مدينتي ليست فاضلة
هذه الكلمات هي المدخل الوحيد الذي يتفق مع تفسيرنا للقاء الأول بين سلامة موسى والفكر الاشتراكي في أوروبا. فقد كان التخلف الحضاري الشديد الوطأة في المنطقة العربية، عند بداية القرن العشرين، يولد الإحساس بالضعة في وجدان الكثيرين ممن بهرتهم أضواء الحياة الأوروبية. أما سلامة فقد تجاوزت مداركه رد الفعل المرَضي، وراح يبحث بين ركام التجارب الإنسانية الأخرى عما يتواءم مع تكوينه الذاتي الذي يلخص مأساة الطبقة المتوسطة منذ فشل ثورة عرابي، حيث أمست البلاد مشلولةَ الإرادة الوطنية، ضائعةً في خضم التحالف الإقطاعي الاستعماري. على أن سلامة موسى لم يكن ينبض مع الأماني التفصيلية لهذه الطبقة، لأنه كان ابنًا لإحدى الشرائح المتواضعة منها، هي ما ندعوه البرجوازية الصغيرة التي كانت تشتمل حينذاك على موظفي الدولة وصغار المزارعين والتجار. ونحن نعرف من «تربية سلامة موسى» أن والده كان يعمل «رئيسًا لتحريرات مديرية الشرقية ولم يزد مرتبه على سبعة جنيهات ونصف»، ونعرف أيضًا أنه ينتمي إلى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، أي إن تكوينه الاقتصادي والاجتماعي — من الناحية العائلية — هو أكثر التكوينات قلقًا في المجتمع الطبقي، كما أن تكوينه الفكري — من الناحية الدينية — هو أكثر التكوينات تعصبًا للقيم السائدة في بلد مستعمر وشبه إقطاعي. وهكذا يتضح أن معاناة سلامة النفسية تبلورت فيما يقاسيه من اضطهاد طبقي مرير، واضطهاد عقائدي أكثر مرارة. فانتماؤه إلى الفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة كان يقهر في وجدانه أية تطلعات طبقية تعرفها البرجوازية، بل إن طبيعة هذا القهر الاقتصادي والاجتماعي تختلف كيفيًّا عن طبيعة القهر الذي كانت تعانيه البرجوازية المصرية الناشئة. هذا الاختلاف الكيفي يعتصر أفئدة البرجوازيين الصغار، ويجعلهم أكثر معاناة للآلام الطبقية من غيرهم. «ويُستثنَى من غيرهم هذه، أبناءُ الطبقة العاملة». وتكتسب معاناة البرجوازية الصغيرة طابعًا خاصًّا، لا لأنها أقل فئات البرجوازية حظًّا في المجتمع الطبقي فحسب، بل لأنها تكافح ما تراه شبحًا رهيبًا في الانزلاق إلى «حضيض» الطبقة العاملة أيضًا. ولذلك تبقى معلقة في الهواء، فريسة لمطامح الطريق المسدود إلى الفئات العليا من البرجوازية، ونهبًا للفزع من السقوط في بدروم المجتمع.
وبين هذا الشد والجذب، يتوسل البرجوازي الصغير بالقيم المحافظة إلى تأكيد ذاته وتحقيق وجوده في تقديم المثل الأعلى للإنسان الكامل.
ولكن سلامة موسى، كما قلت، كان يعاني اضطهادًا عقائديًّا كأحد أفراد الأقلية المسيحية من الشعب المصري. ولعل هذا الالتقاء الغريب بين التكوين الاقتصادي القلق، والتكوين المسيحي المتعصب، كان بوسعه أن ينبت عقلية مستغرقة في الرجعية، إلا أن التكوين المسيحي لم يكن معبرًا عن التعصب الأرثوذكسي فقط، وإنما كان تعبيرًا عن الاضطهاد العقائدي من جانب الأكثرية ضد الأقلية أيضًا. ولذلك كان اللقاء بين المعاناة الطبقية والمعاناة العقائدية هو الجذر التاريخي لما تأجج بين جوانح سلامة من إحساس عميق بالثورة في شقيها: الاجتماعي والفكري.
ولا شك أن آلافًا من أبناء شعب مصر قد عانَوا في أوائل هذا القرن، مثلما عانى سلامة تمامًا. غير أن التفاوت الذاتي بين إمكانيات الأفراد في التقاط الظواهر الإنسانية، وتحويلها من مستوى «الإحساس» إلى مستوى «الوعي» إلى مستوى «التعبير» … هذا التفاوت هو الذي نصَّب من سلامة موسى لسانًا تاريخيًّا معبرًا عما كان يحسه قطاع عريض من شعبنا. ومهما بذلنا الجهد في إحصاء التناقضات الذاتية والموضوعية لحركة الفرد داخل المجتمع، فإننا لا نستطيع أن نصل إلى تلك اللحظة الفذة التي تصل فيها حركة التناقضات بالفرد العادي إلى إنسان غير عادي، إلى «مفكر» أو «أديب» أو «فنان» … لا لأن هذه اللحظة «حلقة مفقودة»، وإنما لأن الحركة الجدلية التي تصل بنا إليها تمضي بنا في طريق لا نهائي من التناقضات وردود الأفعال.
