الفصل الأول
رائد الفكر العلمي
كان مناخنا الفكري السائد في بداية القرن العشرين مزيجًا من الثقافتين الإقطاعية
والاستعمارية. فالمدارس المدنية قاصرة على دراسة الإمبراطورية البريطانية، والمعاهد الدينية
قانعة بدراسة العالم الآخر، ومَجلة البيان الأدبية اكتفت باستخلاص القيم الفنية من كهوف
الأدب القديم. وكان هذا وضعًا طبيعيًّا في ظل مجتمع يرسف في قيود الاحتلال وأغلال العلاقات
الإقطاعية … فلقد تميزت البرجوازية المصرية في نشأتها بسمات الرأسمال التجاري الضعيف،
والسمة الأساسية للرأسمالية التجارية الناشئة هي استسلامها المؤقت للقوى السياسية
والاجتماعية السائدة.
وهكذا بقي النشاط الوطني في تلك الفترة دون المستوى القومي، فالشعارات الرائجة حينذاك،
كالدعوة إلى جامعة إسلامية، لم تكن في اتجاه الوحدة القومية التي هي الأمل المتوثب بين
الضلوع مع نمو البرجوازية في بلد مستعمر وشبه إقطاعي. وبالرغم من ذلك وُلِدَت الشعارات
القومية وتسللت في خفوت إلى كيان الشعب ووعيه كصرخة لطفي السيد «مصر للمصريين» التي ألهبت
وجدان الشعب بروح جديدة زحفت إلى فكره وثقافته بأناة وهدوء بالغَين. فظهرت الأبحاث في
الحضارة المصرية، والمقالات العديدة حول المسألة الوطنية الوافدة مع البرجوازية، كما
صدرت
المَجلات العلمية والأدبية الآخذة بمنهج الحضارة الأوروبية. والحضارة الأوروبية حينذاك
هي
حضارة البرجوازية في العصر الإمبريالي حيث تجاوزت مرحلتها الثورية إلى مرحلة الوقوف في
وجه
التقدم.
ومع هذا كانت القوى الناهضة في مصر شاخصة إلى أوروبا … إلى النموذج الكلاسيكي للثورة
البرجوازية. ولعل هذا ما يفسر لنا ترجمات الأدب الرومانسي التي نشرها فرح أنطون في مجلته
«الجامعة»، والنظريات العلمية كالداروينية التي كتبها شِبلي شُميِّل على صفحات «المقتطف»
…
إنها بمثابة المقدمات الفكرية للطبقة الثورية.
ولم تبلغ هذه المَجلات درجة واسعة من الانتشار بين أبناء الطبقة الجديدة. على أن القلة
النادرة التي حظيت باستقبال الثقافة الجديدة كانت تمتلك من الظروف الذاتية والموضوعية
ما
يمهد لها الطريق.
وسلامة موسى أحد أولئك الذين هيأت لهم ظروفهم هذا الطريق، فهو أحد أبناء الفئات الصغيرة
من الطبقة الجديدة … وهو أحد أفراد الأقلية المسيحية من الشعب المصري، لذلك كانت التناقضات
بينه وبين الواقع المصري أكبر من أن تحلها هذه القراءات المتناثرة في العلم والفن
الأوروبيين.
وجاء قراره عام ١٩٠٨م بالسفر إلى أوروبا تعبيرًا ملحًّا عن التناقض بينه وبين المجتمع
المصري في تلك المرحلة. ويكشف لنا كتابه الأول «مقدمة السوبرمان» — كتبه عام ١٩٠٩م ونُشِرَ
في العام الذي يليه
١ — عن الخطوط الباكرة في خريطة حياته الفكرية. إنه يتحدث إلينا باللغة الفابية؛
أي بمنهج الفابيين الإنجليز القائلين بالتطور التدريجي والمعادين لأسلوب الكفاح الثوري.
ويقارن بين المرأة الإنجليزية والمصرية في حدود الثورة على التقاليد السائدة في بلادنا.
ويعرض لما توصل إليه علم اليوجينيا في تطوير الكائن الإنساني بغير الحاجة إلى قتل الضعفاء
والمرضى كما ينادي نيتشه، وإنما بتعقيم ذوي العاهات السيئة فلا تورث أمراضهم بعد الزواج.
ثم
يعرض للنهضة الأوروبية في الأدب، وكيف أننا بحاجة إلى أدب مصري يعبر عن الشخصية
المصرية.
ولأول وهلة نحس فور انتهائنا من قراءة هذا الكتيب قلقًا حادًّا من الانفجارات الحادة
التي
تتوالى من صفحة إلى أخرى، بل إننا نسمع دوي هذه الانفجارات وأزيزها في عقلية المؤلف ومنهج
تفكيره. إنه يختتم حديثه القصير قائلًا (ص٢٩): «إن الفلسفة الحديثة ترمي إلى تفسير الحياة
بحب القوة وكره الضعف، وتحسين الإنسانية بطريقة عملية خالية من كل سفسطة، أساسها علم
البيولوجيا الحديث الذي يوضح لنا العوامل التي رقَّت الحيوانات ويبني إمكان تطبيقها على
الإنسان. فبهذه الفلسفة الجديدة نُحسِّن الإنسانية الآتية بمنع كل ما فينا من العناصر
الرديئة من الوصول إلى نسلنا. وأهم هذه العوامل هو تحريرنا الاقتصادي بشكل يساوي فرصة
العمل
بين الأفراد، وهذه هي السوشيالية — أي الاشتراكية — وتحريرنا الأدبي بشكل ينقرض فيه الدنيء
الذي يعيش الآن بسلطة الواجبات الأدبية، ويبقى العالي الذي يرى في نفسه قانونًا لسلوكه.
ولْنَذْكُرْ دائمًا أن الرحمة التي نحسن بها على الضعيف والمريض هي قسوة هائلة وجريمة
فظيعة
على الإنسانية القادمة لأنها تخلد الصفات الرديئة في الشعوب. يجب أن تتقوَّى فينا غريزة
الحياة إلى حدٍّ نكره فيه الضعف والمرض وكل منحط حتى في نفوسنا. صحيح أننا قتلنا إلهنا
ولكن
لنحيي الإنسان.»
إن أول ما نصطدم به مع بداية تيار سلامة الفكري، ليست هي آراءه التفصيلية وأفكاره
الدقيقة، وإنما نحن نلتقي وجهًا لوجه مع منهج في التفكير يغاير مناهج الفكر والحياة في
مصر
حينذاك. ومنهج مقدمة السوبرمان يفتقر بصورة مزعجة إلى الوحدة والتكامل، ولهذا لست أراه
إلا
جنينًا لمفكر ثائر على أوضاع غريبة معقدة في بلاده، إنه تسجيل أمين للصدمة البالغة العنف
التي أصابت سلامة على إثر الالتقاء بين عينيه التي أضناها سواد مجتمعه المظلم، وبين أضواء
الحضارة الأوروبية الصاخبة، فسقط صريعًا بين أفكار نيتشه وشوبنهاور من جانب، والأفكار
الاشتراكية من جانب آخر. واللقاء الغريب بين النقيضين، إنما يعبِّر عن ضراوة البنيان
التاريخي للمجتمع المصري آنذاك؛ التناقض بين العلاقات الاجتماعية المخيمة على الشكل
الاجتماعي للقوى الإنتاجية الجديدة والقيم الوافدة معها.
على أننا لا ينبغي أن نتوه في الجزئيات الصغيرة بحجة واهية، أن مقدمة السوبرمان تزدحم
سطورها بالمتناقضات، فالثورة على الماضي، على القديم، على الواقع المصري، هي العنصر الأول
الذي ينبغي أن نمسك به في أولى خطوات رحلتنا الطويلة مع سلامة موسى. والعنصر الثاني يمكن
العثور عليه في غلبة هديره على بقية الموجات الكثيرة المتناثرة بين صفحات الكتيب، حين
يصرخ
سلامة (ص٢٠): «إلى متى نرزح تحت هذا النظام الرأسمالي القذر؟ إلى متى؟» فإذا التقطنا
هذا
السؤال، وأضفنا إليه ثورة صاحبه على كافة مجالات الحياة المصرية، لاستطعنا أن نستخلص
الملامح البارزة على جبين سلامة المفكر.
والملاحظة الأولى على حياته الفكرية أنه حدد اتجاه مساره التاريخي، بالرغم من القلق
والسذاجة اللذين صاحبا بعض أفكاره. هذا المسار هو التعبير الثوري عن قوى التقدم في المجتمع،
التعبير الذي صاغه في أسلوب مباشر حين يصور لنا لحظات نقطة التحول التاريخية في حياته،
إذ
خلا إلى نفسه يسألها في صراحة: «من هم خصومي الذين يجب أن أكافحهم؟ ومن هم أصدقائي الذين
يجب أن أؤيدهم؟ ووجدتني أفكر وأجيب، وأحيانًا يحتد تفكيري فأسمعه كلامًا أنطق به. أجل
ليس
لي مأرب في هذه الدنيا، فلست أبالي أن أكون ثريًّا، لا بل لست أبالي أيضًا أن تكون لي
زوجة
وأطفال، وإنما قصدي أن أفهم، أن أعرف كل شيء وآكل المعرفة أكلًا. ثم عدت فقلت: ولكن لماذا؟
وأجبت: لأكافح! أكافح هذا الشرق المتعفن الذي تنغل فيه ديدان التقاليد، وأكافح هذا الهوان
الذي يعيش فيه أبناء وطني؛ هوان الجهل وهوان الفقر. أجل، إني عدو الإنجليز وعدو للآلاف
من
أبناء وطني، لهؤلاء الرجعيين الذين يعارضون العلم والحضارة العصرية وحرية المرأة، ويؤمنون
بالغيبيات. وصارت هذه الأفكار همًّا يؤرقني».
٢
وتبلور هدف سلامة موسى في كتابه الثاني «الاشتراكية» الذي كتبه عام ١٩١٢م. والكتاب
ليس
بحثًا علميًّا في هذا النظام الاجتماعي، بل هو مجموعة من الانطباعات السريعة على إثر
قراءته
ﻟ «رأس المال» في المتحف البريطاني. ولئن كانت اللهجة الفابية تشوب الكتاب، إلا أن ما
ورد
فيه من تعبيرات ماركسية تعكس مفهومًا جديدًا قلقًا، لها دلالتان: الأولى أنها خطوة جديدة
للمفكر الشاب، وثانيهما أن خطوته الأولى في «مقدمة السوبرمان» لم تكن الأخيرة ولن
تكون.
في هذه المرحلة يؤكد سلامة على ثلاث نقاط:
(١) «ليس الاستعمار إلا إحدى نتائج نظامنا الحاضر.» (ص١٣)، والطريق إلى الاشتراكية
في مصر
يكون: (٢) «بتربية الجمهور على الحكم النيابي الديمقراطي.» (٣) «نشر المبادئ الاشتراكية
وإدخال بعضها بالتدريج في جسم الحكومة.» (ص١٤). وجدير بالالتفات هذه الكلمة القصيرة التي
قدم بها الكتاب فقال: «لست طامعًا أن تُعَدَّ هذه الرسالة دعوة للجمهور إلى الاشتراكية،
ولا
أن تكون سببًا في تأليف حزب أو جمعية، ولكني أطرحها أمام الجمهور القارئ عسى أن تكون
خميرة
تختمر بها الأفكار إلى حين تستعد البلاد للاشتراكية.»
ولا ريب أن كتابًا في العربية عن الاشتراكية يصدر عام ١٩١٢م كان فتحًا ضخمًا في تاريخنا
الفكري والاجتماعي على السواء … فالعمل ورأس المال والشعب والبرلمان، ووحدة الصف الوطني،
كل
هذه لم تكن في حساب الثقافة الإقطاعية السائدة، فضلًا عن أنها لم تكن ضمن برامج وزارة
المستعمرات البريطانية، كذلك فإن هذه المفاهيم جسَّدت الأفكار الجنينية الكامنة في أحشاء
الطبقة الوافدة على مسرح الاقتصاد المصري والسياسة المصرية.
وهنا تأتي الملاحظة الثانية على حياة سلامة الفكرية. فقد جعل من هذه الحياة سلسلة
متصلة
الحلقات في محاولة حل التناقضات بينه وبين المجتمع، والحلقة الأولى في هذه السلسلة محاولته
أن يحل هذا التناقض بالثقافة، بتغيير المناخ الذهني، بالفرار من العقلية الشرقية إلى
حضارة
أوروبا. وكانت الحلقة الثانية هي التعبير المكتوب عن هذه التناقضات، وتبصير أبناء مجتمعه
بمأساة حياتهم. وهكذا ليس غريبًا أن يعود سلامة من لندن، ليصدر أول صحيفة أسبوعية باسم
«المستقبل» عام ١٩١٤م. وراح يكتب مع شِبلي شُميِّل ويعقوب صروف وفرح أنطون عن التطور،
والوحدة القومية، والفكر العلمي، والاشتراكية. واستشعرت سلطات الاحتلال ومنابر الفكر
الإقطاعي خطرًا ماثلًا في هذه المَجلة المستقبلية. فلم تتوان عن إغلاقها بعد ظهور ستة
عشر
عددًا. ولم تكن هذه السلطات قد فتحت فاها وهي تطالع ثمرات الفكر الأوروبي على صفحات
«المقتطف» و«الجامعة» و«مسامرات الشعب»، لأنها أحست فارقًا كيفيًّا بين هذه المَجلات،
و«المستقبل» التي لم تنشر الفكر والأدب والفلسفة والتاريخ والعلم — جنبًا إلى جنب — إلا
لكونها تضع منهجًا جديدًا في تاريخ الحياة المصرية، منهجًا أقنع السلطة شبه الإقطاعية
المتحالفة مع الاستعمار، أنه ناقوس اليقظة القومية يعلن عما قريب ساعة الصفر.
ولقد ساهمت إرهاصات الحرب العالمية الأولى، وسنوات الحرب نفسها، في التعجيل بهذه الأزمة،
كانت مشاكل الإمبريالية تتفاقم ولم تستطع الحرب أن تكون حلًّا حاسمًا للأزمة، بل وضعت
أوزارها لتشهد عدوًّا جديدًا من نوع آخر، لتشهد انتصار أول ثورة اشتراكية في العالم.
ومنذ
ذلك الوقت أصبحت الثورات القومية احتياطيًّا للثورة العالمية. بعد أن كادت تقع فريسة
سهلة
بين أنياب القوى الاستعمارية. لهذا كان التوقيت الثوري لليقظة القومية في بلادنا سنة
١٩١٩م
مناسبًا. إنه لم يعلن فحسب عن ميلاد البرجوازية، وإنما كان شهادة الميلاد للقوى الطبقية
الجديدة. أي إن نشأة البرجوازية تعني بالتحديد مولد الطبقة العاملة أيضًا. من هنا ينبغي
تقييم ثورة ١٩١٩م بأنها — أولًا وقبل كل شيء — أكدت تغيُّر معالم الخريطة الاجتماعية
المصرية.
ومن هنا أيضًا ينبغي تقييم تجربة سلامة الأولى مع التنظيم السياسي. فقد اشترك في تأسيس
الحزب الاشتراكي عام ١٩٢٠م بفاعلية هذه الظروف جميعًا على النطاق العالمي والصعيد المحلي
معًا. كان العمل الحزبي عند سلامة أحد أشكال حل التناقض بين أفكاره المتقدمة والمجتمع
الرجعي.
غير أن أولى مراحل الثورة القومية لم تنجح تمامًا لما كانت عليه البرجوازية التجارية
من
ضعف ووهن. وما كان عليه الاستعمار من قوة فتوحات نهاية القرن التاسع عشر. وما كان عليه
الإقطاع من شيخوخة مستكينة في أحضان الإمبريالية. لذلك كان حل الحزب الاشتراكي على يد
الرأسمالية القومية الناشئة أمرًا لا يثير الاستغراب.
واعتزل سلامة الحياة السياسية المنظمة من ذلك الوقت، واكتفى بالمساهمة الفكرية في
ميدان
الصراع، ولم تتخذ هذه المساهمة فاعلية سياسية بصورة مباشرة، وإنما اتخذت صورة العمل على
نشر
الثقافة العلمية منذ تولى رياسة تحرير مَجلة الهلال بين عامي ١٩٢٣ و١٩٢٩م.
وفي هذه الفترة أنجزت الحضارة الأوروبية خطوات رائعة في مجال التقدم العلمي؛ الفكر
الاشتراكي يبلغ درجة عالية من النضج بمصاحبة التجربة الاشتراكية الأولى. ويكتب سلامة
بحثًا
في الهلال بعنوان «التفسير الاقتصادي للتاريخ» هو تقرير موجز عن اكتشاف الماركسية لقانون
تطور المجتمعات. لم يعلن التقرير ماركسية كاتبه. بل أوضح نوعية القضايا التي يعانيها،
وهمزة
الوصل بينها وبين الفكر العربي الحديث. كان العقاد منهمكًا في نقل المدرسة الإنجليزية
النقدية إلى أدبنا، وكان طه حسين مشغولًا بثمرات المدرسة الفرنسية، وجميعها محاولات الفكر
البرجوازي لتمثل مراحل النهضة في تاريخ الفكر العالمي.
