد الوهاب. ولعلنا نلحظ أن كل مطربي الفترة التي بدأ فيها عبد الحليم رحلته الفنية — فيما عدا الأطرش وفوزي لأنهما كانا ملحنين — أخذوا إشارة البداية الفعلية بلحن لعبد الوهاب. أما عبد الحليم، فقد التقى بعبد الوهاب بعد أن حققت له ألحان الموجي والطويل مكانة متميزة. غنى «توبة» بعد أن غنى «صافيني مرة» و«على قد الشوق». ورغم «الفرقعة» التي أحدثتها توبة، فإن أغنيتَي الموجي والطويل وغيرهما من الأغنيات التي سبقتها — ولحقتها — حققت عليها تفوقًا مؤكدًا. وقد حاول الحاج صديق أن يرضي الجمهور، ويجنب المطرب — في الوقت نفسه — صدمة قاسية. طالبه بأن يقلد عبد الوهاب في بعض أغنياته، لكن عبد الحليم رفض، وأصر على رفضه. لم يكن ثمة وظيفة تدر عليه دخلًا ما، فقد استقال من مهنة التدريس، واستقال من وظيفة عازف الأبوا في فرقة الإذاعة الموسيقية. ومع ذلك، رفض أن يقلد عبد الوهاب الذي قلده من قبل كثيرًا، وقلد محمد قنديل في «الغورية» و«أهل اسكندرية»، وقلد محمد فوزي وعبد الغني السيد وغيرهما، لكنه كان قد خطا الخطوة الأولى في درب الاستقلال الفني. وكان وراء إصراره الغريب — كان كذلك فعلًا! — على عدم التقليد، تيقن من أنه إذا عاد إلى التقليد — بعد أن أولاه ظهره — فلن يكون ذاته أبدأ. ويقول عبد الوهاب: «كان عبد الحليم يحافظ على شخصيته من التأثر، فكل فنان يبدأ حياته متأثرًا بالغير، تمامًا كالكاتب الذي يبدأ الطريق وهو متأثر بأساليب غيره، حتى يصبح له أسلوب يميزه. حافظ على هذه البكارة، وظل مخلصًا لها طول حياته.٦٨ باختصار، فقد تميز عبد الحليم عن مطربي عصره، بأنه جاء بأداء مختلف، واكتسب بالتالي تميزه.٦٩

•••

ومع أنه كان من المفروض أن يغني عبد الحليم في ليلة عيد ميلاده الجديد. ليلة غنائه في مسرح الجمهورية. بمجرد أن يجد جمهورًا يستمع إليه، فإنه لم ينسَ أحلامه بأن تغادر الفرقة الموسيقية صورتها التقليدية: عشرة عازفين، أو اثني عشر عازفًا في أكثر تقدير، يصاحبون المطرب أو المطربة، ويسمون «التخت»، يؤدون على آلات محددة، مثل الناي والقانون والرق والكونترباس: «هذا الشكل القديم للفرق الموسيقية لم يكن يرضيني، وإنما كنت مشغولًا بشكل جديد لفرقة موسيقية حديثة». وبالفعل، ظهر الفنان للجمهور، ومن خلفه ستون عازفًا، دون أن يفعل ذلك فعلًا، ولكن ظهر — للمرة الأولى — عازفون جدد، وآلات موسيقية حديثة. وبعد أن كان المطرب — أو المطربة — يغني، والتخت الذي يصاحب أغنياته يتألف من العود والقانون والكمان، فضلًا عن الإيقاع الذي يضم الطبلة والدف، فقد تطور التخت إلى أوركسترا، ضم إليه العديد من الآلات الموسيقية الغربية، بالإضافة إلى تعدد الآلات الشرقية. وكان عبد الحليم في مقدمة من سعوا إلى تحقيق ذلك التطور في الفرق الموسيقية.

•••

كان عبد الحليم يدرك قواعد اللعبة في الوجدان المصري جيدًا، فليس ثمة «قمة» تتسع للكثيرين. ذلك أبعد ما يكون عن خاصية التفكير المصري منذ عرف المجموعات القبلية التي تحيا على ضفتَي النهر، وتخضع لإرادة زعيم أو شيخ، عندما فرضت المركزية نفسها من خلال حاكم واحد، أجاد نشر جهازه البيروقراطي (لم تكن التسمية قد ظهرت بعد)؛ المفتشين والكتبة والجباه وموظفي المساحة والري … إلخ. ومن خلال عقيدة التوحيد التي نبتت في أرض مصر، من قبل أن تفد إليها الأديان السماوية، وصولًا إلى عقدة «الواحد» التي يصعب أن تطاول قامات الآخرين قامته. ثمة أستاذ الجيل وموسيقار الجيل وسيدة الغناء وسيدة الشاشة وسيد الرواية وعميد الأدب وأمير الشعراء — والأسماء المرادفة للصفات معروفة تمامًا — وأتصور أن عبد الحليم — ذلك الذي كان، كما قلت، يدرك قواعد اللعبة جيدًا — قد حسم الأمر مع نفسه، في تلك اللحظة التي قرر فيها أن يعتزل الوظيفة — أيًّا كانت — ويتفرغ للغناء وحده: أن يكون هو «الوحيد» في الأغنية المصرية. ولم يكن من السهل مجرد السير في طريق الهدف، فقد كان «الواحد» آنذاك هو موسيقار الأجيال عبد الوهاب. كان يلحن ويغني في آنٍ معًا. وكان الاختلاف الوحيد في أغنياته: أيهما أكثر طربًا: عبد الوهاب القديم أم الجديد؟ أما المرشحون للخلافة فقد كانوا كثيرين: محمد فوزي وعبد الغني السيد والأطرش وعبد العزيز محمود وجلال حرب وكارم محمود … إلخ. أصوات استطاعت أن تحقق رأيًا عامًّا، وتنبئ عن عدم خلو الساحة، وصعوبة «الفرصة» أمام الصوت الجديد. ومن هنا، يجدر بنا التوقف أمام دلالة كلمة «الإصرار» في رحلة عبد الحليم نحو تحقيق ذاته.

من الصعب تصور أن عبد الحليم أهمل عنصرًا — ولو ثانويًّا — فتركه للمصادفة. لقد حاول أن يستغل حتى سلبيات المصادفة، فيحولها إلى إيجابيات تفيد صورة فنه، وتضيف إليها رتوشًا وظلالًا، بما يحقق وضوح الصورة واكتمالها. كانت الابتدائية هي آخر ما حصل عليه عبد الحليم من الشهادات العلمية، ثم التحق بالمعهد العالي للموسيقى العربية، فانحصرت الثقافة التي تلقاها في دروس الموسيقى، وبالذات: آلة الأبوا التي تخرج عازفًا بها، حتى استطاع — فيما بعد — أن يغير مسار حياته ويصبح مطربًا، لكن عبد الحليم جعل «التعويض» هدفًا ثابتًا، أو في الأدق: هدفًا موازيًا لهدف تحقيق الذات كمطرب. لم يكتفِ بالصفة التي تحدد عمله بأن يردد ما يلقنه له الآخرون، وإنما حاول أن يعيد صياغة الشخصية بكل أبعادها، أصر المطرب على أن يجاوز دور المؤدي، ويكون له رأيه الحاسم فيما يقدمه من أغنيات، وفي تفصيلات الصورة التي تظهر بها تلك الأغنيات، متمثلة في نوعية الآلات، وفي تضاعف عدد العازفين، وفي أسلوب الأداء الذي يصل إلى حد تلاحم الفنان بالكورس — ظاهرة غير مسبوقة في الأغنية الفردية — والكورس هنا هو التعبير عن الجمهور المتلقي كما في أغنية «حكاية شعب». الكورس، الجمهور، الشعب، يبدأ بالغناء: قلنا حانبني وادي احنا بنينا السد العالي … إلخ. وتتوقف الموسيقى تمامًا بانتهاء الكوبليه، ويعلو صوت المطرب مناديًا: إخواني.

– هيه.

– تسمحوا لي بكلمة.

– هيه.

– الحكاية مش حكاية السد.

حكاية الكفاح اللي ورا السد.

حكايتنا إحنا.

حكاية شعب للزحف المقدس قام وسار.

حكاية شعب خطوته تولع شرار.

شعب زاحف … وانكتب له الانتصار.

تسمعوا الحكاية؟

– بس قولها م البداية.

وتعود الموسيقى، ويبدأ المطرب في رواية الحكاية منذ بداياتها.

•••

أقول: كان حظ عبد الحليم من التعليم محدودًا. ولم يكن له سوى أن يعتمد على أذنيه — أساسًا — في تحصيل ثقافته، فهو يجالس كبار الأدباء والمفكرين والصحفيين، يستمع إلى مناقشاتهم، ويفيد بما يتناثر أمامه من معلومات وآراء، ويسأل أحيانًا، وربما شارك في المناقشة، وينعكس ذلك كله بالتالي في أحاديثه العامة، والخاصة. وقد أضاف عبد الحليم إلى ذلك قراءات واسعة في كتب المعارف الإنسانية، فضلًا عن تعلم اللغة الانجليزية التي أفادته في أسفاره إلى الخارج. ولعلنا نلاحظ أن أغنيته الأولى «لقاء» كانت من اختياره. الأمر نفسه بالنسبة للأغنيتين اللتين غناهما من كلمات نزار قباني، وجميعها قصائد شعرية. وقد تعمدت أن أستمع إلى عبد الحليم في العديد من التسجيلات الإذاعية، لا لمجرد الحصول على «معلومات»، وإنما للتعرف إلى قدراته في الحوار، وفي الرد على الأسئلة. الامتحان الشفهي — بدءًا من الدراسة الابتدائية إلى الدراسات العليا — يستهدف التعرف — بصورة مباشرة — إلى القدرات الحقيقية للطالب. وكان واضحًا من متابعتي أحاديث عبد الحليم الإذاعية، أن تثقيف نفسه في مجالات الحياة المختلفة، كان همًّا أوليًّا، حرص عليه، واستطاع أن يقطع فيه خطوات واضحة. ولعل عبد الحليم كان يحاكي أم كلثوم، بالسير في الطريق التي اختارتها لتثقيف نفسها، فتصبح سيدة مجتمع لا مجرد مطربة. كانت تحرص على أن يكون جلساؤها من المثقفين، تفيد من مناقشاتهم، وتسأل ويجيبون. اكتسبت الكثير من المعارف التي أهلتها لكي يكون لها آراؤها المعلنة في الفن والمجتمع والسياسة، ولكي ترشح نفسها نقيبًا للموسيقيين.

كانت شحنات الطموح تمثل دافعًا أساسيًّا لعبد الحليم حافظ. وقد ذهب في طريق إعداد شخصيته إلى حد محاولة اقتباس السلوك الاجتماعي من الآخرين. تعلم من محمد عبد الوهاب مثلًا، أن الفنان ليس مجرد موهبة، ليس أداء فقط، لكنه موهبة أداء، زائد ذكاء وعلاقات اجتماعية متشابكة ومتسعة. لم يدخل عبد الوهاب الجامعة ولا المدرسة الثانوية، لكنه تعلم في جامعة شوقي والحكيم ووهيب دوس وعبد الحميد عبد الحق ومكرم عبيد وأنطون الجميل … واستمع عبد الحليم طويلًا، وتعلم حتى أسلوب الفنان في الحوار: متى يصمت، ومتى يتحدث، وماذا يقول. وعندما تعرف إلى إحسان عبد القدوس، وامتدت صداقتهما، كان عبد الحليم ينسى نفسه أحيانًا، فيقلد «إحسان» في لغته! ومع أن عبد الحليم بدأ من القمة — أو هكذا تبدت الصورة حين أعجب عبد الوهاب بصوته، وتعاقد معه لمدة عامين — فإنه لم يتحرك في الاتجاه الذي ينشده خطوة واحدة؛ ذلك لأن عبد الوهاب اكتفى بتوقيع العقد، ودفع أقساطًا من قيمته المادية، دون أن يتيح لعبد الحليم فرصة الغناء فعلًا. وعاني عبد الحليم في الغناء بطريقة «الدوبلاج» على شاشة السينما، فسجل — بصوته — أغنيتين في فيلم «فجر»: «لو كنت يوم على قلبي تهون» … وفي فيلم «بعد الوداع»: «ليه تحسب الأيام». وغنى عبد الحليم في أربعة أفلام، لم يحاول مخرجوها أن يقرنوا صورته بصوته، بمعنى أن يتيحوا له الظهور في لقطة سينمائية، بما يعكس تأثيرًا سلبيًّا في نفسية الفنان يصعب إغفاله، أو التهوين من قيمته. لكن الإصرار الذي كان بعدًا أساسيًّا في شخصية عبد الحليم، كان باعثًا لأن ينتظر الفرصة المفتقدة، وإلى اقتناصها متى جاءت، ثم جاءت تلك الفرصة فعلًا، لما عرض عليه عبد الوهاب بطولة فيلم «لحن الوفاء» أمام شادية. وتعثَّر إنتاج القصة، وتولتها شركة أخرى للإنتاج هي شركة أفلام المخرج إبراهيم عمارة (اقترض عبد الحليم معظم البدل التي ارتداها في الفيلم!) لكن «لحن الوفاء» كان بداية جديدة، فعلية، لعبد الحليم حافظ، جاوز بها ظروفه النفسية والمادية في آن. ولأن عبد الوهاب كان مثلًا أعلى، بوصلة تقود عبد الحليم فيما تشير إليه، فقد حرص عبد الحليم على أن يوسع من دائرة أصدقائه، ليسوا جميعًا من الوسط الذي ينتمي إليه، وإنما صادق العديد من الملوك والأمراء وكبار مسئولي الدولة. أفادته الثقافة التي سلح بها نفسه، لا في مجال تخصصه فحسب، ولكن في مجالات المعرفة الإنسانية بعامة. بدا ندًّا ومحاورًا وطرفًا في مناقشات تتناول قضايا شتى، لا مجرد مطرب يدعونه للغناء فيغني. ومن منطلق رفض الفشل، جاءت تلبية عبد الحليم السريعة لطلب الحاج صديق — في الصيف التالي — أن يعود عبد الحليم ليغني في الإسكندرية، وعلى المسرح نفسه الذي ذاق فيه مرارة الفشل. المؤكد أن الحاج صديق كان يعد نفسه للرفض، لذلك عرض على عبد الحليم مائة جنيه في الليلة الواحدة، وليس خمسة جنيهات كما حدث في الحفل الأول. ووعده أن يكون نجم الحفل وليس مجرد مطرب مشارك. وقدم الأغنيات نفسها التي رفضها الجمهور من قبل. وعندما وقع عبد الحليم عقده مع عبد الوهاب لبطولة فيلمين، لم تكن المادة هي شاغل عبد الحليم. كان ما يشغله. أكثر من. المقابل المادي — أنه وقع عقدًا، طرفه الثاني محمد عبد الوهاب. وهذا العقد خبر منشور في الصحف، فهو إذن ليس مجرد عقد، بل هو شهادة له، ربما أقوى من شهادة الميلاد.

•••

من الصعب إغفال دور المصادفة في حياة البشر. كم من مسارات تغيرت نهاياتها، ربما لحادث عابر، أو مناقشة جانبية (أتذكر محمد مندور الذي غيَّر مساره التعليمي بعد نقاش عابر مع طه حسين!) لكن عبد الحليم استطاع — بإصراره — أن يُخضع المصادفة لإرادته. «صادف» عشرات الأحداث والمواقف: اليتم المفاجئ، حياة الملجأ، مهنة العجلاتي — أو الحياكة التي بدأ في تعلمها — عمله كمدرس يتقاضى راتبًا ثابتًا في نهاية كل شهر، عمله كعازف على الأبوا ضمن فرقة الإذاعة الموسيقية، فشله في الإسكندرية، الاكتفاء بصوته — دون صورته — في أغنيات الأفلام … وكان ذلك كله يكفي لأن يغير مسار حياته تمامًا — نشدانًا للاستقرار في الأقل. لكنه فضل المجازفة، حتى استطاع — بمساعدة أكيدة من الظروف. أن يحقق ذاته في النهاية. لقد ساعدت الظروف عبد الحليم في احتلال موقعه المتميز منذ البداية؛ فالأصوات الموجودة كانت قد استنفدت نفسها، ولم يعد لديها ما تضيفه. حتى عبد الوهاب كان قد بدأ يقلل من دوره كمطرب، مكتفيًا بدور الملحن. وكان صوت عبد الحليم — ذو المساحة الصوتية المحدودة — ينبض بنبرة مميزة، تجمع بين الرقة والرجولة، فضلًا عن أنه أتي في بداية مرحلة ثورة، بكل ما يعنيه ذلك من متغيرات اجتماعية وسياسية وثقافية. كانت صورة المجتمع المصري قبيل ظهور عبد الحليم — بالتحديد: قبيل قيام ثورة يوليو — صارخة الطبقية، إن جاز التعبير. وكانت الأغنية — في بعض أبعادها — تعبيرًا عن تلك الطبقية، بدءًا بكلمات بيرم ولحن وأداء عبد الوهاب: «محلاها عيشة الفلاح … متهني قلبه ومرتاح … يتمرغ على أرض براح … والخيمة الزرقا ساتراه» … فلما تغيرت تركيبة المجتمع المصري بقوانين يوليو، وما استحدثته من تغير فعلي في جميع مجالات الحياة، تغيرت بالتالي صورة الحياة في الريف المصري؛ فالفلاح هو ذلك الذي: «دفع العرق عُقد وحلق» … وهو واحد من الملايين الذين يغنون «نفوت على الصحرا تخضر» … وهو الذي يشارك مواطنيه التحدي «ولا يهمك يا ريس، م الأمريكان يا ريس، حواليك أشجع رجال». وكان الحزن الذي يتجه إلى التسليم، سمة الأغنيات العاطفية؛ إلى حد غناء أم كلثوم — دعك من الأصوات المريضة! — «حبك في ذل خضوعي». ثم ذوت تلك النزعة الاستسلامية شيئًا فشيئًا في أغنيات عبد الحليم، بدءًا ﺑ «لقاء» — أولى أغنياته — إلى آخر أغنياته «قارئة الفنجان»، أو ما بعد الأخيرة «حبيبتي من تكون»، فضلًا عن التغير في الأسلوب اللحني، وطريقة الأداء. دور المتلقي في أغنيات أم كلثوم وعبد الوهاب والأطرش — إذا دندن بتلك الأغنيات — هو الاكتفاء بترديدها. أما إذا كانت الأغنية لعبد الحليم، فإنه يغنيها لنفسه، ولمحبوبته. صورة المحبة في مرحلة الكلاسيكية هي الأرستقراطية، أو ذات الأصل — على حد التعبير المتوارث — والمحب كذلك هو ابن الذوات، أو الأفندي في أقل تقدير. ثم أصبح الحب في أغنيات عبد الحليم متاحًا للجميع. صار المحب يغني بأعلى مدى صوته: «يا صحابي يا أهلي يا جيراني … أنا عاوز اخدكوا في أحضاني»، ليس بالمعنى الحسي، وإنما تعبيرًا عن حبه الخاص، الذي جعله محبًّا لكل الناس.٧٠ وفي الوقت الذي كان عبد العزيز محمود يغني: «يا شبشب الهنا، يا ريتني كنت أنا» فإن عبد الحليم كان يحرص على أداء الأغنيات التي تؤكد إنسانية الإنسان، حتى من خلال المواقف العاطفية. والحزن خاصية أساسية في الأغنية العربية عمومًا، لكن الحزن في أغنيات عبد الحليم يختلف — بصورة مؤكدة — عن أغنيات من سبقوه. إنه حزن غير متواكل، وغير منهزم، وغير مستسلم. وفي دراسة للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، حول «ظاهرة الغناء المصري، وأثر عبد الحليم حافظ فيه»، يؤكد الدارس اختلاف عبد الحليم عن سائر مطربي عصره، في أنهم كانوا يمتلكون أصواتًا مؤدية فقط، بمعنى أنها لم تكن مرتبطة بفكر معين، أو معبرة عن شيء جديد أما عبد الحليم، فقد أتاحت له الظروف — غنى لأول مرة في حفل عام بعد قيام الثورة بعام — أن يكون مطرب الثورة بلا منافس على الإطلاق. عبَّر عن إنجازات الشعب وانتصاراته، وهزيمته أيضًا، في العديد من الأغنيات. ظاهرة ثانية، تنفي بها الدراسة عن صوت عبد الحليم صفة الأداء المجرد، وهي أن الأصوات التي كانت سائدة في عصر عبد الحليم حافظ — أؤكد التعبير! لم يتحدث أي منها بروح «الجماعة»، ولم يخاطب الجماعة بالتالي. كان «الصوت» يخاطب الفرد، يعبر عن أحاسيسه وانفعالاته وعواطفه وتطلعاته وآلامه وأفراحه، في حين أن الكلام بلغة «الجماعة» ظاهرة لم تعرفها أغنياتنا إلا بعد قيام ثورة يوليو، وكان عبد الحليم حافظ تعبيرها الواضح والواعي.