ولسنا مطالبين إذَن إلا بالخطوط العامة في الكيان الخاص للمفكر. ومعنى ذلك أن البيئة الطبقية والمناخ الفكري اللذين عاش فيهما سلامة في سني عمره الأولى، بالإضافة إلى التخلف الحضاري البالغ العنف الذي كان يظلل المنطقة العربية المغلولة بالتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم … هذه الظروف الكبرى عانقت انخفاض المستوى الفكري لتلك المرحلة التاريخية، والخصائص الذاتية لسلامة موسى في الانطواء عن المجتمعات الأسرية، والانكباب على القراءة والانغماس في شهوات الذهن، وأرسلت به — كل هذه الأشياء — إلى أوروبا «كي أبحث عن الحياة وأربي نفسي وأُولَد من جديد» كما يقول في تربيته (ص٦٣).
ولسنا نُدهَش إذا كانت الفرصة قد أتيحت لهذا الشاب عام ١٩٠٨م للرحيل إلى أوروبا. إذ إن الفرصة لم تكن سوى نصيبه من الأفدنة القليلة التي ورثها عن أبيه، والتي جعل منها ثمنًا لمغامرته الكبرى مع الحياة في أرحب آفاقها، أعني حياة الفكر والثقافة التي وصفها بعدئذٍ بقوله: «لقد أحسست أني أعيش لأدرس وأني أدرس لأعيش.»
ما هي الخريطة الاجتماعية التي رافقت سلامة من مصر إلى أوروبا؟
كانت بلادنا منذ فتحها الإسلام قد دخلت مرحلة حضارية جديدة من مراحل تطورها. وقد أسدى إليها الفتح العربي في تلك الفترة سمات حضارية جديدة دفعت بها خطوات عديدة إلى الأمام. فتخلصت إلى حدٍّ ما من ربقة الخلافات المذهبية السطحية التي سبق للرومان اختلاقها، لمجرد استغلال الحوادث والسيادة الاقتصادية والسياسية في نهاية المطاف. كما أن اعتناق غالبية المصريين للإسلام نزع عن أبصارهم غشاوة الغيبيات المسيحية، بل أتاح لهم — إلى حدٍّ ما أيضًا — بعض الصور الديمقراطية للحكم. على أن الخلافة العثمانية امتهنت ما كان للإسلام من قوة ثورية دافعة، وأحالت البلاد إلى خزينة ذهبية للأتراك، وأسدلت عليها أقتم الستائر السوداء من النظم الاجتماعية المتخلفة. وبينما كانت الدعوة الإسلامية في ولادتها عونًا مخلصًا للمجتمع التجاري ضد الإقطاع، بل وأشكال المجتمع العبودي في شبه الجزيرة العربية، استحالت هذه الدعوة على أيدي السلطنة العثمانية إلى أقنعة براقة يرتديها وجوه الأعيان الإقطاعيين في مصر، لتحالفهم مع القوى الأجنبية تحت ستار الدين، لا دفاعًا حقيقيًّا عن الدين.
غير أننا في مصر نرى بناء حضاريًّا تتهالك أعمدته على أسس واهية من القيم والتقاليد والعادات، يغذوها أرباب المصلحة الإقطاعية والسلطنة العثمانية بسموم الخرافات والأساطير … ويدعم كيانها السيد الجديد القادم من وراء البحار.
ولا تحدد هذه الصورة التيارات السياسية والاجتماعية في أوروبا فحسب، بل هي تحدد طبيعة «اليسار» بالذات في تلك المرحلة، من خلال ظروفه التاريخية والعالمية المعاصرة.
ومنذ المجتمعات العبودية القديمة، والإنسان يحلم بالعدالة الاجتماعية والمدن الفاضلة. كتب أفلاطون جمهوريته في العصر اليوناني، وبنى توماس مُور مدينته في عصر النهضة، وأسس فالِنتَين أندريا «الجنة المسيحية» في القرن السادس عشر، وشيد كامبانيللا «مدينة الشمس» في القرن السابع عشر … وهكذا إلى أن جاء القرن التاسع عشر، فاصطبغت أحلامه بسمات عصر الآلة، فقد ظلت أحلامه البشرية، في القرون السابقة على ذلك العصر، أسيرة الإحساس العميق بمأساة الإنسانية في ظل النظام الطبقي، دون أية محاولة لتجاوز هذه الدرجة البدائية من الوعي — التي ندعوها الإحساس — إلى التعرف على طبيعة هذا النظام في مقدماته ونتائجه، فضلًا عن القوانين الضابطة لحركته. وما كان يستطيع أولئك الحالمون العظماء، في مراحل التخلف الحضاري التي عاشتها الإنسانية قبل اكتشافات القرنين الثامن والتاسع عشر، أن تصل حساسيتهم إلى النفاذ في أعماق الحركة الاجتماعية.