أما سلامة، فلم يمض في نفس الاتجاه، لم يستهدف تعمُّقًا في أحد فروع المعرفة البشرية،
وإنما كان يصوغ منهجًا متكاملًا للتفكير. لذلك تابع تطور اتجاهات علم النفس والوراثة
والحضارات القديمة والأديان، وبحث إمكانيات الترابط بين هذه المجالات المختلفة من جانب،
وبينها وبين الواقع المصري من جانب آخر. والمتأمل لكتاباته حينذاك يعثر على خيط رفيع
يتخلل
موضوعاته كلها. ففي «مختارات سلامة موسى» — ظهر عام ١٩٢٦م — نلحظ تركيزه على ثلاثة موضوعات:
نقده الشديد لاتجاه الأدب المصري إلى تقليد الأدب العربي، ومطالبة الأدباء المصريين بالتعلم
على أيدي أدباء أوروبا التقدميين كبرنارد شو، واحتذاء المجددين في الآداب العربية «الذين
يرمون إلى اقتباس الطرق الأوروبية، والإقلال من الصنعة، وتضمينه — أي الأدب — الموضوعات
الاجتماعية، والنزوع إلى الابتكار وترك التقليد لكُتَّاب العرب القدماء. ونذكر في مقدمة
هؤلاء المجددين طه حسين والعقاد وعبد الرازق في مصر، والريحاني وجبران والسكاكيني في
سوريا
والمهجر، والزهاوي في العراق.» (ص٢٨٠). وحرص على توضيح نظرية إليوت سميث القائلة بأن
مصر هي
أصل حضارات العالم. وأخيرًا ولعه بتفصيل نظرية التطور وعرض انعكاساتها على الفكر والمجتمع
الإنسانيين. والخيط الرفيع إذَن هو أن المفكر ينشد منهجًا علميًّا لتفسير الواقع ودفعه
إلى
أمام، إلا أن هذا كان في حدود «الاتجاه» فحسب، لم يتجاوزه إلى خطوة العثور على ذلك المنهج
…
كما نرى في كتابه الخطير «اليوم والغد» — صدر عام ١٩٢٨م — ففيه تتضح أكثر الخطوط المنهجية
لتفكير سلامة موسى.
في الجزء الأول من «اليوم والغد» تستقبلنا «مقدمة السوبرمان»، و«نشوء فكرة الله»،
وقد
ظهرا خلال عامي ١٩٠٩، ١٩١٠م على التوالي. وحِرص الكاتب على إثباتهما في كتابه الجديد
يساعد
الباحث على تتبع دقائق تطوره. و«نشوء فكرة الله» فصل مقتبس عن كتاب للمفكر الإنجليزي
غرانت
ألين، ينطلق فيه من أساس مادي لفهم الكون. ولقد شغلت فكرة الله اهتمام سلامة كثيرًا،
بل إن
ترديده لصيحة نيتشه في خاتمة «مقدمة السوبرمان» بأن الله مات ترمز إلى نقطة الانطلاق
الحقيقية لفلسفته الخاصة بالمجتمع. إنه لم ير بؤس العمال وأنين الفلاحين من كتب الاقتصاد
والسياسة وعلم الاجتماع، وإنما هو قد استشعر هذا البؤس من صفحات الفلسفة التي قالت له
إن
القيم الرجعية الكامنة في التقاليد والعادات واللاهوت والغيبيات، هي التي تخدر حواسهم
عن
واقعهم المر فلا يرون أية هاوية تنحدر إليها أقدامهم المغلولة بقيود الآلهة والأنبياء
والقديسين والرسل. ومن هذه الزاوية تتحدد العلاقة الجدلية العميقة بين دراسة سلامة الجادة
المثابرة حول موضوع «الله»، وبين تبصير الفئات المطحونة في أسفل السلم الاجتماعي بحقها
في
الحياة بشرط أن تتحرر من العبودية الأولى؛ عبودية الوهم والخرافة، وسوف تتحرر عندئذٍ
من
العبودية الثانية؛ عبودية الاستغلال الطبقي. وظلت هذه الفكرة نقطة الانطلاق عند سلامة
موسى
في تكوين منهجه الفكري وتدعيمه إلى النهاية، بأن راح في مختلف مؤلفاته يلح إلحاحًا شديدًا
مركِّزًا على ضرورة الخلاص من أسر الفكر الغيبي. ولم يحدث أن تحوَّلت فكرة الله عنده
إلى
مجرد فكرة فلسفية، يكتفي بدحضها على المستوى الفلسفي لخاصة المثقفين. ولم يحدث أن بذل
جهدًا
كبيرًا مع الاقتصاد السياسي ليعرف جيدًا أنه يمكن الوصول إلى حل للمأساة الاجتماعية لتلك
الفئات المسحوقة دون أن تخلع عن نفسها ثياب الدين مرة واحدة. لم يحدث شيء من ذلك لعديدٍ
من
الأسباب أهمها:
-
أولًا: أنه لم يقصد من مناقشة فكرة الله إلى رياضة ذهنية، أو حتى لمجرد الوصول
إلى الحقيقة الفلسفية … وإنما هو يدأب على مناقشة هذه الفكرة لاقتناعه
المطلق بأنها مفتاح السر في الأزمة الاجتماعية الطاحنة التي يعانيها
المجتمع. ذلك أنه فوجئ عند وصوله إلى شواطئ أوروبا بأن الناس ينظمون
المظاهرات في شوارع باريس وهم يحملون لافتات ضخمة كُتِبَ عليها بالخط
العريض «لا رب ولا سيد».٣ وفي نفس الوقت يتمتع أولئك الناس أنفسهم بحياةٍ رخية وعيشٍ
رغيد! بينما في مصر يختلف الوضع تمامًا، إذ ينهمك أهلها في تأدية الفرائض
والطقوس، وتتلوَّى بطونهم جوعًا! وإذَن، فهذه هي العلاقة بين الأساطير
الرجعية والتخلف الاجتماعي، لا بد من محوها أولًا، والتغيير الاجتماعي ثانيًا.
-
ثانيًا: لم يضع سلامة يده على المأساة الاجتماعية للإنسان من خلال علوم الاقتصاد
والاجتماع والسياسة، وقلَّما نجد له كتابًا كاملًا في هذه الموضوعات. وإذا
خصص لأحدها كتابًا مستقلًّا. فلكي يوضح الفكرة السابقة عن الصلة الوثيقة
بين الفكر والواقع … بينما نعثر له على آلاف الصفحات التي سودها حول نظرية
التطور وأصل الإنسان. والجذور الاجتماعية للعقائد الدينية.
-
ثالثًا: قصد سلامة أساسًا إلى تخطيط «منهج» شامل لحياتنا، فراح يربط بين الأفكار
والواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، مستهدفًا بذلك أن تشتمل بصيرتنا
العقلية على «بوصلة» فكرية للحياة تقوم على أسس موضوعية، عمادها التعرف
الحميم على تلك الرابطة القوية بين الفكر والواقع. وهو يؤسس بذلك منهجًا
علميًّا في التفكير يتطلب منه الإحاطة الشاملة بعلوم العصر، ولكنه لا يطلب
إليه التخصص الحاد في هذه العلوم.
على أن هذا المنهج الذي بدأ سلامة في تخطيطه، لم يوفق غالبًا في إلحاحه الدءوب المستمر
على فكرة موت الإله، إذ هو يضخم بذلك من دور الفكر في تطوير المجتمع تضخيمًا مبالغًا
فيه
يؤدي إلى تجاهل العناصر الأساسية في التقدم الاجتماعي، فضلًا عن إغماط العامل الاقتصادي
حقه
الجدير به في هذا المضمار كعامل حاسم لا كعامل وحيد. كما يؤدي هذا المنهج إلى فهم العلاقة
بين الفكر والواقع فهمًا ميكانيكيًّا جامدًا، إذ لا يتغير المجتمع فور الانتهاء من التركيب
العقلي الجديد.
ويتلو «مقدمة السوبرمان» ونشوء فكرة الله في «اليوم والغد» بحث سريع حول الحضارة
المصرية
وحديث قصير عن رسالة الأديب الاجتماعية والفرق بين الأدب في المجتمع الزراعي وغيره في
المجتمع الصناعي. ويقول: إن الآداب العربية نشأت في مجتمعات بدوية ورعوية وقبلية. ولهذا
ينبغي أن نحيد عن تقليدها إلى احتذاء الآداب الأوروبية المستنيرة بالعلم. ثم يعدِّد مزايا
التطور البيولوجي والاجتماعي والنفسي، وكيف أنها تصنع جميعًا ما ندعوه بالتطور الحضاري.
وقبل أن يختتم الكتاب بفصل عنوانه «على مفترق الطرق» حول أهداف «الأمة» المصرية يحق لنا
أن
نقف قليلًا عند حديثه الهام «الذهن والبصيرة وبرجسون». في هذا الحديث يقدم للقارئ العربي
موجزًا دسمًا لنظرية برجسون في التطور الخلاق، القائلة بأن الحياة في تطورها تُضمر غاية
محددة. ويضيف الفيلسوف الفرنسي إن «الحدس» هو وسيلتنا الحقة إلى معرفة الحياة. ويعلق
سلامة:
«خلاصة ما أقوله إن برجسون يربكني، ولكنه لا يقنعني.» والحق أن هذا الشعور الصادق بالقلق
هو
دليل على معاناة هذا المفكر في تخطيط منهجه الفكري. فهو لم يبادر بنقل إحدى مدارس الفكر
الأوروبي، وإنما هو يبني اختياره لهذه الفكرة أو تلك، بناءً إبداعيًّا خالقًا بمعنى أنه
يعاني — ذاتيًّا — ظروفًا موضوعية خاصة بالحضارة الفكرية والاجتماعية التي يعيشها على
النطاقين العالمي والمحلي، ثم تتبلور همومه الخاصة بذاته من ناحية، وبالمجتمع من ناحيةٍ
أخرى، وبالعالم من ناحيةٍ ثالثة، تتبلور جميعها في صورة قضايا فكرية تتخذ تارة شكلًا
فلسفيًّا وأخرى شكلًا سيكولوجيًّا، وهكذا. ثم تصطدم هذه القضايا بقراءاته للفكر العالمي
واستقرائه للواقع الذي يعيشه، ويتولد عن هذا الاصطدام المباشر وغير المباشر المنهج الفكري
للكاتب. وهو في محاولاته المستمرة لتكوين هذا المنهج يمتص التراث الإنساني في الأدب والفن
والفكر، ويتمثله مضيفًا إليه من ذاته ومعاناتها الشيء الكثير، ثم يقع ذلك الحدث الرائع،
تحدث عملية الإبداع الفكري، عملية الخلق، ويسخو ذهن المفكر في العطاء، ويفرز عقله الخالق
أفكارًا جديدة كل الجدة من حيث إنها تضيف إلى التراث الإنساني زادًا فكريًّا جديدًا.
وربما
تسقط بعض هذه الأفكار في الطريق، وربما تستضيف أفكارًا جديدة، غير أنها في الحالين تصوغ
للمفكر منهجه في التفكير والتعبير معًا. والمفكر الممتاز يتطور بمنهجه على طول الطريق،
يتطور بالإضافة والحذف والتعديل. والمنهج الممتاز لا يجمد على قوالبه الفكرية والتعبيرية،
بل لديه القدرة والقابلية للتطور في خطوطه العامة وتفاصيله الصغيرة على السواء، ومع ذلك
يظل
شيئًا أصيلًا في تكوين المفكر ومنهجه معًا هو نقطة انطلاقه الأولى في رؤية الكون والإنسان
والمجتمع … إن هذه النقطة الأولى نحسها محفورة في قلب الكاتب ووجدانه، ونراها مطبوعة
في
كثيرٍ من زوايا ومنعطفات منهجه الفكري والتعبيري. ولذلك حين يتخبط سلامة في «مقدمة
السوبرمان» بين الأفكار الفاشية والأفكار الاشتراكية، وحين يعلن في «اليوم والغد» ارتباكه
عند قراءته لبرجسون، فإن هذا لا يخيفنا ولا يربكنا، بل يدعنا نوقن بأن هذا المفكر لم
يطرق
الباب اليسير الهين — كما يصفه طه حسين بحق
٤ — فينقل إلينا ثمرات الفكر الأجنبي، وإنما هو يخوض غمار التيارات الفكرية
المختلفة ليزاوج بينها وبين تجربته الذاتية وواقعه الموضوعي، ليستخلص بعدئذٍ ما دعوناه
بمنهجه الخاص في التفكير. وعلى ضوء هذا المنهج نطالع الفصل الأخير من «اليوم والغد»،
فنضع
أيدينا على ثلاث نقاط رئيسية هي المحور الذي تدور من حوله أفكار الكاتب: نقطة البعث القومي،
وفيها يؤكد أن الاتجاه إلى دراسة تاريخنا القديم لا يعني أننا نستلهم الفراعنة حضارتهم،
بل
إننا نستخلص مصريتنا من براثن الشوائب المجلوبة على وطننا مع شعار المستعمِرين «فرق تسد»
الذي أشعلوا به نيران التفرقة الدينية بين المسيحيين والمسلمين من أبناء الوطن الواحد،
والشعارات الإقطاعية المتواطئة مع الاستعمار. والنقطة الثانية هي تحرير المرأة المصرية
من
أسوار الحريم، أي تحرير المجتمع من أغلال العلاقات الإقطاعية التي تتناقض مع قوى الإنتاج
البرجوازية القومية. والنقطة الثالثة هي الكفاح ضد سيطرة رأس المال الإمبريالي بإنشاء
النواة الصناعية لسوقنا القومي المستقل. وينتهي الكتاب مؤرخًا لمرحلةٍ هامةٍ من مراحل
تطور
فكرنا التقدمي بصفةٍ عامة، وتطور سلامة بصفةٍ خاصة. ولئن كانت الخطوط العريضة للكتاب
هي نفس
الخطوط تقريبًا لمقدمة السوبرمان — معنى ذلك أن اتجاه السهم في حياة المفكر لم ينحرف
منذ
بدأ الكتابة عام ١٩٠٩م — إلا أن الخطوط التفصيلية الجديدة أكثر عمقًا وأقوى ترابطًا،
مما
يعطيها سمة المحاولة المنهجية لرسم تخطيط فكري شامل. والملاحظ أن هذه المحاولة استجابة
واعية مدركة لاحتياجات القوى المتقدمة بالمجتمع في تلك المرحلة التاريخية، كما أن هذه
المحاولة من الكاتب لاستكشاف واقعه بمنهجه الخاص، يعبر عن ميلاد المفكر المصري الحديث
ميلادًا حقيقيًّا، فقد خنقت الثقافة التقليدية عصارة الإبداع الفكري لدى فريق من كتَّاب
ذلك
الجيل، كما أسهمت الرغبة السريعة في جني ثمار الحضارة الأوروبية في أن يعتمد فريق آخر
اعتمادًا مطلقًا على مجرد النقل لا الاستيعاب أو التمثل.
قلت إن هذا الكتاب يؤرخ لمرحلة هامة من مراحل الفكر التقدمي في بلادنا، وأضيف أن الأزمة
الكبرى الشاملة للعالم الرأسمالي كانت تدق أبواب المستعمرات بعنف، تنهب الأسواق ومعها
حريات
الشعب الديمقراطية … ونجح الإنجليز في شراء السماسرة وزبانية رأس المال الأجنبي، وتمكنوا
إبان الأزمة من تبوُّء قمة السلطة خلف لافتات وطنية ووجوه مصرية عميلة، وسَطَت قبضة أولئك
العملاء على منابر الشعب فحطمتها زمنًا. ومن هنا القيمة التاريخية الكبرى لكتاب سلامة
عن
«حرية الفكر وأبطالها في التاريخ» الذي صدر عام ١٩٢٧م. ويدلنا ذلك على أنه — حين هجر
التنظيم السياسي قبل ذلك ببضع سنوات — كان مقتنعًا بشكلٍ آخر لحل التناقض بينه وبين
المجتمع، هو الفكر، ذلك أن مسئولية الكلمة لم تقِلَّ في نظره عن مستوى العمل السياسي،
كما
أن اطلاعه المبكر على الفكر الأوروبي ومعايشته للحضارة الفكرية الأوروبية عن كثب، هيأت
له
طريق الفكر وباعدت بينه وبين التنظيم السياسي. وجولته في أوروبا بين المتاحف والنوادي
الثقافية والهيئات الأدبية وعضويته بالجمعية الفابية، وانضمامه إلى جماعة العقليين بلندن،
تؤكد هذه جميعًا خطواته على نفس الطريق. فانحصرت قراءاته في الآداب الإنجليزية والروسية
والفرنسية، والسلاسل الشهرية الباحثة في الحضارة والعلم والفلسفة، ويبدو واضحًا أنه كان
بعيدًا عن الفكر السياسي المتخصص، وإن تمثل التيارات الفكرية المعاصرة له تمثلًا
واعيًا.
ونعود إلى دفاع سلامة عن حرية الفكر الذي عرض فيه لقصة الدولة مع العقل البشري منذ
المجتمع العبودي حتى عصرنا الحديث. ومع أن المنهج الذي ساد الكتاب هو التعرف على الطبقات
الحريصة على كبت الحريات حرصها على مصالحها، إلا أن النظرة الليبرالية المستمدة من تعاليم
الفابيين الإنجليز خيَّمت على بصيرته من آنٍ لآخر. ولكن الكتاب قطع شوطًا بعيدًا في تحقيق
هدفه من إثارةٍ وتوعية للطبقات المغلوبة على أمرها.
