في معبد التطور
فقد كانت أوروبا في بداية القرن العشرين تغلي بثوراتها المتوالية في مجالات التكنولوجيا، وانعكست هذه الثورات على البلدان المتخلِّفة بتحويلها في المجال الاقتصادي والسياسي إلى مناطق للنفوذ الإمبريالي، وإذابتها على المستوى الاجتماعي والفكري في طوفان الفلسفات والآداب والنظريات الاجتماعية، التي تسدُّ الطريق أمام المتخلِّفين إذا أرادوا التقدم. وتفتح الطريق أمام الصفوة الممتازة من أبناء أوروبا لفتوحات نهاية القرن التاسع عشر.
وليس شك أن تاريخ المجتمع الإنساني منذ العصر العبودي إلى المجتمع الرأسمالي الحديث، قد عرف هذه الفلسفات العنصرية، فيقول أحد فلاسفة الإغريق إن هناك جماعات من الناس وُلِدَت كي تصبح آلاتٍ خاضعةً لمشيئة العباقرة. وفي تاريخ اليهود المتَّسم بالتعصُّب القومي إشارة إلى المكانة الممتازة لشعب الله المختار.
وفي العصور الوسطى، لاءم العنصر الأوروبي المسيحي بينه وبين العنصر الإسرائيلي محقِّقًا إرادة يهوه في السعي من أجل أرض الميعاد (توينبي).
وأكثر من ذلك نرى القرن الثامن عشر الذي ندعوه بعصر التنوير، يقول أحد فلاسفته بفكرة الاستمرار التاريخي للصفات الوراثية حين يصرخ: «سيظل الصينيون هم الصينيون» (هردر). وأمام الهزة العنيفة التي أحدثتها الثورة الفرنسية، وجد الرومانسيون الألمان والفرنسيون والإنجليز أن أعظم عمل مضادٍّ لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة هو مزيدٌ من التمسك بالتمايز التاريخي والتفرد القومي (فيوتر).
وفي تصنيف لينوس يتربع الإنسان على رأس المملكة الحيوانية «وهو مثل الأنواع الأخرى ينقسم إلى فصائل، وهذه الفصائل دائمة وثابتة.»
ومعنى ذلك أن الفلسفات والنظريات الاجتماعية الأوروبية التي عاصرت القرن التاسع عشر في تبرير الفتوحات الاستعمارية، وتدعيم الرأسمالية العالمية، كان لها من التراث الفكري — على مدى تاريخ المجتمع الطبقي — ما يجعل من الفلسفات البرجوازية التي أفادت شيئًا من نظرية التطور، تعبيرًا طبيعيًّا عن إحدى مراحل المجتمع الطبقي، ولا يجعل من هذه النظرية نفسها تعبيرًا طبقيًّا.
أما الانعكاسات التي ظهرت على الفلسفات الأوروبية نتيجة احتكاكها — بشكلٍ أو بآخر — بنظرية التطور، فقد اختلفت من مفكرٍ إلى آخر، ولكنها جميعًا كانت تلتقي في نقطةٍ واحدة، هي تدعيم الأسس الفكرية للنظام القائم. وعلى غير هذا النحو كان الفكر العربي يستقبل هذه النظرية في بداية القرن العشرين.
وبالرغم من أن الفكر العربي القديم عرف «التفكير» في التطور، كما نلحظ في قصة «حي بن يقظان» لابن طفيل، و«عجائب المخلوقات» للقزويني، و«الفوز الأصغر» لابن مسكويه … إلا أنه لا يمكن أن يقال إن الحركة الفكرية التي اشتعلت نيرانها بنظرية التطور في أوائل هذا القرن بالمنطقة العربية، ترجع إلى ذلك التراث البعيد، فإن أغلبه يكتفي بالإيماءة الحيِيَّة دون التمحيص العلمي. ولذلك فإنني أعود بتيار «المقتطف» وشِبلي شُميِّل وسلامة موسى في الانغماس الذهني في هذه النظرية إلى اطلاعهم المبكر على ثمار الفكر الأوروبي، الذي كان يعتبر «الاشتغال» بنظرية التطور بمثابة الذروة المتألقة على جبينه آنذاك. غير أن معنى التطور عند الفكر الأوروبي ذلك الوقت، كان يختلف كيفيًّا عن معناه لدى الفكر العربي.
ففي أوروبا، استقبله هربرت سبنسر بقوله إن المجتمع الإنساني ليس شبيهًا بكائنٍ عضويٍّ بل هو كائنٌ عضوي فعلًا، وإن المجتمع لذلك يخضع في تطوره لذات القانون أو القوانين التي تخضع لها الكائنات العضوية في تطورها. ولما كان «تنازع البقاء» واحدًا من القوانين التي فسر بها داروين تطور الأحياء، فقد كانت المباراة الاقتصادية والاجتماعية هي المبادئ الأساسية للفلسفة البرجوازية في بداية العصر الإمبريالي.
والباحث يتوقَّف كثيرًا عند «مقدمة السوبرمان» وجهًا لوجه أمام هذه التناقضات، غير أننا على ضوء تفسيرنا السابق لأولى مراحل سلامة مع الفكر، كمحاولة لحل التناقض بينه وبين المجتمع، نستطيع القول بأنه كان طبيعيًّا جدًّا أن يتأثَّر أشد التأثير بأكبر معول أوروبي حطَّم الغيبيات، أقصد الفيلسوف الألماني نيتشه. ولم تكن تفاصيل الفلسفة النيتشوية تلفت نظر سلامة، لأن ما كان يعنيه هو «منهج» نيتشه في دحض الأوهام والأساطير والخرافات … مهما قال بعدئذٍ بشأن طبقية المجتمع والأخلاق المسيحية والإنسان الأعلى.