ولقد استجابت خريطة العالم الأوروبي لهذه الاشتراكيات الطوبوية استجابات مختلفة:
-
(١)
فالطبقة العاملة رأت في تحليل سان سيمون للثورة الفرنسية، بوصفها نضالًا بين النبلاء والبرجوازية والطبقات غير المالكة، اكتشافًا عبقريًّا، أضافت إليه ما أكده من أن السياسة ليست سوى علم الإنتاج، وأن الأوضاع الاقتصادية هي قاعدة المؤسسات السياسية. أما فورييه فقد أحست الطبقة العاملة عظمته في تقسيمه لتاريخ المجتمع إلى أربع مراحل: الوحشية، البربرية، البطريركية، المدنية. وهو يبين أن المدنية — البرجوازية — تتحرك ضمن حلقة مفرغة ضمن تناقضات تصوغ هذه الحلقة من جديد بلا انقطاع وبغير حل. بل يصل إلى «أن الفقر ينشأ عن الوفرة نفسها» فيما أسماه بالمدنية البرجوازية. وفي تجربة أوين، يستقبل العمال كلماته هذه: «لولا هذه الثروة الجديدة التي بلغناها بواسطة الآلة، لما كان بالإمكان تمويل الحروب ضد نابليون، في سبيل الحفاظ على أسس المجتمع الأرستقراطية. والحق أن هذه القوة الجديدة كانت من صنع الطبقة العاملة.»
استجابت الطبقة العاملة لأفكار هؤلاء الرواد، بأن أضافت — مع التطور التاريخي للبروليتاريا — أن التناقضات التي ارتآها المفكرون الثلاثة في المجتمع البرجوازي تدور جميعها حول تناقض أساسي بين أسلوب الإنتاج «الاجتماعي» والملكية الفردية لوسائل الإنتاج. بحيث لن يُحَلَّ هذا التناقض، إلا بتحويل أدوات الإنتاج إلى الملكية العامة للمجتمع. أي إن الاشتراكية العلمية اكتشفت قانونها الرئيسي من دراسة حركة التناقضات الاجتماعية التي أشارت إليها الاشتراكيات الخيالية. فأصبحت دراسات سان سيمون وشارل فورييه وتجارِب روبرت أوين ونتائج أبحاثه، من المصادر الأساسية للاشتراكية العلمية.
-
(٢)
أما البرجوازية، فقد استجابت الشرائح المطحونة منها، بالاكتفاء بهذه الاشتراكيات، أو تطويرها قليلًا في حدود الخطوط العامة التي ترضي نهم البرجوازية الصغيرة في العثور على خيط يشدها من السقوط. ومن ثَم ظهرت الراديكالية وصحيفتها «حامي الفقير» في إنجلترا، والجمعية الفابية الإنجليزية التي أعلنت صراحةً أن هدفها «إعادة تنظيم المجتمع الرأسمالي» بواسطة الضرائب أو التأميم «على أنه لا يمكن أن تتم تغييرات حاسمة وهامة في المجتمع، إلا إذا كانت ديمقراطية، أي توافق عليها أغلبية الشعب، بعد أن تتهيأ لتقبلها، وأن يحدث التغيير تدريجيًّا، حتى لا يُحدِث تصدعًا في المجتمع، أي يكون التقدم دستوريًّا سلميًّا.»
ويصف أنورين بيفان المجتمع البريطاني عام ١٩٠٩م فيقول إنه كان مسرحًا «يجمع ممثلين في دراما كبيرة تمثل الحياة السياسية للمجتمعات الصناعية المتطورة. فأولًا: الثروة الكبيرة تتركز في أيدٍ قليلة نسبيًّا، وإن كانت ترتكز في الوقت نفسه على طبقة متوسطة متطورة نوعًا. وثانيًا: الطبقة العاملة التي تكوِّن سواد الشعب وتعيش حياة جعلتها تشعر شعورًا ضيقًا بعدم المساواة والفقر».٦
ونحو هذا المجتمع، أقبل سلامة موسى يحمل على كاهله أعباء مجتمع متخلف حضاريًّا وطبقة مضطهدة اجتماعيًّا، وأيديولوجيا تحمل بصمات مَجلة المقتطف والكنيسة القبطية على السواء. «وشعرت في ذلك الوقت بما زلت أشعر به الآن، وهو أن الاستعمار البريطاني ليس هو العدو الوحيد لبلادنا؛ لأن الرجعية بالتزام التقاليد، وكراهة الروح العصري في السياسة والاجتماع والعقيدة، كل هذا يتألف منه عدو آخر لعرقلة أمتنا عن التقدم.»
ولكن إلى أي الشرائح الطبقية من المجتمع البريطاني يتَّجه تفكير سلامة موسى ووعيه؟ وبالتالي إلى أية قيم يتَّجه قلبه ووجدانه؟
الرأي عندي أن التقارب بين الصفات النوعية للبرجوازية الصغيرة يحتم التلاقي بين سلامة وأبناء هذه الطبقة من الإنجليز. وسبق أن ذكرت في فصلٍ سابق أن الثقافة أو الفكر كان الشكل الأول عند سلامة في محاولة حل التناقضات بينه وبين المجتمع، لذلك فهو حين يتَّجه إلى أقربائه في الشريحة الطبقية، إنما يتَّجه نحو أبنائها من المثقفين والمفكرين. وهذا هو سر اللقاء بينه وبين الجمعية الفابية، فهي تضم حينذاك برنارد شو. وﻫ. ج. ويلز.