وبالإضافة إلى الظروف السياسية التي أحاطت بظهور عبد الحليم حافظ — قيام الثورة وما تلاه من أحداث — فقد رافقتها ظروف أخرى مساعدة، في مقدمتها: ظهور مدرسة جديدة في الموسيقى والغناء، أهم ملامحها وقسماتها ألحان علي إسماعيل وكمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي وعبد العظيم عبد الحق ومنير مراد. أما مؤلفو الأغاني، فقد ظهرت أسماء: صلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب وعبد الرحيم منصور وطرحت — للمرة الأولى في حياتنا الثقافية — كلمات لم تتضمنها الأغنية المصرية من قبل، مثل: الصخر، الجرانيت، لهاليب الصلب، التصنيع الثقيل، الاجتماع السياسي … إلخ. وتغنى عبد الحليم بالمزارع والمصانع والعمال والفلاحين.

يبقى أن صوت عبد الحليم هو موهبته الأولى. دعك من ذكائه، وحسن اختياره للكلمة واللحن، وإجادته فن العلاقات العامة. تلك جميعها ألوان الصورة وظلالها، لكن صوته هو الصورة نفسها.

•••

من معايبنا أننا نفتش عن أسباب أخرى للنجاح غير السبب الحقيقي، أسباب تعاني التكلف وعدم الموضوعية والشذوذ. وقد رُويت عن عبد الحليم وقائع منحطة، يرفضها التصديق لأسباب غاية في البساطة والموضوعية؛ أولها أن عبد الحليم كان قد حقق تفرده بموهبة أصيلة وحقيقية، فهو إذن لم يكن في حاجة إلى وسائط أخرى من أي نوع. وثانيها أن المواصفات الصحية والجسمية لعبد الحليم تجعل من قبولنا لتلك الروايات، قبولا لما يرفضه المنطق البدهي. أما ثالث تلك الأسباب، فهو أن عبد الحليم كان قد صنع نجاحه في مصر، قبل أن يغادرها إلى خارج الحدود، وأتذكر رأي الصديق الناقد رجاء النقاش بأننا نعجب — أحيانًا — برؤية التماثيل المكسورة!

•••

التلوث بالصوت والكلمة والصورة، أشد خطرًا وضررًا على الإنسان من التلوث الذي تسببه المصانع والمعامل. وثمة تقديرات بأن اليابانيين اخترعوا الترانزستور، ردًّا على قنبلتَي ناجازاكي وهيروشيما اللتين تعانيان التلوث حتى الآن؛ ذلك لأن الترانزستور لا يترك أحدًا بمنأًى عنه، وهو يمارس فعله باتجاه واحد؛ إذ إن غالبية اليابانيين الساحقة، لا تجيد لغة أخرى، فيؤثرون ولا يتأثرون.٧١ والقضية قديمة، عبر عنها كونتليان (Quinttilian 35 م.) في قوله عن موسيقى العصر: «فالموسيقى التي أود أن أراها تعلم، ليست موسيقانا الحديثة التي أفسدتها الألحان الحسية التي تشيع في مسرحنا المخنث، والتي قامت بدور غير قليل في القضاء على البقية الباقية من خشونتنا وصلابتنا. كلا، وإنما أشير إلى موسيقى القدماء التي كانت تستخدم في الإشادة بذكر الشجعان، وكان يغنيها الشجعان أنفسهم. إنني لا أقبل شيئًا من آلاتكم الهوائية، أو الوترية التي لا تليق حتى بصبية وضيعة، وإنما أود أن تعطوني معرفة مبادئ الموسيقى التي لها القدرة على إثارة انفعالات البشر، أو تهدئتها.»٧٢ وقد ضاعت الأندلس لأسباب اجتماعية وسياسية وثقافية كثيرة، ومثيرة، لسنا الآن بصدد التوقف أمامها، ومناقشتها، وإن كان من بين تلك الأسباب — في تقدير غالبية المؤرخين — ما تفشى في المجتمع الأندلسي — أعوام غروبه — من موسيقى وأغنيات، تتجه إلى الغرائز، وتتغنى بالخمر والغلمان. يقول ابن خلدون في مقدمته: «إن أول ما ينقطع من العمران عند تراجع الحضارات هو فن الغناء». ومع أن الإبداعات العربية في مجالات القصة والشعر والفنون التشكيلية والمسرح، وغيرها، تعمق من خبراتها، وتضيف إليها بما يتيح لها مجاوزة الحدود، فإن الموسيقى تسبح في الضحالة، وتعاني أمراضًا مزمنة، وتكتفي بالإفادة والتأثر من التيارات الموسيقية العالمية، دون أن يتاح للتأثير خصاص أمل! … واللافت أن الموسيقى الفرعونية سبقت حضارة الفراعنة نفسها. وكما قال مؤرخ إغريقي فإن «صوت الموسيقى في مصر، سُمع قبل ظهور أول شعاع من فجر الحضارة الفرعونية». وكان المصريون يستخدمون الموسيقى الجنائزية — إلى عهد قريب — في تشييع موتاهم. الموسيقى في الموت أيضًا!

الأصل الحسي الذي نشأت فيه الموسيقى المعاصرة، واحد من أهم الأسباب التي جعلتها عاجزة عن النهوض إلى مستوى الفنون الأخرى في حياتنا. وما زلنا — إلى اليوم — نجد الأنغام التي تلحن بها أجمل القصائد ذات الطابع الديني أو الصوفي، قابلة لأن تصبح موسيقى راقصة، لو بدَّلنا كلمات القصيدة بكلمات الحب والغزل المألوفة، أو إذا استعضنا عن الغناء بالرقص.

والحق أن هبوط المستوى تهمة واجهتها الأغنية المصرية في توالي العصور. فالاتهام قائم أيام المماليك، قائم في العصور التالية، إلى زماننا الحالي. وفي أوائل القرن الماضي — بالتحديد في ١٩ أكتوبر ١٩١٢م — ألقى طه حسين محاضرة في نادي الموظفين قال فيها: «إذا صح ما يقولون من أن مقاييس الرقي الأدبي لكل أمة من الأمم هي أشعارها وأمثالها وأغانيها؛ لأن الأشعار مرآة النفس، والأمثال صورة الفكر، والأغاني لغة القلوب … أقول: إذا صحت هذه القاعدة، وقسنا رقي العرب الجاهليين الذين لم يؤدبهم أستاذ، ولم يثقفهم كتاب، ولم يصلح أخلاقهم دين، أرقى منا أنفسًا، وأذكى قلوبًا، وأبعد منا همًّا، وأصدق عزيمة، والدليل على ذلك سهل ميسور.»٧٣ ولعلِّي أوافق على أن المشكلة ليست في الأغنية فقط، وإنما هي في كل الفنون، انعكاسًا لواقعنا العربي السياسي الممزق، والذي ينعكس بالتالي على الفن والفنانين، فحال الفن من حال السياسة في عالمنا العربي.٧٤ وأضيف: إن اللحظة الحضارية واحدة. إنها أشبه بنظرية الأواني المستطرقة، ومن الصعب أن يتحقق تفوق في مجال ما بينما بقية المجالات تعاني السقم والهزال، وإن كان «العلم» هو الإمكانية الثابتة — الوحيدة — التي يمكن بواسطتها أن تقدم إضافة حقيقية. وقد آمن عبد الحليم — كما آمن سبنسر من قبل — بأن «أعلى ضروب الفن، أي فن، يرتكز على العلم، ولن يتيسر للمرء، بغير العلم، الوصول إلى أفضل تقدير للفن.»٧٥
ولعله يمكن التعرف إلى التغير الذي أحدثه عبد الحليم حافظ في مجال الأغنية، من خلال حرصه على تحقيق التكامل في المثلث المتساوي الأضلاع. لقد جعل الناس يعنون بذلك الجانب المهم جدًّا، المهمل لغير سبب، في الأغنية المصرية، وهو الكلمات. للكلمة — في رأي أفلاطون — مكانة أرفع من اللحن؛ لأن النص الشعري نتاج العقل. أما اللحن فتعنيه لذة الحواس وحدها، ومن ثم فإن مكانته أدنى. ومع ذلك، فإن جمهور الناس يفهم من الشعر والنثر، ومن الغناء والموسيقى، ما يتهيأ له فهمه؛ أي ما يقدر هو على فهمه، أو ما يريد هو فهمه، أكثر مما يدرك من المعاني الحقيقية في الشعر والنثر، ومن الاهتزاز الصحيح في الغناء والموسيقى. معظم الناس لا يفرق بين المعنى والمعنى، ولكنه يؤخذ باللفظ الذي يظن أنه يفهم معناه، وبالنغم الذي يظن أنه يدرك سلوكه في النفس، حتى لو أن سائلًا سأل سامعًا عن كلمات تغنى، لما استطاع ذلك السامع في أحوال كثيرة، أن يعرفها، أو أن يدرك معانيها إذا هو فهمها، أو ظن أنه فهمها.٧٦ اللحن والصوت — إذا تحقق لهما المستوى الجيد — يغطيان تمامًا على ما قد تعانيه الكلمات من سذاجة، حتى إن ملحنًا — هو بليغ حمدي — ألف كلمات بعض أغنياته، ودارى رداءة الكلمات بألحان تنبض باجتهاد لا شك فيه، وبصوت نجاة. ومع أن أغنية فريد الأطرش «جميل جمال» قد حققت نجاحًا، فإن المستمع لم يشغله — في الأغلب — ذلك التناقض الواضح في مطلعها: فالفنان يصف محبوبه بأنه لا مثيل له في جماله، ويصفه — في الشطرة التالية — بأنه «صدق اللي قال … زي الغزال». وليلى مراد تتجه إلى حبيبها بالقول: «سنتين وانا احايل فيك … ودموع العين تناجيك». كلمات يغيب عنها المعنى كما ترى، أو أنها هابطة المعنى! ومع أن السعيد محمد بدوي يحاول التأكيد على أهمية الكلمة في أبعاد الأغنية: الكلمة، اللحن، الأداء، وهو دور أقرب إلى التمني منه إلى التعبير عن الواقع، فإنه ما يلبث أن يقلل من أهمية دور الكلمة من حيث إنها تتوجه إلى طبقات الشعب جميعًا؛ أي إلى جمهور يمثل الأميون وأشباههم فيه أكثر من ٧٠٪ وحتى نسبة اﻟ ٣٠٪ الباقية، يتمتع أغلبها بحظ قليل من المعرفة والقدرة على تذوق الكلمة المعقدة. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الجمهور يلقى الأغنية سماعًا، ولا تسنح له الفرصة لقراءة الكلمات، واستيعابها، وتدبر معانيها، والنطق يتم بسرعة كبيرة نسبيًّا، كما أن معظم المطربين الآن — بكل أسف — ممن لا يحسنون النطق، ومن ضعيفي المخارج بالأصوات اللغوية، ومن ماضغي الكلمات. إن جانبًا من الكلمات يغرق وسط الآلات الموسيقية، والكثير من أجهزة الاستقبال (الراديو أو المسجل أو التليفزيون) ليس في حالة ممتازة كما ينبغي للمحافظة على نقاوة الصوت، وأن الجمهور كثيرًا ما يسمع الأغنية دون إنصات حقيقي (البعض يتكلم، أو يؤدي أعماله اليومية …) إذا أضفنا كل هذه المعلومات التي نعانيها جميعًا، ونعرفها جيدًا، لأدركنا السبب في عدم قدرتنا على التقاط جميع كلمات أغانينا. ولقدرنا مدى عِظم المعجزة التي تتحقق في كل مرة يسمع فيها الجمهور أغنية، ويدرك ما تريد أن تقول.»٧٧ وعندما واجهت الأغنية — في بدايات القرن — اتهامًا بالسوقية والانحطاط وسوء المستوى، انحصر الاتهام في الكلمات: «خدني ف جيبك بقى … بين الحزام والمنطقة»، أو «إن كنت تايه عن بيتنا … بيتنا قدامه دحديرة. وان كنت خايف من ابويا … أبويا عدى المنصورة … وان كنت خايف من جوزي … حشاش وواكل دتورة». فلما تكرر الاتهام — في أواسط القرن — كانت الكلمات أيضًا هي جسم الجريمة، مثل «حمودة فايت يا بنت الجيران» التي يقول فيها المحب لمحبوبته: «إديني بوسة، أنا زي اخوكي … ناوليني ناولي … يا بنت الجيران»! … وهنا يبدو التناقض واضحًا. فنحن إذ نستمع إلى أغنية، إنما يشدنا الأداء، ويستهوينا اللحن، وتأتي الكلمات في مرتبة تالية، وقد لا يشغلنا تدبر معانيها على الإطلاق، ونحن نناقش المستويات الأدنى التي تحياها الأغنية صعودًا وهبوطًا. الكلمات — بالنسبة للمستمع في الأقل — تأتي في مرتبة تالية بعد اللحن والأداء، بل إن الأداء هو الأغنية في معظم الأحيان. وربما فرض اللحن نفسه استثناء، كما في أغنيات عبد الوهاب لأم كلثوم، على سبيل المثال. مع ذلك، فإن مناقشة تدني مستوى الأغنية يرتبط فحسب بتدني مستوى الكلمات. تلك هي الصورة المتكررة في كل المناقشات التي تناولت مستوى الأغنية، منذ بدايات القرن وحتى الآن — والأمثلة أكثر من أن نشير إليها٧٨ — ارتفاع مستوى الأغنية، أو تدنيه، إنما يرتبط بالكلمة في الدرجة الأولى. إذا ناقشنا تفوق أغنيات الشيخ إمام — مثلًا — فإننا نناقش تعبير الكلمات عن هموم حياتنا السياسية والاجتماعية، في حين أن نقاشنا لتدني مستويات أغنيات عدوية ونظمي وكتكوت وغيرهم، إنما هو نقاش لتعبير الكلمات — في ذاتها — عن الجوانب السلبية في حياتنا. وأخيرًا، فإن الارتقاء بالأغنية يعني الارتقاء بالكلمات. إنها هي سدى الأغنية، أما اللحن والأداء فإنهما لا يرتبطان — حتى بالنسبة للاجتهادات النقدية — بالقيمة المضمونية للأغنية من عدمها. وإذا كان بعض الناس لا يلقون بالًا إلى معاني الشعر المغنى بقدر ما يندفعون مع عواطفهم وخيالهم بما يخيل إليهم من مرامي الغناء في أنفسهم هم٧٩ فإن عبارات مثل «صناعة كبرى … ملاعب خضرا … تماثيل رخام … ع الترعه وأوبرا … وف كل قرية عربية …» مثل هذه الكلمات لم تكن تحتمل غير معانيها ودلالاتها المباشرة والموحية، فهي أغنيات للتحميس وللتطريب في الوقت نفسه، وهي كذلك تناقش همومًا حياتية، بحيث يصعب إلا أن نعي، ونتدبر، ما تنبض به من كلمات. وقد قدم عبد الحليم «يا مالكًا قلبي» و«رسالة من تحت الماء» و«قارئة الفنجان»، في الوقت الذي كانت معطيات الساحة الغنائية — من خلال الملايين من أشرطة الكاسيت — تشمل «حلاوتها أم حسن» و«ماخدش العجوز أنا» و«الطشت قاللي» و«زق زوبه زقه» و«العتبة جزاز» … فهو قد حرص إذن على أن يحتفظ بإيجابية الكلمات، رغم المناخ السائد حوله. الأغنية — كلمات الأغنية تحديدًا — لها دورها المؤكد، والذي يصعب تغافله، في تكوين ذوق الفرد، والمزاج العام للمجتمع. وقد فاز صديقي عبد العال الحمامصي بجائزة الدولة التشجيعية بقصة قصيرة اسمها «هذا الصوت وآخرون». والمقصود بهذا الصوت مغنٍّ يؤدي كلمات غاية في السقم، بلا معنى، أو أن معانيها هابطة، لا يقدمها التليفزيون أو الإذاعة، لكن الريكورد كاسيت أتاح لها انتشارًا لم تحققه أغنيات مطرب أو مطربة أخرى. المغني — في أوائل القرن — كان يجد مكانته في عدد السرادقات والقرى التي دعته للغناء فيها. فلما جاء الرديو جاء بوسيلة جديدة، تحسن الغريلة قبل التقديم، ثم جاء التليفزيون، وسيلة جديدة أخرى. أما الريكورد كاسيت، فقد أتاحت ثقوب غرباله الواسعة إذاعة ما لم يكن متاحًا إذاعته من قبل. وزاد من خطورة الأمر أن المتلقي هو الذي يختار وليس الإذاعة أو التليفزيون. لقد تبدلت صورة المجتمع، تركيبته، أنشطته. والأغنية بعض التعبير عن ذلك كله. إنها تختلف تمامًا عن أغنية الخمسينيات والستينيات. تذكرنا بأغنيات الحرب العالمية الأولى، وأغنيات شكوكو في الأربعينيات، أغنيات ما بعد الحرب العالمية الثانية: «واد يا حدقة» … أو «إديني بوسة، أنا زي اخوكي» … انتشرت أغنيات مثل «حبة فوق وحبة تحت» و«نار يا حبيبي نار … فول بالزيت الحار» … و«أحمد حلمي اتجوز عايدة … والمأذون الشيخ رمضان» … والأسماء الثلاثة لثلاث مناطق في حي شبرا!