والسمة الغالبة على الثقافة المصرية حينذاك هي الثورة، فالعقاد يوالي بحوثه النقدية
على
ضوء الدراسات السيكولوجية الوافدة من أوروبا، وطه حسين يعيد تقييم الأدب العربي على ضوء
النقد الفرنسي، وتوفيق الحكيم يتجاوز خطوة الدكتور هيكل ويكتب «عودة الروح» لتستكمل الرواية
المصرية الملامح العامة للقصة الغربية. والصحافة تتخلص من إطارها التقليدي وتفسح مكانًا
للكتابات الاقتصادية والعلمية. وتنشط حركة التعليم بين الطبقات الشعبية، ويؤسس سلامة
موسى
مع بعض زملائه «المجمع المصري للثقافة العلمية» عام ١٩٣٠م لتجسيد الخطوة الرائعة التي
بدأها
قبل ذلك بعامٍ واحد حين أصدر العدد الأول من «المَجلة الجديدة». واتسمت هاتان المحاولتان
برغبة ملحة في تغليب الاتجاهات العلمية على الثقافة العربية، وتحويل الثقافة إلى ضرورة
أساسية للشعب، وتخصصت المحاولتان — لتحقيق هذا الهدف — إلى طرق مختلف فروع المعرفة
الإنسانية كالأدب والفلسفة والتاريخ والعلم في أسلوب بعيد عن التعقيد، وموضوعات تستهدف
أن
نُفيق من غيبوبة المناهج السطحية والغيبية بقيودها السود على كافة مسارب حياتنا ومجتمعنا.
أي إن مناداته بالعلم والصناعة والأدب المصري وحرية المرأة والثقافة للشعب، صدرت جميعها
عن
بوق الانطلاقة الكبرى لوطننا. وسرعان ما بطش عملاء الاستعمار بقبضتهم الحديدية على المرحلة
الثانية من مراحل نهضتنا، فأغلق إسماعيل صدقي المجمع المصري للثقافة العلمية، وسحب مئات
الرخص الصحفية — ومنها رخصة المَجلة الجديدة — وبقي منفذ يتيم أطل منه الوجه الثقافي
للمعركة الوطنية هو إدارة المطبوعات ورقابتها، إذ استطاع كثير من الأدباء الوطنيين أن
ينشروا كتبهم رغم سطوة الرقيب.
٥ وفجأة، راجت في الحقل الثقافي هذه الكتب لسلامة موسى: التجديد في الأدب
الإنجليزي الحديث، مصر أصل الحضارة، النهضة الأوروبية، السيكولوجية في حياتنا اليومية،
نظرية التطور وأصل الإنسان. وهنا ينبغي التأمل في الخريطة الفكرية للمجتمع المصري
آنذاك.
كانت بداية الثورة القومية عام ١٩١٩م بداية حقيقية للون جديد من الثقافة المصرية تميزت
في
سني عمرها الأولى بالثورة على القديم، ولم تجرف هذه الثورة الفكرية كتَّاب مصر جميعًا،
وإنما بقي فريق يقتات على مائدة الأجانب والعلاقات الإقطاعية، ومضى سلامة موسى والعقاد
وطه
حسين وهيكل وشكري والمازني والحكيم في طليعة الاتجاه الثوري الذي تبلور في استيراد النظريات
الأوروبية وتطبيقها على آدابنا وفنوننا ومجتمعنا لدى البعض، وخلق الشخصية المصرية في
الأدب
والفن لدى البعض الآخر. هكذا رأينا العقاد يطبق المنهج الفرويدي في دراسته للشاعر العربي
ابن الرومي، كما سبق له بالاشتراك مع المازني وشكري أن طبقوا مناهج هازلت ووردزورث وغيرهما
من النقاد الإنجليز على شعر أحد شوقي وغيره من معاصريه. ومع أن شخصيات هيكل — كزينب وحامد
—
كانت ترتدي غلالة أوروبية إلا أن جوهرها المصري يُعَدُّ بمثابة الأب الشرعي لإنتاج الحكيم
الضخم «عودة الروح» الذي يؤرخ للحركة القومية المصرية تأريخًا وطنيًّا صميمًا، بل إن
صلاح
الدين ذهني ينشر عام ١٩٣٨م دراسة نقدية مقارنة بين الحكيم والمويلحي بعنوان «مصر بين
الاحتلال والثورة» هي تفصيل للعلاقة التاريخية بين «حديث عيسى بن هشام» و«عودة
الروح».
ولم تصمد غالبية هذه الطليعة الثورية طويلًا أمام التيار الشعبي الجارف. فقد تمكَّنت
القوى الرجعية من اجتذاب أغلب عناصرها والانحراف بهم إلى طريق مصالحها.
وهكذا ضاقت الدائرة الثورية. حقًّا ترعرعت أغصان جيل جديد ينشد الأغنية الحزينة في
جمعية أبولو،
٦ وبدأت الجامعة المصرية تبعث وعيًا أكاديميًّا جديدًا يلفت الأنظار إلى تاريخنا
الممزق، فكتب سليم حسن وعبد القادر حمزة عن مصر القديمة، وعبد الرحمن الرافعي عن الحركة
القومية لمصر الحديثة، وشاعت أفكار قاسم أمين لتحرير المرأة اقتصاديًّا كأساس موضوعي
لحريتها السياسية والاجتماعية والنفسية. وحقًّا، كذلك، إن روَّاد القصة المصرية الحديثة
بدءوا دورهم في التعبير عن ذلك كله. وتحرر النقد الفني من أثر البلاغة القديمة والاتجاهات
الإنجليزية الحديثة، فأصبح نقدًا انطباعيًّا في أغلب الأحيان. وحقًّا تُرجِمَت بعض
الاتجاهات الفلسفية من العصر اليوناني إلى العصر الحديث، إلا أن هذه الجهود جميعها ظلت
في
أضيق دائرة ممكنة تحت نِير الاضطهاد العقائدي من جانب سلطات الثقافة الاستعمارية والفكر
الإقطاعي والنكسة المباغتة لغالبية المفكرين الثوريين امتدادًا متطورًا لتفكير الأفغاني
ومحمد عبده وعلي عبد الرازق، حتى منصور فهمي الذي بدأ حياته برسالة علمية عن الإسلام،
عاد
فأنكر تفكيره الأول ليدخل في زمرة وحاشية السلاطين. وتراجع طه حسين عن اتجاهه التحرري
الذي
قاده كتابه الرائد «في الشعر الجاهلي»، وانحرف العقاد لظروف عديدة عن طريقه الثوري، وتجمد
حسين هيكل في إطار الدراسات التاريخية المنقولة عن دوائر المعارف بعد أن كان رائدًا للخلق
والاكتشاف. على هذا النحو كانت حياتنا الفكرية في تلك الفترة يشوبها الاضطراب وخيبة الأمل
التي عبَّرت عنها معاهدة التهادن عام ١٩٣٦م.
وواصل سلامة موسى طيلة سنوات الأزمة تجريب الأشكال المختلفة لحل التناقض بينه وبين
المجتمع، وحل التناقضات القائمة داخل المجتمع نفسه من جانبي قوى التقدم والرجعية. فحين
أغلقت حكومة صدقي أبواب المجمع العلمي، بادر بتكوين جمعية المصري للمصري، لمقاطعة البضائع
الأجنبية، وتشجيع الصناعة المصرية مستلهمًا تجربة غاندي التي سجلها في كتابه «غاندي والحركة
الهندية». ويمكن الرجوع إلى «تقويم المصري للمصري» — صدر عام ١٩٣٢م — لنقرأ القسم الذي
يردده العضو عند التحاقه بالجمعية، يقول: «أقسم بربي ووطني وشرفي ألا أعامل شخصًا أجنبيًّا
ولا أستعمل شيئًا أجنبيًّا إلا بعد الثقة التامة من عدم وجود الشخص أو الشيء المصري الذي
يغني عن الأجنبي مع اهتدائي في تطبيق هذا القسم بوحي ضميري.» ويتصدر التقويم نداءٌ إلى
الشباب المصري بقلم سلامة موسى بوصفه رئيسًا للجمعية، قال فيه:
-
«أنتم الآن لا تملكون مصر إلا بالاسم؛ لأن الذين يملكونها أجانب لا يتكلمون
لغتكم ولا يلبسون لباسكم، بل لهم وجوه غير وجوهكم. هؤلاء الأجانب هم الذين
يملكون الوطن المصري، يملكون بنوكه المسيطرة على مرافق البلاد، بل يملكون
تجارته وصناعته» (ص٤).
-
«إياكم ودعوى المستهزَمين الذين يَعوون عُواء الكلاب بأننا دون الأجانب في
الكفاية والذمة والنظافة. وهم بهذا العُواء يفتحون الطريق للأجانب للاستيلاء
على مرافق القطر» (ص٦).
-
«أيها الشباب المصريون كُفُّوا عن معاملة الأجانب، لا يشتَرِ أحد منكم شيئًا
إلا من صانع أو تاجرٍ مصري، لأن بهذا وحده يمكننا أن نحقق استقلالنا ونجعل مصر
ملكًا للمصريين» (ص٦).
وينبغي أيضًا أن نتصفح كتابه الآخر «جيوبنا وجيوب الأجانب»، وبحثه الأكثر عمقًا من
سابقه
«التفسير المادي للتاريخ» الذي نشر في عدد نوفمبر سنة ١٩٣٣م من المَجلة الجديدة. سوف
لا
نُدهَش من المسار التقدمي لسلامة موسى، ونحن نضع أيدينا على خيوط الفلسفة المادية
الميكانيكية التي تصل بين منهجه النظري ومحاولاته العملية لتغيير الواقع، فقد أغفل هذا
المنهج وتلك المحاولات الظروف الموضوعية العديدة المترابطة بالعامل الاقتصادي. وما تطبيقه
للتجربة الهندية إلا إغفالٌ صريح لظروفنا المحلية، وتغليبٌ للدلالة الاقتصادية التي تضمنتها
محاولة غاندي على بقية الدلالات. فلم تكن مصر في مستوى الهند المتخلف تخلفًا شديدًا،
كما أن
نظرة غاندي نفسها خلت من تعمُّقه المجتمع الهندي تعمقًا يدفع به إلى الأمام.
واتضحت رؤيته المادية الميكانيكية من طبيعة فهمه للعلم ومجالات المعرفة الأخرى … إنه
مثلًا يرى في ذلك الوقت أن المدرسة السلوكية بقيادة العالِم الأمريكي واطسن هي الاتجاه
السيكولوجي الصحيح في تشكيل كياننا النفسي، بغض النظر عن الظروف الاجتماعية المساهمة
بالضرورة في تشكيل هذا الكيان. وفي مجال الثقافة نادى بأن المجتمع الصناعي هو بيئة العلم،
والمجتمع الزراعي هو بيئة الأدب، ولم يجد تفسيرًا لازدهار الآداب والفنون في المجتمعات
الصناعية. وقد رأى العلم من خلال الأنابيب والمضخات والمعامل، لا كمنهج فلسفي يمكن بواسطته
الانتقال من المعمل إلى التاريخ والاقتصاد والسياسة. كانت الصناعة هي محور العلم حين
يقسم
تاريخ المجتمع إلى مرحلة زراعية متخلفة، ومرحلة صناعية متقدمة، والتقدم الاجتماعي هو
الانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية. وكان منهج سلامة موسى حينذاك قطبًا نقيضًا لمنهج
آخر يقول بأن الأدب ترف ذهني ومتعة جمالية فحسب، وتبوأ قمة هذا الاتجاه الدكتور طه حسين.
أما الفريق الأول — بقيادة سلامة — فقال في يسارية جامدة بأن الأدب ثقافة غيبية زراعية
لسنا
بحاجةٍ إليها، وإن العلم وحده — ثقافة العقل والمصنع — هو القادر على تغيير حياتنا. وكانت
كلتا الدعوتين تحملان دلالة خطيرة، وهي أنهما حين عبَّرا عن مجتمعنا تعبيرًا إيجابيًّا
فيما
مضى — في جبهة ثورية واحدة — لم يكن هذا التعبير واعيًا تمامًا بالقوانين الضابطة لحركة
المجتمع، فإحساسهما بأزمة التناقض الكامنة بين القيم الإقطاعية المنهارة، والعلاقات
الاجتماعية الوليدة في عصر التصنيع، كان إحساسًا ذاتيًّا أقرب إلى الحدس منه إلى الوعي
العلمي المتكامل. لذلك عندما تأرجحت مقاييس التطور الاجتماعي في بلادنا، نتيجة للاهتزازات
الرجعية، كان لا بد أن يحدث هذا الخطأ في تفسير هذا التطور، ثم يتجسد الخطأ؛ إما في
الانقياد المطلق إلى المعسكر الرجعي حيث يتطلب من الأدب أن يكون حلوى يتمززها القارئ
ويخدر
بها حواسه عن واقعه المر، أو الانقياد المطلق إلى جانب العلم بمعناه الميكانيكي المعملي
الذي يشيِّد المصانع، ويُغفل انعكاس التصنيع على وجدان الإنسان وقيمه ومُثُله. أي إنه
يهمل
المرآة الفكرية لهذا التطور. كلتا الدعوتين إذَن كانت تحمل خطأ فادحًا؛ لأن قوانين التطور
المستقلة عن إرادة الناس، أخذت تنشط في تطوير مجتمعنا وتغييره، فلم تأبه أبدًا بالأبواق
الداعية لأن تنحصر مهمة الأدب في ترقية المستوى الذوقي والجمالي للبشر، ولم تُلق بالًا
إلى
من يحصرون العلم بين جدران المعمل وتروس الآلة. وذهبت تحفِر في وجداناتنا أخاديد عميقة
لقيم
ثورية جديدة، لا تلتقي مع الرواسب القديمة في كثيرٍ أو قليل. وأحسسنا في متابعة آدابنا
وفنوننا روحًا جديدة تلخص بشكلٍ رائع أزمات حياتنا، وتسهم بصورةٍ إيجابية في تفجير طاقاتنا
الخلاقة، لبناء غدنا. وأيقنا أن أولئك الذين يرسلون في عروقنا الخدر بفنونهم ليسوا على
وعي
بحقيقة الأدب، فكيف يعُون بالتالي دوره؟ «ولو كانوا على وعي لكانت جريمتهم أكبر، وهي
أنهم
يخدروننا عن واقعنا فلا نفكر في تغييره.» كما رأينا أولئك الذين اقتصروا على فهم العلم
بين
جدران المعمل يلتقون في الكثير مع رواد الثورات الصناعية خلال القرن التاسع عشر، حين
رأوا
في القوانين العلمية طاقة هائلة يمكن استغلالها في تطبيقها على مجالات التكنولوجيا، فتزداد
مصانعهم ثروة واحتكاراتهم ازدهارًا. ولكنهم خافوا — أشد الخوف — من تطبيق هذه القوانين
على
المجالات الاجتماعية والفكرية حتى لا تصيبهم النتيجة بخيبة أمل، إذا ما قالت لهم هذه
القوانين بعينها إن نظامهم أيضًا — بفعل التطور والتقدم التكنيكي نفسيهما — سيئول بدوره
إلى
الانهيار. أقول إننا رأينا أولئك الذين فهموا العلم على هذا النحو الميكانيكي الخاطئ،
يتساءلون:
ما هي العلاقة بين التقدم التكنيكي والتطور الفكري؟ «بعدما لاحظوا أن مشاعر الناس
وأحاسيسهم بدأت تتغير بصورة مستقلة نسبيًّا عن التغير الاجتماعي.»
ثم أحسوا أن العلم الذي شيد المصانع قد شيد بالفعل قلوبًا جديدة لبني الإنسان، وراحوا
يبحثون عن الصلة الوثيقة بين التغير الاجتماعي والتطور الفكري في تفاصيل القوانين العلمية
التي أحدثت التغير الاجتماعي، وقدموا لنا نتيجة أبحاثهم التي تؤكد أن هذه القوانين —
التي
تخلق الآلة وتبني المصنع — هي نفسها التي تنظم مشاعر الإنسان بشكلٍ ما يستقل نسبيًّا
عن
التطور التكنيكي؛ بمعنى أن مشاعرنا الإقطاعية ووجداننا الزراعي وعواطفنا البدوية لا تتغير
في اليوم التالي لإنشاء المصانع، وإنما تظل تلك الرواسب القديمة عالقة بكياننا الروحي
أمدًا
من الزمن، حتى يستقر البناء المادي الجديد لمجتمعنا، فيستقر — تبعًا لذلك — بناؤنا الروحي
…
إلى أن يبدأ تغير وتطور جديدان، وهكذا. واستنبطوا من هذه المعاني دلالة جديدة، وهي أنه
إذا
كانت أفكارنا وقيمنا ومثلنا هي عدسة غير فوتوغرافية لأوضاعنا المادية، فإن هذه القيم
—
بالتالي — ليست جامدة، أو راكدة، أو ثابتة … بل متحركة، متطورة، متفاعلة مع أسسها المادية.