وهذا يعني، أنه إذا كانت فلسفة نيتشه تُعَدُّ جذرًا نظريًّا للفاشية والنازية وبقية ما ظهر من مذاهب عنصرية، فإنها لم تكن تعني عند سلامة موسى إلا معولًا في هدم الغيبيات الدينية. ولذلك جمع سلامة موسى بين النيتشوية والاشتراكية معًا معبرًا بذلك عن ذات نفسه، وطبقته ومجتمعه في أوائل العصر الذي عاش فيه. فالتطرُّف النيتشوي هو ردُّ الفعل الطبيعي لما كان يخيِّم على بلادنا من ظلام القيم الإقطاعية، بينما كان نيتشه تعبيرًا فلسفيًّا عن بزوغ النظام الاحتكاري في الصناعة الألمانية بصفة خاصة والأوروبية بصفةٍ عامة، والاشتراكية الفابية هي ردُّ الفعل الطبيعي عند الفئات الصغرى من الطبقة المتوسطة في وجه الاقتصاد شبه الإقطاعي المتحالف مع رأس المال الأجنبي في بلادنا، بينما كان استمرارها في أوروبا يترجم هزيمة الطبقة العاملة والفلاحين في المعركة ضدَّ الفكر البرجوازي. ومن طبيعة هذا الاختلاف بين انعكاسات نيتشه والاشتراكية الفابية على وجدان سلامة وفكره، وانعكاساتها على التفكير الأوروبي، نرى أن المنهج الذي بدأ به سلامة موسى حياته الفكرية عام ١٩٠٩م كان منهجًا تقدميًّا بالرغم مما فيه من تناقضات «منطقية» — بين النيتشوية والاشتراكية مثلًا — بينما كان منهج الفكر الأوروبي — السائد طبعًا — منهجًا رجعيًّا بالرغم من التكامل والانسجام المنطقي بين مقدماته العرقية والعنصرية ونتائجه الاستعمارية.
ولو أننا راجعنا كتابات سلامة عن نيتشه منذ أول مقالٍ له بعنوان «نيتشه وابن الإنسان» — كتبه في المقتطف عام ١٩٠٩م — إلى أن تخلَّص نهائيًّا من آثار هذا الفيلسوف، لا نلمس مطلقًا أنه قد وضع يديه على الفارق الكبير بين نيتشه من جانب، وداروين وسبنسر من جانبٍ آخر، بشأن التطور. ولكنه لم يكن يُعْنَى — كما سبق أن ذكرت — بتفاصيل النيتشوية كفلسفة عنصرية، وإنما كانت تستهويه دلالتها الخطيرة بالنسبة للقيم والأخلاق والدين.
لهذا لم يلتفت كثيرًا إلى ما نقد به نيتشه الداروينية حين قال بأن مذهبها في تنازع البقاء مذهب باطل، إذا كانت غايته تفسير جوهر الحياة والوجود، فليست الحياة تنازعًا في البقاء، بل هي تنازع في القوة والسيطرة.
-
«كل الكائنات حتى الآن قد خلقت شيئًا أعلى منها: فهل تريدون أنتم أن تكونوا جزرًا لهذا المدِّ العظيم، وتفضلون الرجوع إلى الحيوانية على العلاء على الإنسانية؟»
-
«ما القرد بالنسبة إلى الإنسان؟ أضحوكة وعار مؤلم. وهكذا يجب أيضًا أن يكون الإنسان بالنسبة إلى الإنسان الأعلى: أضحوكة وعارًا مؤلمًا.»
هذه الكلمات هي الصرخة الأساسية في «مقدمة السوبرمان» أولى صرخات سلامة التي جهر بها عام ١٩١٠م. وإذا كانت نظرية التطور قد احتلَّت مكانًا دينيًّا في نفسه، فإن فريدريك نيتشه احتلَّ في وجدانه مكان الأنبياء. وهو لا يُحسُّ تعارضًا بين نبوة نيتشه ونبوات الفابيين الإنجليز القائلين بالاشتراكية التدريجية، فيتساءل: «إلى متى نرزح تحت النظام الرأسمالي؟» وينادي في نفس الوقت باستخدام علم اليوجينيا في الحدِّ من تناسل ذوي العاهات السيئة، حتى نخلق أجيالًا من السوبرمان في ظل الاشتراكية! ولست أذكر أن مفكِّرًا في العالم جرؤ على الجمع بين الدعوة إلى السوبرمان، والدعوة إلى الاشتراكية (الأولى عن طريق نيتشه بالذات، والثانية عن طريق الجمعية الفابية بالتحديد)، لم يجرؤ على ذلك إلا سلامة موسى … وبرنارد شو! وهذا هو السر المباشر وراء اللقاء الحميم بين الاثنين. وهو السر أيضًا في نوعية اللقاء الآخر بينهما من جانب، ونظرية التطور من جانب آخر. ونحن نطالع في «مقدمة السوبرمان» هذه الموضوعات: أصلنا الحيواني (ص٦)، خرافة التقدم (ص١٠)، من داروين إلى نيتشه (ص١٢)، السوبرمان بين نيتشه وشو (ص١٤)، اليوجينيا (ص٢٤). إننا نطالع هذه الفصول القصيرة، فنضع أيدينا على خطوط هذا التشابك بين نيتشه وداروين وبرنارد شو من جانب الفكر الأوروبي، وسلامة موسى من جانب الفكر العربي، وسوف نكتشف حينئذٍ طبيعة اللقاء بين سلامة وشو، وبينهما معًا ونظرية التطور، كمرآة نظرية للتناقضات القائمة بين سلامة والمجتمع المصري، والتناقضات الكامنة داخل هذا المجتمع، والتناقضات الذاتية في بنيان سلامة نفسه. إن هذه التناقضات تلتقي تمامًا مع الحلول التي صادفت سلامة بوحي من ظروفه الموضوعية، وهي التي أسهمت معه في صنع هذه اللقاءات بينه وبين نوع خاصٍّ من المفكِّرين الأوروبيين.