•••

كان عبد الحليم يسبح ضد التيار: عدوية وكتكوت وجمهور الانفتاح والصفير والهتاف: شوف فلان بيعمل إيه … إلخ ذلك كله في موازاة «يا مالكًا قلبي» و«رسالة من تحت الماء» و«قارئة الفنجان» وغيرها من الأغنيات المناقضة في كلماتها وألحانها وأدائها. لقد وضع عبد الحليم أصابعه في فمه، وأطلق صفيرًا مشابهًا للصفير الذي كان يحدثه هؤلاء الانفتاحيون في مقدمة الصفوف. خاطبهم باللغة التي أصبحت لغة الفترة، وهو لم يصرخ في مستمعيه — قبلًا — بتلك الكلمات الغاضبة: بس بقى! … إنه غضب على اضمحلال قيم، ومجيء قيم أخرى. إلغاء ثورة يوليو بإلغاء نتائجها الإيجابية: تشويه المثل الأعلى، الانفتاح، تغليب الأنماط الاستهلاكية، تعاظم النزعة الفردية، وقيم الكسب السريع، التجريف، التبوير، التعامل مع المال العام باعتباره وسيلة للمكسب الشخصي، وليس ملكًا للجماعة، إلغاء القطاع العام، استيراد أطر الحياة الخليجية، التعامل بالفهلوة والشطارة والحداقة، والتحقير من جدوى العلم … إلخ.

•••

ولأن الموسيقى — مثل كل المعطيات الثقافية — هي التعبير عن الواقع الثقافي لكل مجتمع، تواصلًا بتراثه القديم، فإن مدى استساغة المقطوعة الموسيقية وفهمها وتذوقها، يختلف من شعب إلى آخر. وبالطبع، فإن الأغنية — الكلمات عندما تلحن! — تضيف بعدًا سلبيًّا جديدًا في مدى تقبل الأغنية التي قد يغيب عنا مغزى كلماتها، لسبب بسيط، هو أننا لا نفهم هذه الكلمات، إذا كانت في لغة أجنبية لا نعرفها. ومن هنا، تبدو الأغنية العربية — تلك التي تحرص على الخصائص الموسيقية الشرقية — شيئًا غير مفهوم بداءةً بالنسبة للمستمع الأوروبي لعدم فهمه للغة، وأنغامًا تبعث على السأم والملل لنبوِّها اللحني عما ألِفه في موسيقاه الكلاسيكية والحديثة على نحو سواء. وقد تبدو الأغنية الغربية — في المقابل — في أذن المستمع المصري، العربي، الذي لا يجيد لغة الأغنية، شيئًا أقرب إلى الصراخ المزعج، وخالية من أية دلالة أو معنى، يزيد من رفضه لها تلك الحركات التي يصاحب بها المطربون المحدثون أغنياتهم.

الأمر نفسه بالنسبة للموسيقى الصامتة؛ فالتطريب الذي يستهوي المستمع الشرقي، قد يجد فيه المستمع الأوروبي رتابة وتكرارًا ومللًا، بينما الموسيقى الكلاسيكية الغربية في أذن المستمع العربي، لا تعدو شيئًا هلاميًّا ينبو عن التطريب.٨٠ ويؤكد المستشرق البريطاني هنري فارمر أن جذور الغناء العربي، يمكن أن يتتبعها الباحث إلى ثلاثة آلاف سنة، فهي بذلك قد عاصرت موسيقى قدماء المصريين وشعوب الشرق القديم.٨١ ولا شك أن الموسيقى العربية قد تبادلت التأثر والتأثير مع موسيقى المناطق المجاورة لشبه الجزيرة العربية، وأعني بها تحديدًا: موسيقى الفراعنة والبابليين والفينيقيين والسبئيين.٨٢ وكان ربع الصوت نسيجًا في الموسيقى الأوروبية، إلى حد أنَّ باخ وجد في ربع الصوت عقبة تحول دون التطوير الموسيقى الذي كان يأمله، فألغاه. وقد حوربت خطوة باخ آنذاك من الموسيقيين الأوروبيين. ثم ما لبث المزاج الأوروبي أن تقبَّل شيئًا فشيئًا، غياب ربع الصوت، ليس لعدم وجوده في الطبيعة، وإلا لما كانت الأذن الأوروبية تتقبله، حتى أقدم باخ على خطوته التطويرية. ساعد على ذلك دخول الحضارة العربية في عمق مراحل الانحطاط، فتعودت الأذن العربية — بفعل التوازن الحضاري — على المقامات الغربية، وأصبح من الصعب — وربما من المستحيل — إعادة ربع الصوت إلى الأذن الأوروبية بحيث تألفه. وقد أصبحت الموسيقى الغربية عنصرًا مؤثرًا في المجتمع المصري، عقب رحيل الحملة الفرنسية، وبالتحديد في عهد محمد علي الذي أدخل الموسيقى الأوروبية على الجيش، بإشراف مديرين من ألمانيا وفرنسا. وحذا خلفاء محمد على حذوه في إدخال الموسيقى الأوروبية؛ محاولة — ولو بالتهجين — لتطوير الموسيقى المحلية. وتحقق ذلك بصورة مطلقة في عهد الخديو إسماعيل، الذي أذن بتدريس الموسيقى في مدارس البنات منذ ١٨٧٣م. كما نقل فكرة أكشاك الموسيقى عن الغرب الأوروبي، فتولت إحدى الفرق الموسيقية تقديم حفلات في حدائق الأزبكية — كانت حدائق! — وافتتح دار أوبرا القاهرة بأوبرا عايدة، التي كتبها فردي — الموسيقار الإيطالي — لهذه المناسبة. وزاد إسماعيل، فجعل تردد الطلبة على المسارح والحفلات الموسيقية بالمجان. وفي موازاة ذلك، كان التأثير العثماني ما زال ممتدًّا، ولعله كان يتنامى بإيقاع أسرع. وبالذات، بين الطبقات الأرستقراطية التي كانت تحيا في مصر بتقاليد تركية. وقد تبدى ذلك التأثير في استقدام الفرق الموسيقية من إسطنبول، وامتزاج الموسيقى المصرية والتركية بصورة ما زلنا نحيا امتداداتها، وإن أسهم تصاعد الحس القومي في ظهور موسيقى وأغنيات سيد درويش — التي تأثرت بتصاعد الحس القومي، وأثرت فيه — وبعد أن كانت كلمات المغنين من نوع: مليكي أنا عبدك … مجروح يا قلبي سلامتك … للخديوي محاسن جمة … حبذا عصر سعيد … دام لنا الخديوي … غنى سيد درويش، وردد الشعب وراءه: مصر يا ست البلاد … أنت غايتي والمراد … وعلى كل العباد … كم لنيلك من أياد. إلى ظهور سيد درويش، كانت الموسيقى المصرية/العربية خليطًا من الأنغام التركية والعجمية، في إطار عربي مذهب. وكانت فن السادة والحكام، لا يجاوز أسوار القصور وبيوت الأثرياء وأجنحة الحريم. وقد انعكس ذلك كله — بالطبع — ليس في نوعية الألحان فحسب، وإنما في نوعية الكلمات أيضًا. ظلت بعيدة عن الواقع الذي يتنفسه الملايين من أبناء الشعب المصري، بعيدة عن مشاعره الحقيقية، وطبيعته، وذوقه. من هنا، تتبدى دلالات الانقلاب — الثورة — الذي أحدثته موسيقى سيد درويش في حياة الشعب. نهل سيد درويش من الموسيقى الشرقية. حفظ عن المعاصرين ما لقنوه إياه من التواشيح القديمة والجديدة. فلما حاول التأليف، حرص أن تكون الكلمات تعبيرًا عن الحياة اليومية لبسطاء الناس، وأن تكون الألحان أيسر في الوصول إلى عقولهم وقلوبهم. هجر البشارف وعالم الحريم والدغدغات الحسية، وعبر — بعفوية مطلقة في البداية — عن حياة الناس العاديين، واقعهم وآمالهم وتطلعاتهم وما يعانون. ثم تبلورت رسالته شيئًا، أمامه، وأمام الآخرين، فارتاد — وهم معه — طريق الثورة الفنية التي تبدت قسماتها في ثورة ١٩١٩م. أما هؤلاء الذين كانوا معه، فهم العديد من المؤلفين والمترجمين والمخرجين والممثلين والنقاد: بديع خيري وعزيز عيد وأمين صدقي ومحمد تيمور ومحمود مراد ونجيب الريحاني وبيرم التونسي وتوفيق الحكيم وحسين فوزي وزكي طليمات وغيرهم. ومثلما واجه عبد الحليم حافظ — فيما بعد — نستبق الأحداث! — اتهامًا مماثلًا مع الفارق في ماهية الاتهام — بأنه قد يكون مؤلفًا موسيقيًّا مجددًا، لكن فضل الكلمات والمعاني التي تضمنتها أغنياته، يجب نسبته — ببساطة — إلى سواه من الشعراء والزجالين. نسي أصحاب الاتهام المثير — أو تناسوا — أن هؤلاء الزجالين والشعراء لم يقصروا ما كتبوه على سيد درويش وحده، لكن سيد درويش — وحده — هو الذي وضع على معطياتهم بصمة الخلود.

•••

إن موسيقانا المصرية/العربية تختلف عن الموسيقى الأجنبية، سواء كانت أوروبية أو شرقية، في عدد درجات السلم الموسيقي، وتركيب المقامات اللحنية، وخصائصها، والكسور الصوتية — وأشهرها: ربع الصوت، أو في الأدق: ثلاثة أرباع الصوت.٨٣ ذلك التمايز الذي يبعث بالطرب في نفس المستمع بما يخالف التأثير الذي تحدثه الموسيقى الأوروبية — مثلًا — في نفس المتلقي، بالإضافة إلى السمات المحلية والقومية الأخرى التي يصعب إغفالها. وقد شهد الذوق العام — في أوساط الشباب بخاصة — تحولًا كميًّا وكيفيًّا في اتجاه الموسيقى الغربية، والأغنية الغربية بالتالي، في المقابل من إهمال الموسيقى العربية — والأغنية العربية أيضًا — وإن كانت محاولات إحياء التراث العربي التي تنهض بها — منذ سنوات — أكثر من جهة: فرقة الموسيقى العربية، فرقة أم كلثوم، معهد الموسيقى العربية، قد أحدثت تأثيرًا فعليًّا في مدى إقبال الشباب على سماع الموسيقى — والأغنية — العربية، بعد أن كانت — في تقديرهم — شيئًا ساذجًا ممجوجًا.
مع ذلك، فإن النظرة إلى موسيقانا وأغنياتنا سلبية لدى العديد من المثقفين المصريين، الذين يحرصون على تأكيد إيمانهم بكل ما هو غربي — عبارة أستاذنا حسين فوزي الشهيرة! — فهم لا يستمعون إلا للموسيقى الأوروبية. ويروي الراحل يوسف حلمي أنه دخل في مناقشة حول حياة بيتهوفن وموسيقاه، مع أحد مستشاري المحكمة التي كان يترافع أمامها. المستشار يسأل، ويوسف حلمي يجيب. فلما سأل يوسف حلمي إن كان المستشار يعرف شيئًا عن سيد درويش، قال المستشار وهو يلوِّح بيده، ويشيح بوجهه: مش الراجل بتاع غنوة شم الكوكايين؟٨٤ ومن الظواهر اللافتة في حياتنا الثقافية، أننا قد نهمل العلاج، ونلجأ إلى الحلول الجاهزة. وهكذا، فقد دعا العديد من المثقفين المصريين إلى التوجه نحو الغرب، والاقتباس المباشر منه. وكانت تلك الدعوة بمثابة ضوء أخضر أمام العديد من الملحنين لتقليد الموسيقى الغربية، أو الاقتباس منها. وبسبب ربع الصوت — التون — أو ثلاثة أرباع الصوت، فقد ذهب بعض مؤلفينا — ممن درسوا الموسيقى الأوروبية، وفاتهم أن يدرسوا، أو يتذوقوا الموسيقى العربية — إلى استحالة اللقاء بين موسيقى العرب وموسيقى الأوروبيين؛ لأن ربع الصوت جعل الموسيقى العربية — في رأيهم — ألحانًا أفقية يتعذر أن يتداخل فيها، أو تنضم إليها، الألحان الرأسية، أو الهارموني. وهكذا أصبحت الموسيقى الأوروبية بوليفونيك — أي ذات تراكيب — وباتت موسيقانا هرموفونيك؛ أي ذات بعد واحد بسيط. لكن الذي لا يمكن إنكاره أن للموسيقى هنا وهناك أصلًا واحدًا، يقوم على السلم الفيثاغورس المشهور، والذي استنبطه فيثاغورس من دراسة موسيقى الإغريق وقدماء المصريين وتذوقها، والشعوب التي سبقت الإغريق في الحضارة وفن الغناء، ومن أهمها الشعب العربي.٨٥ ولعل أبلغ دليل على عزلة الغناء الأوروبي عن المستمع المصري، أن مطربي الأوبرا المصريين يؤدون الأوبرا الإيطالية وسواها من الألحان الأوروبية وليس لهم في مصر جمهور، ولا يمكن أن يكون لهم.٨٦ وقد وهبنا فؤاد زكريا تفسيرًا علميًّا لعدم إقبال الغالبية من شعبنا، حتى الذين يحظون بثقافة رفيعة، على سماع الموسيقى الكلاسيكية الغربية: «من المسلم به أن جمهورنا إيجابي بطبيعته إزاء جميع العروض الفنية التي يحضرها، وتلك في الحق سمة من السمات المميزة لطبيعتنا المصرية، فليست لدى جمهورنا، إذا حضر حفلًا فنيًّا، القدرة على أن يستمع بنفس هادئة وأعصاب باردة، أو على أن يظل محتفظًا بالمسافة بين المشاهد ومقدم العرض حتى نهاية الأداء. ومن هنا، كان حضور حفلات الموسيقى الكلاسيكية — مثلًا — عملية تعذيب أليمة بالنسبة للكثيرين، ليس فقط لأنهم لا يتذوقونها، بل لأن الجلسة الصامتة الخاشعة التي يستمع فيها المرء سلبيًّا، مخالفة لما اعتادته طبيعته من مشاركة إيجابية في العروض الفنية. ومن هنا أيضًا، كانت استجابتنا للتراجيديا تتميز بالعاطفة المفرطة التي تصل إلى حد البكاء المر. وكانت استجابتنا للكوميديا تتسم بالاندماج الكامل الذي يبلغ أحيانًا حد تبادل التعليقات والنكات مع الممثل.»٨٧

•••

يقول الموسيقي العالمي شوستاكوفيتش: لكي يستطيع الإنسان أن يحب الموسيقى، يجب عليه أن يسمعها. ومن هذا المنطلق، يمكن التأكيد — ليس فرط حماسة! — على أنه بوسع موسيقيينا نقل موسيقانا القومية — بربع صوتها المسكين! — إلى آفاق الموسيقى العالمية، إذا توفر الإيمان بدايةً بهذه الموسيقى، وإمكانية تقديمها إلى المستمع الأوروبي، بحيث يحبها، فلكي يحب الإنسان الموسيقى، عليه أن يسمعها … أليس كذلك؟

أذكر الحكاية القديمة، عندما طرق شاب معمم بيت قاسم أمين، فلما فتح قاسم أمين الباب، طالبه الشاب أن يأذن له بمقابلة زوجته — زوجة قاسم أمين — وسأله الرجل عن السبب، فقال الشاب: إنما أنفذ ما دعوت إليه في كتابك «تحرير المرأة».

وعاود قاسم أمين السؤال في دهشة: هل قرأت الكتاب؟

قال الشاب: لا … وإن كنت عرفت أنك دعوت فيه إلى وجوب لقاء الجنسين في أماكن خاصة وعامة!

وهتف قاسم أمين: إني لم أدعُ إلى ذلك مطلقًا، فاقرأ الكتاب!

وإذا كان المستمع الأوروبي سيئ الظن بالموسيقى الأوروبية، مثلما هو سيئ الظن بالحضارة العربية عمومًا، ناهيك عن الواقع العربي الذي يعطي المثل لتلاشي الحضارة وفقدان المدنية، فإنه بوسعنا أن نلح على أذنيه بما يرى أنه جديد، وأنه يستطيع النفاذ منهما، والتسلل إلى عقله ومشاعره ووجدانه بموسيقى يسهل عليه — في النهاية — أن يحبها. لقد قدمت أعمال الموسيقي اللبناني عبد الغني شعبان — المتضمنة ثلاثة أرباع الصوت — في المجر، فلقيت إعجابًا، حتى لقد سمي عبد الغني شعبان: بارتوك الشرق. وبارتوك — كما تعلم — هو أعظم المؤلفين الموسيقيين العالمين المعاصرين، وعندما عزف المؤلف الفلسطيني سلفادور عرنيطة بعض مؤلفاته في برلين، صيف ١٩٧۳م، خرج الجمهور الألماني عن وقاره المعروف، وأبدى إعجابه معلنًا بالمقطوعات الموسيقية الشرقية ذات الربع صوت.٨٨ إن فهم الموسيقى لا يقتصر على جماعة بشرية، إنما هي لغة كل البشر؛ لأنها لغة روحية، تعبر عن الوجدانيات والمشاعر المكنونة في صدر المؤلف الموسيقي. ومثلما تعبر الكلمات عن الآراء والأفكار والمشاعر بين بني البشر، فإن الموسيقى تؤدي الدور نفسه، وإن تفوقت على الكلمات العادية في أن فهمها — كما قلت — لا يقتصر على جماعة محددة. إن لكل أمة لغتها القومية، ولكل أمة موسيقاها الخاصة أيضًا. لقد أعطى باخ — ومن تلاه — موسيقاهم من خلال تفكيرهم الموسيقي الخاص والمستمد من تميز الحضارة والمناخ الثقافي والبيئة الاجتماعية وغيرها من الخصائص التي تشكل شخصية شعب ما. الأمر نفسه بالنسبة للموسيقى الروسية الجديدة التي تأسست على الموسيقى الشعبية، فأصبحت — كما قال ليست — دمًا جديدًا، دخل إلى جسم الموسيقى الأوروبية المهترئ.