ومن هذه البؤرة ينبع دور الأدب والفكر والفن في حياة الناس. هذا الدور القيادي الحي الذي
ينحرف عن طبيعته الثورية، لو أنه وقف — بوعي أو بغير وعي — في وجه قوانين التطور، ولكنه
يصبح قائدًا ثوريًّا لو أنه وعى هذه القوانين وفسر بواسطتها هذه الأشياء، ثم انتقل من
مرحلة
التفسير إلى محاولة التغيير.
هذا الفهم الجديد لمعنى الأدب، ومعنى العلم، هو ما نسميه بالفهم العلمي، والمنهج العلمي،
والعقلية العلمية. والعقلية العلمية إذَن هي بصيرة واعية مدركة، نستضيء بها في رؤية الحياة
والكون والإنسان والمجتمع. هي عقلية تؤمن بالواقع الحي المتحرك، وأنه — أي الواقع — قابل
للفهم والإدراك. وهي عقلية نقدية لا تقريرية، وهي عقلية تقدمية مستقبلية تنظر إلى الماضي
بعين النقد والتشريح.
هذه العقلية نلتقي بها مع مرحلة جديدة من مراحل تطور سلامة موسى، حيث بدأت خطوط فلسفته
الميكانيكية تَبهَت رويدًا رويدًا، فتأريخه لحركة التجديد في الأدب الإنجليزي يتضمن شيئًا
جديدًا وهامًّا للغاية؛ دعا في الماضي الأديب المصري إلى احتذاء الأديب الأوروبي، وقال
بالحرف: لنول وجهنا شطر أوروبا.
٧ وفي عام ١٩٣٢م يفسر الأدب الأوروبي على ضوء منهج أقرب إلى التكامل العلمي.
فإنجلترا — هذه الأم التقليدية للتقدم الصناعي — ينتج أبناؤها أدبًا متطورًا، أدبًا يواكب
التقدم العلمي، لا ينقد مجتمعًا زراعيًّا، وإنما يصور الآفات الكامنة في المجتمع الصناعي
من
بشاعةٍ واستغلالٍ وعرقلة موكب التقدم. واستخلص سلامة فهمًا معارضًا للفهم السائد على
آدابنا
وفنوننا، وهو أن للأدب والفن دورًا قياديًّا خطيرًا في تغيير الواقع وتطويره، دورًا لا
يتوقف عند متعة الذوق الجمالي فحسب، دورًا «يختص فيه الأدب أكثر من العلم أو الفلسفة
بحقائق
الحياة الإنسانية إذ هو ألصق بها من حيث إن فنونه هي فنون الحياة الاجتماعية الإنسانية
ونقدها.»
٨ ثم يلح من جديد على حاجتنا إلى أدب مصري يعبر عن شخصيتنا المصرية.
وتتضح معالم العقلية الجديدة، أو أن الخطوط الجديدة في منهج المفكر تبرز بصورةٍ واضحة
في
حديثه الرائع عن «النهضة الأوروبية» — صدر عام ١٩٣٥م — حيث يعرض لتطور الإقطاع الزراعي
إلى
البرجوازية الصناعية، وكيف تبلورت قيم كلٍّ من المرحلتين في أفكار الفلاسفة وقصائد الشعراء
وتماثيل الفنانين ولوحاتهم. ويطبق منهجه على الفكر العربي فينقد مراحل تخلفه قائلًا (ص١٥):
«وأرجَحُ الظن أن النظر الصوفي لم يبلغ عند العرب ما بلغه في أوروبا، ولذلك يمكننا أن
نقول
إن الظلام لم يعم العالم العربي بالمقدار الذي عم به العالم الأوروبي.» وفي فصلٍ آخر
بعنوان
«العرب أصل النزعة العلمية» يؤكد (ص٤٩): «أن أساس النهضة العلمية في أوروبا هي النزعة
التجريبية التي نزع إليها العرب.» ويوضح منهجه القائل بالتفسير «الاقتصادي» للتاريخ،
بأن
الناس «لا ينبعثون إلى العمل والنشاط والسعي إلا للفائدة الاقتصادية التي تعود عليهم،
وإنما
المقصود أن الحال الاقتصادية العامة في إحدى الأمم تقرر سائر الأحوال، إذ هي بمثابة الثمرات
التي تنبت عليها» (ص٢٦).
إنها مرحلة كيفية جديدة، تتطور به إلى فهم جديد يقول: «وغاية الثقافة أن تزيد الحياة
وجدانًا بأن نجعل مشكلات العالم مشكلاتنا الشخصية لأن الحياة تنادينا إلى اليقظة والفهم
والجد كلما استولى علينا النعاس والركود، والأدب هو إحدى الوسائل لزيادة هذا الوجدان.
وعندي
أن الرجل المثقف هو الذي يرتفع وجدانه الشخصي إلى الوجدان العالمي، ولا يكون هذا إلا
بالانغماس في المشكلات البشرية العالمية، وهذا هو ما يجب أن يكون؛ لأن الأدب للأدب هو
الأدب
في الخواء».
٩ إنها مرحلة جديدة تتطور به في مجال علم النفس من التسجيل الفوتوغرافي للنظريات
السيكولوجية في العقل الباطن — عام ١٩٢٨م — إلى الفهم العلمي لحياتنا النفسية عام ١٩٣٥م
في
كتابه عن «السيكولوجية في حياتنا اليومية» حيث يعلن أن الحياة النفسية للفرد هي انعكاس
لظروفه الاقتصادية والاجتماعية والعضوية جميعًا.
ويهمس في آذاننا «وقد جمعت بين فرويد وماركس، وخرجت منهما بأزكى الثمرات. بل فطنت
إلى أن
ماركس هو السيكولوجي الأساسي؛ لأنه يجعل وجدان الفرد ثمرة المجتمع.»
١٠ كيف جمع بين فرويد وماركس؟ الحق أن التعبير يضلل القارئ لأول وهلة، غير أن
المقصود به — على وجه التحديد — هو أخطاء فرويد التي عاش سلامة في خضمها زمنًا، ثم أضاءت
له
الماركسية دلالات هذه الأخطاء؛ «فإن الأخطاء أحيانًا قد تكون منيرة مثل الإصابات؛ لأنها
تفتح كوة على ناحية لم تكن مفتوحة من قبل. فإذا كان الناظر إليها قد أخطأ الرؤية فإن
فضله
لا يزال عظيمًا لأنه فتح الكوة. وهذا هو ما أراه في كثيرٍ من المفكرين مثل فرويد وسبنسر،
بل
داروين نفسه، فقد نبهنا فرويد في خطئه عن مركَّب أوديب، كما نبهنا سبنسر في خطئه عن سوء
النظام الاشتراكي، وكذلك نبهنا داروين في خطئه عن تنازع البقاء. وكل هذه الأخطاء كانت
كوَّات تجعلنا نفكر ونبحث؛ لأنها فتحت لنا آفاقًا جديدة. وقد انتقلنا بها من الميدان
البيولوجي إلى ميادين الاجتماع والدين والاقتصاد.»
١١ وربما كانت هذه الأخطاء هي نقطة البداية إلى الطريق الصحيح. ويذكر سلامة كيف
أنه عرف ماركس عن طريق خصومه، يقول: «ومن الكتَّاب البَذريين الأساسيين الذين تأثرت بهم،
وما زالت المركبات الذهنية التي خلفوها في خلاياي الرمادية قائمة بل نامية، كارل ماركس،
فقد
وصلت إليه عن استغراض ضدَّه من كتَّاب الانفرادية الذين يقولون بالمباراة الاقتصادية،
مثل
هربرت سبنسر، وخرجت منه على احترام له واحتقار لهربرت سبنسر وأمثاله.»
١٢ ثم يستطرد قائلًا: «… وقيمة الماركسية في فهم السياسة العالمية والتطورات
الاجتماعية والأخلاقية الحاضرة كبيرة جدًّا، ولكن لها قيمة أخرى في فهم التطورات التاريخية.
والمتعمق في دراسة ماركس لا يتمالك نفسه من الشعور بأنه هو، لا فرويد، الأساس الصحيح
للفهم
السيكولوجي؛ فإن ماركس أثبت أن العواطف الاجتماعية، أي التي نكتسبها من المجتمع، أكبر
قيمة
وأبعث على التغيير والتطور، وأثبت في كياننا مما نسميه العواطف الطبيعية. ولذلك لا يقتصر
فضل ماركس على أنه جعل الاقتصاد علمًا، لأن الحقيقة أنه جعل كذلك الأخلاق والاجتماع
والسيكولوجية علومًا، ولا يستطيع أحد أن يفهم هذه الثلاثة على حقيقتها، الفهم الموضوعي،
إلا
إذا كان ماركسيًّا.»
١٣
وعلى ضوء هذا المنهج يغير سلامة موسى كثيرًا من آرائه السابقة في شجاعة وجرأة، لقد
تغيَّرت نظرته إلى أشياء كثيرة، إنه يعلق مثلًا على مسرحية إبسن «بيت الدمية» قائلًا:
«إن
ما كنت أتوهمه عن حرية المرأة أو استقلالها في أوروبا إنما هو في نظر إبسن لم يكن سوى
طلاء
سطحي يخفي حقيقة الاستعباد القائمة، لأن المرأة لا تجد من المجتمع سوى التدليل لأنها
لعبة
الرجل أو هي كالعروس من الخشب يلعب بها الأطفال، أطفال الرجال الذين لا يطيقون المساواة
الحقيقة بينهم وبين النساء. ومغزى الدِّراما أن المرأة يجب أن ترتفع من الأنثوية إلى
الإنسانية، ويجب أن ترفض التدليل وأن تربي نفسها وتكسب الاختبارات في هذه الدنيا، لأنها
إنسان قبل أن تكون زوجة أو أمًّا. وعندئذٍ انجابت عن ذهني غشاوة، واتضح لي أن المرأة
الأوروبية كالمرأة الشرقية سواء، وأن ما بينهما من فرق إنما هو طلاء الحضارة فقط، أو
هو فقط
فرق الدرجة في الاستعباد، وهو استعباد بعيد أحيانًا من أية رحمة أو رأفة؛ لأن المرأة
التي
تعمل كالرجل لا تحصل على أجره. وفي أقطار أوروبية كثيرة كانت لا تحصل على ميراثه. وكانت
الجامعات ترفض قبولها طالبة، كما كانت الدولة ترفض قبولها ناخبة أو مرشحة لعضوية المجالس
البرلمانية.»
١٤
ومعنى ذلك أن الماركسية أضافت إلى منهجه شيئًا جديدًا، ولكنه ظل ينهل من بقية الروافد
والنبوع، لقد أخذ من ماركس، الدليل والمرشد، ولكنه مضى في الطريق العظيم، طريق الفكر،
يدعم
منهجه يومًا بعد يوم، فإذا كان ماركس أفاقه على حقيقة وجوده، فإن إبسن وشو وجوركي أسهموا
بأنصبة متفاوتة في إغناء هذا الوجود. يقول عن نيتشه: «… وانتفعت كثيرًا بتحليله للأخلاق.
ولكن هذا التحليل بالطبع فقد قيمته بعد أن عرفت التحليل الماركسي، وإن كان كلاهما ينتهي
إلى
أن الأخلاق السائدة هي أخلاق السائدين … أما أخلاق الأقوياء التي دعا إليها نيتشه وجعل
منها
ديانة جديدة يجب أن يبشر بها الفيلسوف الجديد فقد استهوتني سنوات، بل انحزت إليها وآمنت
بها
فيما يشبه الحزبية الفلسفية، بتأييد من نظرية التطور حين استسلمت لتنازع البقاء وبقاء
الأصلح. ولكن رويدًا رويدًا تقهقر نيتشه من وجداني وتغيَّر عندي مغزى التطور، بل تطورت
عندي
نظرية التطور، فلم يعد نابليون هو السوبرمان، ولم يعد للإمبراطوريات مغزى التفوق البيولوجي
الذي كاد نيتشه يوهمني أنه كذلك.»
١٥ ويصف إحساسه بأحد عمالقة الأدب الروسي بقوله: «وسحرني دستويفسكي وبقيت في السحر
حتى أنهضني منه جوركي.»
١٦
وبالرغم من المَجلة الجديدة وزميلاتها؛ المصري والنجمة الزهراء وغيرها فإن الكتاب
ظل
الشكل الوحيد الأمين على نقل أفكار صاحبه إلى الشعب، حتى إن معظم كتبه هي تجميع لمقالات
سبق
نشرها؛ فأغلب فصول «مصر أصل الحضارة» و«نظرية التطور وأصل الإنسان» قرأها الناس قبل صدورها
في كتب مستقلة، إلا أنها في الشكل الأخير كانت انفجارات حقيقية في الحياة المصرية زلزلت
أركان الفكر الغيبي، فهاجم حماة الدين دراساته عن التطور، واستنجد علماء الأرواح بالسماء
أن
تقي رعاياها شر الاتجاه الإلحادي الزاحف، وكتب إسماعيل مظهر يقول: إن الداروينية ضد العلم
لأن العلم إلى جانب الدين. وانحرف الكثيرون بكتابه عن الحضارة المصرية القديمة إلى غير
ما
استهدفه هذا البحث، فبينما هو يبحث الجذور التاريخية لنشأة الحضارة، ليخرج من ذلك بمادية
الكون، أضفى عليه البعض لونًا فرعونيًّا قائلين إنه الوجه المستعار لانتمائه إلى القلة
المسيحية، واستشهدوا لإثبات ذلك بعنوان الكتاب وإصداره الجريدة اليومية ورئاسته لجريدة
مصر،
وكلتاهما تميل إلى مشاكل الأقباط، بينما وجهة نظر سلامة موسى في مشكلة المسيحيين عامة
أنها
وليدة أزمة الديمقراطية التي يعاني منها الوطن على طول تاريخه. وبينما يردد هو منذ عام
١٩٢٨م أن المناداة بحضارة فرعونية لا يُقدِم عليها إلا زوَّار مَصحة الأمراض العقلية،
يتهمه
مصطفى صادق الرافعي بمعاداة الإسلام والهجوم على كل ما هو عربي، ناسيًا أن طه حسين يصرح
في
تلك الأيام إلى مَجلة «المكشوف» اللبنانية تصريحًا أُثْبِتُ نصَّه هنا لقيمته التاريخية
الخطيرة، سُئل طه حسين من المحرر: عندنا يا أستاذ من يريد أن تكون مصر زعيمة الأقطار
العربية ومرشدتها إلى طريق الحرية والاستقلال. فأجاب الدكتور طه حسين: «إن كنت تقصد بذلك
تضامنًا ثقافيًّا بين البلدان العربية فإن مصر مستعدة للدخول فيه، وأنا من أنصاره ودعاته،
وقد تباحثت مرارًا عديدة مع بعض الأساتذة السوريين والعراقيين في شكل هذا التضامن ومعناه،
وإني أنادي بتوحيد برامج التعليم في جميع الأقطار العربية، وتسهيل التبادل الثقافي بينها.
وإن قصدت التعاون الاقتصادي فهو ممكن ومفيد. أما إذا كنت ترمي إلى أن مصر مستعدة للمساهمة
في الوحدة العربية أو القومية العربية، فأنت على خطأ، فالمصري مصري قبل كل شيء، وهو لن
يتنازل عن مصريته مهما تقلبت الظروف. الوحدة العربية كما يفهمها ذووها يجب أن تتحقق بشكل
إمبراطورية جامعة أو اتحاد مشابه للاتحاد الأمريكي أو السويسري، ونحن لا نرضى بهذا أو
ذاك،
ولا نصدق ما يقوله بعض المصريين من أنهم يعملون للعروبة، فالفرعونية متأصلة في نفوسهم،
وستبقى كذلك، بل يجب أن تبقى وأن تقوى. فهل تريدون أن تتحقق الوحدة العربية؟ فعلى أي
أساس
علمي تنادون بها؟ تعالوا معي نستعرض الروابط التي تصل مصر بالأقطار الأخرى، فأولها اللغة
وثانيها الدين وثالثها أصل بعض السكان ورابعها شكل بعض التقاليد الموروثة من حقبات تاريخية
متشابهة. أما الدين فلا يصلح لأن يتخذ أساسًا، وإلا أصبحت الوحدة المزعومة وحدة إسلامية
لا
وحدة قومية، وأصبحنا من جهة ندخل فيها شعوبًا غير عربية. وكذلك أصل السكان فهو غير كافٍ
لخلق الوحدة القومية العربية، فإن الأكثرية الساحقة من المصريين لا تمت بصلة إلى الدم
العربي، بل تتصل مباشرة بالمصريين القدماء. ولا أَخَالُكم إلا معترفين معي بأن التقاليد
العربية المنتشرة في مصر قليلة ضعيفة الأثر، متَّبَعة بنوعٍ خاصٍّ بين العشائر المنحدرة
من
أصلٍ عربيٍّ صميم. وعلى كل حال فإن التقاليد مهما كانت متشابهة لَقاصرة عن أن تخلق وحدها
اتحادًا قوميًّا. فماذا بقي إذَن من روابط مصر بجيرانها؟ التاريخ؟ اللغة؟ إن تاريخ مصر
مستقل تمام الاستقلال عن تاريخ أي بلدٍ آخر. ومصر اليوم هي مصر بالأمس؛ أي مصر الفراعنة،
والمصري فرعوني قبل أن يكون عربيًّا، ولا تطلبوا من مصر أن تغيِّر فرعونيتها أو أكثر
مما
تستطيع أن تعطي. مصر لن تدخل في وحدة عربية، حتى ولا اتحاد عربي، سواء كانت مساوية فيه
للأمم العربية الأخرى أو مسيطرة عليها، وسواء كانت عاصمة هذه الوحدة أو الاتحاد القاهرة
أم
دمشق أم بغداد.»