وقد أسهبنا القول في تحليل العلاقة بين سلامة ونيتشه من جهة، وسلامة والاشتراكية الفابية من جهةٍ أخرى، وحان لنا أن نضيف إلى بقية العناصر الاجتماعية والتاريخية، الخالقة لذلك المزيج الغريب، عنصرًا آخر كان بمثابةِ همزةِ الوصل النظرية بين السوبرمان والسوشيال مان، بين الإنسان الأعلى والإنسان الاشتراكي. هذا العنصر هو «نظرية التطور».
ولكن سلامة موسى — أيضًا — كان يتطوَّر في خطٍّ أكثر تقدُّمًا، فقد ظلَّت المسافة المنهجية قائمة بينهما منذ نقطة البداية إلى آخر الشوط، تعبيرًا حاسمًا عن المسافة الحضارية القائمة بين المرحلة الأوروبية والمرحلة العربية في مصر.
في أولى مراحل تطور سلامة موسى، نتحسَّس معالم الفلسفة المادية الميكانيكية، التي رافقت أولى خطواته في معبد التطوُّر، فقد صادفت هذه الفلسفة تربةً خصبةً في عقلية المفكِّر العربي الذي تجسدت التناقضات بينه وبين المجتمع في الثورة على القيم الإقطاعية والدعوة إلى الصناعة والثقافة العلمية في حدود الغايات الخاصة بالطبقة المتوسطة التجارية الناشئة في مصر وقتئذٍ، وفي قالب الأيديولوجية الخاصة بفئات البرجوازية الصغيرة، التي تتَّسم أساسًا بانعدام التماسك المنهجي في المستوى النظري. والذبذبة والتردُّد والعشوائية في مجال التطبيق.
كانت نظرية التطور مقياسًا أمينًا لفلسفات عصرها. كانت مقياسًا ذاتيًّا وموضوعيًّا في آنٍ واحد. أي إنها كانت «المحك» الذي كشف الطبيعة الميكانيكية لاتجاهات الفكر الأوروبي، كما كانت هي نفسها في كثيرٍ من إضافاتها إلى علم الحياة، تفسيرًا ميكانيكيًّا لبعض الظواهر البيولوجية.
… بل هو ينظر إلى العلاقة التطورية بين الإنسان والحيوان على أن الاثنين ينتميان إلى مرحلة كيفية واحدة، فيؤكد أن الحيوانات تتمتع بالشعور الديني كالبشر، كما أن أصواتها أشكال متعددة من اللغة، هذا التصور انعكس على دراسات الكثيرين من العلماء في نفس الإطار الميكانيكي، فقال بعضهم: إن الإنسان حيوان كامل، ينبغي أن ننظر إليه من خلال تكوينه العضوي والوراثي فحسب (فرويد). وقال آخرون: إن العلاقة مقطوعة تمامًا بينه وبين المملكة الحيوانية (الجنرال سمطس). وقال فريقٌ ثالث: إن عقلًا جمعيًّا منذ البداية الإنسانية يصوغ السلوك البشري ويوجهه (دوركايم).
أي إن الحياة أصبحت عند بعضهم تسلسلًا غير مترابط من الأجناس المختلفة، وعند البعض الآخر سلسلةً مترابطةً من الأجناس المتطابقة.
وهنا يأتي الاختلاف التفصيلي بين ميكانيكية سلامة في تلك المرحلة، وملامح العصر الميكانيكي في حضارة أوروبا خلال منتصف القرن التاسع عشر. إن سلامة موسى يحتضن حقًّا، طيلة الربع الأول من القرن العشرين، الاتجاه الفرويدي في علم النفس (راجع «العقل الباطن») والفلسفة الوايزمانية في علم الوراثة (راجع «هؤلاء علموني») ويخطو مع قوانين مندل إلى «نظرية التطور وأصل الإنسان» فيعدد نتائج هذه النظرية في نقطتين:
هاتان السمتان البارزتان في تلك المرحلة من مراحل تطور منهج سلامة موسى، تفسران لنا القيمة التقدمية العظمى التي اشتمل عليها ذلك المنهج بالرغم مما فيه من قصور. بينما كانت الميكانيكية الأوروبية تمثِّل منهجًا رجعيًّا في تفسير التاريخ الإنساني، والوقوف منه موقفًا ورائيًا جامدًا.
ومن هنا كانت تلك المادية الميكانيكية الرخيصة تعبيرًا رجعيًّا في ظل الثورات الحضارية من تاريخ القارة الأوروبية في أواخر القرن الماضي. بينما كان منهج سلامة موسى تعبيرًا تقدميًّا عن تلك المرحلة العصيبة من تاريخنا، حيث كانت قشور الثقافة العلمية المعادية للقيم الإقطاعية والاستعمار تُعَدُّ انتصارًا ضخمًا في تحطيم هذه القيم، والتمهيد النفسي والذهني للعلاقات الاجتماعية الوافدة مع البرجوازية المصرية الناشئة.
غير أن أوزار الحرب العالمية الأولى، وإرهاصات الحرب الثانية، وسنوات الحرب نفسها، كانت تنعكس على المنطقة العربية بصورةٍ مغايرةٍ لانعكاساتها على بقية أنحاء العالم. فبينما كانت نتائج الحرب الأولى ظهور أول دولةٍ اشتراكيةٍ في العالم، ومن نتائج الحرب الثانية ظهور المعسكر الاشتراكي كنظام عالمي … كانت بلادنا ما تزال أسيرة التهادن الذليل من جانب البرجوازية المصرية باشتراكها مع العرش والاستعمار وكبار الملَّاك في استنزاف مقدَّرات الشعب المصري، وتزييف الأرض الفكرية التي يخطو عليها. فقد مُنِيَ مجتمعنا في ظل السلطات غير المعبرة عن إرادته في التقدم، بتخلُّفٍ حضاري شديد، وتقاليد غير ديمقراطية في أسلوب الحكم، كان من شأنها السماح للمخدرات الفكرية بالذيوع في مناهج المعرفة عندنا، وهروبها من العلم والحقائق العلمية.