الإيمان بالشخصية القومية إذن، هو الأساس الذي يمكن أن نقيم عليه دعاماتنا الثقافية الفنية، من موسيقى وأدب وفنون تشكيلية وقصة ومسرح وشعر … إلخ. أن يكون الطابع القومي حرصنا الأول، دون الانفصال عن التراث القديم من ناحية، والتراث العالمي — قديمًا ومعاصرًا — من ناحية أخرى. وحين تصدر أعمالنا الموسيقية عن ذواتنا وإحساسنا بقوميتنا، فإنها تعكس — بالضرورة — ما يحياه المؤلف — والمجتمع — من لحظة حضارية؛ فالفنان يتفاعل — ويعبر — بما يحياه مجتمعه من عادات وتقاليد وثقافة وظروف سياسية وبيئية. تطوير الموسيقى العربية — والغناء العربي بالتالي — يجب أن يتم من خلال الخصائص الموسيقية العربية. وإلا فإن علينا تذكر قصة الغراب الذي أراد أن يقلد مشية الطاووس، فلم يحسن التقليد، ولم يستطع العودة إلى مشيته العادية … وأعتذر لرداءة التشبيه! وعندما بنى الموسيقار الراحل أبو بكر خيرت على لحن سيد درويش «إيه العبارة» بواسطة تركيب غنائي موسيقي يخلو من الخصائص اللحنية العربية، فإن الفشل المؤكد كان هو المصير الذي لقيه. وبالتحديد، فإن الاعتماد على النقل من الموسيقى الأوروبية، دون محاولة اكتشاف الهوية المحلية، سبب مباشر وأساسي في الركون إلى التقليد بأكثر من محاولة الابتكار، فتأتي الألحان من ثم متشابهة، تعاني التكرار الممل، مع كثرة اللوازم الموسيقية. وإذا كان لي رأي في مدى إمكانية استفادة فنوننا — وثقافتنا عمومًا — من الفنون والثقافات الأجنبية، فإن الثقافة «المنعزلة». تلك التي ترفض التأثر والتأثير. أقرب إلى البحيرة الراكدة، بينما المفروض أن تستفيد كل ثقافة من الثقافات الأخرى. وكانت قيمة سيد درويش أنه استفاد من التطور الموسيقي الأوروبي، دون أن يغادر محليته، هوية موسيقاه وخصائصها ومزاج المتلقي العادي، والتعبير عن أبعاد حياتها وهمومها ومشكلاتها وتطلعاتها … إلخ. وواجهت الثورة «الدرويشية» رفضًا — نسيناه الآن! — من كلاسيكيي تلك الفترة. نسوا — أو تناسوا — أن ما كانوا يروجون له كان تأثرًا بالغًا بالموسيقى التركية والفارسية وغيرها، وأنه لم يكن تعبيرًا عن الموسيقى المصرية الصميمة. كما استطاع سيد درويش أن يلتقطها ببراعة من حياة الأفراد والجماعات، من الشوارع والأزقة والبيوت والباعة والفواعلية والشغيلة والحرفيين والسابلة، حتى المجاذيب، عكست موسيقاه حياتهم. وقد روى المعاصرون لسيد درويش عن التقاطه للنغمات التي يصدرها بائع العرقسوس، وتلك التي ينادي بها جرسونات القهاوي على ما يطلبه الزبائن، بل إن الأسلوب المتميز في الخناقات والمشادات بين مواطني الأحياء الشعبية، ما تلبث أذن الفنان المرهفة أن تمتصه، وتحيله نغمات مصرية صادقة.

استفادة الفنان إذن من التطورات العالمية في مجال فنه، مسألة مطلوبة وملحة، بشرط ألا تتحدد تلك الاستفادة في النقل غير الواعي، أو غير المتفهم، لمزاج البيئة التي يعبر عنها، ويصدر فيها، وظروفها.

وإذا كان عبد الحليم حافظ قد تعاون مع ملحنيه في تقديم أغنيات ذات صلة حميمة بالموسيقى الأوروبية المعاصرة، فإنه قد استطاع — في الوقت نفسه — أن يقدم — في مجموع أغنياته — ما يرضي المزاج المصري العام بالصورة التي استطاع من خلالها أن يقدم رأيًا عامًّا غلابًا. «أهواك» من ألحان عبد الوهاب، و«صافيني مرة» للموجي، و«على حسب وداد قلبي» لبليغ حمدي، و«احنا الشعب» للطويل … النظرة المتأملة إلى عناوين هذه الأغنيات، تتعرف على تنوع ألوان القماشة التي ارتداها في دوره كمطرب، وهو تنوع يرفض التباين، أو أنه تباين يعبر عن أذواق الأجيال — عاصر أجيالًا ثلاثة — ومدى اقتراب كل جيل من هذا اللون أو ذاك. أدرك عبد الحليم أنه إذا كانت الاستاتيكية هي أبرز خصائص الموسيقى الشرقية، في المقابل من الديناميكية، التطور المذهل للموسيقى الغربية في العقود الأخيرة، جعل من محاولة إتقان اللغة العالمية للموسيقى ضرورة، على العاملين في مجال الموسيقى العربية أن يتقنوها. ومن هنا كان حرص عبد الحليم على «العلمية» في أبعاد الأغنية المختلفة، بل في وسائل التوصيل والتقديم، بدءًا باستخدام التوزيع الموسيقي والهارموني والكورس والمايسترو، إلى استخدام الجيتار الكهربائي والأورج الإلكتروني … إلخ. بحيث تتطور الموسيقى — والأغنية — من واقعها الحالي، إلى المفهومات العالمية، دون أن تفقد طابعها المحلي، وعناصرها المستمدة من واقع بيئتها.٨٩ يقول الناقد الموسيقي العراقي عادل الهاشمي: «وقف عبد الحليم حافظ خارج نطاق الأغنية الكلاسيكية المتراكمة، وخارج البشارف والمواويل والأدوار والتواشيح. إن فنه محلول في الجديد، وينضوي بدقة في تيار التكوينات الفنية الحديثة. لقد أعطى عبد الحليم للنزاع بين القديم والجديد بعده الاجتماعي. لم يدعه ينحسر في الإطار التقليدي للنزاع. إن الغناء الذي قدمه كان يعكس ترتيبًا جماليًّا أسهم في احتضان الحس الاجتماعي الإنساني داخل حركة الغناء. إن عبد الحليم في أغنياته الوطنية قد مزج بين القرار — أي النغمة الجماعية الموحدة — وبين الارتجال الفردي، وهذا المزج استعاره من الطابع العام الذي كان يجمع أطر الأغاني القديمة: «كان يعكس ترتيبًا جماليًّا، أسهم في احتضان الحس الاجتماعي الإنساني داخل حركة الغناء.»»٩٠ وقد حاول عبد الحليم في كل المجالات: قدم الأغنية العاطفية والوطنية والشعبية، والقصيدة، بعكس كل أبناء جيله. على حسب وداد قلبي — مثلًا — هي اللون الذي كان يقدمه محمد رشدي ومحمد قنديل وشفيق جلال … ظلموه وغيرها من الأغنيات العاطفية هي اللون الذي كان يقدمه التلباني والعطار ومحرم فؤاد وكامل حسني. الأغنيات الوطنية هي اللون الذي كان يتنافس في أدائه الجميع. أما القصيدة الشعرية، فقد حقق فيها تفوقًا واضحًا في «رسالة من تحت الماء» و«يا مالكًا قلبي» و«سمراء» وغيرها.
غنى عبد الحليم أغنيتين شعبيتين — أو من مصدر شعبي — هما «على حسب وداد قلبي» و«أنا كل ما اقول التوبة». ولقيت الأغنية الأولى نجاحًا، بينما واجهت الثانية مصيرًا قاسيًا لم تفلح في تجنبه، برغم حرص عبد الحليم على تكرار غنائها، لتثبيتها في أذن المستمع، كما يقولون. وحاول عبد الحليم — كما قال فيما نُسب إليه من مذكرات — أن تكون «أنا كل ما اقول التوبة» — كلمات الأبنودي ولحن بليغ حمدي — بداية مرحلة فنية جديدة، في اتجاه الأغنية السريعة، لكنه لم يسر خطوات أخرى تالية في ذلك الاتجاه، بل لقد ارتادت أغنياته الأخيرة دروبًا مغايرة؛ ذلك لأن توزيع أغنية «أنا كل ما اقول التوبة» بالأسلوب الأوروبي، حشاها بإيقاعات صاخبة، باعدت بين الأغنية وأصلها الفولكلوري، وبين أذواق المتلقين. وكما يقول كمال النجمي: «فقد تمزق اللحن الفولكلوري بين المطرب والمجموعة المصاحبة له — الكورس أو الكورال.» وانقلبت الأغنية الخفيفة إلى مشاجرة ثقيلة، تشابكت فيها الأصوات الرجالية والنسائية، وتناطحت الآلات الوترية والخشبية والنحاسية. وأمعن من هذا في سوء التقدير، أن موزع اللحن — وهو غير ملحنه — قد أفرغه من إيقاعه الموسيقي العربي الموافق لنغمته الشجية القديمة، ونفخ فيه إيقاعًا أوروبيًّا اختلط بضجة الآلات الموسيقية المفتعلة، فأتم قطع الصلة بين اللحن وأصله المصري الريفي القريب إلى النفوس. أما أغنية «على حسب وداد قلبي» التي خرجت في العشرينيات، أو قبلها بقليل، من مدينة قفط بالصعيد، فلم يصبها من التوزيع ما أصاب أختها، بل نجت منه تمامًا، فأقبل عليها المستمعون مستمتعين بلهجتها الغنائية الأصيلة.٩١ وفي تقدير ناقد آخر، فإن «النقل الحرفي والتقليدي الأعمى للموسيقى الأوروبية، لا يمنع جديدًا ولا يغير واقعًا، إنما يكرس الكثير من قيم الجهل واللاوعي؛ لأن ذلك يصنع ثغرة بين الشكل الموسيقي والمحسوس اللحني، وهو. إضافة إلى ذلك كله. محاولة فاشلة لتجاهل أذواق شعبنا.»٩٢ لذلك، يصعب القول، إنه حين غنى عبد الحليم حافظ «أسدل الستار على الغناء الشعبي، فقد أصبحت أغنيات عبد الحليم هي الأغنيات الشعبية التي يرددها الناس»؛ ذلك لأن الأصل أقوى من المحاكاة في كل الأحوال. أما أغنيات الحب، فقد كانت هي التعبير المقابل عن الصفة التي كادت تصبح ثابتة، وهي أن المصريين شعب حزين. نعم، المصري يرتدي ملابس الحداد أربعين يومًا، وربما امتد ذلك إلى سنة وسنوات. وكانت العادة — إلى عهد قريب — استخدام الموسيقى الجنائزية في تشييع الموتى، والندابة مهنة أساسية في قرانا، و«اللهم اجعله خيرًا» هو الدعاء الذي يعقب كل ضحكة صادرة من القلب … لكن للمصريين أفراحهم أيضًا. وثمة مناسبات لتلك الأفراح، وإن كان غناؤهم فيها للحب والفرح. الطرب لا يكون بالأغنيات الرمادية الحزينة، وإنما بأغنيات الفرحة والأمل والمستقبل … أغنيات الحب!

•••

تساءل أحد النقاد يومًا: هل ورث عبد الحليم حافظ عرش الغناء عن أبيه؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا لم يظهر حتى الآن من هو قادر على خلعه عن العرش؟ وأوضح الناقد تساؤله بأن الجمهور العربي يستهويه بين الحين والآخر، شيء من عملية تغيير الوجوه. لذلك تعلق الكثيرون بالمطرب محمد رشدي عندما انطلق يعني «عدوية»، لكن سرعان ما قلب محمد رشدي المعادلات، وأثبت أنه مجرد سفارة في دولة عبد الحليم. كذلك تعلق الجمهور بالوجه الغنائي الجديد — آنذاك — هاني شاكر، عند ظهوره للمرة الأولى في أغنية «سيبوني أحب»، ثم اكتشفوا أنه — رغم تكوم الملحنين حوله — مجرد نسخة كربونية باهتة من عبد الحليم … فبماذا يفسر عبد الحليم تسلطه على جمهور الغناء؟ … وقد ترك الناقد إجابة السؤال للفنان نفسه: «أرفض تهمة التسلط. أنا موجود في التربة الغنائية؛ لأن الله أعطاني موهبة حافظت عليها، واعتبرتها رسالة مقدسة، ولم أفرط فيها قيد أنملة.»

•••

ثمة نقطة أخرى مهمة، ينبغي أن نشير إليها، وإن أغضبت البعض ممن كانت مهمتهم — أعني التعبير — الدعوة لأعمال عبد الحليم، وتأكيده كظاهرة في حياتنا الفنية (أكرر: هذه الكلمات تنطلق من محبة مؤكدة للفنان الراحل، وتتجه إلى الهدف ذاته، لكنها تحرص أن تكون «العلمية» سدى النقاش ومحوره). كان من البواعث المؤكدة لنجاح عبد الحليم، أنه وعي الأسلوب الغربي في تحقيق الانتشار، بأن تكون العلاقات العامة جزءًا أساسيًّا في تحركه الفني. في الغرب، لا بد أن يكون لكل فنان مدير علاقات عامة، أو وكيل أعمال ناجح، يحسن تقديم موهبة الفنان، والتعريف بها، وتسليط الضوء عليها، وإزالة ما قد يوجهه إليها خصومه من شائعات وأقذار. وكان عبد الحليم — فيما أعلم — أول من أخذ بهذا الأسلوب بين فنانينا المعاصرين، وقد أفاد منه بصورة مؤكدة. كان مقتنعًا أن الإعلام بعدٌ مهم في حياة أي فنان، وبالذات في تلك الفترة التي بدأ ينشد فيها لقدمه موضعًا في القمة التي كان يحتلها مطربون آخرون ما يقرب من ربع القرن. حرص عبد الحليم أن يمد كل الجسور المتاحة مع وسائل الإعلام (بعد أن حقق ذاته، أجاب على السؤال: من هم الأصدقاء الثلاثة الأقرب إلى نفسك؟ قال: مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل وإحسان عبد القدوس. تناسى الطويل والموجي وفؤاد حسن وبليغ، ممن كانوا بالفعل هم الأقرب إليه، لكنه كان يغازل الإعلاميين بتأكيد صداقته لثلاثة من أقطابهم!). أخيرًا، فثمة الحضور الذي لا يرتبط بجمال أو وسامة، إنما هو تلك العلاقة غير المرئية بين الفنان والجمهور. الجسم النحيل، والشعر الأسود الغزير، والعينان الملتمعتان بحزن، والسمرة الريفية، والمعاناة الدائمة من المرض … ذلك كله حقق ارتباطًا وجدانيًّا بين عبد الحليم وجمهوره. قد يكون الفنان مطمئنًّا إلى ملامح وجهه البالغة العذوبة، لكن الجمهور يفضل عليه فنانًا أقل وسامة، وربما غابت عنه الوسامة أحيانًا، والمثل الأشهر فنان الكوميديا عادل إمام.

السينما

كما أحسن عبد الحليم — أو أحسنت الظروف — اختيار الموعد الذي ظهر فيه في دنيا الغناء، فقد أحسن كذلك — أو أحسنت الظروف — اختيار الوقت الذي بدأ فيه خطواته السينمائية الأولى. ظهر له في شهر واحد (مارس ١٩٥٥م) فيلمان هما «لحن الوفاء» و«أيامنا الحلوة». فإذا راجعنا الأفلام التي قدمتها السينما المصرية حوالي ذلك العام، وجدنا أن اللون الاستعراضي كان يقدم آخر ما لديه. ثمة أفلام لمحمد الكحلاوي ومحمد عبد المطلب وليلى مراد وعبد العزيز محمود ومحمد فوزي وجلال حرب وإبراهيم حمودة وكارم محمود وغيرهم. وشهدت الأعوام التالية اعتزال البعض، ووفاة البعض الآخر، فيما عدا ذيول النهاية متمثلة في الأقل من الأغنيات. وثمة أفلام لثلاثة من الذين قاربوا عبد الحليم في السن: منير مراد وكمال حسني وسعد عبد الوهاب، لم تجاوز في مجموعها عدد أصابع اليد الواحدة، ثم خلت الساحة من إسهاماتهم تمامًا، ولم يعد سوى محمد فوزي وفريد الأطرش. وكان «ثورة المدينة» و«معجزة السماء» هما آخر أفلام محمد فوزي، ثم بدأت رحلة المرض، فالموت. أما فريد الأطرش، فقد أتاح له عشاق صوته — وهم كثر! — وألحانه المتميزة، أن يواصل عطاءه السينمائي إلى العام الأخير. ومع ذلك، فإن الفترة التي شهدت ظهور أول فيلمين لعبد الحليم، شهدت كذلك مجموعة من الأفلام الغنائية أو الاستعراضية التي قام ببطولتها فنانون كانوا قد حققوا مكانة متميزة، أو فنانون يحاولون — بدأبٍ — تحقيق تلك المكانة. ثمة كابتن مصر (١٩٥٥م) لمحمد الكحلاوي — وهو من هو حينذاك بين عمالقة الغناء — ومعجزة السماء (١٩٥٦م) لمحمد فوزي. وكان معلمًا بارزًا في نجوم الصف الأول — وأول غرام (١٩٥٦م) لمحمد مرعي، وربيع الحب (١٩٥٦م) لكمال حسني، وتاكسي الغرام (١٩٥٤م) وعروسة المولد (١٩٥٥م) لعبد العزيز محمود، وعلموني الحب (١٩٥٧م) لسعد عبد الوهاب، ونهارك سعيد (١٩٥٥م) لمنير مراد … إلخ؛ لكن أفلام عبد الحليم — بدءًا بلحن الوفاء إلى أبي فوق الشجرة — استطاعت أن تحقق نجاحًا واضحًا بين أفلام الفترة. لسنا ندري إذا كان عبد الحليم قد اختار قصص أفلامه بنفسه، ودرس السيناريو والحوار وطريقة الإخراج بالكيفية نفسها التي كان يختار بها أغنياته، لكن أفلامه — في مجموعها — أضافت إليه، ليس بتفوقها الفني من عدمه. فقد أخرج حسن الإمام — مثلًا — بعض أفلامه، ولكن بالتيمة الروائية المتشابهة لتلك الأفلام: الشاب الذي يواجه العديد من المتاعب أو العقبات، الحاجة المادية، الإخفاق في بلوغ الهدف، الإصابة بمرض خطير يعرض الحياة للخطر، الضياع بين أبوين منفصلين، التضحية بالحب توصلًا لإسعاد الحبيب … إلخ.