١٧ (انتهى)، وقد عمدت إلى نقل النص كاملًا لنضع أيدينا في موضوعية صارمة على حقائق
الدعوات المصرية التي بزغت مع بعض مراحل الحركة القومية في مصر. ويعنيني هنا في الكثير
أن
أحيل القارئ إلى كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» وأعداد ومطبوعات مَجلة «الكاتب المصري»
…
يعنيني ذلك لأبين الفرق الهائل بين تطرف طه حسين وسليم حسن وعبد القادر حمزة وغيرهم،
وبين
كلمات سلامة موسى عن القومية المصرية التي أنقلها من العدد السابع، المجلد الأول، من
«المَجلة الجديدة» في سنتها الثانية، عدد مايو سنة ١٩٣١م. حيث يُهدينا هذه النقاط:
-
«لقد شرعنا منذ ١٣٠ سنة في تحقيق قوميتنا المصرية من الناحية السياسية.»
«ولأول مرة نسمع في مصر بعد مرور نحو ألف سنة أن مصر يجب أن تكون للمصريين.»
«هذه هي النهضة الأولى التي حاول فيها آباؤنا تحقيق القومية المصرية من الناحية
السياسية، أي حاول هؤلاء المصريون أن يكونوا مصريين يحكمون بلادهم بأنفسهم.»
«ولكن هذه النهضة وقفت فجأة باعتلاء محمد علي باشا للأريكة المصرية»
(ص٧٨٨).
-
«إن أحسن العمارات في القاهرة هو ما بني على الطراز التركي. وإن كرامتنا
لتأبى أن تكون بلادنا متحفًا للسياحيين إذا أرادوا أن يدرسوا ما لنا من فنون
رجعوا في الماضي إلى ألفٍ أو ثلاثة آلاف سنة كأن الموتى هم الأحياء والأحياء هم
الموتى» (ص٧٩٠).
-
«نعم نحن في تحقيق كياننا الأدبي والفني لا نقطع بيننا وبين ماضينا، إذ لا بد
أن نستند إلى الفراعنة والعرب، نستند ونستوحي، ولكن لا نقترض ولا ننقل. ولا
يمكننا أن ننسى أننا نعيش في القرن العشرين، وإنَّ تَطَلُّعنا إلى المستقبل يجب
أن يكون عشرة أضعاف تَلَفُّتنا إلى الماضي» (ص٧٩١).
وإذا عدنا إلى الوراء قرابة نصف قرن أو يزيد، لاكتشفنا أن الثقاب الذي أشعل الوجدان
الوطني في مصر هو كابوس الدولة العثمانية، فقد أحس المصريون بكيانهم القومي يذوب في هيمنة
هذه الدولة وسلطانها، وأحسوا أنه لا قيمة لوجودهم الإنساني في ظل حماية أجنبية. وهكذا
تولَّد الإحساس القومي، رغبةً في التخلص من النير العثماني، وبأن تكون «مصر للمصريين»
فقط.
فالتفسير العلمي إذَن للدعوة الاستقلالية الأولى التي نادى بها أحمد لطفي السيد هو أن
الأساس الاقتصادي والاجتماعي في مصر لم يكن «وطنيًّا» تمامًا، إذا نظرنا للوطنية في أضيق
حدودها، ومن ثَم لم يكن تعبيره «مصر للمصريين» شعارًا سياسيًّا، بقدر ما هو تعبير عن
الحاجة
«المصرية» الملحة، للتحرر من ربقة السيادة الاقتصادية العثمانية. وتجسدت ثورة المصريين
على
الأخطبوط التركي في صيغة «الفصل الحاسم» بين أمجادنا وأمجادهم، وتمزقت حينذاك كل الروابط
الروحية التي كانت تسحق الاستقلال الاقتصادي المصري تحت وطأة التقاليد التاريخية. وفي
ثورة
الانفعال الصادق بالأزمة، تلقَّف المفكرون الوطنيون خيوطها، وأخذوا يبحثون العناصر التي
من
شأنها أن تضرم لهيبها وتزيد وقودها اشتعالًا. ولما كانت هذه الأزمات بطبيعتها «رومانسية»؛
بمعنى أن ظروفها ليست واحدةً من الجانبين، وليست هناك إمكانيات جِدية تحقق الصراع بين
القوى
الطاغية والجبهات الوطنية، على مستوًى عالٍ، فإن العلاج المتوقَّع لهذه الأزمات في صميمه
علاج «رومانسي». وهكذا رأينا أدباءنا ومفكرينا يعودون بنا إلى الأمجاد القديمة، يستحثُّون
بها نخوتنا الوطنية، ويستثيرون في أعماقنا شهوة الثأر لأجدادنا العظماء من سطوة الطغاة
المستبدِّين. ومن هنا … من هذه النظرة الرومانسية للمأساة، تبلورت الوطنية المصرية عند
مفكرينا في بعث التاريخ الفرعوني … لا بقصد الدراسة التاريخية العلمية، وإنما بهدف استعادة
المجد التليد إلى مخيِّلة الجيل الحديث. ولمسنا على التوِّ انشغال الأدباء واهتمامهم
بهذا
الماضي … حتى جرفتنا هذه العناية المفرطة بالأكفان إلى أن نهمل الأسباب الجذرية، وهي
أن مصر
تئنُّ تحت سياط الدولة العثمانية. وكان «الماضي» إذَن، بمثابة المخدِّر الذي أثمل عيوننا
عن
جوهر المأساة.
وتجددت القصة مع الاستعمار الإنجليزي بشكلٍ أكثر وضوحًا … فقد هدَتْه تجارِبه الطويلة
وخبراته العريضة في مجالات النهب والاستغلال إلى أن الوحدة الداخلية بين الشعوب هي السدُّ
المنيع ضدَّ مصالح بقائه، ومن ثَم كان يوجه جهوده دائمًا في البحث عن «ثغرة» تفرق صفوف
الشعب، وتنفذ منها سهامه العدوانية، وهكذا وجد في شعاره «فرِّق تسد» فلسفةً كاملة، يمكن
تطبيقها على المصريين الذين شاء تاريخهم أن يوجد بينهم المسيحي والمسلم … فافتعل التفرقة
الدينية على أوسع نطاق. غير أن هذه الفتنة السوداء سرعان ما أُخمِدَت نيرانها مع الانطلاقة
الوطنية الواعية التي انبعثت من ضمير شعبنا. هذا الشعب الذي ردَّد ثانيةً أن «مصر للمصريين»
وليست للإنجليز. ولكن الدعوة «المصرية» في تلك المرحلة كانت أكثر وعيًا من المرحلة السابقة.
ولهذا لم تكن عودتنا هذه المرة إلى الفراعنة عودةً رومانسية، وإنما كانت «رد الفعل» الطبيعي
للحركة الاستعمارية. فنحن جميعًا مصريون، أرضنا واحدة وعدونا واحد، هو الاحتلال البريطاني.
وما يؤكِّد سلامة الوعي الوطني في هذه المرحلة هو الخطوات البِنائية التي خطاها الوطنيون
في
مصر، ومنهم من كوَّن جبهاتٍ اقتصاديةً واجتماعيةً معاديةً للاستغلال الأجنبي، وجمعية
«المصري للمصري» أصدق مثالٍ لذلك، فقد تكوَّنت هذه الجماعة — كما سبق أن ذكرت — للمناداة
بالاكتفاء الذاتي، أي أن نستغني بالصناعات المحلية عن البضائع المستوردة. وقلت إننا نلمس
أوجه الشبه بين هذه الحركة «الاكتفائية» وبين الحركة الغاندية في الهند، إذ كان السبب
واحدًا هو أظافر الاستعمار التي فرَّقت الهند أشياعًا ومذاهب. وظهر غاندي كاستجابةٍ حاسمةٍ
لهتاف الضمير الهندي. وكذا أيضًا ما حدث في مصر حين اصطدم الإنجليز بالوطنية المصرية،
فقد
بات ظنهم مؤكَّدًا أن الأقباط والمسلمين وحدة واحدة لا يمكن أن تنفصم. وقد عبَّر أدباؤنا
أصدق تعبير عن هذه الفترة العصيبة، بأن أكبُّوا ثانية على التاريخ الفرعوني، لا ليستخرجوا
الأكفان، وإنما ليدرسوا واقعنا الاجتماعي عبر التاريخ. وقرأنا في ميدان البحوث دراساتٍ
جادَّة عن الحضارة المصرية القديمة، وفي ميدان الأدب قرأنا القصص الإنساني الذي يتخذ
من
أجدادنا خامة فنية يصور بها آلام حاضرنا ومشكلات عصرنا.
١٨
على أن مصر، بعد أن تخلصت من النير العثماني والاستعمار الإنجليزي، كان لا بدَّ للدعوة
القومية بها أن تتطوَّر وتتسع لواقع أشمل وأكثر عمقًا. فبعد أن تبلورت «الوحدة الداخلية»
في
الدعوة المصرية، كان لا بدَّ لنا أن نتحسَّس آثار كفاحنا على تاريخ أشقائنا العرب، وإذا
بأبناء المنطقة العربية جميعًا قد اجتازوا نفس المراحل الدامية التي عانينا قسوتها، وقد
صهرت معدنهم التجرِبة التاريخية، فأصبحنا كلنا بناة وحدة قومية جديدة.
أين سلامة موسى من هذا المسار التقدُّمي للحركة القومية في بلادنا؟ إن ترعرع التيار
الحضاري المشترك بين أبناء المنطقة العربية منذ بداية الفتح الإسلامي إلى كفاحهم ضد الأتراك
والفرنسيين والإنجليز، أثَّر بصورة مباشرة على مسار الحركة القومية في هذه المنطقة، بأن
خلق
تفاعلًا حيًّا بين شعوبها، نتج عنه انصهار دائم مستمر في بنيانها القومي. وترتَّب على
ذلك
أن ارتفعت شعارات القومية العربية من اتجاهاتٍ عديدة، لم يبلغ معظمها مستوًى معقولًا
من
النضج العلمي، ولم تتضح بالتالي القَسَمات التفصيلية لهذه القومية التي ما تزال في دور
التكامل والتكوين. لذلك كان انحراف الدعوات «المصرية» في بلادنا عن طبيعة المرحلة القومية
والعالمية التي تجتازها حضارتنا انحرافًا سطحيًّا سريع الزوال. فبالرغم من أن أحمد حسين
وشعار حزبه «مصر فوق الجميع» قد استطاع أن يسطو على إحدى مراحل تاريخنا بنعرة عنصرية،
وبالرغم من أن «جماعة الأمة القبطية» قد استطاعت أن تسرق وعي شبابنا المسيحي حينًا من
الوقت
بنعرة دينية، فإننا نعرف في أية أكفانٍ زُرق دُثِّرَت فاشية «مصر الفتاة»، ونعرف أيضًا
في
أي القبور دُفِنَت الشعارات الاستعمارية المرتدية ثياب المسيح والإنجيل.
وسلامة موسى ليس ابنًا لتفكير «مصر الفتاة» شبه الفاشستي، وليس ابنًا لتفكير الأمة
القبطية، وإنما هو ابن ذلك التيار الفكري والأدبي الذي رافق تطوُّر الحركة القومية في
بلادنا … التيار الثائر على القهر الأجنبي رافعًا لواء لطفي السيد «مصر للمصريين» … التيار
الذي ملأ العالم ضجَّة حول الحضارة المصرية القديمة، حتى اعتبرها سلامة الجذر الوحيد
للحضارة الإنسانية كلِّها. فنحن نقرأ كتابه «مصر أصل الحضارة» ونرى أمامنا بحثًا علميًّا
عن
الأصل المادي لعقائد الإنسان الأول، ولكن ذلك لا ينزِّه المؤلف والكتاب عن دورهما في
المجال
السياسي والاجتماعي لتطوُّر الفكرة القومية. ويمكننا إذَن أن نرصد تطوُّر سلامة في تفكيره
القومي على النحو الآتي:
-
(١)
في الربع الأول من القرن العشرين، ثورة عارمة ضد القيم المتخلفة (سواء كانت
كامنة في التقاليد أو الغيبيَّات أو القيم القديمة) ورغبة حادَّة في التخلص من
الثقافة «الشرقية» والاتجاه نحو الغرب، وإلحاح لا يَمَلُّ على أمجاد الحضارة
المصرية القديمة (راجع مقدمة السوبرمان واليوم والغد).
-
(٢)
يلي ذلك مباشرةً فزعه من تطرف الأدباء والفنانين إلى اجترار التاريخ
الفرعوني، ويصيح بأعلى صوته: إننا بذلك نصنع من بلادنا متحفًا للسياح، يستيقظ
فيه الأموات «الفراعنة» ويموت فيه الأحياء «نحن»، ويلفت الأنظار بشدَّة إلى
حاضرنا، بل إلى مستقبلنا. ويؤكد شيئًا جديدًا بالغ الأهمية وهو أن كياننا
القومي — في مختلف مجالاته — يكتسب مقوماته من التاريخ المصري والعربي معًا
(راجع مقاله السابق بعدد مايو من المَجلة الجديدة عام ١٩٣١م).
-
(٣)
والمرحلة الثالثة يعبر عنها سلامة موسى في حديث أدبي بمَجلة «الرسالة
الجديدة» حين سأله المحرر عن رأيه في المعركة بين الفصحى والعامية، فقال: «أنا
لا أنكر غرابة الحديث بالفصحى على المسرح أو في السينما، ولكننا نستطيع أن
نضحِّي بذلك لمصلحة الوحدة القومية بين الشعوب العربية» … «يجب أن ندرس اللهجات
باعتبارها شيئًا آخر غير اللغة العربية، ولست أنكر أن في ذلك تضحيةً، ولكن
الحلم الأكبر الذي نحلمه هو إيجاد دولة قوية ينهبها الآن الاستعمار ويحكمها
طُغمة رجعية من الملوك، هذا الحلم يستحقُّ أن نضحِّي من أجله باللهجات وبشيءٍ
من الفولكلور الإقليمي» (عدد أبريل سنة ١٩٥٨م).
-
(٤)
تُرافق سلامة موسى في مختلف أطوار تفكيره دعوته إلى العالمية، وأن القومية
ليست إحدى مراحل التاريخ الإنساني فحسب، وإنما هي الوجه الآخر للعالمية. كما أن
الديمقراطية هي الوجه الآخر للاشتراكية.
ولا شكَّ أن ثورة سلامة على الأدب العربي القديم من جهة، وضد الغيبيات من جهةٍ أخرى،
قد
أحدثت لبسًا عند الكثيرين، ممن لم يتعمَّقوا طبيعة هذه الثورة. فهو لا يثور على التراث
الفكري العربي، وإنما يثور ضد أدبائنا وكتَّابنا الذين يحتذون القوالب العربية القديمة
في
التعبير، فيعوقون بذلك التقليدِ الأعمى تطورَ ثقافتنا ولغتنا جميعًا. إنه يطالب بدراسة
الآداب العربية القديمة والحديثة، لنكتشف حلقات تطورنا الأدبي، فنستطيع دفعه إلى أمام،
ذلك
أن «هذا المجتمع المصري — بل كل مجتمع عربي — إنما ينشأ في حضن الثقافة العربية، ورضع
من
تقاليد الإسلام. والشاب المثقَّف — سواء كان مسلمًا أو غير مسلم — يحتاج إلى دراسة القرآن
كي يفهم الأصول التي بُنِيَ عليها مجتمعنا. كما يحتاج إلى دراسة الأدب العربي، بل الثقافة
العربية عامةً، ليعرف كيف نشأت ونضجت ثم انحطَّت وتدهورت.»
١٩ وينصح القارئ بدراسة تاريخ الطبري ومعجم الأدباء لياقوت والأغاني لأبي الفرج
الأصفهاني ولسان العرب لابن منظور ونفح الطيب للمقري، ثم يذيل نصيحته بقوله: «هذه الكتب
يجب
أن تُقتنى وتُحفظ، وتُعدَّ أساسًا للثقافة العربية القديمة.»
٢٠ ويستطرد: «والثقافة العربية القديمة هي قبل كل شيء ثقافة الأدب، فهي غنية في
هذه الثروة. وكي نعرف الأدب العربي على أحسنه وأنضجه وأفلحه يجب أن نقرأ الجاحظ، بل يجب
ألا
نترك للجاحظ كلمة كتبها دون أن نعرفها ونتأملها، فإنه أعظم أدباء العرب قاطبةً، وهو رجل
موسوعي الذهن يكاد يكون بشري النزعة، وهو يتحمَّل المقارنة مع أي أديب أوروبي، ويخرج
أحيانًا من هذه المقارنة مزكًّى بل ظافرًا.»
٢١ و«دراسة الأدب العربي في مصر لا تزال مشوَّشة، والكتب المطبوعة عن هذا الأدب قليلة.»