وحين يضع سلامة كلماتٍ مثل «أثبت» و«علميًّا» بين أقواس، فإنما يصل بالسخرية إلى أقصى مداها من المناهج اللاعلمية في فهم التجربة والإثبات والعلم، في اغتيالها جوهر العلم وخنقها روح التجربة بين جدران المعمل والمشاهدات السطحية. إن وايزمان، ومندل، ومورجان، قاموا بصنع هذه المقصلة الميكانيكية للعلم والعقلية العلمية، فقالوا إن التجربة المعملية تؤكد:
-
إن هناك مادة وراثية خالدة مستقلَّة عن الخصائص الكيفية التي تؤثر في نمو الجسم الحي، توجِد الجسد الفاني، ولكنها لا تتكوَّن بواسطته.
-
إن الآباء من الناحية الوراثية ليسوا أصول ذريتهم. إن الآباء والأبناء إنما هم إخوة وأخوات.
-
بل إن الآباء والأبناء ليسوا ذواتهم حقًّا، وإنما هم نتاجات ثانويةٌ للبلازما الجرثومية مستقلَّة تمام الاستقلال عن نتاجها الثانوي، أي عن جسد الكائن.
-
إن الذرية ليست نتاج جسد الأب وإنما هي فقط نتاج المادة الجرثومية التي يؤويها هذا الجسد.
-
ماذا جاء أولًا، البيضة أم الدجاجة؟ على هذا السؤال الواضح أعطى وايزمان إجابة مباشرة قاطعة: البيضة!٣٦
ولا شك أن اللاماركية هنا — مع تقدمها — تلتقي مع الوايزمانية في النظرة وحيدة الجانب، النظرة الميكانيكية. وقد وقف داروين بينهما موقفًا وسطًا، حين جعل من الظروف البيئية عاملًا ثانويًّا في توريث الصفات المكتسبة، ولكنه كان موقفًا قصير الرؤية المنهجية اعترف به داروين حين وقف مكتوف اليدين إزاء التغيرات التي تحدث للكائن الحي. وجاء سلامة موسى في مرحلته الجديدة ليقول إن التغير النوعي المفاجئ نتيجة حتمية لتراكمات كمية عديدة. وليس هذا ما انطوت عليه إجابات جونس على القضية المطروحة، فضلًا عن أنها لم تكن في وعي العالِم الفرنسي لامارك. وهي إذَن نقطة تحول منهجية في حياة سلامة الفكرية، وصفها بدقَّة عميقة في تسجيله العلاقة بينه وبين الفيلسوف الألماني الذي أخذ عنه فكرة السوبرمان، فقال:
والحقيقة العلمية إذَن هي التي أسهمت، مع بقية الظروف الموضوعية المحيطة بسلامة موسى، لأن يخطو منهجه الفكري خطوة جديدة في معبد التطور، خطوة جديدة لا تتوقَّف عند اللوحة البيولوجية للإنسان فحسب، بل هي خطوة منهجية انعكست في نظرته إلى كافة مجالات الفكر والحياة.
كانت الحقيقة العلمية البازغة في ذلك الوقت تضيف نظرية التطور إلى عنصرين آخرين هما: «الطاقة» و«الخلية»، للتعرف على تفاصيل قوانين الحركة، قوانين الديالكتيك. وحين عَرَفَتْ هذه الحقيقة طريقها إلى سلامة في كتاب إنجلز «الجدل في الطبيعة»، كان تكوينه الأيديولوجي على استعداد تام لأن يكتسب خطًّا جديدًا في تطوره الفكري. فقد صادفَت الحقيقة العلمية الجديدة في جميع أبعادها النظرية والتطبيقية، الطبيعية والاجتماعية، صادفتْ عقلًا سِمَتُه الأساسية هي البحث عن الحقيقة، كما صادفتْ نفسًا مليئةً بالمرارة، لما آلت إليه الحياة المصرية والفكر العربي في مصر من جمودٍ رهيب، نشأ بصورةٍ رئيسيةٍ من العقم الذي تبدى في «الحقائق» العلمية القديمة.
وكان الفكر الأوروبي — منذ نهاية الحرب الأولى — قد بدأ يتخذ لنفسه مسارًا آخر في أول بقعة من الأرض تحرر فيها البشر من ربقة العبودية، فقد استلهم المجتمع الاشتراكي البكر مرحلته الحضارية الجديدة من الحقائق العلمية الجديدة … بينما نكص العالم الرأسمالي يهرول إلى الوراء، إلى «حقائق» قديمة، تحاول عبثًا أن تخفي غروب الشمس الإمبريالية. وكانت الحقائق العلمية الجديدة — في ميدان علم الحياة — تتويجًا رائعًا للتراث الفكري الإنساني، من أرسطو إلى بيكون، إلى بوفون إلى لامارك إلى وود جونس، وكانت هذه الحقائق فتحًا كبيرًا في حياة سلامة موسى، بل في تاريخ الفكر العربي.
ولعل كتابه الخطير «الإنسان قمة التطور» — الذي صدر بعد وفاته بثلاث سنوات، أي عام ١٩٦١م — هو الوثيقة الحية لهذه المرحلة من مراحل تطوره.
فإذا كان العلماء السوفييت من تيمريازيف إلى ميتشورين إلى ليزنكو، قد طبقوا الحقائق العلمية الجديدة على ميادين علم البيولوجيا بنجاح، فإن غاية سلامة موسى كانت أبعد مدًى بكثير. كان يعنيه أن يتخلَّص من التفكُّك الأيديولوجي وانعدام التماسك المنهجي في حياته الفكرية، إذ هو لم يعد يرى تناقضًا في مرحلته الجديدة بين الامتدادات العلمية لنظرية التطور، والقول بالاشتراكية. بل إن هذه وتلك — الاشتراكية والتطور — قد بدأت تتخذ لها مكانًا جديدًا في عقله ووجدانه. وهو إذَن بصدد صياغة شاملة لمنهجٍ أو نظريةٍ أو فلسفة يرى بها الطبيعة والمجتمع.