إلا أنه ينبغي منذ البداية، لكي نحدد نوعية هذا اللقاء، أن نحدد الفرق، بل الفروق، بين التكوين الذاتي لكلٍّ من البرجوازية الإنجليزية الصغيرة حينذاك، ومثيلتها المصرية. حقًّا، إنهما يلتقيان من حيث السمات العامة، كالبلبلة الفكرية والتمزق الأيديولوجي، كما يلتقيان في طبيعة الانحرافات اليمينية «الفاشية – الإخوان المسلمون» … ولكنهما يختلفان في طبيعة المرحلة الحضارية التي تجتازها أوروبا في ذلك الوقت، والمرحلة التي يجتازها الشرق العربي. إن غطيط المنطقة العربية بين أحضان الإقطاع والاستعمار ودبيب الرأسمالية الناشئة، يجعل من البرجوازية الصغيرة المصرية فئة أكثر ثورية من البرجوازية الصغيرة الإنجليزية التي تعيش بعيدًا عن التخلف الحضاري، وفي قلب الثورة الصناعية حيث يسود الفكر البرجوازي في عنفوانه، وحيث تتكون الأرستقراطية العمالية، وحيث ينزوي الفكر الاشتراكي في جماعاتٍ ثقافيةٍ لا حزبية. بل إن الجمعية الفابية إذا تحولت — في امتداداتها — إلى حزب العمال، فإن الحزب — يقول أتلي — يمد جذوره إلى الإنجيل لا ماركس.
وتطور الفكرة الاشتراكية عند سلامة موسى يدلنا على ارتفاع مستواها الثوري عن الاشتراكية الإنجليزية. ولم تكن هذه الفكرة وحدها هي ما استجاب له سلامة من أفكار تمور بها الحضارة الأوروبية، وإنما كانت هناك فلسفات «تنازع البقاء» تتخذ لها مكانًا في كافة مجالات الفكر والواقع. ونحن نتلمس ارتفاع المستوى الثوري عند سلامة، عنه عند الفكر الاشتراكي الأوروبي في هذه النقطة بالتحديد، فبينما تَغلِب خطوط الأيديولوجية الفاشية من السوبرمان، وحكم الصفوة الممتازة، والانحياز إلى جانب الاتجاهات العنصرية في السياسة، عند رواد الاشتراكية الفابية مثل برنارد شو — أي إن الفكرة الاشتراكية عندهم في تلك الفترة لم تتخذ لها مكانًا إيجابيًّا، بل كانت خطًّا باهتًا في صورتهم عن العالم — كان الأمر على النقيض عند المفكر المصري؛ إذ إننا نطالع في «مقدمة السوبرمان» وجوه نيتشه وداروين وسبنسر وبرنارد شو، ولكن الخط الفكري البارز على بقية الخطوط هو الانحياز إلى الاشتراكية — أو السوشيالية كما دعاها ذلك الحين — فيتساءل ساخطًا: «إلى متى نرزح تحت هذا النظام الرأسمالي القذر؟ إلى متى يعيش بيننا روتشيلد وسوارس وأمثالهما ليحرموا الأمة من خيراتها ويحطوا من مقام أبنائها حتى يُكوِّموا الذهب ولا يعرفوا كيف ينتفعون به؟ هل يمكن أن يقال إن الفلاح المصري أقل قدرة من تلك العائلة أو غيرها على الأعمال؟ بغلطة اقتصادية نجعله يعيش في العشش كالبهيم لكي يعيش على الجانب الآخر طبقة صغيرة معطَّرة ومطيَّبة بالروائح بشَعر مسرَّح وجِزَم لمَّاعة لا تعرف أين تصرف فلوسها». ثم يقدم السوشيالية علاجًا، ولكن ما هي طبيعة هذا الحل؟ يجيب: «ليست السوشيالية أن يتساوى الناس؛ لأن الناس غير متساوين، بل أن تُساوِيَ في الفرصة بينهم» (ص٢٠). أي إن الفكرة الاشتراكية لم تَعْنِ عنده عام ١٩٠٩م سوى تكافؤ الفرصة بين المواطنين … غير أن هذا المعنى — الذي هو أقرب إلى الإحساس بالظلم منه إلى الوعي بأسباب هذا الظلم — تنبع أهميته البالغة من وضعه البارز على بقية المعاني التي تضمنتها هذه المقدمة من جهة، ولارتياده الفكر الاجتماعي في مصر من جهةٍ أخرى. وفي إطار هذا المعنى جاء كتابه عن «الاشتراكية» عام ١٩١٢م بشيءٍ من التفصيل والإسهاب. فهو يعدد ما دعاه «مفاسد النظام الرأسمالي» من الضياع الفكري والخلقي والاجتماعي، واختلاف الوظائف الطفيلية للاحتكاريين. وقد وضع يده في هذا الكتيب على أن الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية، ولكنه توصَّل إلى هذه الحقيقة في حدود «مفاسد النظام» وليس بواسطة القوانين الموضوعية لتطور الرأسمالية. وهو يتساءل (ص١٤): كيف السبيل إلى الاشتراكية في مصر؟ ويجيب بلسان الفابيين الإنجليز: بتربية الشعب تربية ديمقراطية، ونشر الثقافة الاشتراكية، والتدرج في إحراز المكاسب من الحكومة. والتربية الديمقراطية تتطلب من القرية المصرية أن تلغي نظام العُمُدية (ص١٥) ويحل مكانها «مجلس منتخب من سكان القرية الراشدين ذكورًا أو نساء» ويتولى هذا المجلس عملية تأجير الأراضي «ويصرف وارداته على مصلحة القرية من تعليم وبناء مساكن وإصلاح طرق وإضاءة شوارع وغير ذلك» كما يوفر للفلاحين أحدث منجزات العلم في الزراعة. «ويحكم القُطر كله مجلس نيابي ينظر في سياسة البلاد الخارجية ويدير المصالح الكبرى كالسكك الحديدية، ويشرف على أعمال المجالس المحلية والتعليم العام … إلخ» (ص١٦). والإصلاحات «الاشتراكية» هي التعليم المجاني في المراحل الأولى، ورعاية الشيخوخة، والحيلولة دون البطالة، وتعويض العمال عما يصيبهم أثناء العمل.
ماذا يريد سلامة موسى في تلك المرحلة، كمفكر اشتراكي؟ يقول (ص٢١): «يجب على كل مصري يرى بعينيه الظلم الحاصل بالفلاح وحرمانه من ثمرة أتعابه أن يشجع خطة توطين المملوكات الفردية الحاضرة بإخراجها من يد الأفراد إلى يد البلديات والحكومة. وعليه أن ينشر الاشتراكية، خصوصًا بعد ما عُرِفَ وشاع الآن من أن أكثر من نصف الثروة المصرية يملكها أجانب يستغلون العامل المصري. فكل إصلاح اشتراكي ينقل جزءًا مهمًّا من ثروة الأجانب إلى الوطنيين. وعليه أن يشجع عمالنا على الاعتصاب السلمي حتى تزيد أجورهم ويقل شغلهم.»
ويرد على بعض الاعتراضات القائمة في وجه الاشتراكية حينذاك، من حيث علاقتها بالدين والعنف وميزة التنافس الحر، فيؤكد على ثلاث نقاط:
-
أن الاشتراكية نظام اقتصادي لا شأن له بالدين.
-
أن الاشتراكيين يدخلون البيوت من أبوابها، ويصلون إلى السلطة من مجالس النواب.
-
أن الاشتراكية تمنح التنافس معناه الحقيقي، بإتاحتها الفرصة الاجتماعية لكل الأفراد في المنافسة، وهي لذلك تطالب بإلغاء الإرث مثلًا. وهذا المطلب يلهب تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي؛ لأن أحدًا لن يعيش على الملايين التي ورثها عن العائلة.
وإذا كان الطابع الأساسي للاشتراكيات الخيالية، أنها كانت تقدمية في حينها، فإن اشتراكية سلامة في تلك المرحلة كانت أكثر تقدمًا. فقد كانت البرجوازية — لا الطبقة العاملة — من الضعف والوهن، بحيث كانت بقية الشرائح والفئات الطبقية أكثر ضعفًا. ومن هنا تميزت أفكار سلامة بالتقدم، على الرغم من أنها تحمل كافة العناصر المكونة لبنيانه الفكري والاجتماعي «وأهمها القلق الحاد»، كما أنها تحمل إلى البرجوازية أكثر مما تحمله إلى الطبقات الشعبية. فهي مجرد صياغة جديدة للبيت البرجوازي. إن التأميم والإصلاح الزراعي يلعبان دورًا خطيرًا في حياة الطبقات الكادحة، ولكنهما — في إطار المجتمع الرأسمالي — يلعبان الدور الأكبر في حياة البرجوازية. فالتأميم يجند طاقات الأمة ومدخراتها الوطنية لمصلحة الطبقة ككل، وعلى المدى البعيد، على حساب مصلحة الأفراد، والتضحية بالكسب السريع المؤقت. والإصلاح الزراعي يُعْنَى أساسًا بتحويل علاقات الإنتاج الإقطاعية إلى علاقات رأسمالية، وهو هدف يدعم البناء البرجوازي لا يحطمه. غير أن التأميم والإصلاح الزراعي في ذلك الوقت يعنيان هدفًا وطنيًّا أكبر، هو الانعتاق من ربقة رأس المال الأجنبي، وهذا الهدف أيضًا أهميته في المقام الأول بالنسبة للفئات المسحوقة من الشعب، إلا أنه الهدف العاجل والمباشر أمام الرأسمالية الوطنية لاستخلاص سوقها من الأنياب الإمبريالية.