٢٢
والذين يلتبس عليهم الأمر فيما يختص بوجهة نظر سلامة موسى في الثقافة العربية، ينبغي
أن
يفكِّروا مرات ومرات قبل أن يحسموا الأمر، فقد كان هذا المفكر العربي أولَ من أوضح أن
«للعرب فضل على الكنيسة المسيحية في القرن السابع والثامن من حيث إن الإسلام ظهر فجأةً
في
قوة وبأس يتحدَّى العالم المسيحي. وكانت الكنائس في هذين القرنين قد أوشكت بنزاعها بين
المذاهب أن تنسى التوحيد فجاء الإسلام يتحدَّى ويقاتل من أجل التوحيد.»
٢٣ وكان بمثابة الجرس الذي نبَّه الأذهان إلى أن «العرب هم أصل النهضة العلمية في
أوروبا»
٢٣ وأنهم «وصلوا بين الشرق والغرب، وأوجدوا النزعة
العلمية الحديثة وبعثوا روحًا جديدة في الأدب.»
٢٣ بل إن سلامة
موسى هو المفكر الوحيد الذي نزع عن أعين الباحثين العرب والأوروبيين تلك الغشاوة القديمة
القائلة بأن فضيلة العرب هي «نقل» الفكر اليوناني إلى أوروبا، فنراه يجهر في شجاعة وجرأة
صارخًا عام ١٩٣٣م بأن «فضل العرب على النهضة الأوروبية لا يرجع إلى أنهم نقلوا إليها
الثقافة الإغريقية، وإنما لأنهم وضعوا لهم أساس الثقافة العلمية وهي التجربة. وهذه الثقافة
تخالف النزعة الإغريقية القديمة التي كانت تقتنع بالتفكير الفلسفي المجرَّد وتعالج العلم
كأنه مضاربة فكرية لا علاقة له بالتجربة. وفضل آخر للعرب على النهضة الأوروبية في الأدب
هو
الذي شرحه المستشرق جب. فإن القصة التي تملأ الآن جزءًا كبيرًا من الأدب الأوروبي ترجع
إلى
عرب الأندلس الذين نقلوا القصص الغرامية العربية ووضعوا الأشعار والأزجال في الحب الخيالي
العذري، وجعلوا الحبَّ موضوعًا للأدب كما فعل ابن حزم في كتابه «طوق الحمامة». وقد انتقل
هذا الروح بل انتقلت بعض القصص العربية إلى فرنسا، فأُلِّفَت القصائد فيها حتى ذُكِرَت
فيها
بعض الأسماء العربية مما يدلُّ على متانة الصلة في الأصول الأدبية بين أوروبا
والعرب.»
٢٣ وفي هذا المعنى يعقد ثلاثة فصول بكتابه عن
«النهضة الأوروبية» عام ١٩٣٥م، بعنوان «كتب القرون الوسطى» (ص١٣–١٧)، و«أثر الأدب العربي
في
الآداب الأوروبية» (ص٣٩–٤٤)، و«العرب أصل النزعة العلمية» (ص٤٥–٤٩). وفي مقالٍ له عن
«ابن
خلدون والعرب» يحمل عليه بلا هوادة لأن «الخطأ البارز في ابن خلدون هو تنقُّصه لحضارة
العرب. فإنه هنا أعمى كامل العمى لا يرى بصيصًا من نور.»
٢٤ ذلك أن «فضل العرب، ومهمتهم التاريخية، أنهم ربطوا العالم بقاراته الثلاث أكثر
من ألف سنة بالتجارة. وبهذا الرباط اتسع الوجدان البشري وظهرت ثقافة جديدة تتجاوز حدود
الأقطار إلى القارات، إلى العالم كله. وهذا هو ما جهله ابن
خلدون».
٢٤
فإذا كانت هذه هي ملامح التطوُّر في تفكير سلامة نحو ثقافتنا، هذا التطور الذي بدأ
بالثورة الهوجاء على كل ما هو قديم — في الآداب والأديان — واستيراد كل ما هو جديد من
أوروبا، بدعوة الأديب المصري إلى احتذاء معلمه الأوروبي، فإن هذا التفكير قد تطوَّر —
فيما
بعد — إلى رفض الآداب العربية والأوروبية معًا، والاقتصار على واقعنا المصري لنخلق أدبًا
مصريًّا خالصًا، ثم انتهى إلى ضرورة الدراسة الجادة للثقافة العربية القديمة باعتبار
أن
ثقافتنا المعاصرة — من زاويةٍ ما — هي امتداد لها. ومعنى ذلك أن تفكيره القومي مضى في
موازاة تفكيره الثقافي، حتى إذا قال بأن القومية مرحلة تاريخية لا أكثر، بادر على الفور
بالدعوة إلى ثقافة عالمية ولغة عالمية وديانة بشرية عالمية وحكومة عالمية أيضًا.
غير أن هذا لا ينفي ما كان لحديثه عن الحضارة المصرية من إسهام خلَّاق كبير في مرحلة
البعث القومي. ونتيجة لتفاقم الأزمة الرأسمالية العالمية، ومقدِّمات الحرب العالمية
الثانية، وسيطرة الاحتلال البريطاني على الموارد الرئيسية في مصر، وتعاظم نموِّ الطبقة
العاملة في العالم، وغزو الفكر الاشتراكي للمجتمعات البرجوازية، تمكَّن فريق من شبابنا
المثقف أن يكون بمثابة النواة الديمقراطية في فكرنا الحديث، فريق التفَّ حول أفكار سلامة
موسى مؤيِّدًا لها وداعيًا إلى تطبيقها، وكان من بين هؤلاء: لويس عوض ومحمد مندور ونجيب
محفوظ … وهكذا اتسعت جبهة الفكر التقدُّمي بغير وحدة أيديولوجية، وإنما معركة ثقافية
متقاربة الهدف، هي انعكاس لحركة التقدم الاجتماعي في وطننا. فقد كانت حركة الفكر التقدُّمي
تؤتي ثمارها، ولم تتوقف عند أعتاب الاتجاه العلمي لسلامة موسى، وإنما كان هذا الاتجاه
إرهاصًا قويًّا لانتشار الفلسفة العلمية في تكاملها. وإن كانت سنوات الحرب أيدت النفوذ
الاستعماري وثقافته وعملاءه في الداخل، وعاقت تقدمنا الاجتماعي أمدًا طويلًا، إذ وُلِدَت
الأفكار الرجعية لجماعة الإخوان المسلمين التي ترعرعت في صفوف البرجوازية الصغيرة، نفس
الشريحة الطبقية التي أنجبت الأفكار شبه الفاشية لحزب أحمد حسين. ولم تكن هذه الأفكار
جميعها تعبيرًا عن أماني البرجوازية الصغيرة، وإنما عن ذبذبتها وقلقها الشديدَين. وما
استفاد من هذه الحركات الرجعية إلا كبار الملاك وأشباه الإقطاعيين وعملاء الاستعمار.
إذ
حرفت الدعوة الإسلامية الأنظار عن الواقع المرِّ الذي تعانيه الطبقات الشعبية، كما حرفت
مصر
الفتاة اتجاه السهم للحركة القومية إلى نعرة فاشية متعصِّبة شعارها «مصر فوق الجميع»،
وتمكنت هذه الاتجاهات الرجعية من اغتصاب مساحة لا بأس بها في الحلبة السياسية دون الفكرية؛
لافتقادها البناء الفكري المتكامل.
وخطا سلامة موسى خطوة جديدة في طريق الكفاح … رأى في هذه الدعوات سلاحًا حادًّا يهدِّد
الدعوة القومية للاستقلال فتعالت مقالاته على صفحات جريدة «الإنذار»
٢٥ يحذر من الهوة السحيقة، تحت عنوان «طريق المجد للشباب»، وحدَّد معالم هذا
الطريق في مساندة الطبقات الشعبية لاستخلاص حقوقها الاقتصادية والسياسية بأن يتذرع الجيل
الجديد بمفهوم علمي لطبيعة مجتمعنا. وما إن خمدت نيران الحرب، وانبثق المعسكر الاشتراكي
كثمرة رائعة للتناقضات بين الدول الاستعمارية وأزمة النظام الرأسمالي، حتى تطلَّعت الشعوب
المقهورة إلى نيل استقلالها، مما دفع القوى الرجعية إلى استعادة أساليب البطش والدماء،
وظللت سيطرة العملاء وأشباه الإقطاعيين والاحتلال البريطاني بلادنا بشبح يد حديدية هي
أخطبوط الطاغية إسماعيل صدقي، وارتفع من أعماق قوى التقدُّم صوت عظيم تنبَّأ بالكارثة،
كان
صوت سلامة عام ١٩٤٥م في كتابه التاريخي «حرية العقل في مصر».
ولا ريب أن أزمة الفكر العربي في مصر عميقة الجذور في جوف التاريخ، فلقد ابتُلِيَ
مجتمعنا
عبر العصور بعاملين أساسيين تفاعلا معًا وأسهما في خلق ما عاناه ويعانيه فكرنا الحديث
من
أزمات. العامل الأول هو التخلف الحضاري الشديد الذي يتسم به تاريخنا القريب، إذ على الرغم
من تألُّق الحضارة العربية إبان القرون الوسطى، فإن الأحداث التي مرت بنا بعدئذٍ منذ
انهيار
الدولة الإسلامية وسيطرة الدولة العثمانية، فالاستعمار الفرنسي والبريطاني، والأنظمة
الاجتماعية المتخلفة، كان الأثر المباشر لهذه القوى جميعًا هو تخلينا عن الركب الحضاري
العالمي. ولم تستطع آدابنا وفنوننا أن تفلت من قيود التخلف، بالرغم من تراثنا العريق
السامق. واتضحت انعكاسات هذا التخلف في اختناق حركة الإبداع الفكري حيث ترنحت ثقافتنا
زمنًا
بين محاكاة الأدب العربي القديم أو الآداب الأوروبية في عصرها الرومانسي. كما ظل تفكيرنا
فترة طويلة يعبر في تلقائية شديدة عن القيم الرجعية السائدة، فقد كان الاستعمار والأنظمة
الاجتماعية الرجعية بالمرصاد لأية بادرة من تفكير متقدِّم. ومن الانعكاسات الهامة للتخلف
الحضاري على مجتمعنا وفكرنا معًا «مركَّب النقص» الذي حفره في وجداناتنا سبق الحضارة
الأوروبية المتعاظم، فقد دفع هذا الشعور بعضًا من أدبائنا إلى استيراد الأزمات الفكرية
من
أوروبا التي تجتاز مرحلة حضارية تختلف كيفيًّا عن المرحلة التي نعيشها … الأمر الذي تسبَّب
في أن يتسم جانب هامٌّ من تفكيرنا وأدبنا بالزيف والافتعال. كذلك نتبيَّن آثار تخلُّفنا
الحضاري في انخفاض أسلوبنا في الفكر والأدب والفن عن مستوى العصر. إذ بدلًا من أن نتجاوز
التخلُّف بالفهم الصحيح لعصرنا وقضاياه، ثم نحاول اللَّحاق بهذا العصر بواسطة التعبير
العميق عن مشكلات مجتمعنا، بدلًا من ذلك أخذت ثقافتنا تختزل الزمن بطريقة ميكانيكية،
وطبَّقت على مجالاتها المختلفة أحدث الاتجاهات والمدارس الفكرية في أوروبا وأمريكا بغير
دراسة عميقة لهذه المناهج، ومدى استفادة مجتمعنا وفنونه منها. لذلك كان التخلُّف الحضاري
البالغ عاملًا أساسيًّا في أزمتنا الثقافية التي عبر عنها سلامة موسى تعبيرًا طريفًا
حين
قال: «إني أحس أحيانًا حين أتصفح مَجلة أسبوعية أن كتَّابها يعتقدون أن القارئ المصري
ليست
له سوى كفاءة واحدة هي الكفاءة الجنسية.»
٢٦ هذه الأزمة الثقافية يحسُّ فيها الأديب والفنان بالمسافة الشاسعة التي تفصل
بيننا وبين العالم الذي نعيش فيه. غير أن هذا العامل — الذي أدعوه بالتخلف الحضاري —
لم يكن
بمعزلٍ عن العامل الآخر الذي أدعوه بالتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم. ولقد أصبح
للأسف من البديهيات الفاجعة أن تاريخنا يكاد يخلو تمامًا من ثمار الأسلوب الديمقراطي
في
الحكم. ويحكي سلامة في مرارة العلقم كيف ألغى إسماعيل صدقي عام ١٩٣٠م رخصة المَجلة الجديدة
«ثم جاءت وزارة عبد الفتاح يحيى باشا. فتوسط لي المرحوم عبد القادر حمزة صاحب البلاغ
في
إعادة إصدارها. فكان أهم وأخطر وأعظم ما طلب مني من التعهدات ألا أدعو إلى الاشتراكية
…
فلما ردَّ إليَّ الامتياز رأيت أن أحرص على شرفي الأدبي ورسالتي المذهبية فنشرت في أول
عدد
مقالًا يبلغ نحو عشرين صفحة عن التفسير الماركسي للتاريخ.»
٢٦
ومن النتائج الحتمية لأزمة الديمقراطية أن تظلَّ ثقافتنا أسيرة القيم الرجعية والتقاليد
البالية التي يتفاقم خطرها كلما تفاعلت مأساة الحرية في بلادنا مع تخلفنا الحضاري. وأدى
ذلك
إلى انعدام الصراع الأيديولوجي بين التيارات الفكرية والأدبية والفنية، وأدى هذا بدوره
إلى
جمود ثقافتنا ومثقَّفينا على السواء. وأضحى أمرًا بديهيًّا أن المثقف المصري يتصف بانخفاض
مستوى الوعي، وأن تراثنا من الفكر الوطني قد أصيب بالعقم. وإلى تلك الحال انتهى الفكر
وآلت
حرية التعبير وصرخ سلامة عام ١٩٤٥م باسم «حرية العقل في مصر» منذرًا بأن حضارتنا الفكرية
مهددة بالخطر.
٢٧
وجاء نذيره للقوى التقدمية في التوقيت المناسب تمامًا، إذ تضاعفت التناقضات بينها
وبين
السلطة الرجعية على إثر تضاعف الوعي الطبقي بين العمَّال والفلاحين والمثقَّفين، وبرزت
هذه
التناقضات — على المستوى الفكري — في ردِّ العقاد على سلامة حين دعا إلى إصلاح ثوري بالقرية
المصرية التي تفتقد إلى المرحاض الصحي، فكتب العقاد رده بعنوان «سلامة موسى المراحيضي»!
وحين طالب بإلغاء نظام العُمُدِيَّة وجد من ينبح مستغيثًا: «إنه يكافح تقاليدنا العريقة»
وحين كتب «في مصر من ينفق ألفًا من الجنيهات في اليوم الواحد، ومن ينفق ثلاثة قروش فقط،
وربما لا يجدها» دخل السجن عام ١٩٤٦م مع مئات العناصر الوطنية. وتحققت الخطوط العريضة
لرؤيته الفكرية التي أثبتها في كتابه «الدنيا بعد ثلاثين سنة»
٢٨ حين قال: إن العالم يتغير بمعدل سريع للغاية، وما تصوَّرته في كتابي «أحلام
الفلاسفة» عام ١٩٢٧م كان حلمًا فابيًّا مزعجًا، فالتطور يسير بسرعة مذهلة، القوى الاشتراكية
تنمو وتتعاظم، وسيجرف بلادنا القانون الشامل؛ التطور! لن أرى الاشتراكية في عام ٢٠٠٠م
كما
توهمت في يوتوبيا خيمي.
٢٩ سأراها وأنا أطرق السنة المائة من عمري، إن لم يكن قبل ذلك. ويسجل عام ١٩٤٧م
أنه إذا سُئل: «ماذا تستنتج من اختباراتك، وما تكهناتك للمستقبل بعد أن قضيت نحو أربعين
سنة
وأنت على اتصال وجداني بالعقل العام على هذا الكوكب؟ فإني أجيب بأن الحاضر يومئ إلى
المستقبل إيماءة واضحة نراها بالعين وأحيانًا نسمعها صاخبة بالأذن، هي الاشتراكية التي
سوف
تعمُّ الدنيا كلها، وليس هذا لأن الناس سيتحولون من أشرار إلى أبرار، بل لأن الإنتاج
سيحتم ذلك.»
٣٠ وهكذا يرى سلامة — بعد الحرب العالمية الثانية — أن عصرنا هو عصر انتصار
الاشتراكية على الاستعمار «والاشتراكية والاستعمار ضدَّان لا مصالحة
بينهما.»
٣٠ أما العلاقة بين الاشتراكية والحركات القومية،
فتتحدَّد عنده أكثر فأكثر عندما يرى أن جميع الاشتراكيين في مصر هم قبل كل شيء وطنيون
غالون
في وطنيتهم «لا يطلبون الاستقلال لمصر وحدها بل للهند والجزائر والعراق ومُرَّاكِش
وغيرها».
٣٠ ولعل تفسيره للعلاقة بين الاشتراكية والقومية
يبرز في صورة أكثر وضوحًا بكتابه القديم عن «غاندي والحركة الهندية»، حيث لا يغفل أن
عناصر
القومية هي اللغة والأرض والتكوين الاقتصادي والتكوين النفسي، وأن المدلول الطبقي لأية
حركة
قومية هو التعبير عن التناقض بين البرجوازية القومية والإمبريالية «في العصر الحديث»
ومقياسها هو «المصلحة العامة لمجموع الجنس البشري» كما يقول الكاتب الإنجليزي بنيامين
فارنجتون «الذي يضيف أن هذه المصلحة ممثلة في الطبقة العاملة ككل.»