ولا ريب أنه أفاد الكثير من العلماء السوفييت وهو ماضٍ في هذا الطريق الشاقِّ. إن تيمريازيف هو العالِم الذي نزع من الداروينية خطأها الفادح في تطبيق الانتخاب الطبيعي عن تنازع البقاء، على المستوى الإنساني، «إن نشاط الإنسان الذهني والحضاري موجَّهٌ بالذات ضدَّ الصراع من أجل البقاء.» وأوضح أن التفاعل العضوي بين النبات وظروفه الخارجية من تربة ورطوبة وشمس وهواء، هذا التفاعل هو أساس كل وظائفه الحيوية من غذاءٍ وتنفُّس ونمو وتكاثر وتطور. وكان ميتشورين هو العملاق الذي جعل من الداروينية علمًا خلَّاقًا يسهم في تطوير المجتمع. إذ إن تجاربه في تدريب النباتات والتكاثر الخُضري هي التي أدت به إلى القول بأن: «كل عضو من الأعضاء، وكل صفة من الصفات، وكل طرف من الأطراف، وكافة الأجزاء الداخلية والخارجية للكائن، تتحدَّد وفق البيئة المحيطة» … كيف ذلك؟ ويجيب ميتشورين:
-
إن الخلايا الجنسية تتكوَّن في الكائن وتتفاعل مع كل خلايا جسمه خلال حياته. وإن كل تغيير يتمُّ في الجسد وكل صفة يكتسبها الكائن خلال حياته تؤثِّر بدرجةٍ أو بأخرى على الخلايا الجرثومية، وإن الصفات المكتسبة يمكن توريثها من جيلٍ إلى جيل.
-
إن هناك وحدة بين الكائن والظروف التي يحياها. والوراثة لذلك هي خاصية الجسم الحي في تطلُّب ظروف معينة لحياته ونموه، وفي الاستجابة بطريقةٍ معينةٍ للظروف المتباينة.
-
لا يمكننا أن ننتظر الحسنات من الطبيعة، بل علينا أن ننتزعها انتزاعًا … ومن الممكن عن طريق تدخُّل الإنسان أن يجبر أي شكل من الحيوان أو النبات على أن يتغير بسرعةٍ أكبر في الاتجاه الذي يرغبه.٤١
والكثير من سمات المرحلة الجديدة في منهج سلامة موسى، سوف نراه امتدادًا ناضجًا لجذور المرحلة القديمة. ولكن الجديد فعلًا هو «التكامل المنهجي» الذي كانت تفتقده تلك الجذور. أي إننا ربما عثرنا في المنهج الجديد على بعض العناصر التي عرفها منهجه القديم. ولكن التكامل المنهجي في المرحلة الجديدة، هو الذي يجعل بينها وبين المرحلة السابقة اختلافًا كيفيًّا.
ونحن نستطيع أن نقسم «الإنسان قمة التطور» إلى ثلاثة أقسام، هي ثلاثة أهداف رئيسية:
-
القسم، أو الهدف، الأول: هو الخطوط النظرية في المنهج الجديد.
-
القسم، أو الهدف، الثاني: هو التطبيق الاجتماعي والتاريخي لهذا المنهج.
-
القسم، أو الهدف، الثالث: هو تطبيقه على معنى التطور.
-
(١)
وفي إيضاح الهدف الأول، نطالع الصفحات (٥٧، ٥٨، ١٥٧، ١٥١، ١٥٢، ١٥٤، ١٦٦، ١٦٧، ١٦٨). فنتحسس الخطوط النظرية في المنهج الجديد كما يلي:
-
الكون مادي «فالمادة والقوة شيء واحد. أو القوة إحدى ظواهر المادة … وكذلك الشأن في العقل، فإنه ظاهرة من ظواهر الحياة، والحياة نفسها إحدى ظواهر المادة.» «إن القوة المغنطيسية والقوة الكهربية والجاذبية والضوء والحرارة والكتلة كلها صور مختلفة للمادة.»
-
الكون وحدة مترابطة «فالكون وحدة، هو بمثابة النجم الواحد قد ارفضَّت أجزاؤه فصارت ملايين النجوم والكواكب.» «والمتأمل لمظاهر الكون، بعد أن يتخلَّص من الغيبيات التي انحدرت إلينا من القرون السحيقة، لا يتمالك الإحساس بوحدته.»
-
معنى التغير الكيفي «أن الذي يفصل بين الإنسان والحيوان هو المجتمع البشري الذي احتاج إلى اللغة، ثم احتاجت اللغة «الكلمات، الأفكار» إلى المخِّ الكبير الذي يتسع لاختزانها واعتمالها» و«بإيجاد «المجتمع البشري» خرج الإنسان من حدود التطور السابق، الذي كان يؤثر في الفرد ويغيره، إلى حدود التطور الاجتماعي الذي يغير المجتمعات.»
-
موضوعية العالم الخارجي، فالحواس وحدها «تجعلني ذاتيًّا في نظرتي للبيئة التي أعيش فيها. وعندئذٍ لا يطابق حكمي أو رأيي ماهية الأشياء» ولكن الاستعانة بالحواس — لا سيما النظر — ومنجزات التكنيك والتقدم العلمي «تجعل حكمي أو رأيي موضوعيًّا يكاد يطابق حقيقة الأشياء.» «فالعالم الخارجي حين تصل تفاصيله بالحواس إلى دماغي يحدث إدراكًا مركَّبًا وليس انطباعًا مبسَّطًا.»