ومعنى ذلك أن دعوة سلامة موسى كانت نبضًا أمينًا لآمال الشعب المصري آنذاك، بل كانت إرهاصًا صريحًا لأولى الحلقات في ثورتنا القومية التي بدأت بصورةٍ حاسمةٍ عام ١٩١٩م.
إن إرهاصات الثورة — على المستوى السياسي — تبدأ من عمر مكرم وأحمد عرابي على الصعيد المحلي، وتأزُّم الصراع العالمي بين الدول الاستعمارية، فقيام الحرب الأولى، واشتعال ثورة أكتوبر، فنجاح السوفييت في إقامة أول دولة اشتراكية في العالم، بالإضافة إلى اشتداد ساعد الرأسمالية الناشئة في مصر.
وسلامة موسى يؤرخ للثورة المصرية في «كتاب الثورات» باعتبار أن حركة عمر مكرم وهبَّة أحمد عرابي، ثورتان متكاملتان، بل إنه يحشد من تحركات الشعب الثورية ضد الوالي التركي ونابليون ومحمد علي ذخيرة يدعم بها قيادة عمر مكرم لما سمَّاه الثورة الأولى فيما بين عامي ١٧٩٠ و١٨٠٥م. ولا شك أن تراثنا الثوري طيلة القرن التاسع عشر، كان جذرًا تاريخيًّا بالغ الأهمية في التعبير عن تطورنا الاجتماعي، على أن انعدام التغيرات الثورية في نتائج عمر مكرم وأحمد عرابي لا تضفي على هبَّتيهما صفات الثورة، وإن أضفت على القائمين بهما صفات الثوار. وقد تنبه سلامة إلى هذا المعنى حين كتب تحت عنوان «ثورة ١٩١٩» في تربيته محللًا طبيعة الثورة، وكيف أن الطبقة المتوسطة كانت القائدة لصفوف العمال والفلاحين في ذلك الوقت.
وقد تبلورت أهداف الثورة في التحرير من الاستعمار الأجنبي الذي يستند إلى الحكم المطلق وطبقة كبار الملاك الزراعيين بصفةٍ خاصة، والقضاء، بالتالي، على الامتيازات الأجنبية، وبذلك تتاح الفرصة أمام الوطنيين للدخول في ميادين النشاط الصناعي والتجاري. ثم إقامة الحكم الدستوري ليضع حدًّا لاستبداد الحاكم. ويكاد يُجمِع المؤرخون على حصر أسباب فشل الثورة في قوة الاستعمار وضعف الطبقة المتوسطة وضعف بقية الطبقات الشعبية الحليفة لها، وانخفاض مستوى الوعي. إلا أن سلامة موسى يضيف عاملًا هامًّا، هو قيادة بعض الباشوات من الإقطاعيين وأشباه الإقطاعيين. ويكاد يُجمِع المؤرخون أيضًا على أن من أهم مكاسب الثورة اشتراك الطبقة المتوسطة في الحكم، وهذا هو التغيُّر الكيفي الذي يجعل من ثورة ١٩١٩م أولى حلقات الثورة القومية، مع فشلها. وكان الاشتراك في الحكم تعبيرًا سياسيًّا عن تغيُّر الخريطة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع المصري، فقد تأسس بنك مصر، وزادت قوة الطبقة العاملة، ونمت تنظيماتها النقابية المستقلة. غير أنه من الانعكاسات السيئة لفشل الثورة على الشعب المصري أن كان رد الفعل عند الاستعمار هو تأليف اتحاد الصناعات ليضم الرأسماليين الأجانب، وهم الأغلبية، والرأسماليين المصريين المتحالفين معهم في تنظيم يواجه التنظيمات العمالية.
ولكني هنا أتوقف كثيرًا عند هذه التجربة، بل عند هذه المرحلة في تطور حياة سلامة موسى. ذلك أن إقدامه عليها — بعد فترةٍ غير قصيرة من الركود في أحضان الريف — يعني أولًا، وقبل كل شيء، أن الثقافة والفكر الاشتراكي وحدهما لم يعودا الوسيلة المجدية للعمل السياسي، بل يلزم «تنظيم» هذا الفكر وذاك العمل في شكل سياسي مباشر. ولقد كان فشل الحزب أمرًا محتومًا؛ لأنه — من ناحية — لم يكن تنظيمًا ثقافيًّا كالجمعية الفابية الإنجليزية، مع اتخاذه منهجًا في معالجة الأمور. ولم يكن — من ناحيةٍ أخرى — تنظيمًا ماركسيًّا كتلك التنظيمات التي عرفتها الدولية الثانية، مع استعارته الكثير من برامجها في التعرف على الأوضاع المصرية. ولم يكن حزبًا برجوازيًّا يتخذ من الاشتراكية رايات مضللة من أجل أهداف فاشية أو نازية. كذلك، فإنه لا يمتُّ بصلة قرابة إلى محاولات الاشتراكيين الخياليين في القرن التاسع عشر، وبخاصة تجارب المفكر الإنجليزي روبرت أوين.