لقد نجحت الأفلام التي قام عبد الحليم ببطولتها، في ملامسة مشاعر المتلقين بمأساة تكاد تبدو شخصية، فمعظم أفلامه تقترب من حياته، كما كانت، أو كما رواها. وكان البعض يتصور — فعلًا — أن هذا الفيلم أو ذاك، يروي جانبًا من حياة الفنان. حرص عبد الحليم على مزج الواقع بالخيال، ومخاطبة المشاهد والمستمع بأفلام وأغنيات يسهل نسبتها — أو معظمها في الأقل — إلى جوانب من حياته الحقيقية، كان عاملًا مؤكدًا في توثيق الصلة بين الفنان والمتلقي. وإذا كان جابرييل جارثيا ماركيث قد حقق تميزه الروائي، حين مازج — في اقتدار — بين الواقع والأسطورة، ليناقش من خلال ذلك التميز الفني، مشكلات الإنسان المعاصر وواقعه وقضاياه، فإن امتزاج الواقع والخيال — لا أقول الأسطورة — كان هو تميز أفلام عبد الحليم حافظ. فأنت تستطيع أن تضع يدك على ملمح، أو ملامح، من حياته في معظم الأفلام التي قام ببطولتها. وسواء كان ذلك قد جاء بتزكية من عبد الحليم، أو أن الأمر ينتسب إلى المصادفة البحتة، فإن المطرب الشاب، خريج معهد الموسيقى — لاحظ! — الذي ينشد تحقيق ذاته في دنيا الغناء، هو بطل فيلم «لحن الوفاء»، أول أفلام عبد الحليم. و«دليلة» يروي قصة مطرب فقير يحيل صدمته في حبه إلى إصرار على التفوق الفني، ويفلح في ذلك بالفعل. وكان عرض فيلم «حكاية حب» الذي يؤدي فيه عبد الحليم دور فنان شاب، سافر إلى الخارج لإجراء عملية جراحية دقيقة، متزامنًا مع رحلة فعلية للفنان إلى الخارج، بهدف إجراء واحدة من العمليات العديدة، والتيمة التي تتكرر في العديد من أفلام عبد الحليم «شارع الحب» و«حكاية حب» و«معبودة الجماهير» هي قصة المطرب الشاب — هكذا — الذي يصعد من أسفل السلم إلى أعلاه، لا ينسى أهله وناسه الذين نشأ بينهم، ولا يقدم على تنازلات من أي نوع، حتى لو كانت عاطفية. ويغاير الفنان في الأسماء التي يطالع بها مشاهد السينما عادة — مثل وحيد وفريد ومحسن — فيختار أسماء: عبد المنعم وحسين وصلاح، الأسماء التي ألفتها — بصورة أعمق — أسماع البسطاء من الناس. واليتم تيمة أخرى، نراها في فيلمَي «أيام وليالي» و«الخطايا»، يذكر الناس بالمأساة الحقيقية التي عاشها الفنان. بل إن آخر أفلام عبد الحليم «أبي فوق الشجرة» — الذي ينأى مضمونه عن حياة عبد الحليم — ضغط — برواية النقاد الصحفيين — على جانب مأساوي في حياة عبد الحليم، هو مرضه العضال، فقد ظهر الفنان في مشاهد من الفيلم بالمايوه. وعانى المخرج والمصور في إخفاء آثار العمليات الجراحية التي خضع لها جسد عبد الحليم، وحرك المشهد أشياء في نفوس المشاهدين، وذكَّرهم بأن ذلك الفتى الذي يصارع حب فتاتين، هو عبد الحليم حافظ، الفنان الذي يعرفونه، والذي يواجه المرض في عناد، ليواصل سيرته الفنية. حتى الأفلام التي كانت شخصية عبد الحليم حافظ غائبة عنها، جاءت تعبيرًا عن أحلام وأماني قطاعات عريضة من الشباب: الوسادة الخالية، أبي فوق الشجرة، موعد غرام، فتى أحلامي، ليالي الحب.

كانت أفلام أم كلثوم وعبد الوهاب هي الأكثر تعبيرًا عن المناخ الاجتماعي في الثلاثينيات بكل ما يتضمنه من قيم تُزاوج — إلى غير حد — بين الرومانسية والمثالية، وتنتصر للحب على الفوارق الطبقية، وللضعف على القوة، المحور نفسه الذي كانت تدور حوله أفلام فريد الأطرش وسامية جمال في الأربعينيات، وإن انعكست في الأخيرة متغيرات الحرب العالمية الثانية التي طرأت على البنية الطبقية للمجتمع المصري. فالطبقة الوسطى تجد حياتها وتطلعاتها في أفلام عبد الوهاب وأم كلثوم، بينما تعبر أفلام فريد الأطرش وسامية جمال عن آلام تلك الطبقة وأحزانها. وتأتي أفلام عبد الحليم حافظ تعبيرًا عن التغير الكمي والكيفي الذي أحدثته — وتطلعت إلى المزيد — ثورة يوليو، وفي مقدمتها تغيرات العلاقات الاجتماعية، كعلاقات المرأة والرجل، وعلاقة الفرد والمجتمع، فضلًا عن اقترابها الحميم من مشكلات الغالبية العظمى من الشباب المصري، وهي الشباب. وعمومًا، فقد وجد النموذج الذي قدمه عبد الحليم في غالبية أفلامه: الشاب الذي تعترضه عقبات، فيحاول تخطيها — مشكلة شباب الجيل — وجد ذلك النموذج استجابة من المتلقين — بالذات بين أوساط الشباب — وتعاطفوا معه، وأفعمهم الإحساس الشخصي بالسعادة، عندما تخطى البطل تلك الحواجز، أو تغلب عليها. وبالطبع، فقد كان الخيال الذي شاهده المتلقي على الشاشة، والواقع الذي يحياه الفنان، فضلًا عن الواقع الذي يحياه المتلقي أيضًا، فقد اختلط في وجدان المشاهد، بحيث تلاشت الحدود بين الخيال والواقع.

صوت العصر

يقول الناقد الموسيقي العراقي عادل الهاشمي: «كان عبد الحليم حافظ فنانًا كبيرًا، بحجم الفترة التي شغلها. عبد الحليم عبر عن بانوراما التحولات الاجتماعية في مصر بعد ثورة ١٩٥٢م، حيث نحا ذلك الاتجاه الذي تحدث عن الوطن بلغة الحب البعيدة عن التطريب، الطابع الذي تدثرت به الأغنية العربية قبله عهودًا طويلة. إن عبد الحليم لافتة للأغنية العربية، حطمت بعض ركائز التطريب فيها، مع نقلها إلى إيقاع العصر الصناعي.٩٣

والحق أن فهم دور عبد الحليم ليس على المستوى الفني فحسب، وإنما على مستوى اللحظة الحضارية ككل، يأتي من خلال تاريخ المنظور الذي ينبغي معه أن نفهم الموسيقى بعامة، وهو «الربط بين حقائق تاريخ الموسيقى وتاريخ الروح الإنسانية والحضارة العامة في مظاهرها المختلفة، وتاريخ الأحوال السياسية والاجتماعية». يصعب أن نتفهم موسيقى هايدن وموتسارت، ننفذ إلى روحها، نتذوقها ونتعرف إليها بصورة حميمة، دون التعرف إلى أبعاد حركة الإصلاح الديني القائمة وقتئذٍ، ونشأة الكنيسة البروتستانتية، وتأمل بواعث قيام، واستمرار، النزاع بين جنوب ألمانيا الكاثوليكي وشمالها البروتستانتي.

كان عبد الحليم حافظ واحدًا من جيل بكامله من الشعراء والأدباء والصحفيين والموسيقيين، والمطربين أيضًا، بدءوا خطواتهم الأولى ببداية ثورة يوليو، فهو قد ظهر معها — الثورة — مثلما ظهر كمال الطويل ومحمد الموجي في التلحين، وسمير محجوب وصلاح جاهين وسيد حجاب والأبنودي ومرسي جميل عزيز في تأليف الأغنية، وصلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي في القصيدة الشعرية، ويوسف إدريس ويوسف الشاروني في القصة القصيرة، وفتحي غانم وعبد الرحمن الشرقاوي في الرواية، وأحمد بهاء الدين وكامل زهيري في المقالة الصحفية، وصلاح عبد الكريم وجاذبية سري وتحية حليم وحامد ندا في الفن التشكيلي، وغيرهم — بالطبع — عشرات أفادوا بصورة مؤكدة — من انتمائهم إلى الثورة. لم يعبروا عن عهدين مثلما فعل العقاد وطه حسين ومحمود حسن إسماعيل ويوسف وهبي وعبد الوهاب وأم كلثوم والأطرش وغيرهم. لم يغن عبد الحليم للملك فاروق مثلما غنى عبد الوهاب «أنت اللي شرفت الفنان ورعيت فنه … رديت له عزه بعد ما كان محروم منه». ولم يغن مثلما غنت أم كلثوم «يعيش فاروق ونتهنى … على قدومه بليلة العيد». فلما أتت ثورة يوليو وقدمت اللواء محمد نجيب على أنه قائدها الفعلي، استبدلت اسمه باسم فاروق. فلما ذهب نجيب اختارت قيمة أبدية هي «النيل» لتغني له: «تعيش يا نيل ونتهنى … على قدومك بليلة العيد»! عبد الحليم وجد نفسه في موقع المرافق لمتغير واضح، يناقض معظم ما سبق، ويدعو إلى إسقاطه واستبداله، بدءًا بحذف الألقاب، وانتهاء بأحقية العامل والفلاح في الحصول على نسبة ٥٠٪ في كل المجالس والهيئات السياسية، مرورًا بتحديد الملكية الزراعية، وتوفير الرعاية الاجتماعية، ومجانية التعليم، ومناصرة شعوب العالم ضد الاستعمار … إلخ.

والحق أننا لا ندري عن الموضع الذي كانت تختاره خطوات عبد الحليم لو أنه ظهر في سنوات ما قبل الثورة. ربما كان قد غنى للملك، وعبر عن الظروف السائدة، وربما كانت تغيرت بدايات أبناء جيله لو أن تلك البدايات كانت في عهد ما قبل الثورة. ذلك كله يخضع للتخمين، لكن الحقيقة التي نعرفها أن عبد الحليم وأبناء جيله، هم نتاج ثورة يوليو. وكانوا هم بالتالي أصدق من استطاع التعبير عنها. ولأن قيام الثورة كان يعني التغيير في كل شيء، فقد كان الفن أحد الأدوات التي ينبغي أن يستهدفها التغيير. وكانت الفرصة لأن يأتي عبد الحليم في بداية الثورة — مع التغيير الذي حاولت استحداثه الأغنية المصرية. وأذكر قول لويس عوض: «أنا لم أعرف رجلين تجسدت فيهما روح ثورة عبد الناصر، بمثل ما تجسدت في صلاح جاهين وعبد الحليم حافظ، كل في حدود فنه.»

•••

لعلِّي أتفق مع الرأي بأننا «نستطيع أن نكتب بالأغنية تاريخًا مفصلًا لما جاشت به صدور الجماهير في الثلاثين عامًا الماضية، وما امتلأت به نفوسهم من عواطف وأحلام وآمال، ما خاب منها وما تحقق.»٩٤ ولعلِّي أضيف: إن أغنيات عبد الحليم حافظ كانت هي الأبلغ دلالة في التعبير عن السنوات التي تلت قيام ثورة ٢٣ يوليو، فهي روايات شفاهية للتاريخ المصري منذ ١٩٥٢م إلى ١٩٧٧م، عام وفاة عبد الحليم. كان حريصًا على أن يكون «في الصورة» دائمًا، وأن يعبر عن كل مناسبة، بل ويصنع من الإطار العام مناسبة مثلما في «صورة» و«بستان الاشتراكية» وغيرها. عبد الحليم — والرأي لأستاذنا سيد عويس — هو «الصوت الذي سجل للتاريخ وثائق ثورة يوليو ومكاسبها». وعندما يغني عبد الحليم:
كانت الصرخة القوية في الميدان في اسكندرية
صرخة أطلقها جمال إحنا أممنا القنال

فإني أتذكر حالًا، مئات الألوف الذين احتشدوا في ميدان المنشية بالإسكندرية، ينصتون إلى عبد الناصر في خطاب الذكرى الرابعة لرحيل الملك عن مصر. كنت في مرحلة الصبا. مع ذلك، فقد تسللت — في غيبة من أوامر أبي — إلى ميدان المنشية، ووقفت في الصفوف الخلفية للجماهير التي ملأت الميدان الكبير، أحاول تبين جمال عبد الناصر، في الشرفة الهائلة (أسفت — فيما بعد — لهدمها غير المبرر، وهدم المبنى جميعًا. تناسى الذي أصدر قرار الهدم أنه في هذا المبنى بالذات، وفي تلك الشرفة تحديدًا، تعرض جمال عبد الناصر لمحاولة الاغتيال، وأعلن أخطر قرارات الثورة: تأميم قناة السويس) وأشارك في الهدير التلقائي الذي استقبلت به الجماهير الحاشدة قرار التأميم. لم تكن زعامة عبد الناصر — في نفوس المصريين — قد تأكدت بعد. ثمة القيادة المؤقتة للثورة ممثلة في محمد نجيب الذي كان امتدادًا لزعامة الأبوة — أو أبوة الزعامة — كما عرفها الناس في سعد زغلول، ثم من بعده مصطفى النحاس. كان محمد نجيب أبًا طيبًا، تتسم تصرفاته وتصريحاته بالعفوية، بينما القائد الحقيقي للثورة — جمال عبد الناصر — يلجأ — حفاظًا على الثورة الوليدة — إلى إخفاء دوره ومكانته. بل ويعلن في بني مر أنه لولا محمد نجيب لما قامت الثورة، ولما استمرت وثمة القيادات الحزبية القديمة التي لم يكن قد شحب تأثيرها على المشتغلين بالحياة السياسية آنذاك. وثمة رفض الهزيمة من القوى السياسية والاجتماعية عمومًا قبل قيام الثورة. في اليوم التالي لتأميم القناة كان عبد الناصر قد احتل — منفردًا — موضع القلب لدى الملايين من أبناء الشعب المصري. بدا أملًا مضيئًا وباهرًا وصورة مناقضة للزعامة المصرية بمعناها المألوف. رفض مؤامرات الاستعمار، وأعلن استقلالية القرار المصري، وأقسم ألا تعود أيام كانت السفارة البريطانية — والأمريكية أحيانًا — تصدر قرارات السلطة المصرية.

وتنشب معارك ١٩٥٦م، وتشارك فيها القوات المسلحة والمقاومة الشعبية، وتنتصر لنا الشعوب المحبة للحرية والسلام، ويغني الفنان تعبيرًا عن روح التحدي في نفوس الجماهير، مقابلًا للمؤامرات، وأخطار الغزو الخارجي:

يا أهلًا بالمعارك … يا بخت من يشارك … بنارها نستبارك … ونرجع منصورين … ملايين الشعب … تدق الكعب … تقول كلنا جاهزين … ويا أهلًا بالمعارك!

وكانت قيمة «إحنا الشعب … إحنا الشعب … اخترناك من قلب الشعب يا فاتح باب الحرية … يا ريس يا كبير القلب» … وهي الأغنية التي غناها عبد الحليم عند انتخاب عبد الناصر رئيسًا للجمهورية — كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل — كانت قيمة هذه الأغنية أنها جمعت بين التحميس والتطريب، فسهل على الجميع ترديدها. حتى هؤلاء الذين لم تكن تشغلهم السياسة، أو يرفضون مسار الثورة، استهوتهم الأغنية، فرددوها، أو لم يرفضوا الاستماع إليها. ولعلِّي أذكرك بأغنية عبد الوهاب «فلسطين». أنت تطرب للحن، فتنسى أن الأغنية تدعو إلى الحرب، لتتطهر فلسطين من غزاتها. غنى عبد الوهاب باللحن، بعنصر التطريب فيه. لم يشغله تضفير الكلمات واللحن، أن يكون اللحن — والأداء أيضًا — تعبيرًا عن المعنى الذي تستهدفه الكلمات، فجاءت الأغنية خالية من أية قيمة مضمونية، باعتبار أن «المضمون» هنا، هو تكامل الأبعاد الثلاثة: الكلمات. اللحن الأداء. ولعلِّي أضيف أن صديقي الفنان الراحل صلاح طنطاوي نبهني إلى أن «خضرة» التي يتغنى بها، أو لها، عبد الوهاب في أغنيته الشهيرة، التي تنبض رقة، هي العلم المصري. فتصور!

يروي هيكل أنه ظل يتابع خطوات عبد الناصر القلقة في شرفة مبنى قيادة الثورة، وخطر الغزو الثلاثي في ١٩٥٦م يقترب، وأغنية عبد الحليم حافظ التي ذاعت تلك الفترة تتناهى من مذياع قريب: «إحنا الشعب». وقال عبد الناصر: «لقد أحسست بشعور غريب وأنا أسمع هذا التعبير: سيبنا في إيدك مصر أمانة. إن مصر فعلًا في ظرف خطير، وهي بالفعل أمانة مرهونة على حسن تصرفنا، وعلى شجاعتنا في المواجهة». وقد أقام عبد الحليم في مبنى الإذاعة، فلم يغادره لأيام، أثناء حرب ١٩٦٧م. يكتب الأغنيات الأبنودي ومحسن الخياط وسيد حجاب ويلحنها كمال الطويل، ويدخل بها عبد الحليم الاستديو ليؤجج مشاعر المصريين، ويغني: «أحلف بسماها» … «إنذار» … «اضرب» … «ولا يهمك يا ريس» … إلخ. وبالطبع، فقد كان لتوالي الأحداث السياسية — وبالذات في المجال الداخلي — أيام الستينيات، تأثيره البالغ في التطور الكمي والكيفي للأغنية السياسية، ذلك لأن الروافد جميعها تنهل من نبع واحد، وتتجه إلى مصب واحد، وتعبِّر عن لحظة متكاملة يحياها الشعب. وأصبحت أغنية الثلاثي جاهين والطويل وعبد الحليم، في كل عيد لثورة يوليو، معلمًا سنويًّا، بل لعلها — بعد خطاب عبد الناصر في تلك المناسبة — كانت أهم ملامح احتفالات عيد الثورة على الإطلاق. أعزف دائمًا عن الدخول في معارك هامشية، أو تسويد الصفحات بما قد لا يشغل القارئ، أو يفسد عليه ذوقه — الكلمة مسئولية — وإذا كانت الظروف قد أتاحت للكاتب — أي كاتب — أن يعبر عن نفسه، فمن المؤكد أن هناك آخرين يطمحون للموقع ذاته الذي يشغله، ولفرصة النشر في الكتاب، أو الصحيفة. مرة واحدة، وأخيرة، أرغمني أستاذ جامعي أن أدخل معركة هو طرفها الثاني. قرأت له كتابًا عن الاشتراكية. وجدت في الروح المتناقضة والساذجة لمعنى الاشتراكية وسبل تطبيقها، لكتَّاب كانوا إلى ما قبل ثماني سنوات يسبحون بأمجاد الفاروق … وجدت في ذلك شيئًا عاديًّا، بصرف النظر عن غرابته! أما أن يكتب عالم عن الاشتراكية بأسلوب غير علمي، فذلك ما غاظني، فانتقدت الكتاب بقسوة يستحقها. في قصيدة شوقي «ولد الهدى» وصفت أم كلثوم نبي الإسلام بأنه «إمام الاشتراكيين»، ولم يجد العهد الملكي في ذلك ما يثير، أو يستوقف النظر. فلما صدرت قرارات ١٩٦٠م تباينت الشروح الإعلامية المواكبة بين الإبهام والسذاجة، بينما أفلح الذين أضيروا بالقرارات الاشتراكية في التأكيد على مناقضتها لتعاليم الأديان، وأنها تهبط بالأغنياء، فيصبح المجتمع كله فقيرًا. الثلاثي جاهين والطويل وعبد الحليم قدم للاشتراكية شرحًا غنائيًّا غاية في البساطة والإقناع:

مفيش أنا … فيه إحنا يا صاحبي … أنا وانت … وانت وهو وهيه … علينا نعمل الاشتراكية … من كلمة حلوة … للقمة حلوة … وبيت وكسوة وناس عايشين … أدي القضية … للأفراح والرفاهية … ح نمد طريق ع النيل … اسمه ف الاشتراكية … التصنيع التقيل … بس نضاعف إنتاجنا … أضعاف أضعاف أضعاف … وندبر مهما احتاجنا … ونحارب الإسراف.