٣١ وعندما تحدث سلامة عن قوميتنا التي شرعنا في تحقيقها منذ ١٣٠ سنة
٣٢ فإنه كان يعني مرحلة القوميات المحلية التي أشار إليها فارنجتون في كتابه عن
«الماركسية والقومية»، والتي تسبق مرحلة القوميات كجزءٍ من الحركة الاشتراكية العالمية.
والحقُّ أن منهج سلامة في تحليل الصلة بين الحركة الاشتراكية والحركة القومية ينبع من
فهمه
لطبيعة التطور التاريخي للكيانات القومية التي بدأت مع نشأة البرجوازية في دوائر متقوقعة
في
حدود ضيقة (قبل الثورة الاشتراكية الأولى)، ثم بدأت مرحلتها الثانية في انصهار العديد
من
القوميات في كيانات قومية كبرى (لا تتكامل إلا في ظلِّ أنظمة غير استغلالية) كمقدمة لتجاوز
المرحلة القومية تمامًا إلى ما دعاه بالعالمية. ولذلك فالاشتراكية عنده لا تتعارض مع
القومية في المرحلة الراهنة، مرحلة تناقضها الشديد مع الاستعمار، بل إن الاشتراكية —
في أية
صورة من صورها — هي الشرط الأساسي لتكامل سمات القوميات الكبرى الناتجة من انصهار المجموعات
القومية الصغيرة في تيار حضاري مشترك هو عصارة الكفاح المشترك ضد الاستعمار الأجنبي
والاستبداد الداخلي على السواء. فقد أصبح لمثل هذا التيار قيمةٌ عظمى في صياغة الحركات
القومية المعاصرة، ولم تعد العناصر القديمة وحدها بقادرةٍ على تفسير الأشكال الجديدة
للقوميات الحديثة.
•••
وسلامة موسى من المفكرين هواة البرامج الطويلة المدى، وفي كتابه العظيم «تربية سلامة
موسى»
٣٣ يرسم عام ١٩٤٧م خطة لحياته في العشر السنوات التالية، والكتاب نفسه تخطيط شامل
لحياة صاحبه طوال الستين عامًا التي عاشها حتى عام ١٩٤٧م، وهو من أهم الوثائق الخطيرة
في
تاريخنا الحديث. كانت النبرة الغالبة في كتاباته في ذلك الوقت هي تدعيم العلاقة النضالية
بين الفئة المثقفة والطبقة العاملة؛ لأن ظروفنا الحضارية أنضجت هذه الوحدة الكفاحية التي
بلورتها اللجنة الوطنية للطلبة والعمال، كتتويج لمرحلة المدِّ الثوري وغليان جماهير الشعب.
وأصبحت الواجهة الفكرية لمجتمعنا واضحة؛ جبهة الفكر الديمقراطي المتقدِّم، التي ينبعث
منها
صوت سلامة موسى مندِّدًا بدعوة القائلين بحياد الأديب والمفكر والفنان عن السياسة، فيقول
إن
عصرنا هذا «يتسم بصراعٍ روحي بين الحق والباطل. والأديب الذي تنفذ بصيرته إلى صميم هذا
الصراع ويقف على البينات والمعارف إنما يكفر بحرفته وفنه إذا هو نكص عن الدفاع عن الحقِّ.
وإذَن ليس هناك مجال في عصرنا لهذا الاستقلال المزعوم. فللأديب المخلص حزب كما أن له
عائلة،
وهو يرضى بشيءٍ من القيود يتقيد بها فنه كي يبقى متصلًا بالمجتمع يدرس، عن اختبارٍ، مشكلاته
ويجعلها أساس الفن ومحور الحرفة.»
٣٤ ثم يصل إلى هدفه البعيد حين يصيح: لقد ألفت كتابًا عن الذين علموني ولم أذكر
بينهم معلمي الأول كارل ماركس لأسبابٍ يعرفها أعداء الديمقراطية «وربما كان الأزهر أكبر
ما
عاق تفكيري الحر.»
٣٥
ويظهر كتابه «البلاغة العصرية واللغة العربية» فيتلقَّفه نقاد المعسكر الرجعي في الفكر.
ويحيُّونه على طريقتهم، فالعقاد يعلن أن كاتبه أثبت شيئًا هامًّا أنه ليس بعربي (والعروبة
في تلك الأيام يشوبها المعنى الديني للدعوة الإسلامية). وتُعلق عليه رسالة الزيات بأن
كاتبه
يجيد اللاتينية أكثر من العربية. وسلامة في تلك الفترة يحاربه المجتمع البرجوازي بأقوى
الأسلحة فلا يجد صحيفة واحدة، حتى «المصري» رفضته لأن الوفد «فقد روح الكفاح» على حدِّ
تعبيره. ولكن الجبهة الوطنية التقدمية لم تنس رائد الفكر العلمي، فردَّ الكثيرون على
هجوم
المعسكر الرجعي على «البلاغة العصرية». والكتاب هو تسجيل تاريخي لدور سلامة الضخم في
تطوير
اللغة العربية، دوره في بلورة الأسلوب الخالي من الزخارف القديمة والمتلائم مع روح العلم.
بمعنى أنه ارتاد الطريق في تنقية أسلوبنا الأدبي والصحفي من بهرجة الأسلوب العربي القديم،
وأدخل عليه تعبيرات جديدة استعارها من لغات العالم المتحضر، واشتق بعضها من كلمات قديمة
فأعطاها معنًى حديثًا، واستلهم العلم في استخدام أساليبه؛ أي إن الكلمة عنده لم يعد لها
الرنين والبريق، وإنما أصبحت لها رسالة محددة. ولعل الكثيرين لا يدرون أنه أضاف كلماتٍ
جديدةً إلى قاموس حياتنا؛ عشرات الكلمات ومئات التعبيرات التي أضحت أكثر ذيوعًا من اسمه.
وهو — بذلك — يطبِّق تعريفه للغات الراقية، إذ هي عنده «علم وفن وفلسفة؛ بمعنى أنه يمكننا
أن ننظر إليها النظر العلمي، فنبحث أصولها، ونميز بين معانيها، بل نضع الكلمات الجديدة
لتأدية المعنى الجديد. ويمكننا أن ننظر إليها النظر الفني، فننشد بالكلمات والجمل رفاهيةً
ذهنيةً لا تؤدِّيها الدقة العلمية. وكذلك يمكننا أن ننظر إليها النظر الفلسفي، فنضع الكلمات
الجديدة أو نُكسب الكلمات القديمة معاني جديدة تؤدِّي بعد ألفتها في المجتمع إلى حالٍ
منشودة من الخير» (ص١). ثم يرى أن هذه الأهداف تتحقَّق ما دامت اللغة «في تفاعل لا ينقطع
مع
المجتمع الذي ينطق أفراده بها، والقيم اللغوية في تغير دائم لهذا السبب، والمحاولة لوقف
هذا
التغيير هو تعطيل للتطور الذهني للأمة» (ص٢). «ونحن أمة متطورة، فيجب أن تكون لنا لغة
متطورة، بل لغة متمدِّنة تتسع للتعبير عن نحو مائة وعشرين علمًا وفنًّا لم يكن يعرفها
العرب
الذين ورثنا عنهم لغتنا» (ص٣). «واللغة هي التي تؤدي معنًى معينًا لا تتجاوزه إلى هوامش
المعنى. وكذلك يجب أن تكون أنيقة لا تستطيع وصف الألوان الأصيلة كالأبيض والأسود فقط
بل
تستطيع أن تنقل إلينا الظلال والأصباغ التي بينهما» (ص٦). «الواقع أنه ليس للحياة غاية
سوى
الحياة. وكل ما عدا الحياة إنما هو وسائل للحياة. فاللغة والأدب والفن والبلاغة إنما
هي
جميعها في خدمة الحياة التي لها الاحترام الأول والمكانة المفضلة. فنحن نتعلَّم الفنون
ونمارس البلاغة ونُعْنَى بالثقافة كي نصل في النهاية إلى مستوًى عالٍ من الحياة … وإذا
جعلنا الحياة السعيدة هدفًا نوجِّه إليه فنوننا وعلومنا وعقائدنا، فإننا نستطيع أن ننزع
عن
هذه جميعها تلك القداسة التي تحول بيننا وبين تنقيحها أو تغييرها، ويعود عندئذٍ فن البلاغة
فنًّا تجريبيًّا مثل جميع الفنون، ويتغير كما تغيرت. فليس من شك في أن التغيير أو التنقيح
قد عمَّ فنونًا كثيرة في عصرنا مثل الرسم والنحت والبناء، ولكن فن البلاغة في اللغة العربية
لم يتغير» (ص٧٣) … «ويجب لذلك أن تكون الرسالة التعليمية الأولى لأية مدرسة مصرية هي
تعليم
اللغة العربية، وأن تكون غاية هذا التعليم إيجاد الكلمات التي تحرك ذكاءنا بالتفكير الحسن
وأن يكون هدف المعلم ليس العبارة الجميلة، بل الكلمة الناجعة، التي لا يمكن أن تقوم مقامها
كلمة أخرى» (ص٦٤) … «يجب أن نكبِّر من شأن لغتنا العربية وأن نُولِيها أعظم اهتمامنا
لأنها
وسيلة التفكير ولا يمكن التفكير الحسن بلا لغة حسنة» (ص١٠٦) … «وأستطيع أن أقول أنا إن
نزعتي إلى الحضارة الصناعية، مع ما يجب أن يرافقها من ثقافة علمية، هي التي تدفعني إلى
الرغبة في التغيير حتى تلائم اللغة ما أنشد من ثقافة علمية» (ص٩٤).
وأنا أكتفي بهذا القدر من النصوص التي أرى فيها إجابة كاملة عن الدور الحقيقي لسلامة
موسى
نحو اللغة العربية. وتبقى بعد ذلك قضيتان خطيرتان في هذا الصدد، هما موقف سلامة من الفصحى
والعامية من جهة، والحروف اللاتينية من جهة أخرى. والقضية الأخيرة هي امتداد وتجديد لدعوة
عبد العزيز فهمي القائلة باستخدام الحروف اللاتينية في لغتنا كما صنع الأتراك لمسايرة
النهضة العلمية في العالم، ولتتمكن لغتنا من الانتصار على إمكانياتها الحالية التي لا
تنجز
مهمة التعبير الدقيق عن احتياجاتنا الحضارية … ولا ريب أن تجديد هذه الدعوة قد أغفل التمايز
النوعي بين اللغة العربية واللغات المشتقَّة عن اللاتينية، كما أهمل حاجتنا عندئذٍ إلى
صياغة تراثنا كله في الحروف الجديدة. أما القضية الثانية الخاصة بازدواجية اللغة في المنطقة
العربية فقد تطوَّر تفكيره بشأنها من تأييده لدعوة أحمد لطفي السيد إلى اتخاذ العامية
لغة
للكتابة، إلى «أن تكون غايتنا توحيد لغتي الكلام والكتابة فنأخذ من العامية للكتابة أكثر
ما
نستطيع ونأخذ من الفصحى للكلام أكثر ما نستطيع حتى نصل إلى توحيدهما» (ص٢٣). ويبدو واضحًا
أن الدعوة إلى العامية رافقت الدعوة إلى القومية المصرية، حتى إذا تطور منهج سلامة في
تفسير
الانصهار القومي على النطاق العربي تطوَّر تفكيره بشأن اللغة أيضًا فيطالب بتأليف المعاجم
العربية الحديثة «ولا أنسى هنا ضرورة طبع معاجمنا القديمة مثل أساس البلاغة للزمخشري
أو
لسان العرب لابن منظور أو القاموس للفيروزآبادي، فإنها تراث لا يسع مثقفنا أن يستغني
عنه.»
٣٦ «وأخيرًا أقول عسى أن يكون من الجرعة المُرة التي تجرَّعناها بمشروع لاروس،
بشأن معجم عربي لنا، ما يحفزنا ويبعث فينا النخوة لإيجاد نهضة معجمية نخدم بها الثقافة
العربية العصرية.»
٣٦
ولعل «البلاغة العصرية واللغة العربية» هو الكتاب الذي يكشف عن سمة هامة في منهج سلامة
الفكري في ذلك الحين، هي عدم تمثله لتفاصيل ودقائق التحليل الماركسي لعديد من القضايا،
فإن
وعيه بالخطوط العامة للماركسية لم يستر التعرجات المثالية في بعض أفكاره. وهكذا نلتقي
بتفسيره لشيوع جريمة الثأر في صعيد مصر على أساس أن كلمات الجريمة تفرخ الجريمة نفسها.
ونحن
لا نشك في أن الشعارات الثورية تنضج الثورة، ولكنا لا نشك أيضًا في أن الصراع الطبقي
هو
الأساس الموضوعي للثورة. وميزان القوى الطبقية في مصر هو الأساس التاريخي الذي نأى بحزب
الوفد عن تمثيل حركة التحرر القومي، وليس لأنه «فقد روح الكفاح» كما عبَّر سلامة. هذه
المسافة المنهجية بين سلامة موسى ودقائق التفكير الماركسي ترجع إلى انفصام العلاقة بينه
وبين التنظيم السياسي، وبينه وبين تطوُّر الفكر السياسي والفلسفي على ضوء الماركسية.
ويدلُّنا ذلك على الطبيعة الطبقية لسلامة، فهو لم يكن مفكرًا شيوعيًّا قطُّ، إنه التعبير
الفكري عن الجانب الثوري للبرجوازية الصغيرة في عصر الاشتراكية. وقيمته العظمى في تاريخنا
ترجع إلى ارتياده ثقافتنا التقدمية وفكرنا العلمي، وانعكاس هذه الريادة الثورية على
مجتمعنا. ولا ريب أن التيار الديمقراطي في حياتنا الثقافية كان يتسع، فازدهرت حركة النشر
التقدُّمي، وطالعنا بالعربية قصص جوركي ودراسات مفيد الشوباشي حول الأدب الروسي والنقد
السوفياتي، وكتابات عصام حفني ناصف عن التطور، وأبحاث لويس عوض في النقد الأدبي، وغيرهم
من
أبناء المنطقة العربية الذين قادوا حركة الفكر التقدُّمي في بلادهم. فلم يقتصر إنتاج
سلامة
موسى ومدرسته على قرَّاء مصر، وإنما تجاوزها إلى هذه البلدان التي يربطنا بها تيار حضاري
مشترك يصهر كياناتنا القومية في بوتقة الكفاح المرِّ لبناء قوميتنا العربية المعادية
للاستعمار.
واتجه سلامة في هذه الفترة إلى تبيان رأيه في الأدب العربي القديم، حتى لا يسيء فهمه
أبناء المنطقة العربية، فأكد أن هذا الأدب جدير بالدراسة والتحليل والنقد العلمي، لنضع
أيدينا على حلقات تاريخنا الثقافي، لا لنتخذه قالبًا مقدَّسًا نصوغ على منواله آدابنا
المعاصرة. وأسهم ذلك التحديد في ردع الفكر الانتهازي لمعسكر الرجعيين في مصر، على أنه
لم
يثنهم عن رجعيتهم بعد أن فقدوا أروع المسئوليات على الإطلاق، مسئولية الكلمة الشريفة
النابعة من ضمير شعبنا. الضمير الذي جعل أبناء فرنسا يوزعون المنشورات عام ١٩٥١م لمساعدة
حركة التحرر الوطني في مصر «بينما كان المسئولون المصريون لا يسمحون لي أو لزميلي محمود
عزمي بالردِّ على صحف الاستعمار» كما يقول سلامة حين سافر إلى باريس كمراقب صحفي لمشاهدة
دورة مجلس الأمن المنعقدة هناك. ويقارن هذا المشهد بما سبقه عام ١٩٠٨م عندما احتدَّ عليه
شاب فرنسي قائلًا: «الإنجليز أسيادكم»، ويستطرد سلامة: «… ويومها انبطحت على سريري وبكيت
بكاء مرًّا، أما اليوم — عام ١٩٥١م — فالعالم قد تغيَّر، والشعوب تزحف إلى غدها، وقوى
التقدم تتزايد أكثر من أي وقتٍ مضى.»
أجل، العالم قد تغيَّر، فلم يعد الشرق شرقًا ولا الغرب غربًا، كما أنشد كبلنج وردد
العقاد
النشيد. ووقف سلامة والعقاد يتناظران حول هذا المعنى في الجامعة المصرية ويرسمان منهجين
في
الفكر؛ سلامة يقول إن كبلنج هو شاعر الإمبراطورية ويردِّد شعارات الفلسفة الرجعية التي
ترى
أن طبيعة شرقنا هي التخلُّف، وأن طبيعة غربهم هي التقدم، ولذلك أهَّلتهم الطبيعة للسيادة
…
وهذا منطق الاستعمار. أما الحقيقة، فإن هناك فرقًا بالفعل بين الشرق والغرب، هو الفرق
بين
ظروفنا وظروفهم، غير أن هذه الظروف ليست طبيعة فطرية، إنها تتطور وتتغير، فإذا آمنا بذلك
كافحنا ظروف تخلفنا، كافحنا الاستعمار الأجنبي والاستبداد الداخلي. ثم قال العقاد: إن
الشرق
هو مهد الديانات الروحية النازلة من السماء، والغرب هو محراب المادة وهيكل عبادتها، ولذلك
فإن واجبنا الوطني أن نقف في سبيل التقائهما.