-
الحركة التفاعلية بين المادة والفكر «الحياة كامنة في المادة وتنشأ منها. وكذلك العقل كامن في الحياة وينشأ منها. وهذا يتيح لنا القول بأن العقل كامن في المادة. ونحن لا نعرف حياة مطلقة بلا مادة كما لا نعرف عقلًا مطلقًا بلا حياة.» والهدف إذَن من الجهاز العصبي «هو الملاءمة بين الجسم الحي وبين الوسط الذي يعيش فيه.» «إن الصراع الكامن في المادة، وبينها وبين مختلف صورها، هو الذي يطورها من شكلٍ إلى آخر.»
-
-
(٢)
ينبغي أن نستضيء بالرؤية الجديدة لسلامة موسى في نظرته إلى التاريخ الإنساني والمجتمع البشري، فنعتمد على الخطوط النظرية السابقة في اكتشاف دلالة التاريخ ومعنى المجتمع عند هذا المفكر في المرحلة الأخيرة من تطوره المنهجي. إنه يقرر سلفًا أن التطور «أكسبنا فهمًا جديدًا للطبيعة والكون والإنسان، وزوَّدنا بمنهج للتفكير لم نكن نعرفه من قبل … هو أن الاستقرار لا يُعرَف في الطبيعة، وأن الإنسان والحيوان والنبات في تغير مستمر.» هذا المنهج «انفسح به التاريخ البشري آفاقًا إلى ملايين السنين، بل مئات الملايين قبل البشر وبعد البشر.» (ص٢٧) … ويحق لنا قبل الاستطراد أن نؤكد شيئًا هامًّا، هو أن التكامل المنهجي الذي اتسمت به المرحلة الأخيرة من تطور سلامة موسى لا يجوز اعتباره أحد القوالب الجاهزة المغلقة على ذاتها، والتي هي من الغرور والمثالية بحيث تعتقد أنها الألف والياء، البداية والنهاية. إن اكتشافه للديالكتيك، هو اكتشاف المنهج المفتوح، المنطلق إلى ما لا نهاية، لأن علم قوانين الحركة (الذي تكوَّن على أساسه المنهج المادي الجدلي) يتسم بما لم تتَّصف به إحدى الفلسفات من قبل، وهو قابليته الفذة لاستقبال القوانين العلمية — في كافة مجالات الحياة — أولًا بأول. وبالتالي قابليته لتطوير الصورة التي يقدمها عن العالم، بصفةٍ لا نهائية.
ومن هنا لا يكون هذا المنهج «نظامًا» ميتافيزيقيًّا، لأنه يؤمن بنسبية المعرفة إلى الحقيقة المطلقة «وما دامت معارفنا ناقصة، فإن منطقنا يبقى ناقصًا» (ص١١٧). ولكن هذه النسبية لا تمنع أن تكون المعرفة الموضوعية في عصرها تقترب من الحقيقة المطلقة «أن غاية هذا التطور هو الوجدان، أي أن نتعقل هذه الدنيا، أو هذا الكون، تعقلًا موضوعيًّا يتجاوز انفعالاتنا الذاتية، أي أن نفهم الدنيا على حقيقتها الخارجية وليس وفق إحساسنا الداخلي بها» (ص١١٨). والنبوءة العلمية إذَن ممكنة في حدود الاحتمالات المرجحة لنتائج القوانين العلمية الحاضرة. ولذلك يعتقد سلامة موسى «أن تطورنا القادم سوف ينحو نحو الزيادة في الوجدان حتى نصل إلى المطابقة، فلا نخطئ المعرفة بحركات الذرة أو أجزائها بل نتجاوز ذلك أيضًا إلى أن نُحِس إحساسها ويصبح وجداننا كما لو كان «حاسة كونية» حتى إذا كنت على الأرض «وجدت» ما يجري في نجوم المجرة وجدان المعرفة والإحساس الموضوعي» (ص١١٨). ومعنى ذلك أن مسار التطور يؤدي بالإنسان إلى ذلك اللقاء الرائع بين الذاتية والموضوعية. وعلى طول هذا المسار التطوري، يصور سلامة انبثاق الحضارة الإنسانية من المرحلة الزراعية، بعد اجتياز البشرية مرحلة المجتمع المشاعي الأول (ص١٥) حيث كان العصر الأمومي، ثم ينشأ النظام الأبوي مع بداية المِلكية الفردية لوسائل الإنتاج، وانقسام المجتمع لأول مرة إلى سادة وعبيد (١٤٥، ١٤٦، ١٤٧) وتهتدي القبائل إلى الدين والتقاليد الاجتماعية التي ما تزال رواسبها تمتد إلى عصرنا في المجتمعات الطبقية (١٤٨، ١٤٩). وحينئذٍ يقرر سلامة «أن التقاليد تعوق التطور، والاستعمار يأكل ويشبع من الشعوب التي تجمدت بالتقاليد وسيطرت عليها الأديان التي تُعلِّمها أن السعادة في عالمٍ آخر وليست في هذا العالم» (ص٢٤)، ويأسف لأن الثقافة العربية ظلت أمدًا طويلًا في أسر هذه الأغلال، فلم تكن «الثقافة التي تحتاج إليها جماهير العرب التي تنشد القوة في المستقبل» (ص٢٤)، «حتى إننا لا نجد إلى الآن كتابًا عربيًّا في تطور الأديان أو تطور المجتمع العربي أو تطور الأخلاق» (ص٢٣). وهو إذَن يدعو أبناء الشعوب العربية أن يجعلوا من التطور عقيدة، بل عقيدة دينية إذا كفر بها إنسان فإنه لن يعاقب على كفره بجهنم بعد الموت، ولكنه يعاقب «بالموت أو الفقر والذل وهو حي في هذا العالم» (ص٢٥). إنه يصل بهذا المنهج إلى نقدٍ بصير الرؤية للوايزمانية «أما الآن فإننا مضطرون إلى التسليم بأن ما نكسبه من بيئاتنا يؤثر في أعقابنا، فإذا كنا مثلًا نعيش في بيئة نتزاحم فيها ونتحاسد ويكافح بعضنا بعضًا من أجل العيش فإن ما نُحِس به من عواطف كريهة في هذا التزاحم والتحاسد سوف ينتقل غرائز ثابتة في سلائلنا القادمة» (ص٥٢). ويتضح عنده بجلاءٍ أن