واستطاع عبد الحليم حافظ — من خلال التغير الواضح في ملامح الصورة البانورامية للمجتمع المصري — أن يعبر عن أحلام الملايين، تلك التي بدأت ملامحها تتشكل فعلًا في أرض الواقع. فنحن «نفوت على الصحرا تخضر … نشقي خدود الناس تخضر» تعبيرًا عن عمليات استصلاح الأراضي التي كانت معلمًا أساسيًّا في إنجازات الثورة، منذ مشروع الشجرة إلى إنشاء مديرية التحرير، فإنشاء وزارة مستقلة للإصلاح الزراعي، والاتجاه لإقامة مجتمعات جديدة في الصحراء المصرية. وثمة أحلام تتقاسم مخيلة الكبار والصغار «من أصغر طفلة بجدايل … على زرع وحصد بتتمايل» … تلك الأحلام التي تبلغ ذروتها الرومانسية في قيام «صناعة كبرى … تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا … في كل قرية عربية.»

كانت صورة المجتمع المصري في واحدة من أهم فترات التحول: الاشتراكية والملكيات الصغيرة والتعاونية، واستقلالية القرار … بديلًا للرأسمالية والإقطاع وفقدان القرار السياسي. المديريات الأربع عشرة التي كان يشير إليها المثل الشعبي المعروف، تحولت إلى محافظات، وزاد عددها. الأزهر بمجاوريه وأعمدته وحلقاته وحواراته شبه الثابتة، فيما عدا السنوات التي شهدت تغيرًا ملموسًا على أيدي محمد عبده والمراغي وغيرهما — أصبح جامعة عصرية، تشمل كليات: الهندسة والطب والتجارة واللغات والترجمة … إلخ. والجامعات الإقليمية تزايدت. الصناعة قاسمت الزراعة للمرة الأولى في الحياة الإنتاجية، الصناعات الخفيفة دخلت الواحات وسيناء، العمال والفلاحون شاركوا بنسبة ٥٠٪ في حياتنا السياسية. الكهرباء دخلت أصغر القرى وأبعدها. الحياة تخلقت في المناطق الحديثة التعمير: الوادي الجديد ومديرية التحرير ومدينة نصر وكيما أسوان، وقصور الثقافة، والمساكن الشعبية، والتليفزيون، ومراكز التدريب المهني، والوحدات المجمعة، وتمليك الأراضي الصحراوية للمواطنين، وتسليح الجيش، ومجانية التعليم، وتهجير أبناء النوبة، واشتراك المرأة في الحياة النيابية، وذهاب قواتنا المسلحة إلى سوريا واليمن والجزائر، وتأميم القناة، وحرب السويس، وتحرر القارة الأفريقية، ونشوء مجموعة عدم الانحياز … تحولات مهمة وخطيرة، حملت لون الواقع، وعبرت عنه، وعبرت عن نفسها بالتالي في أعمال فنية، ترسم كل الخصائص والمقومات والأماني والأحلام والتصورات التي عاناها المجتمع قبل الثورة … والمحاولات الرائدة — بعد الثورة — لانتزاع نور الرخاء من وراء الأفق. أتذكر قول عبد الناصر عند بدء تشغيل السد العالي: «هذا هو السد العالي الذي دارت من حوله المعارك، وحارب من أجله الأبطال، لا بسبب قيمته الذاتية فحسب، ولكن لأنه رمز لتصميم الأمة العربية كلها إلى أن تسير في بناء وطنها الكبير المتحرر. إن الذين كافحوا ليحولوا الأمل إلى حقيقة، لم يفعلوا ذلك لمجرد استخلاص مليون أو مليوني فدان من براثن الصحراء فحسب، ولا لمجرد الحصول على عشرة ملايين كيلوات من الكهرباء فحسب، وإنما فعلوا ذلك تحقيقًا لإرادتهم المستقلة التي انتزعوها انتزاعًا من قبضة الطغيان والاحتلال والاستبداد والسيطرة. القيمة الأولى للسد العالي في قيمته كعزم وتصميم وإرادة. قيمته الأولى أنه عزم أصر عليه أصحابه، بعد أن استبانوا طريقهم وعرفوه وصمموا عليه، وصمموا على أن تكون العزة والكرامة طريقهم إليه، لا ضعف ولا وهن ولا تخاذل». قضى الشعب على الغزوات والمؤامرات، وأفلح — بالفعل — في بناء السد العالي. وغنى الجميع في نشوة الانتصار:

قلنا حانبني … وادينا بنينا السد العالي … يا استعمار بنيناه بإيدينا السد العالي.

والأسلوب اللحني في هذه الأغنية أقرب إلى التلاوة (الريتشيتاتف Recitative) الذي يرى أنه على الموسيقى أن تحاكي طريقة كلام الخطيب، وأسلوبه في تحريك مشاعر الجماهير. وتتجاوز الأغنية مهمة تسجيل الحدث، والتعليق عليه، إلى التوجيه والإرشاد وتقويم «الصورة» بحيث تتوضح القسمات والملامح والأضواء والظلال، فتبين عن بانورامية كاملة: «صورة صورة … كلنا كده عايزين صورة … صورة للشعب العرقان … تحت الراية المنصورة … يا زمان صورنا … يا زمان … حانقرب من بعض كمان … واللي حايبعد م الميدان … عمره ما حيبان في الصورة … والصورة مافيهاش … الخامل والهامل واجبه ونعسان.»

وفي ١٩٦٣م كانت أغنية «المسئولية» — جاهين والطويل وعبد الحليم — تعبيرًا عن مرحلة سياسية داخلية جديدة بدأ الشعب المصري يحياها. تم تشكيل تنظيمات الاتحاد الاشتراكي من القاعدة إلى القمة، ولم يفلت الثلاثي تلك المناسبة: «أديك أهو خدت العضوية … وصبحت في اللجنة الأساسية … أبو زيد زمانك … وحصانك الكلمة … والخدمة الوطنية … وادي مسئولية.»

وحتى يصل الفنان إلى الجماهير العريضة من الباب الأوسع — وقد استطاع أن يصل إليها فعلًا — فإنه يستعين بطريقة الفوازير، تلك التي حققت نجاحًا متميزًا في برامج رمضان بالإذاعة والتليفزيون. يكتب مرسي جميل عزيز، ويلحن الموجي، ويغني عبد الحليم، فوازير مشابهة للفوازير الإذاعية والتليفزيونية، وإن تناولت قضايا اجتماعية وسياسية معاصرة.

مثلًا: «جدي نشاها … بإيده بناها … لكن راح ف ترابها ماجاش … فاتها بحالها ومالها لابويا … لكن ابويا ماورثهاش … يسكت ابويا حايعمل إيه … والسجان بالنار حواليه … وانا … أنا جه دوري مع الحرية … دم الثورة جرى ف إيديا … خدتها منه غصبن عنه … وتعب جدي ماراحش بلاش … انتهى عهد الضلال … عاد لنا المال الحلال … يوم مأممنا …؟

ويسكت المطرب، وتتعالى أصوات الجمهور في الحفل: القنال … وهكذا. وأحيانًا، تعود بنا الذكريات إلى أيام الاستعمار: «الجيران من كل جانب … كانوا أكترهم أجانب … والعجايب … كنت حاسس إني انا وأهلي الأجانب … أنا شفت العلم البريطاني … بيدنس نسمة أوطاني … إزاي أوطاني الجبارة … محكومة بقصر وبسفارة … وصحيت على ثورة بترج الدنيا … ولقيت أوطاني حكمها ف إيديه … وجمال قدامي … بينادي عليَّه: قوم قوم … قوم ارفع راسك … واشبع حرية.»

وثمة رواية، أن عبد الناصر طالب — أثناء احتدام معارك ١٩٦٧م — أن تذاع أغنية عبد الحليم «يا أهلًا بالمعارك» عقب كل نشرة إخبارية. فلما شكا المشرفون على الإذاعة من طول مقدمتها الموسيقية، أمر بحذف المقدمة. وبعد هزيمة يونيو، تحولت لهجة التحريض المتمثلة في أغنيات «ولا يهمك يا ريس … م الأمريكان يا ريس». أغنية رائعة، وأصلح ما تكون لجو المعركة حينذاك، برغم اعتذار الفنان عنها فيما بعد. و«يا أهلًا بالمعارك» … و«يا بركان الغضب» … و«ابنك يقولك يا بطل» … «إنذار» … «اضرب» إلخ، غنى عبد الحليم في أعقاب النكسة: «يا مصر ياللي على طول السنين تتغنى … يا غنوة باقية في ضمير الأجيال … يا طالعة من جوه الصدور بتئني … أنة وأمل … أنة رجال … خد الربابة يا ابن بلدي وغني … بلدك حبيبتك نبض للموال … يا بلدي يا عنية يا حضن حنية … يا غالية وقوية يا بلدي يا صابرة … بلدي يا مصر.»

وغنى من كلمات الأبنودي: «عدا النهار … والمغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر … وعشان نتوه في السكة شالت من ليالينا القمر … وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها … جانا نهار مقدرش يدفع مهرها … يا هل ترى الليل الحزين … أبو النجوم الدبلانين … أبو الغناوي المجروحين … يقدر ينسيها الصدى … أبو شمس بترش الحنين» … وترفض الكلمات واللحن والأداء ذلك كله: «أبدًا بلدنا للنهار … بتحب موال النهار … لما يعدي بالدروب، ويغني قدام كل دار». يقول عبد الحليم: «وغنيت هذه الأغنية، كنت أحس أنني أعيش في الأسطورة الشعبية التي تحكي عن امرأة فارعة، ليست ذليلة النفس، جاءها الوعد الذي أسعدها، ولكن المكتوب جاء. الذين كانوا حول البطل خانوه، وانكسرت نفس المرأة، لكنها ليست ذليلة». مع ذلك فإن الفنان يقول: «أحسست أنني لأول مرة أقول عن نفسي إني مغنٍّ، وانا ماليش دعوة بحاجة. كنت أحس بإهانة، فلم أتصرف منذ صعدت على قمة الشهرة كمجرد مطرب. كان عبد الناصر قد قلدني أخطر وسام: أنت ابن لهذه الفترة. ويفرض الشعور بالانتماء نفسه في النهاية؛ قرر عبد الحليم ألا يغني في حفل عام، قبل أن يقدم أغنية «أحلف بسماها» التي تؤكد على ضرورة تطهير الأرض المصرية من الاحتلال الصهيوني. وبعد حرب ١٩٧٣م، كان عبد الحليم يفتتح حفلاته الغنائية بأغنية «عاش اللي قال الكلمة في الوقت المناسب» والتي تمجد قرار العبور. ويخاطب سيناء العائدة إلى الوطن الأم: «مين اللي قال … كنتي بعيدة عني … وانت اللي ساكنة … في سواد النني». وتتوقف المعارك، وإن ظلت الحرب قائمة. ويخاطب الفنان مواطنيه فيما يشبه التحذير، أو النصيحة: «خلي السلاح صاحي … صاحي صاحي … لو نامت الدنيا صحيت مع سلاحي … سلاحي ف إيديا … نهار وليل صاحي … ينادي: يا ثوار … عدونا غدار … خلي السلاح صاحي …»

أغنيات عبد الحليم الوطنية، تعد — على نحو ما — امتدادًا للأغنيات المصرية القديمة، عندما لم يكن للأقدمين — كما يقول بلوتارخ — وسيلة لنشر المعرفة غير الشعر الملحن. وكانت الأغنيات وقتذاك موسوعية الاهتمامات والاتجاه، فهي تشرح القوانين، وأحكام الديانة، وأصول الفلسفة، وأحداث التاريخ. يقول في رسالة إلى عبد الناصر: «إنني لا أغني — يا سيادة الرئيس — من أجلك، ولكني أغني من أجل ثورتك، ثورة مصر، من أجل المعاني الكبيرة التي قامت من أجلها هذه الثورة. فإن ظهر هناك من يحاولون أن يباعدوا بين صوتي والغناء من أجل ثورة بلدي، فإني ألجأ إليك لتحميني من هذا البطش، فما أنا إلا صوت نشأ وترعرع في أحضان هذه الثورة، وغنى لها، وروج لها بصوته. ما أنا إلا صوت أقسمت أن أسخره لخدمة أهداف هذه الثورة وأمانيها، فحين أغني — يا سيادة الرئيس — لبستان الاشتراكية، فأنا أغني لأحد أحلامك العظيمة. وحين ألجأ إليك، فبوصفي أحد جنودك، لا أكثر.» أغنيات عبد الحليم مؤشرات الذاكرة لمن عاشوا الفترة ما بين ١٩٥٢م إلى ١٩٧٧م. إنها تذكرهم بالأحلام والأماني المجهضة، والتي تحققت، والإصرار والتحدي والمعارك والنضال. وعندما فرضت السلطة الحاكمة — بعد رحيل عبد الناصر — حظرًا على أغنيات عبد الحليم التي تؤرخ — هل ثمة تعبير آخر؟ — لأحداث الفترة السابقة، فإنها — بالتأكيد — كانت تهدف إلى إلغاء ذاكرة المصريين، أو في الأقل تجميدها. وعلى سبيل المثال، فإن أغنية مثل «صورة» كانت تنقل متلقيها — ببساطة — إلى فترة تحول جذرية في البنية الهيكلية للمجتمع المصري، تحول الإقطاع إلى الملكية الفردية، وتفتت الاحتكارات، وغياب انتهازية الرأسمالية، والسعي نحو الاشتراكية، هدفًا غاليًا للأغلبية الساحقة من أبناء الشعب المصري. وقد أثبتت محاولة إلغاء الذاكرة المصرية فشلًا مؤكدًا، في ارتفاع مبيعات شرائط الريكوردر كاسيت، التي سجلت عليها أغنيات عبد الحليم الوطنية، بعد أن أذنت السلطات ببيعها في مرحلة سياسية تالية.

•••

وهنا يفرض السؤال نفسه، حول حقيقة اهتمامات عبد الحليم السياسية، ومعطياته السياسية في آن؟

عبد الحليم كان مطربًا. وقد استطاع — بذكاء لا يخطئ — أن يعبر عن هموم واهتمامات وأحداث عصره، أن تكون أغنياته صدًى لذلك التغيير. هنا الفارق بينه وبين سواه من مطربي جيله الذين قنعوا بأداء أي شيء. اكتفوا بدور الببغاء التي تعيد ما تلقنته دون أن يشغلها المعنى، أو تأثير الكلمات، وتوقيت غنائها، فضلًا عن جدواها. أغنيات عبد الحليم بانوراما واعية لواقعنا المصري منذ مطالع الخمسينيات إلى منتصف السبعينيات، ماضيه وحاضره واستشرافات مستقبله، معاناته وطموحه وما يتطلع إليه. ذلك دور عبد الحليم الذي يصعب إغفاله أو التهوين منه. وأن يكون الفنان صدى لحياة أمته في مجال من مجالات الإبداع، فذلك أمل يسعى إليه الكثيرون، ولا يدركه إلا القلة. عبد الحليم هو «جبرتي الثورة» بالفعل، لكن صفة السياسي يصعب أن تنسحب عليه. لقد شارك في التعبير عن الأحداث، لكنه لم يسهم في صياغتها. نحن إذا ألبسناه ثوب الزعيم السياسي نظلمه. وقد طالت الأحاديث عن التدليل الذي كان ينتظره عبد الحليم من عبد الناصر، ويهبه له عبد الناصر بالفعل. وأضاف عبد الحليم بذلك إلى مكانته الاجتماعية وكان «التدليل» — في تقدير أصحاب تلك الآراء — حقًّا لعبد الحليم، وواجبًا على عبد الناصر، فقد كانت أغنيات عبد الحليم هي الأشد تعبيرًا عن الملايين من أبناء الشعب المصري، والأيسر وصولًا إليهم. كما أجادت التعبير عن الصورة العامة لعبد الناصر، ممثلة في إنجازات الثورة ومعطياتها الإيجابية، وعن الصورة الخاصة لقائد الثورة، ممثلة في شعوره الإنساني، وأبوته، وإحساسه بمعاناة المواطنين في أدنى سلم المجتمع. وقيل إن عبد الناصر كان يكلفه ببعض المهام الديبلوماسية، مثل نقل الرسائل من عبد الناصر إلى بعض رؤساء الدول الذين أقام معهم عبد الحليم صلات وثيقة.٩٥ وقيل إن عبد الحليم تعمد بعد رحيل عبد الناصر، ألا يذكر اسم الرئيس التالي في أغنياته. وقيل إن اختلاف موقفه ما بين قبل وبعد — أعني بعد رحيل عبد الناصر ومجيء السادات — يبدو واضحًا فيما قدمه من أغنيات، بل وفيما صدر عنه من آراء. والحقيقة الموضوعية تنفي ذلك تمامًا: حاول عبد الحليم أن يتغنى بما تصور أنه إضافات للرئيس السادات في الحياة المصرية، وتغني — فعلًا — بالعبور العظيم للقوات المسلحة في أكتوبر ١٩٧۳، الدور نفسه الذي أداه في التغني بإنجازات ثورة يوليو وانتصاراتها، وهزائمها أيضًا. بل إن عبد الحليم في مذكراته التي رواها بصوته لإيزيس نظمي، يؤكد — دون أن يسأله أحد — إعجابه بدور السادات في الحياة المصرية، قبل توليه الرئاسة وبعدها، ويعتز بصداقته لأسرته التي يتسم أفرادها — كما يقول — ببساطة الفلاحين. ومع ذلك، فنحن لا نستطيع أن نتذكر عبد الحليم حافظ — وبالذات في أغنياته السياسية — إلا إذا تذكرنا عبد الناصر. ولا نستطيع أن نتذكر عبد الناصر إلا إذا تذكرنا أغنيات عبد الحليم السياسية. ولعلِّي أتفق مع القول إنه «ليس للفنان أن يتحيز للمنازعات السياسية». إن ذلك لا يجدي، لكنه لا يعني مطلقًا فقدان شعوره الوطني. فعلى الفنان الحر أن يشرف بلاده أينما كان، وبكل ما أوتي من مقدرة ونبوغ.

المستقبل

هل كان عبد الحليم حافظ يعد لتجاوز تطوير الأغنية الفردية، إلى تقديم الأوبريت، باعتبارها المجال الحقيقي للتطوير؟

فيما عدا ما تردد عن اعتزام عبد الحليم أداء أوبريت «مجنون ليلى» التي لم يستكمل عبد الوهاب ألحانها، فإن الأوبريت لم تدخل في إطار اهتمامات عبد الحليم الفنية. ذلك ما يتوضح في كل ما أدلى به من أحاديث، وفي الكتابات التي تناولت فنه وحياته. وطبيعي أن يكون اهتمام الفنان المغني بالأوبريت، في مرحلة تالية لتحقيق ذاته في الأغنية الفردية. وأتصور أن المرض — وتوقعاته — قد أجهض العديد من الأماني التي كان عبد الحليم يطمح إلى تحقيقها. وفي سنوات عمره الأخيرة — بعد فيلمه «أبي فوق الشجرة» تحديدًا — فإن عبد الحليم تعمد أن يؤجل كل المشروعات التي تطلب تنفيذها زمنًا، ربما لإحساسه — غير المعلن — بأن الموت أقرب من أن يترك له المجال الزمني الذي يتحرك فيه بأعمال مطولة، كالمسرحيات الاستعراضية والأفلام … والأوبريت!