وقد كانت ولادة الحزب ووفاته يوم مولده، تسجيلًا سريعًا، بل تلخيصًا دقيقًا، لهذه المرحلة، فقد سجلت هذه الظاهرة مقدمات نجاح الثورة ونتائج فشلها في آنٍ واحد، فأكدت أنه بالرغم من المشاركة الإيجابية من جانب العمال والفلاحين في صفوف الثورة — ولا ريب أن تأسيس الحزب يشي بذلك — فإن البرجوازية سرعان ما اكتفت بنصيبها من المكاسب الاقتصادية والسياسية باشتراكها النسبي في الحكم، فالتهادن فورًا مع الإقطاع والاستعمار، وتوجيه مدافع المعركة ضد حليف الأمس القريب، ضد العمال والفلاحين.
كما أعلنت وفاة الحزب، أن تكوين سلامة موسى لا يؤهل صاحبه لحل التناقض بينه وبين المجتمع في إطار التنظيم السياسي. وأوضحت الطبيعة الطبقية لسلامة، التي رافقته طيلة حياته، فلم يوافق مطلقًا على الانضمام للحزب الشيوعي، لأن أيديولوجيته كانت بعيدة تمامًا عن أفكار الدولية الثالثة، وعمادها الماركسية اللينينية في السياسة والتنظيم.
•••
ولقد ظلت بلادنا تئن تحت وطأة التحالف المدمر بين البرجوازية والإقطاع وعملاء رأس المال الأجنبي، أما أوروبا فكانت تعيش في أوج عصر الاستعمار فلم تكد الحرب العالمية الأولى تضع أوزارها، حتى كانت إرهاصات الحرب الثانية تبدو واضحة فيما أورثه النظام الرأسمالي لأخطر مراحله على الإطلاق من أزماتٍ دورية متلاحقة، كادت تودي به عام ١٩٢٨م. وانعكست مأساة النظام الرأسمالي على الحركة الاشتراكية منذ انشقت الأحزاب اليسارية في أوروبا على نفسها على إثر انتصار ثورة أكتوبر. فتحولت أجزاء كبيرة منها إلى ذيول للبرجوازية الأوروبية، فما إن وصل بعضها إلى السلطة، حتى أصبح يمثل الاحتكارات الاستعمارية بصورةٍ أكثر خطورة من تمثيل الأحزاب اليمينية المحافظة لها، حيث إن لافتات الاشتراكية والديمقراطية كانت تخدع القطاعات العريضة من القواعد العمالية، بمساعدة الأجزاء الأرستقراطية منها.
إن هذه الاتجاهات كانت تمثل تيارًا رجعيًّا في الفكر الاشتراكي العالمي. وجميعها يتسم بالفوضوية التي تبيح لأيديولوجية البرجوازية الصغيرة، أقصى درجات البلبلة والقلق. وكانت هناك النظريات «الاختيارية» التي تتسم بانعدام التماسك المنهجي، وتقع على الحافة بين الاشتراكية البرجوازية الصغيرة، والاشتراكية البروليتارية. ولقد أثمرت هذه الأيديولوجية في البلاد المتخلفة حضاريًّا، كحركة «الشعبيين» في روسيا، التي أنكرت سيطرة الرأسمالية في المجتمع الروسي، وأنكرت دور العمال الصناعيين في الكفاح الاشتراكي، وراحت تدعو إلى القيام بالانقلاب الاشتراكي فورًا.
وهنا نستطيع أن نتبين الفروق الحاسمة بين اشتراكية سلامة موسى — ابن البرجوازية الصغيرة المصرية — والاشتراكيات الأوروبية التابعة لنفس الشريحة الطبقية. إن هذه الاشتراكيات لا تتناسب مطلقًا مع المستوى الحضاري الذي بلغه العالم الأوروبي، إذ هي تجاهلت متطلبات الثورة الصناعية والفتوحات الاستعمارية وارتفاع مستوى الوعي السياسي لدى الطبقات الشعبية ومدى قوتها التنظيمية، فكانت عائقًا أساسيًّا في وجه التقدم الاجتماعي، وبالتالي كانت تعبيرًا رجعيًّا سرعان ما تخمد جذوته في البلاد المتخلفة حضاريًّا كروسيا، وسرعان ما تتعلق بذيول البرجوازية في البلاد المتقدمة حضاريًّا كالإمبراطورية البريطانية وألمانيا وفرنسا.