الوايزمانية — في المستوى الاجتماعي — فلسفة استعمارية، تبرر للاستعماريين الأوروبيين استغلالهم لثروات الشعوب المتخلفة «لأن هذه النظرية تفرض الكفاءة أو النقص البشري بعوامل وراثية تكاد تكون غيبية لا تُفهَم» أي إنها تجعل من تقدم الغرب وتخلف الشرق قضاءً وقدرًا لا سبيل إلى تغييره «فليس هناك ضرورة لترقية الأحوال الاجتماعية عند الهنود لأن انحطاطهم ليس بيئيًّا، وإنما هو وراثي أساسي لا يُعالَج.» والمكسب الأول لهذا المنهج الجديد في تفنيد الوايزمانية أنه «نقلنا من جبرية الوراثة إلى حرية التوجيه والتدريب للنوع البشري بتعيين عادات التعليم وأساليب العيش ونظم المجتمع حتى تنتفع بها السلائل القادمة من البشر» (الفقرات الأخيرة جميعها من ص٥٣). والوايزمانية — في المستوى الفلسفي — بل الدارونية أيضًا، لم تكن تجيب «لماذا يحدث التطور؟» فكانت تضع سدًّا منيعًا أمام المعرفة، بل أمام التطور، وربما كان داروين معذورًا في هذه الإجابة، إذ هو يتحفظ تحفظًا علميًّا دقيقًا حين يعترف بجهله إزاء قوانين التغير، أما وايزمان، مندل، مورجان، فتؤدي بنا فلسفتهم المثالية إلى «استحالة المعرفة» و«السر الإلهي». أما الآن — يقول سلامة — فقد أصبحنا نعي «لماذا تتطور الأحياء» (ص٥٤). كما أضحينا نعتقد أن هذه الفلسفات هي الجذر النظري لكل من الفاشية والنازية (ص١٥٠).
-
(٣)
إن هذه المرحلة المنهجية في حياة سلامة موسى تنهل الكثير من المادية الجدلية والمادية التاريخية. ولكنها تنبع أساسًا من ذلك الينبوع الذي التقى به سلامة في فجر تطوره الفكري، من نظرية التطور، من داروين على وجه التحديد. وهو حين ينسلخ عن ذلك الطور البدائي لفهم التطور، ويكتسب تكوينًا منهجيًّا جديدًا لفهم هذه العملية، فإنه يعود مرةً أخرى إلى ذلك الينبوع الأساسي، كاشفًا أوجه العجز فيه، مفجرًا الطاقات الكامنة داخله، حتى تزداد دلالة التطور قدرة على الإخصاب والنمو والإثمار.
إنه يعود إلى داروين، فيرى أنه تورط في خطأ منهجي حين قال بأن لدى الحيوانات قسطًا من الشعور الديني والنطق اللغوي اللذين يتمتع بهما الإنسان، فقد تجاهلت الداروينية ذلك الفارق الكيفي بين الحيوان والإنسان، الذي يعطي الإنسانية خصائص ذاتية تتسم بها وحدها (ص١٥، ١٦٦، ١٦٨). والنقطة الثانية أن داروين يعلل التطور بتنازع البقاء والميزات الوراثية، ولا يلتفت إلا في القليل إلى تأثير البيئة المحيطة بالكائن الحي، وسلامة يعتقد أن التطور يحدث — من زاوية رئيسية — بتأثير البيئة، «وأعني بالبيئة هذا المناخ والغذاء وأسلوب العيش والأمراض والأعداء؛ لأن الحي يستجيب لكل هذه الأشياء بأن يتخذ عادات معينة في المقاومة والملاءمة والرجوع والاستجابات، ثم تتكرر هذه العادات في أبنائه وأحفاده من الأجيال القادمة حتى تثبت وتصير وراثية لها أعضاء معينة تعين الوظائف» (ص٢١). وهو هنا لا يكتفي بتعليل لامارك للتطور؛ لأن البيئة عنده لم تصبح وعاءً زجاجيًّا يشكل ما بداخله تشكيلًا آليًّا جامدًا، وإنما أصبحت تعني ظرفًا موضوعيًّا دائب التفاعل مع التكوين الذاتي للكائن الحي، وينبثق التغير عن ذلك القانون، قانون التفاعل الصراعي بين الظروف الذاتية والموضوعية للكائن الحي. وهذا لا ينفي — عند سلامة — أن البيئة هي العامل الحاسم في عملية التطور، ولكنه لا يجعلها عاملًا وحيدًا، وإلا أصبحت قدرًا جديدًا. على أن هذا لا ينفي أيضًا أن داروين سيظل في وجدان سلامة ذلك المفكر الذي دعانا لأن نرى الفرق بين نظرة كلٍّ من التوراة ونظرية التطور إلى الإنسان «فالأولى تقول إنه كان عاليًا فسقط، والأخرى تؤكد أنه كان ساقطًا فارتفع» (ص٢٨).
وسلامة موسى لا يفسر الداروينية تفسيرًا طبقيًّا بمعنى أنه ينفي تبعيتها لأحد خطوط الخريطة الطبقية للمجتمع البريطاني كما يذهب بعض الباحثين، ولكنه لا يعزلها عن طبيعة العصر الذي نشأ فيه داروين والحاجة الاجتماعية الملحة التي اعتصرت كيانه فقد «عاش في تنازع البقاء هذا الذي لا يفتر في لَنكشَير وغيره من الأقاليم الصناعية في إنجلترا» (ص٢٩). ولا يعزلها عن التراث الفكري والعلمي عن التطور الذي يبدأ من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الأوروبية في القرن التاسع عشر. بل إن اكتشاف وولاس لنفس القوانين الداروينية يؤكد أن النظرية كانت «في الهواء تحتاج إلى من يرتب أصولها وفروعها ويعلل مظاهرها» (ص٣١). وهو لا يعزلها أخيرًا عن التكوين الذاتي لداروين «لأننا مع التسليم بأن الوسط الاجتماعي أو البيئة الثقافية في أوسع معانيها، حين تشمل المعيشة والاتجاه والعادات والعواطف هي الحافز للتفكير، فإننا مع ذلك يجب ألا نغفل الشخصية» (ص٣٢).