الصراع

ليلة شم النسيم. حفل عيد الربيع السنوي الذي اعتاد عبد الحليم أن يقدم فيه أغنية جديدة. أمامي تعليقات كثيرة لنقاد وصحفيين، تناقش ما فعله «ذلك المتهم الذي خسر قضيته»، والتعبير لمحرر في مجلة بيروتية. ثمة أمارات الازدراء والتعالي والقرف تطل من عينَي المطرب، وتبين في حركاته. يبدأ بإلقاء خطبته التي يحرص عليها في بداية كل حفل: هذه الأغنية تحتاج إلى إصغاء. يبدي انزعاجه — وضيقه — من الأصوات المتلاغطة في نهاية المسرح (يرى البعض أن تلك الأصوات دليل احتفاء الجمهور بالمطرب). تتعالى الاعتراضات من أن الصوت غير مسموع. يقول في غضب: لا، دي مش حكاية صوت … يبدأ في الغناء. تتعالى الأصوات المعجبة، والمنتشية. يبالغ البعض فيصفر. يزداد غضب عبد الحليم، فيقول من بين أسنانه: أنا كمان أقدر أصفر. يصفِّر فعلًا.

لم أشاهد الحفل، أو أستمع إليه، وإن كانت المصادفة قد أتاحت لي الاستماع إلى تسجيل للحفل بكامله، تتخلله واقعة الصفير. اشتريته أثناء إقامة قصيرة في مدينة «الدمام» بالسعودية. لم أتصور أن يسيء الفنان الظن بجمهوره، وبدا لي انفعاله الواضح نتيجة لا سببًا.

لما مات عبد الحليم حافظ، تذكرت الحفل، وانفعال الفنان، وضيقه من كل ما حوله ومن حوله. حتى قبل أن يبدأ الحفل، ويتعرف الفنان إلى نوعية مستمعيه، وما إذا كانوا جمهوره، أو ينتمون إلى مطرب آخر. وهل كان التآمر ضد الفنان ميسورًا لهذا الحد؟! وإعلانه، في مواجهة الصفير، أنه يجيده، وإطلاقه للصفير فعلًا، ثم إتمامه للأغنية في إخلاص لم ينكره عليه أحد.

شارك الموت عبد الحليم خطواته أمام المسرح. راقبه من وراء الستار. اقترب منه فلامسته أنفاسه. صار ظله. وتوزعت مشاعر المطرب — حتى قبل أن يبدأ الغناء — بين الخوف والرهبة والغضب والتحدي والرفض. الناس يصفقون ويعجبون ويصفرون ويطلبون الإعادة، والحقيقة يعرفها المطرب والأقربون. يذكرني بالآلام المبرحة التي كان يعانيها عبد الناصر قبل أن يخرج إلى الجماهير، وحين يطل من الشرفة، فقد كان همه أن يحافظ على التماسك وبريق العينين والابتسامة الواثقة والصوت المتميز النبرات. دعك من القول إنه كان ينسى آلامه عندما يلتقي بالجمهور، لكنها الإرادة الإنسانية، قسوة المرء على نفسه، حتى يظل في الصورة التي ألفه فيها الناس، والتي يحرص أن يقابلهم بها. مطرب فرنسي تمكَّن منه السرطان، آذاه في جسمه وهيئته، فاختار أن يعتزل الناس في جزيرة حتى يموت. صارح أصدقاءه بأنه يرفض أن يراه الناس في غير الصورة التي أحبوه فيها. كان الموت رفيقًا لعبد الحليم في أيامه الأخيرة، يقاسمه الفراش، يشمه في أنفاسه، يتوقعه في كل لحظة. وكان بوسع عبد الحليم أن يجول في القمة الفسيحة — خالفت بالنسبة إليه حتى التشبيه المتوارث؛ فلم تعد القمة مدببة! — لم يعد يشغله الخوف من ضياع الفرصة، أو منافسات الآخرين، وبدا الأفق ورديًّا — أو كان هذا هو المفروض — لولا أن قرص الشمس اللاهب الزاهي الألوان، كان يحمل دلائل الموت في لحظات غروبه الدامي! أي شعور وهو يتطلع إلى قسمات الموت المتجمدة في قرص الشمس. بمفرده يراه، يخافه، ينتظر اقترابه، ثم يتطلع إلى الناس من حوله، بما يعني النقيض لذلك كله!

نفى عبد الحليم — في برنامج تليفزيوني عقب الحفل بيومين — أن يكون وراء الذين أثاروا اللغط أحد، واعترف بأن «حالته كانت عصبية». لم يكن في الأمر غرور، ولا شبهة غرور، لكنها مواجهة النهاية في قمة النجاح. الماضي الذي أفلح في تجاوزه — هكذا كان تصوره — بدا له — فجأة — مسخًا بشعًا مطاردًا حاول القضاء عليه بالعلاج، والفرار منه بتحقيق الذات، والتلهي عنه بالسهر، والاستغراق في الحياة الاجتماعية … لكن المطاردة لم تفتر لحظة. تذكرني بقصة «الكاف» للكاتب الإيطالي إينو بونزاني، عن تلك السمكة الهائلة الحجم، يتحدث أهل البحر عنها، وإن أنكر العلماء وجودها، تختار فريستها، فلا تبدو إلا لها. وتتواصل المطاردة في البحار والمحيطات، قد يستغرق الأمر أعوامًا، وربما الحياة كلها، الشخص المستهدف وحده هو الذي يلمحها، يحس باقترابها، يحاول النجاة بنفسه في غيبة من فهم الآخرين، ومساعداتهم بالتالي، حتى تحين اللحظة القاسية فجأة، ويغيب «المستهدف» — ربما يأسًا من الفرار — في بطن السمكة التي لم تمل المطاردة! ومع تقديري للرأي بأن ثورة عبد الحليم كان مبعثها حفلًا أحيته — في الليلة السابقة — إحدى المطربات، وتصور عبد الحليم بتقديم المطربة لواحدة من أغنيات فريد الأطرش، ومطرب آخر لأغنية ثانية، أن بليغ حمدي يدبر مؤامرة ضده. ومن هنا، كان توتر عبد الحليم وغضبه … مع تقديري لذلك الرأي؛ فالمؤكد أن «فريد» كان يحيا، ويغني بنفسه، في مناسبة عيد الربيع، قبل تلك الليلة بعامين على الأكثر. وكان عبد الحليم يغني في المناسبة ذاتها، دون أن يعاني قلقًا أو توترًا. كذلك كان عبد الحليم يدرك جيدًا أن المشاركة بين الفنان والجمهور في حفلات الغناء، ظاهرة مصرية اعتادها عبد الحليم حافظ، بل لعله أسهم فيها بدرجة ما. كم دعا — بتصفيق يديه — إلى المشاركة بتصفيق مماثل. وكان لا ينكر — بل كان يتقبل في سعادة واضحة — تعبير الجمهور عن استحسانه بصوت عال، وبعبارات وهتافات ألفها مثل ذلك النوع من الحفلات «حتى يتحول الحفل إلى نوع من الأداء المشترك بين الفنان والجمهور، ويزول الحد الفاصل بينهما.»٩٦ ظاهرة مناقضة لما ألفته الشعوب الأخرى التي يكتم المتلقي فيها أنفاسه، فلا يصفق، ولا يصدر آهة إعجاب أو استحسان — وربما وأد السعال في صدره — احترامًا للموسيقى أو الغناء، حتى ينتهي العزف — أو الغناء — تمامًا.

فلماذا ثار عبد الحليم إذن على ما أسهم في تجسيده، وتعميقه، وكان يجد فيه الدليل على إعجاب الجمهور؟

أخذ الكثيرون على عبد الحليم أنه كان — في أواخر أيامه — مغرورًا ومتعاليًا وسيئ الظن بالآخرين. وكان تبادله الحوار مع بعض الذين رفعوا أصواتهم في «قارئة الفنجان» دليلًا واضحًا على إطار الغرور الذي كان عبد الحليم قد وضع نفسه فيه. وذلك — في رأيي — تبسيط للأمور، وإلباسها ثوبًا غير الذي يجب أن ترتديه. استطاع عبد الحليم — بذكاء مصري خلاق — أن يتغلب على ظروفه المادية والاجتماعية وحصار الجيل السابق في آن. فلما اطمأن إلى تغلبه عليها، هاجمته المأساة من داخله. بدأت البلهارسيا في إحداث تأثيراتها الضارية. ومن اللافت أن عبد الحليم كان يرقص مبتهجًا في الليلة نفسها التي هاجمته فيها — للمرة الأولى — آلام البلهارسيا. كان يضنيه أن يتعرض للهزيمة من داخله، في الوقت الذي استطاع أن يقطع خطوات فعلية في درب تحقيق الذات. أمامي قصاصة من جريدة بلا تاريخ، يجد فيها فتحي غانم سر تألق عبد الحليم في أنه — عبد الحليم — «كان مشغولًا في أعماقه بمعركته مع الموت، وأن سر انبهار الملايين بفنه، الذي هو خلاصة حياته، يكمن في أن هذا الفن كان دائمًا تحديًا للموت، وانتصارًا للحياة، وتفوقًا على آلامها وأحزانها، وانتزاعًا للفرحة والبهجة من بين براثن الوحش المفترس الذي يهدد الحياة، كل حياة. إن الحياة لا تحتسب بالسنوات، بل تحتسب بتوهجها وابتكاراتها وطاقاتها المتغيرة. وهذا هو المعنى الكبير، المعنى الإنساني الرائع الذي صنع عبقرية عبد الحليم. وهو معنى دفع عبد الحليم حياته ثمنًا، ليقدمه لنا جميعًا كأروع أغانيه.»

الحقيقة التي تجمع عليها كل الروايات، أن عبد الحليم كان يعرف خطورة مرضه، وأن محاولات الطب في جسده لم تكن تستهدف العلاج بقدر ما كانت مشغولة بإطالة الحياة ما أمكن، فقد كان للحالة المتقدمة التي وصل إليها المرض طريق واحدة، وكانت مهمة الأطباء أن يطيلوا أمد الوصول إلى نهاية الطريق. وقد واجه عبد الحليم خطورة مرضه، بمشاعر وتصرفات غاية في التناقض. فالإحساس بالموت يقترب منه، يضنيه ويدفعه إلى التشاؤم من كل شيء، فهو يفضل الوحدة، ويثور لأتفه الأسباب، ويفقد الأصدقاء بسهولة غريبة. الإحساس نفسه باقتراب الموت كان يدفعه إلى التهاون في صحته وحياته — فالموت وشيك! — والإقبال على تناول الممنوع من الطعام، والسهر إلى ما بعد الفجر. وكان رأيه أنه ما دام الأمل ينسحب، فلماذا لا يصادق المرء — بحميمية — أيامه الباقية؟ … لكن الأمل — خاصية إنسانية مناقضة — كان إطلالته على المستقبل، فهو يعد لمشروعات فنية تشمل فيلمين سينمائيين جديدين، وأفلامًا تليفزيونية من إنتاجه، فضلًا عن إنشاء استديو ذي مستوى عالمي للتسجيلات الغنائية، وحفظ لحن لعبد الوهاب، وآخر لبليغ، وأعطى للموجي كلمات لحن جديد، في حين أجل رحلته الأخيرة إلى لندن ثلاث مرات، خوفًا من ذلك القادم المجهول. فأغضب الطبيب الإنجليزي الذي كان عبد الحليم طيلة سنوات تردده عليه مريضًا مثاليًّا. ويقول عبد الوهاب: «كنت أنظر إلى عبد الحليم وهو يغني خلال الفترة الأخيرة، فأراه يضحك. كل شيء يضحك في وجهه إلا عينيه. كنت أنظر إليهما فأجدهما قد ماتتا منذ سنوات.»

الموت

تبسيط شديد للأمور، لو اكتفينا بإظهار الدهشة — أو الغضب — لأن مئات الألوف شكلوا مظاهرات صاخبة، في جنازة مطربة جاوزت خريف العمر، هي أم كلثوم، أو لأن أعدادًا مماثلة — أو تزيد — سارت في جنازة المطرب الذي هده المرض والهزال: عبد الحليم حافظ. للجماهير مشاعرها الغلابة، رأيها العام الذي يجب أن يتوقف أمامه حتى هؤلاء الذين ربما يجدون في الغناء ترفيهًا علينا ألا نحتفي به — وبممثليه — أكثر مما ينبغي. لقد مشت فرنسا — والتعبير للصحف الفرنسية — وراء أديث بياف في جنازة لم تشيع بمثلها بطلتها — بل قديستها الشهيرة — جان دارك. وما زالت حياة المغني الأمريكي ألفيس بريسلي موضع اهتمام ومتابعة الأفراد والجماعات ووسائل الإعلام، ليس في الولايات المتحدة وحدها، وإنما في الغرب الأمريكي كله. والأمثلة كثيرة.

إن الشعوب هي التي تخلق نجومها — سواء كانوا ساسة أو فنانين أو أدباء أو لاعبي كرة — من المستحيل أن تحدد لشعب من ينبغي أن يجعله نجمه أو مثله الأعلى. إنه هو الذي يختار، ربما لأسباب تغيب عنها الموضوعية تمامًا. إنها علاقة «ذات طبيعة خاصة»، يبتعد عنها السؤال والتقصي ومناقشة الدواعي والأسباب والمبررات. وعندما يختفي النجم من حياة مئات الألوف — وربما الملايين — التي تحبه، فإن الحزن يتسم بالعمومية، رغم أنه يصدر في كل نفس لدواع تختلف عن الدواعي في نفوس الآخرين، فارتباط صوت المطرب برحلة المراهقة في نفس «فرد» ما، يقابله ارتباط في نفس فرد آخر لإعجاب متذوق بصوت المطرب الراحل. وقد ينشأ الحزن لأن الفرد يجد في رحيل المطرب — كما تقول نظرية علم النفس — فقد آخر عزاء له في حياته، وأن الشخص الثاني الذي قاسمه ذاته، وعاش — لسنوات — داخله، قد غاب إلى الأبد، وغابت. بغيابه — أعوام البراءة والدهشة والحب والأماني والأمل، ولم يعد سوى الشخص الأول، بكل ما تنطوي عليه نفسه من هموم ومتاعب.