٣٧ وكانت المناظرة تعبيرًا حاسمًا عن الخطوط العامة في كلا المنهجين: المنهج
العلمي الآخذ بأيدينا إلى أمام، والمنهج المثالي الذي يغلُّ أيدينا إلى الخلف، أو كما
يعبِّر سلامة عن الآخذين به: «يسيرون بأقدامهم إلى أمام ورءوسهم إلى الخلف» أولئك الذين
ما
تزال نظرتهم الجامدة تعيش بيننا إلى أن نستقرئها في أحدث ما كتب زكي نجيب محمود بسلسلة
المكتبة الثقافية تحت عنوان «الشرق الفنان» حيث يجترُّ الفكرة الرجعية القديمة ليثبت
أن
الغرب هو العلم والشرق هو الفنُّ، هكذا خططت العناية الإلهية!
والعقاد وطه حسين هما اللذان وقفا منذ عام ١٩٤٩م في وجه الحركة النقدية الجديدة التي
وصفها طه حسين بأنها «يوناني لا يُقرأ»، واستعدى عليها العقاد سلطات الدولة. على أن احتدام
المعركة الوطنية قد أسهم في اتساع الجبهة المعادية للرجعية، فجاءت كتابات خالد محمد خالد
«من هنا نبدأ، مواطنون لا رعايا، الدين في خدمة الشعب»، وبرنامج الحزب الاشتراكي عام
١٩٥٠م
الذي دعا إلى إصلاحات هامة وصلت به إلى حد المطالبة بتحديد الملكية الزراعية بخمسين فدانًا.
كما قدَّم محمود خطاب وعزيز فهمي، النائبان الديمقراطيان، مشروعًا مماثلًا إلى البرلمان.
وتبدَّدت — إلى حين — صيحات الفكر الرجعي، وذاعت شعارات الأدب للحياة، والأدب الهادف.
وكتب
سلامة موسى «الأدب للشعب» تحديدًا إيجابيًّا لمعنى الفن ورسالة الأديب … ذلك أن المدَّ
الثوري الديمقراطي بلغ عام ١٩٥٦م مرحلة رائعة من التقدم، ويسجل سلامة: «حين أعرض لأحداث
بلادنا فيما بين ١٩٤٧ و١٩٥٧م أجدها على اختلافٍ بارزٍ بين نصفيها. فالنصف الأول إلى عام
١٩٥٢م كان انحدارًا كاد يكون انهيارًا في السياسة والأخلاق. فقد ظهرت حركات رجعية أوشكت
على
إحالة بلادنا إلى جهنم … وأصبح الزعماء والساسة الذين كنا نحترمهم لكفاحهم متسلِّقين
يرغبون
في الوصول إلى القمم، وهي في الأغلب قمم الثراء والسلطان دون أي حساب للشعب، بل تجاوزت
هذه
الحال إلى من نسميهم أدباء وصحفيين ومؤلفين كبارًا. فقد ارتشوا إلا الأقلين، عن ضمائرهم،
وصاروا يؤلفون ويكتبون كما لو كانوا يكتبون إعلانات مأجورة في الصحف. أما النصف الثاني؛
أي
من بداية الثورة في ٢٣ يوليو من ١٩٥٢ إلى ١٩٥٧م، فيمثل نهضة الشعب، وهي نهضة إنشائية
بنائية
في جميع المرافق ما زلنا ماضين في طريقها الذي لن يكون له آخر. وأنا كذلك كبير التفاؤل
بالمستقبل، وخاصةً بعد هذا الاتفاق بيننا وبين الاتحاد السوفياتي في نوفمبر من ١٩٥٧م
على
تصنيع بلادنا، هذا التصنيع الذي أمضيت أكثر من ثلاثين سنة وأنا أنادي به. ومتى انتشرت
المصانع بيننا فإن كثيرًا من أزماتنا سيُحَل. بل هذه الأزمات تحلُّ نفسها عندئذٍ بلا
عمل
إرادي من الحكومة. فإن التعطل سيزول. وخاصةً تعطل المتعلمين. وسيأخذ الاتجاه العلمي مكان
الاتجاه الأدبي. وستزول العقائد التي تعطل التطور النفسي للشعب. الثقافة العلمية ستكون
النتيجة للحضارة الصناعية، ثم تعود هذه الثقافة فتؤثر في هذه الحضارة، ويستمر التفاعل
بينهما.»
٣٨
وهنا بالتحديد نذكر الأهمية البالغة لكتابه «الثورات»،
٣٩ فهو ينبع من الطبيعة الثورية لمرحلتنا التاريخية، وهو تحليل للثورتين القومية
والاشتراكية، فيفرق بين الثورات الإنجليزية والفرنسية والمصرية، وثورة أكتوبر الاشتراكية
ويقول: إن الثورات هي المحك الحقيقي لشرف الكاتب، فالحياد إبان الثورة أكذوبة رجعية
ضخمة.
ثم يعرض لثورة مصر القومية فيحللها إلى ثلاث مراحل: أولاها عام ١٩١٩م، والثانية مع
أفول
الثلاثينيات، والثالثة عام ١٩٥٢م. ويقول: إن الفكر الثوري يسبق الثورة لأنه وليد إرهاصاتها
الاقتصادية والاجتماعية، والمفكر الثائر ينضج تفكيره قبل السياسي الثائر، وربما التحم
الاثنان في شخصيةٍ واحدةٍ. ويستطرد قائلًا: إن المفكِّرين الثوريين تختلف درجات ولائهم
للشعب والثورة من مرحلةٍ إلى أخرى، بعضهم ينتهي دوره في أعقاب الثورة الأولى فيجمد مع
جمود
ثورته، وبعضهم يمتدُّ دوره إلى ثورةٍ أبعد مدى، وهذه هي قيمة المفكر الاشتراكي الثوري،
إنه
يظلُّ ثوريًّا إلى النهاية. «والذي يجب أن أعترف به في ألمٍ أن أدباءنا الكبار، إلى بداية
الثورة في ١٩٥٢م لم يعملوا قط للثورة على الأوضاع الخسيسة التي كان يستند إليها نظام
الحكم،
فلم يكن بينهم إلا من أيَّد فاروق أسفل تأييدٍ وأحطَّه، ولي الحق بأن أفخر بأني لم أكن
كذلك، وقد نالوا بهذا التأييد كلَّ ما أرادوا من مالٍ وجاهٍ، حتى لقد عيروني بأني أحسدهم
على ما نالوه هم وحُرِمْته أنا من يديْ فاروق الملوَّثتين.»
٤٠ ويؤرخ لمراحل تطوره الفكري بأن أهدافه كانت تختلف من مرحلةٍ إلى مرحلة، فأثناء
زيارته الأولى لأوروبا كان الاستقلال القومي وحرية المرأة هما الهدفان الغالبان على وجدانه،
وحين عاد إلى مصر أصبح هدفه «مكافحة الغيبيات بنشر نظرية التطور حتى تأخذ بينة العلم
مكان العقيدة.»
٤١ ومع بداية الثورة القومية تحدد كفاحه من أجل الاشتراكية والتصنيع. «والآن في
١٩٥٧م أُحِس قصدًا آخر إزاء الغيوم الذرية التي تخيم على العالم وتهدِّد البشر بالفناء،
هو
تعميم السلام ومكافحة دعاة الحرب.»
٤١
وربما كانت السمة الأساسية في تطور سلامة — رغم تعدد هذه الأهداف — هي هذا المزيج
الرائع
من الثورة والتطوُّر والقلق. ولذلك تشع كلماته بالصدق إذا همس لنا: «حين أعود إلى السنين
الماضية أحسُّ الرضا، إن لم يكن السرور، بأني عشت حياة حافلة بالأفكار العميقة والامتحانات
الذهنية والشهوات العليا، وأني قد احترفت العلم والأدب والفلسفة، وألَّفت الكتب وصرت
عضوًا
مقلقًا للمجتمع المصري، مثل ذبابة سقراط، أنبِّه الغافلين، وأثير الراكدين، وأقيم الراكعين
الخاضعين.»
٤٢ وهذا هو العنصر الأول في منهج حياته الفكرية، أعني الثورة، وتستمدُّ طبيعتها من
التناقضات العميقة بينه وبين المجتمع، وتتخذ أشكالها من التناقضات الأصيلة داخله. أما
العنصر الثاني — التطور — فإننا نعثر عليه حين يتساءل في خاتمة كتابه العظيم «تربية سلامة
موسى»: ما هو الذي يحفزني على التأليف؟ ويجيب: اعتقادي أنه اهتمامي بالشعب؛ أي إنه مجموعة
من عواطف السخط على الحال القائمة والأمل في حال مرجوة، والسخط يثير عليَّ غضب الكثير
من
الجهلة الذين لا يفهمون طبيعة الحضارة الغربية وما يكمن فيها من عدوان واستعمار للشعوب
الضعيفة التي تعيش على قديمها الرث من التقاليد، ولست أنا من عشَّاق هذه الحضارة الغربية
بدليل أنني اشتراكي، فهي حضارة المباراة، والاشتراكية حضارة التعاون، ولكن لأن هذه الحضارة
الغربية عدوانية استعمارية، يجب علينا أن نقاومها بأسلحتها، وأعظم هذه الأسلحة هو العلم
والصناعة، مع اتجاهنا نحو الاشتراكية» (ص٢٨٩). أين هذا العدوُّ للحضارة الغربية من ذلك
القائل — عام ١٩٢٨م — لنولِّ وجوهنا شطر أوروبا؟ وليس التطوُّر قاصرًا على تحوُّل سلامة
موسى من الافتتان المطلق بالحضارة الأوروبية في بداية القرن العشرين ومعاداتها بعد ذلك،
إن
هذا التطوُّر انعكاس صريح لما طرأ على حضارة الغرب نفسها في مرحلة الإمبريالية المنهارة،
وبزوغ شمس الاشتراكية على النطاق العالمي. أما العنصر الثالث — القلق — فينبع من طبيعة
القضايا التي عاناها، وطبيعة تكوينه الذاتي، وطبيعة العصر الذي عاش فيه: «لقد كان أول
ميلادي، بعد سن المراهقة، حين عرفت نظرية التطور، فأحسست بها أن عقلي قد كبِر، وأن نظرتي
قد
أصبحت تشمل الكون، وأني أحاول الشمول والاستيعاب، وأن لي ديانة تربطني بأقصى النجوم
والكواكب، وأحط الديدان والحيوان، وأني مسئول أمام الحياة والإنسانية.»
٤٣ ويمكننا بذلك أن نستشفَّ طبيعة القضايا التي عاناها حتى النخاع: «ولي هنا
اعترافان؛ الأول: أني أهتمُّ بالدنيا ومصير الإنسان أكثر مما أهتمُّ بنفسي. والثاني:
أن
أكبر لذَّاتي هو اللذة الفلسفية».
٤٣ والاعتراف يكتشف معنا طبيعة
تكوينه الذاتي، ثم تتضح طبيعة العصر في صلاته العميقة: «إن بؤرة إيماني هي الإنسانية
بمن
تحوي من فلاسفة وأنبياء وأدباء، وبما تحوي من شجاعة وذكاء ومروءة ورحمة وجمال وشرف. ولا
يمكن أن يكون إيماني ساذجًا، كله طمأنينة وتسليم، فأنا بعيدٌ عن هذه الحال ولا آسَفُ
على
ذلك؛ لأنه إذا كان اليقين أرْوَح فإن الشك أشرف كما يقول برتراند راسل. وأنا رجل قد أكسبتني
الثقافة النظرة الشاملة للحياة والكون. واعتقادي أنه لا يمكن للإنسان أن تتكوَّن له شخصية
دينية سامية ما لم يكن مثقفًا قد حقَّق النظرة الاستيعابية للكون، فنظَّم عقله وقلبه
بحيث
ينسجمان في حركة الحياة الكونية والآمال الإنسانية، ووصل في كل ذلك إلى رأيه الخاص أو
قلقه
الخاص، والدين رأي خاص ولا يمكن أن يكون عامًّا، ويجب أن يبقى قلِقًا دائمًا.»
٤٤
ولئن كانت الثورة والتطوُّر والقلق، محورًا أساسيًّا في منهج سلامة موسى، فإننا لا
نكتشف
هذا الثالوث في عبارات تقريرية، وإنما نعثر عليه في البون الشاسع بينه وبين القوالب الفكرية
الجاهزة للتعبير المسبق عن قضايا بعينها. فقد ظلَّ على الدوام ثائرًا متطورًا قلقًا لا
تفزعه نفسه إذا تساءلت من الأعماق: «يقال إن في الدين غيبيات، ولكن هل هذا صحيح؟ ألسنا
نقف
مع أينشتين أو غيره إزاء غيبيات علمية حين يتحدثون عن الكون المتمدِّد الذي يدأب في الاتساع
في الخواء؟»
٤٥ إنه لا يفزع من السؤال، بمعنى أنه بلغ من الشجاعة أن يواجه نفسه بكل تحديات
الطبيعة، ولكنه يفزع في نفس اللحظة من الصورة المأساوية للوجود إذا استمدَّت ألوانها
من
بشاعة ذلك التحدِّي. ولا يمنعه ذلك من أن يمزج بين المأساة الاجتماعية للإنسان ومأساة
وجوده
في آنٍ واحدٍ، مخففًا بذلك وطأة العبثية واللامعنى في هذا الوجود، مضيفًا إليه من خارجه
ما
يدفعنا لأن نحقِّق ذواتنا في داخله … «وقد كان نفوري أيام شبابي من الغيبيات علميًّا
منطقيًّا، ولكني أنفر من الغيبيات الآن لأسباب اجتماعية؛ لأنها — أي الغيبيات — جبرية
ليست
فيها حرية الماديات، أي إن التفكير المادي حرٌّ متطورٌ، أما التفكير الغيبي فمقيد جامد.
ونحن نتحرَّر بالأول ونتقيد بالثاني.»
٤٦ «ولو سئلت ما هو بيت القصيد أو إيماءة حياتي كما تبدو من مؤلفاتي وسيرتي
واتجاهي، لقلت إنها الحرية.»
٤٧
وفي الطريق إلى الحرية، أي كلما وعينا القوانين العلمية المضمرة في الطبيعة والمجتمع،
يتنسَّم سلامة موسى عبير هذه الحرية على أبواب عصر الفضاء، حين أطلقت روسيا قمرها الصناعي
الأول، وفي رحاب الاشتراكية منذ «أصبح عدد الاشتراكيين في الاتحاد السوفياتي والصين ودول
أوروبا الشرقية نحو ١٠٠٠ مليون نسمة، وهم قوة كبيرة سوف تقضي على سُبَّة البشر الكبرى.»
وإذا كان استغلال القوانين العلمية في مكان آخر من العالم يهدد «الحرية» بالخطر، فإن
ذلك
يعني أن حربًا عالمية وشيكة الوقوع … «ولا أستطيع أن أقول إن الحرب الكبرى الثالثة لن
تقع،
ولكني أقول إن احتمال وقوعها قد نقص بعد أن فاز الاتحاد السوفياتي باختراع الصواريخ،
وبعد
أن زادت أسلحته الأخرى. إن قوة الاتحاد السوفياتي هي الضمان الوحيد للسلم في العالم في
عصرنا.»
٤٨ وقبل أن يتحوَّل سلامة موسى إلى تراث في أغسطس عام ١٩٥٨م، أوجز لنا إيمانه
بالحياة في ثلاث نقاطٍ:
-
«إني أُومِن بالحقائق. ومن هنا تعلُّقي بالعلم لأنه حقائق.»
-
«وإذا كان لا بدَّ من عقيدة فإني أُومِن بها عندما تكون ثمرة الحقائق
العلمية. فإني أعتقد مثلًا بالمستقبل الاشتراكي للعالم كما لمصر، وأعمل له، لأن
الاقتصاديات العصرية تومئ بذلك.»
-
«وأُومِن بأنه ليس في الدنيا أو الكون أو المجتمع استقرار؛ لأن التطور هو
أساس المادة والأحياء والمجتمعات، أي أساس الوجود، وأن الجمود الاجتماعي هو
معارضةٌ آثمةٌ من الأشرار لسنن الكون والحياة.»
٤٩
وإذا كان الرجل العظيم — كما يصفه سلامة — «هو الذي يعطي الدنيا أكثر مما يأخذ منها؛
أي
إن الدنيا تجد بعد انقضاء عمره أنها كسبت به ولم تخسر، وأنفقت عليه أقلَّ مما ترك لها.
وهذا
الذي تركه لها قد يكون حكمة أو قدرة أو علمًا أو اختراعًا، أو زيادة في الثروة أو الخير
أو السلام.»
٥٠ إذا كان ذلك هو الرجل العظيم، فإني أحس ارتياحًا عميقًا حين أقرر أن سلامة موسى
من عظماء عصرنا، فقد أضاف إلى ضمير هذا العصر الشيء الكثير.