مقدمة الطبعة الثالثة
كأنه لم يمت منذ خمسة عشر عامًا، بل كأنه لا يزال شابًّا في العشرين، تخرق أفكاره طبلة الأذن، وتُحدث آراؤه ما يشبه الصدمة الكهربية، حتى إنهم يهاجمونه اليوم بالألفاظ نفسها والعبارات عينها التي هاجموه بها في الأمس البعيد. كل ما تغيَّر هو الوجوه والأشياء!
هل معنى ذلك أن المجتمع لم يتغير؟ لو كان الجواب بالإيجاب، لما كنا نستطيع القول بأن سلامة موسى انتصر! والحقيقة غير ذلك تمامًا، فقد انتصرت أفكار سلامة موسى ورؤاه التي عاش مناضلًا من أجلها أكثر من نصف قرن، انتصرت حتى أصبحت من البديهيات الفكرية والسياسية والاجتماعية في حياتنا، سواء اقتنع بها البعض أو لم يقتنع، سواء أخذت طريقها إلى التطبيق أو لم تأخذ. بل إن بعض أفكار سلامة موسى أصبحت مع الزمن أكثر شهرة منه، فقطاعات عريضة من الأجيال الجديدة لا تعرف أنه كان أحد الرجال الذين استُشهِدوا من أجل ما يتصورونه بديهيًّا في عصرهم.
وهكذا انتصر سلامة موسى في مختلف الانتفاضات الحضارية التي حققناها والتي لم نحققها، وإن كنا نعاني الأهوال من أجل تحقيقها. لم يعد العلم والتصنيع وحرية المرأة والاشتراكية والديمقراطية والأدب الملتزم بأهداف المجتمع من المحرمات الفكرية علينا. بل أصبح جزءٌ كبيرٌ منها واقعًا ماديًّا ملموسًا في متناول اليد. والجزء الآخر — خاصةً فيما يتعلق بالاشتراكية والديمقراطية — أصبح كفاحًا ثوريًّا يستقطب جماهيرنا وتنظيماتها الطليعية.
لماذا إذَن يبدو الأمر للوهلة الأولى وكأن المجتمع لم يتغير؟ لأن الرجعية التي كان يناضلها سلامة موسى طيلة السنوات الخمسين التي عاشها كاتبًا ومفكرًا، لم تمت بعد. وإنما هي قد غيَّرت شبابها وألوانها الاقتصادية والاجتماعية، ولكنها تجد في تراث أسلافها من الرجعيات القديمة زادًا لا ينضب. وهي الآن أكثر ضراوة من أي وقتٍ مضى؛ لأنها تحيا بكل ذرات دمها مرحلة الغروب. إنها أكثر ضراوة لأن أفكارها تتناقض يوميًّا وفي كل لحظة تناقضًا حادًّا مع الواقع من حولها، مع العصر وتحدياته. إنها مهددة بالموت اختناقًا، بفاعلية التطور الاجتماعي الذي جرى، ولصعوبة العودة إلى الوراء، ولأن الفكر الجديد يطاردها في كل مكان.
من هنا كان عداؤها — لحد التحريم — لسلامة موسى وأفكاره. ومن هنا أيضًا كان الوجه الآخر للعملة، وهو أن كتابات سلامة موسى ومؤلفاته تلقى رواجًا بعد وفاته أكثر مما كانت عليه في حياته. إننا نعيش إحدى مراحل «الردة»، فالتاريخ لا يمضي بنا في خطٍّ مستقيم، ولكنها ردة مؤقتة لا تعني أبدًا احتمال العودة إلى الوراء، والرجعية نفسها تعرف هذا جيدًا، لهذا تبذل أقصى ما تستطيع لإيقاف عجلة التقدم، ولو لبضع ثوانٍ، حتى تسترد أنفاسها المقطوعة اللاهثة خلف السراب. وهي في محاولتها اليائسة هذه تستغل في حربها أبشع الأسلحة وأحقرها في وقتٍ واحدٍ؛ لأنها تدرك أنها في معركتها الأخيرة، وفي أسوأ لحظات الاحتضار.
ومن هنا لا يبقى سلامة موسى في ثقافتنا المعاصرة مجرد قيمة تاريخية رائدة، وإنما يبقى — بعد موته — أكثر حياةً من بعض الأحياء.
وربما كان سلامة موسى في حياته مفكرًا للمثقفين، رغم شعبية أسلوبه وشعبية أفكاره، والمثقفون اليوم يستطيعون الرجوع مباشرةً إلى مصادره الرئيسية دون الحاجة إلى وسيط، ولكن سلامة موسى لم يكن مجرد وسيط بين الأفكار الجديدة والواقع المتخلِّف. يبقى منه — الآن وغدًا وبعد غد — الرجل والمنهج. إن سيرة حياته وأسلوبه في التفكير، سيظلَّان أمدًا طويلًا منارة هادية لمثقفينا الذين ينشدون تغيير مجتمعهم.
وسلامة موسى — بعد موته — أصبح مفكرًا للشعب، لا للنخبة وحدها؛ لأن أسلوبه المذهل في التعبير عن أكثر الأفكار تعقيدًا، أسلوبه البسيط المشحون بالقدرة على الإيحاء والتغيير، أسلوبه السابق لعصره الذي كان غارقًا في الزخارف اللفظية والبهارج الشكلية، أسلوبه المكتشِف المنير النافذ إلى العقل والقلب. هذا الأسلوب يصل إلى أعرض قطاعات الجماهير القارئة، وهو السر الحقيقي الكامن في تعاظم عدد قرائه بعد وفاته. بهذا المعنى تصبح كتابات سلامة موسى من المؤلفات الكلاسيكية التي تظل الحاجة إليها قائمةً، حتى بعد تحقيق غالبية ما جاء فيها، لتربية الأجيال تلو الأجيال. إنه نموذج نادر في ثقافتنا للكاتب الذي لا يموت بموته، بل يزداد حياة.
وليس من الغريب أن يكون كتابي عنه، وهو أول مؤلفاتي، أكثر دراساتي رواجًا؛ ذلك أن الموقف من سلامة موسى — في التحليل والتقييم — هو موقف من حركة الثورة في التقدم والانتكاس على السواء. وما أكثر حاجتنا إلى فهم سلامة موسى، وإدراك رسالته الفكرية، والوعي بدوره في أوقات المحن والأزمات.
بيروت، ٢٧ آب (أغسطس) ١٩٧٣م.