•••

مات عبد الحليم حافظ في المساء المتأخر من ٣٠ مارس ١٩٧٧م٩٧ وفي اللحظات التالية لإذاعة نبأ الوفاة في القاهرة، سيطر مناخ حزين على الحياة المصرية، كأنما الميت قد تكرر في غالبية البيوت المصرية، وأفردت الصحف — ووسائل الإعلام عمومًا — ساحاتها، للحديث عن حياة الفنان الراحل منذ الميلاد إلى الوفاة. بدا يوم الجنازة — في الليلة السابقة — مزدحمًا ومأساويًّا، فنصحت الشرطة بأن يدفن الجثمان ليلًا، حتى لا يخطئه المشيعون، وسار مئات الألوف في اليوم التالي وراء نعشٍ خالٍ! ولما أصر عدد من الشبان أن يحضروا دفن نجمهم، طردتهم الشرطة في معركة، وبكى الآلاف، وفقدوا أعصابهم، وانتحرت خمس فتيات، أقدمت إحداهن — في رومانسية مفرطة — على إلقاء نفسها من شرفة شقة المطرب الراحل في الطابق التاسع. ومن واقع سجلات الشرطة، فإن من تعرضوا للإصابة أو الإغماء بين المواطنين الذين خرجوا لوداعه، كان أصغرهم سنًّا: محمد عبد العليم علي (١٢ سنة) وأكبرهم سنًّا (١١۳). كما وقع الطفل سمير سيد علي (٨ سنوات) تحت أقدام الجماهير، فلقي حتفه حالًا. وتحت تأثير غلاب لرأي عام كان قد أهمل كل شيء، سوى معرفة كل شيء عن نجمه الأشهر: لماذا مات؟ وكيف؟ وماذا قال قبل الوفاة؟ ومن هم الأقارب والأصدقاء الذين كانوا حوله لحظة دنو الأجل؟ … وامتد الفضول، والتطلع إلى رغبة في استعادة حتى ما كان معروفًا في حياة النجم الراحل … تحت تأثير ذلك التأثير الغلاب، وبرغم أن الرئيس السادات — وقتذاك — كان في واشنطن لمحادثات مهمة مع الرئيس الأمريكي، فقد أصدرت الصحف ووسائل الإعلام — لعله التعبير الأدق — إلى إفراد الحيز الأهم من مساحاتها للتحدث عن نبأ الوفاة، ثم الإطناب فيما ينبغي، وما لا ينبغي نشره من مراحل حياة الفنان الراحل. ويروي الصديق صلاح عيسى — في مقال متميز عن أبوية عبد الحليم حافظ» — أن جريدة الأهرام — أكبر وأقدم الصحف المصرية — قد نشرت الخبر — الذي كان قد أذيع متأخرًا — مختصرًا وغير مؤكد في طبعتها الأولى. ومع أنها أعادت نشره موسعًا في الطبعات التالية، واحتفظت به في مكانه بين الأخبار المهمة في صفحتها الأولى … فإن المساحة التي منحتها له، والتفصيلات التي ضمنتها الخبر، ظلت أقل من المساحات التي منحتها صحيفتا «الجمهورية» و«الأخبار» القاهريتان. ومما زاد الطين بلة — الكلام لصلاح عيسى — أن كميات كبيرة من الطبعة الأولى للأهرام طرحت في أسواق القاهرة، في الصباح الباكر. وحين قارن المعجبون بعبد الحليم حافظ الطريقة التي نشر بها الخبر في الصحف الثلاث، غضبوا من الأهرام التي رأوا أنها لم تمنح معبودهم الراحل ما يستحقه من اهتمام، وعاقبوها بمقاطعتها في الأيام التالية، بينما شجع النجاح الذي لاقته الجمهورية والأخبار أقسامهما الفنية على تخصيص صفحات يومية عن حياة الفقيد، وأنباء ما بعد وفاته.٩٨
والحق إن القول إن «مواكب الحزن الجماعي» التي خرجت لوداع عبد الناصر وأم كلثوم وعبد الحليم، إنما كانت بإلحاح من مؤثرات إعلامية خططت لها السلطة القائمة آنذاك، ونفذتها بإتقان؛٩٩ ذلك الرأي، ينزع عن الشعب المصري إدراكه للأمور، ويُفقده الوعي، ويقلل — إلى حد التلاشي — من إمكانية قيامه بأي دور يدفعه إليه تفهمه للأمور. اللافت أن عبد الحليم حافظ مات بعد حوالي الشهرين من أحداث ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧م — لم تكن الأحداث قد أثبتت هويتها بعد: هل كانت انتفاضة شعبية، كما عبر عنها ذلك التدافع التلقائي لمئات الألوف من المواطنين المصريين، والتصرفات غير المنظمة، والمفتقدة إلى قيادة توجهها إلى الخطوة التالية، مما ييسر عملية ضربها، وإفشالها، بسرعة غير متوقعة. هل كانت انتفاضة شعبية، أو أنها لم تزد عن انتفاضة حرامية، كما أكد ذلك رئيس الدولة، رغم ما اتضح — فيما بعد — من الملابسات التي اتصلت بالحدث، ورافقته؟ أقول: كانت أحداث ١٨ و١٩ يناير ماثلة في الأذهان، بل إن آثارها كانت ما تزال عالقة بالأجساد والثياب، وبالنفوس أيضًا! … فهل نسي المصريون تلك الأحداث المثيرة بين يوم وليلة؟ … هل نسوا صيحات الجوع والغضب والتحدي للسلطة التي كانت ما تزال قائمة في الحكم؟ وما هي الركيزة التي استندت إليها السلطة في اطمئنانها على عدم استغلال الجنازة الحاشدة، المتوقعة، سياسيًّا. فتتكرر انتفاضة الحرامية بصورة وبأخرى؟ فضلًا عن ذلك، فإن مبادرة رئيس الدولة بزيارة القدس، لم تكن أثمرت جوانب إيجابية من أي نوع، وإنما كان من بين معطياتها إحداث شرخ عميق في النفسية المصرية التي كانت تتعامل مع إسرائيل باعتبارها عدوًّا نخوض ضده معركة مصير. فإما أن نكون في هذه الأرض، أو نخلي الأرض والحياة معًا. وتصدعت العلاقات المصرية العربية، إلى حد القطيعة الكاملة، وأسرف الحاكم في تغليب رأيه بحيث تحولت كل قطاعات المجتمع إلى قوى مناوئة. ورغم المد الإعلامي الجارف لإضفاء الإيجابية على الزيارة وما لحقها، فقد تقاطرت السلبيات بصورة ملحوظة، وكان ذلك داعيًا للسلطة إلى تحجيم الجنازة، وليس العكس. إذاعة لندن أدركت جيدًا موقع عبد الحليم حافظ في وجدان الملايين من أبناء الشعب العربي — كان من القلة التي تحقق لها رأي عام عربي بلغ الإجماع — فقد قطعت بثها العادي. وذلك ما لا تفعله إلا لحدث مهم: إعلان حرب، ثورة، انقلاب، وفاة زعيم. وأعلنت «أن الفنان عبد الحليم حافظ، الذي تربع على عرش الشهرة والأغنية العربية لمدة خمسة وعشرين عامًا، كف قلبه عن الخفقان للأبد في الغرفة رقم ١١٧ في مستشفى كنجز كولج.» وبالطبع، فإن عبد الحليم لم يكن زعيمًا سياسيًّا، ولا زعيما عسكريًّا. بل إنه — والتعبير لصلاح عيسى — لم يكن حتى فنانًا خالقًا. إنه صاحب موهبة طبيعية يختلف فيها التقدير، سخَّرها لتكون واسطة لنقل المواهب الخلاقة التي يتمتع بها غيره من الملحنين والشعراء». ولعلِّي أوافق على بعض ذلك الرأي، وإن أبديت تحفظًا تدفعني إليه تلك المظاهرات الحاشدة التي احتضنت جنازة عبد الحليم، أو أنها ستبدو بالفعل سذاجة وافتعالًا وفقدان وعي وبلادة حس وتسيبًا عاطفيًّا وانعدام شعور بالمسئولية، إلى غير ذلك من الصفات السلبية التي حرصت بعض الأقلام على إلصاقها بالشخصية المصرية في ضوء ما شهده ذلك اليوم الأخير من مارس ١٩٧٧م.
وابتداءً، فإن الحفاوة بالموت تقليد مصري، فريد في نوعه؛ فالمصريون يحرصون على تشييع الجنازات، حتى لو لم يكن للمشيعين بالميت صلة. وهم يتطوعون لحمل نعش الميت، وثمة دكاكين تغلق أبوابها إذا لمح أصحابها جنازة تقترب، ليشتركوا في تشييع الجنازة. والمصريون كذلك يحرصون على التعزية وحضور العزاء، وذكرى الأربعين، والذكرى السنوية، والمشاركة بالطعام، أو استضافة الغرباء من المعزين، بل إن الندابة — وهي نموذج ينتمي إلى الطبقة الأدنى — ظاهرة مصرية، ونشر النعي في الصحف — وهو نموذج ينتمي إلى الطبقتين الوسطى والموسرة — ظاهرة مصرية كذلك. ولأن قداسة الموت هي قداسة الحياة ذاتها، فقد كان «النعش» أول ما صنعه النجار القديم. وكان القبر أول بناء في العالم. ثم كانت براعة الإنسان المصري في تحنيط موتاه. ولا تزال تلك هي نظرة المصريين إلى الموت، رغم تداخل الحضارات والمدنيات وتفاعلها، وتغير النظرة إلى الكثير من قوانين الحياة، والطبيعة، والمجتمع. الموت — في حقيقته — حياة ثانية، صورة أخرى من صور الحياة القائمة، يفقد فيها الإنسان قدرته على الحركة، لكنه لا يفقد الحياة نفسها. وحتى الآن، فإن نظرة المصريين لظاهرة الموت، لم تتغير إلا في بعض التفاصيل عن نظرة المصريين القدامى الذين كانوا يرون أن معنى الموت هو انفصال العنصر الجسماني عن العنصر الروحاني، وكانوا يعتقدون في وجود حياة في القبر، وأنها حياة أبدية أحيانًا، مؤقتة أحيانًا. ويعتقدون بالمسئولية الخلقية في الحياة الآخرة، حتى يمثُل المتوفى أمام المحكمة السفلية لتحاسبه إذا كان قد أخطأ في حق الآخرين (أذكر أني تناولت ذلك بإفاضة في روايتي «اعترافات سيد القرية»). رحلة المرء من الشرق إلى الغرب، حيث شيدت المقابر، هي نفسها رحلة الشمس من الشرق إلى الغرب، في مراكب تعبر النيل، إلى حيث تواصل — بعد الرسو في الضفة الغربية — حياة متجددة، دائمة. تعني تغير في حياة الإنسان، وليس انتهاء تلك الحياة. ويخاطب الكاهن الميت في تابوته بالقول: «إن عظامك لا تفنى، ولحمك لن يبلى، وأعضاءك ليست بعيدة عنك. إن آلهة السماء تعيد لك رأسك ثانية، وتجمع لك أعضاءك ثانية، وتحضر قلبك لجسمك ثانية. قم لخبزك هذا الذي لن يجف، وجَعَتِك التي لا يمكن أن تفسد؛ إذ بهما تصبح روحًا». وفي نصوص الأهرام: الروح إنما تذهب إلى السماء، أما الجسد فهو يبقى في الأرض. وفيها: إنك لم ترحل ميتًا. إنك رحلت حيًّا. وفيها: أيها الشخص الفضي بين النجوم التي لا تفنى، إنك لا تفنى إلى الأبد». ومثلما ترحل الشمس من الشرق إلى الغرب، كذلك كان المصريون يحرصون أن تكون المقابر ناحية الغرب، وأن تمضي الجنازات من الشرق إلى الغرب، في مراكب الشمس التي تعبر النيل، حيث ترسو، ليواصل الإنسان من هناك تجدد حياته. وقول موريس ماترلنك بأن احتفال المصري بالموت أكثر من احتفاله بالحياة، وأنه ينفق حياته استعدادًا للموت، ومن ثم فقد بنى الأهرامات، واخترع التحنيط … هذا القول مغلوط لسبب بسيط، هو أن اهتمام الإنسان المصري بالموت لم يكن من أجل الموت نفسه، وإنما من أجل الحياة. لقد شغله الموت، شغله سبيل انتصاره عليه، وخلوده — الإنسان — من بعده. عني بمظاهر الموت من أجل الحياة. الموت — في عقيدة قدماء المصريين — لم يكن هو النهاية، لكنه نقلة تفارق فيها الروح الجسد — لفترة تطول أو تقصر — ثم تعود إليه. ألم تعد الروح إلى جسد أوزوريس ثانية؟ … من هنا لجأ المصريون إلى تحنيط موتاهم. الحفاظ على صورة الجسد حتى تعود إليه الروح، ويعود إلى الحياة. ومع ذلك، فإن كراهية الموت خاصية أصيلة في الطبيعة المصرية، منذ الكلمات المنقوشة على الكثير من شواهد قبور المملكة المتوسطة، والأغاني التي تبين عن تعلق بالحياة. إنهم يكرهون الموت؛ لأنه يفرق بينهم وبين أعزائهم، ولا يخافونه لأنه حق، وانتقال من حياة إلى حياة. الموت — كما يقول جابرييل مارسيل — لا يصبح إشكالًا أليمًا إلا عندما نواجه موت إنسان نحبه. هذا الموت يمثل تحديًا قاسيًا، صدمة، لمشاعرنا وذكرياتنا وأشواقنا، وتحطيمًا للوحدة القائمة بيننا وبين «المحبوب» الذي اختطفه الموت. وقد أحب المصريون عبد الحليم إلى حد إظهار الفجيعة عليه بعد موته. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظاهرة الواضحة المتشابهة بين واجبات الأحياء إزاء الموتى في مصر القديمة، وواجبات الأحياء إزاء الموتى في دنيانا المعاصرة، تكاد تكون واحدة. وكما يقول أستاذنا سيد عويس، فلعل «فكرة احترام الموتى من أولياء الله والقديسين، عند المصريين المعاصرين، وتمجيدهم، والاعتراف بالواجبات نحوهم، والحرص في أدائها، أن تكون امتدادًا للفكرة المصرية القديمة، واستمرارًا لها، على الرغم من أن الدين الإسلامي، دين الأغلبية المعاصرة، يناهض هذه الأفكار، ولا يقرها.»١٠٠ العناصر الثقافية المتعلقة بمظاهر الموت، وبفكرة الخلود، والنظرة نحو الموتى، باقية، ومستمرة، في المجتمع المصري منذ آلاف السنين إلى أيامنا الحالية. ولعل التعبير الأوضح في ذلك، أننا — كشعب — نحب الدعابة، ونتقن صناعتها، ونحب الغناء والطرب، لكننا نبكي إذا أحسسنا بالحزن، ونبكي إذا أحسسنا بالفرح كذلك. وإذا توهمنا أن فرحنا زاد عن الحد، غمغمنا قائلين: اللهم اجعله خيرًا … ونحن نضحك بصوت عالٍ، لكن قليلًا ما نغضب. فإذا غضبنا، ملأت العواطف الجياشة صدورنا، وشلت — تمامًا — موضوعية تفكيرنا، ثم ما يلبث الغضب أن يتبدد، ويعود الصفاء. وحزن الإنسان المصري يبدو صارخًا عند مواجهة الموت، منذ فجر الحضارة والإنسان المصري يعد الموت مناسبة مهمة، وخطيرة، وذات مدلولات أقرب إلى القداسة. ومن هنا يتبدى تنظيم الطقوس والعادات والتقاليد المتصلة بالموت، التي تبين بدورها مدى اهتمام المصريين المعاصرين بظاهرة الموت، وبالموتى. ومن هنا أيضًا كانت العناية الفائقة — قديمًا — ببناء المقابر، وتحنيط جثث الموتى، وحبس الأوقاف، وتقديم القرابين. ونحن نجد امتدادًا لذلك كله — في زماننا الحالي — في زيارة المقابر، وتوزيع ألوان من الطعام، بعضها «تقليدي» كالأقراص والمنين وغيرها، وبعضها يراعي في اختياره مدى حب الميت لها، فكلما كانت أقرب إلى «تذوقه» كانت روحه أكثر سعادة بها، وكانت الرحمة التي تنزل بها أكثر سعة ورحابة. وثمة حرص من الكثيرين على اختيار مواقع المقابر في الصحراء؛ لأن الأرض الرملية تصون جسد الإنسان — بعد الموت — من البلى، بما لا يتوافر في الأرض الطينية فضلًا عن أن النيل كان يغطي الأرض المزروعة بمياه الفيضان ثلاثة أشهر في الأقل كل عام.

•••

ثم نسأل: الذين خرجوا لوداع عبد الحليم حافظ، مئات الألوف الذين خرجوا لوداعه … هل هم جزء من التكوين النفسي الذي يحزن لكل شيء، وأي شيء، ولأيٍّ كان؟ … هل هم جزء من النظرة شبه الثابتة للموت، والموتى، وبالذات إذا كان الميت قد رحل في ظروف مأساوية، أو كان قريبًا من الشباب، أو كان نجمًا في سماء مجتمعه؟

لعله يمكن تقسيم هؤلاء الذين شكلوا ذلك الحشد البشري الضخم إلى تصنيفات محددة:
  • الذين أعجبوا بنضاله ضد المرض، حتى انتصر المرض في النهاية طبيعة الأشياء، وإن خلف ما حدث تأثيرات، تضع الشخصية الراحلة في إطار البطولة والإعجاب والحزن والرحيل في آن.

  • الذين وجدوا في ظروفه القاهرة، ومقاومته لها، وتغلبه عليها، صورة للواقع الذي كانوا يحيونه — أو ما زالوا — والخلاص منه، أمنيتهم المتجددة. إنه واقع لا يختص — بأبعاده المختلفة — فردًا بذاته، وإنما يبسط خيمته الهائلة على الملايين من أبناء الشعب المصري.

  • جيل المراهقة الذي عبر عنه الفنان في أغنياته العاطفية.

  • جيل الثورة الذي عبر عنه في أغنياته السياسية والوطنية.

  • الذين شكلت أغنياته بعدًا مهمًّا في وجدانهم، من ارتبطت أغنياته، وأفلامه، بتجارب عاطفية وشخصية، من الصعب إسقاطها من الذاكرة. أستمع — وأتيح لي أن أشارك — أحيانًا — إلى برنامج تقدمه إذاعة «صوت العرب». يختار المتحدث أغنيات أعجبته. كل أغنية ترتبط بحادثة معينة في حياة المتحدث، التصقت بذاكرته فهي لا تغادرها، يستدعيها إذا تطرق الحديث إلى الغناء، أو أن الأغنية تستدعي الذاكرة بمجرد أن يشير المرء إلى اسم الأغنية. المتحدث/المعجب لا يتناول المقومات الجمالية للأغنية، الكلمات أو اللحن أو الأداء، وإنما يتحدث عن «الذكرى» المناسبة التي استمع فيها — للمرة الأولى — إلى الأغنية — أو أنها ارتبطت بحادثة ما — إلى الأغنية. تتناهى إليه موسيقى الأغنية، تنقله. — حالا — إلى اللحظات التي استمع فيها إليها. قد تغيب التفصيلات، لكنه يتذكر اللحظات في عمومها. ربما كان مع أصدقائه في رحلة، أو يخلو إلى كتبه ومذكراته، أو يبدأ علاقة حب مع بنت الجيران، أو تستوقفه أنغامها وهو في الطريق، فيتوقف ليتابع بقية الأغنية، أو يحصل على إجازة من وحدته العسكرية، أو يحمل إلى أسرته بشرى نجاحه في الامتحان. منمنمات، أو مواقف صغيرة، تشكل ذاكرتنا. وكما يقول المثل، فإن «لكل زمن أغنياته»، وكل أبناء جيل يتذكرون الأغنيات التي استمعوا إليها في جيلهم، في زمنهم. تذاع الأغنية، يستمعون إليها، تعمدًا أو مصادفة، تنقلهم الأغنية إلى دنيا مغايرة كانوا يحيونها قبل سنة أو سنتين أو عشرات من السنين. جزيرة متفردة بجمالها وحلاوتها؛ فالماضي — كما يقول أستاذنا يحيى حقي — «مهما كان مرًّا، فهو حلو». بل إن أسماء المغنين — لا الأغنيات — تستدعي الذكريات إلى نفوسنا: منيرة المهدية، صالح عبد الحي، فتحية أحمد، أم كلثوم، عبد الوهاب، الأطرش، عبد الحليم … إلخ. كل اسم يستدعي ذكريات بذاتها، وأغنيات على وجه التحديد. بل إنه يستدعي حيوات كاملة بأحداثها وأماكنها وزمانها، والشخصيات التي كانت محورًا لها. وعلى حد تعبير جون هوسبرز، فإن الموسيقى بالنسبة لهؤلاء «ليست في الواقع إلا منصة وثب يطلقون من عليها الفنان لأهوائهم العاطفية الخاصة لتحريك ذكرياتهم العاطفية، أو سلسلة من التداعيات، تعمل الموسيقى باعتبارها مجرد خلفية، وليس باعتبارها شيئًا يصغون إليه.»١٠١ وحتى الآن، فإن أغنيات عبد الوهاب القديمة: الجندول وهمسة حائرة وكليوباترة، إذا ترامت من مكان ما، فإني أتذكر — حالًا — تلك الأغنيات التي كنت أستمع إليها وأنا طفل — في الأربعينيات — في شقتنا بشارع إسماعيل صبري، يدور بها فونوغراف قهوة فاروق في نهاية الشارع. الأغنيات نفسها التي إن استمعت إليها الآن، فإني أعود إلى أيام الطفولة، كأني أحياها. وأذكر أني استمتعت بحب مراهقتي في ظل صوت عبد الحليم: صافيني مرة، على قد الشوق، أبو قلب خالي، أسمر يا اسمراني، كان فيه زمان قلبين، ظلموه، وغيرها من أغنيات عبد الحليم العاطفية، ترتبط بمواقف في شوارع السيالة وشاطئ الأنفوشي وحدائق رأس التين والشلالات ونافذة البيت المقابل والشارع الخلفي لبيتنا، وأماكن أخرى وشخصيات، أتذكرها، أتذكر مواقف بريئة وأحلامًا وأماني مجهضة، حال استماعي للأغنية في «لحظة ما»، تلتقي بالمكان أو الشخصية، أو الحدث، تستعيد الملامح والقسمات، فيبدو كل شيء كأنه وليد اللحظة، كأنه جرى بالأمس، أو أن هذا هو ما أحياه الآن فعلًا والمؤكد أن ذلك هو التأثير نفسه الذي تلقاه أغنيات عبد الحليم في وجدان الملايين من أبناء جيلي. هؤلاء الذين رافق صباهم وشبابهم تلك الأعوام منذ مطالع الخمسينيات، رددوا مع الجموع: ناصر يا حرية، واحنا الشعب، ويا جمال يا حبيب الملايين، وصورة، وغيرها من الأغنيات الوطنية، وهمسوا لأنفسهم، أو لمن تخاطبهم القلوب، بتلك الأغنيات التي ترامت من راديو قريب، في لحظة ما، في مناسبة ما، فعلقت في الذاكرة لا تغادرها، تستعيدها، تتجسد المعاني والتفصيلات والحكايات القديمة، إذا تناهت الأغنية إلى الأذن. هنا ترتبط التداعيات العاطفية Sentimental Assoriations وتشكل النوستالجيا العامل الحاسم في إنصاتهم ومتابعتهم وتذوقهم، لهذه الأغنية أو تلك.

أخيرًا، فمن الصعب أن نغفل هؤلاء الذين خرجوا بالفضول — وحده — ليشاهدوا كيف كانت جنازة المطرب الشهير. إنهم محايدون في مشاعرهم، وربما لا تعنيهم حياة المطرب أو وفاته. كل ما يعنيهم هو الفرجة … لكنهم قطاع في المجتمع المصري يصعب إغفاله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