ولسنا بحاجةٍ في المرحلة الجديدة من تطور سلامة، أن نسجل تحيته إلى وود جونس، وتشييعه القسيس مالتس باللعنات. إن وود جونس هو العالِم الذي تساءل: إذا نحن سلمنا بأن الجسم يتأثر بالخلايا المنوية، فلم لا تتأثر الخلايا المنوية بالجسم؟
وقد أجاب: أن العناصر الوراثية ليست محصورة في خلايا وراثية مستقلة بل إنها تنتشر في جسم الحي كله. يعلق سلامة (ص٤٨):
«ولذلك نستنتج أن نظرية، أو بالأحرى عقيدة، وايزمان في انعزال الخلايا المنوية الوراثية أو استقلالها الفسيولوجي ليست صحيحة، وأن المبدأ عام في النبات والحيوان، وهو أن الخلايا المختصة بالوراثة تنشأ من خلايا الجسم نفسها ثم — وهذا هو ما تكبر قيمته الاجتماعية في الإنسان — إنه لقاء التأثير الذي تحدثه الخلايا المنوية في الإنسان. كذلك هناك تأثير آخر تحدثه خلايا الجسم في هذه الخلايا المنوية. وبكلمة أخرى، إن حياتنا وما نكابد فيها من رجوع واستجابات للوسط الذي نعيش فيه تعود فتؤثر في الخلايا الوراثية وتغير، للخير أو للشر، في أعقابنا، أي إن الصفات المكتسبة تورث.»
وقد أوضح سلامة بما لا يدع مجالًا للشك — من خلال بعض النماذج الحيوانية — أن الكائنات الحية تعبير صارخ عن ظروفها، في تكوينها المورفولوجي والفسيولوجي على السواء (ص٩٣).
غير أن التحية الرائعة حقًّا يقدمها سلامة إلى ميتشورين الذي أجاب داروين — وأجابنا — وأفحم وايزمان، حين قال لنا: لماذا تتطور الأحياء (ص٥٤). أما اللعنة التي يصبها على رأس مالتس فهي تحليل عميق لرجعية هذا الراهب الكاثوليكي، الذي أخرج كتابه عن السكان «بحافز من عواطفه المحافظة» التي ذُعِرَت من شعار الثورة الفرنسية: الإخاء والمساواة والحرية، فراحت تصوغ أحلامنا في كابوس لا يرحم من الوهم القائل بأن الناس الذين يتوالدون على نظام تضاعفي لا تكفيهم المحصولات الناتجة عن نظام حسابي (ص٢٩، ٣٠).
إن سلامة موسى يودع أصدقاءه من علماء التطور العضوي قائلًا: إن الجسم الإنساني في تفاعل حي مستمر، يتولد عنه دائمًا المزيد من الوجدان، من التعقل والفهم. أي إن أنثروبولوجيا التكوين العضوي للإنسان، تدل على أن «هذا المجنون هو البرهان على أن وجداننا لا يزال جديدًا في هذا العالم، أي إنه لم يستقر في كياننا النفسي، ولكنه برهان أيضًا على أننا قد أسرعنا الخطى نحو الغاية» (ص١٢٢).
على أن هذا الصوت المؤمن بالتقدم. المخلص للحقيقة العلمية في تطويرها للمعرفة الإنسانية على الدوام. لم يكن هو الصوت الوحيد في الفكر العربي الحديث. فمنذ أن استضافت ثقافتنا فلسفة التطور في أوائل هذا القرن، تعددت الأصوات القائلة بالتطور، معبرة — بصورة أو بأخرى — عن تطورنا الاجتماعي بصفةٍ عامة، والتيارات العديدة التي يعبر عنها هذا التطور بصفة خاصة. وإذا كان سلامة موسى هو الامتداد الأكثر تقدمًا لفلسفة شِبلي شُميِّل في التطور، فإن تيار الأفغاني لم يستطع الصمود في وجه الإنجازات العلمية المذهلة، والتحولات الاجتماعية العميقة في مجتمعنا؛ من هيكل العلاقات الإقطاعية، إلى القيم النامية مع العلاقات البرجوازية الجديدة.
ولكن هذا التيار الأسود في ثقافتنا، كان تأكيدًا إيجابيًّا لخريطة التطور الاجتماعي في تاريخنا، إذ هي تعبر أصدق تعبير عن الأجنحة الرجعية في مجتمعنا. ولكننا نبتسم — مع هذا — في تفاؤل، لأن هذه الأجنحة لم تعد بقادرة على التحليق، فالمسار الحضاري لمرحلتنا التاريخية، يدعم الاتجاه التقدمي في ثقافتنا. الذي عبرت عنه كتابات شِبلي شُميِّل ويعقوب صروف وسلامة موسى وعصام حفني ناصف، وغيرهم من رواد الجبهة التقدمية في الفكر العربي الحديث.
ولو أننا تتبعنا أحلام سلامة موسى لأيقنَّا على الفور أن هذا الحلم الأخير تجسيد رائع للمرحلة الأخيرة من مراحل تطور منهجه الفكري. إنه الحلم الذي يعتمد على الحقيقة العلمية التي تصوغ إنسانية الإنسان في أكثر القوالب إشراقًا وتفاؤلًا.
إن الخطوة الأخيرة لسلامة موسى في معبد التطور هي قمة التعبير التقدمي في تاريخنا الفكري الحديث.