أما في مصر حيث الطبقات الكادحة تقاسي ويلات ما بين الحربين، والبرجوازية ما تزال تخفي ضعفها بين أحضان الإقطاع، وأنيابها في العمال والفلاحين. أقول أما في مصر، فإن اشتراكية البرجوازية الصغيرة التي يصورها سلامة موسى بمهارةٍ بارعة في كتابه «أحلام الفلاسفة» — ١٩٢٦م — تحت عنوان «مقدمة طوبى مصرية» كانت تعبيرًا تقدميًّا عن تلك المرحلة التاريخية. وحقًّا نحن نصادف لأول وهلة هيكلًا فابيًّا لليوتوبيا، فقد شاء المؤلف أن نكتشف الطبيعة الفابية لهذا الهيكل في التاريخ «الخيالي» الذي تخيره لمدينته غير الفاضلة، إذ هو يؤرخ لحلمه عام ٣١٠٥، ويتضح بجلاء إيمان سلامة العميق بالتطور الاجتماعي المتدرج البطيء، ثم تزف إلينا «خيمي» تطورات مصر خلال الألف سنة الماضية، فتقول:
-
إنه قد حدثت في المجتمع المصري ثورات اشتراكية، أخفقت التجارب الأولى للحكومة، ثم انتهت بالنظام الحاضر (ومعنى ذلك أن أول ثورة اشتراكية في مصر ينبغي لها أن تتم عام ٢١٠٥ في خيال الكاتب).
-
والأرض الزراعية تحوَّلت إلى مدن تعاونية تعمل بالاكتفاء الذاتي (لكل حسب عمله). وقد ساعد التقدم العلمي على التصنيع الزراعي.
-
والدولة هي مجموعة من الهيئات التشريعية والقضائية والصحفية والدينية والتنفيذية، تصوغ أعمالها وفقًا للاحتياجات البشرية والقوانين العلمية.
إن صياغة سلامة موسى لمنهجه الاشتراكي في «مدينة فاضلة» يثير عدة تساؤلات، بل يؤدي إلى عدة دلالات. فلا شك أنه لم يستهدف مطلقًا أن يقدم صورة خيالية جديدة لأحلام الإنسان. وإنما هو يقدم احتجاجًا صارخًا على بشاعة التخلف الحضاري والأساليب غير الديمقراطية في الحكم التي حالت دائمًا دون الخطاب المباشر في شئون السياسة والحكم والمجتمع. ولقد سبق أن قدَّم كتابه عن الاشتراكية عام ١٩١٢م بأنه لا يقصد إلى تكوين جمعية سياسية أو اجتماعية لرعاية الفكرة الاشتراكية، وبعد ثماني سنوات كان يؤسس الحزب الاشتراكي. وقد انعكست النهاية السريعة للحزب، ومضاعفات الأزمة العالمية على وضع الاستعمار البريطاني في بلادنا، حيث يشتد ضراوة بالتحالف مع الإقطاع والبرجوازية الضعيفة، في محاربة الفكر الاشتراكي بصفةٍ خاصة، والفكر التقدمي بصفةٍ عامة. لذلك جاءت الصياغة في «خيمي» وتأريخها في ٣١٠٥ تأكيدًا لما كانت عليه مصر من إرهاب السلطات الحاكمة والظلام التاريخي معًا، وما كان عليه سلامة من الاستجابة لهذه الأوضاع الشاذة في مدينة فابية غير فاضلة. أجل لم تكن «مقدمة طوبى مصرية» مدينة فاضلة، بمعنى أنها لم تكن خيالية صرفًا، بل على العكس، إن نسيجها الفابياني جعل منها مدينة غير فاضلة حقًّا، إذ هي تتخلف عن المقياس الحضاري للعالم بمئات السنين. وهي غير فاضلة أيضًا؛ لأنها تتضمن «برنامجًا» مفصلًا لم تكن تذكره مدن الأحلام القديمة. ولعل هذه النقطة الأخيرة بالذات تجعل من هذه المحاولة الأولى لسلامة موسى في صياغة يوتوبيا علمية، نقطة الانطلاق في تحليلنا لبقية اليوتوبيات القادمة، إذ لم تكن هذه المحاولة بالتجربة الأخيرة، فما ظلل البلاد من تخلف وتعسف بقي أمدًا طويلًا جعل من الهروب إلى المستقبل شيئًا حبيبًا إلى النفس الظامئة إلى التطور، العطشى إلى التعبير عن رغبتها في تطوير مجتمعها.
ولقد كانت المحاولة الثانية بعد ظهور «خيمي» بعشر سنوات حين كتب سلامة «الدنيا بعد ثلاثين سنة» عام ١٩٣٦م. وقبل أن نعرض لهذه الرؤيا الجديدة، يحق لنا أن نعرض لتلك المرحلة العريضة في تاريخ مصر والعالم.
وهكذا تعثرت الحركة القومية في مرحلة خطيرة من مسارها التاريخي. ذلك أن وثبة اليد الحديدية على السلطة والظروف اليائسة التي يخوضها الاستعمار على النطاق العالمي، وإمعان السلطات المتوالية في تجهيل الشعب والهبوط بمستوى وعيه … كل ذلك بالإضافة إلى التدهور الاقتصادي المذهل الذي منيت به الفئات الشعبية، عبَّر عن نفسه في المنظمات شبه الفاشية «مصر الفتاة» و«الإخوان المسلمين»، والمنظمات الاقتصادية الفردية «المصري للمصري». ولقد حملت جميعها الرايات الاشتراكية — الوطنية تارة، والإسلامية تارةً أخرى — ولكنها لم تحمل في الواقع إلا رايات البرجوازية الصغيرة الممزقة، الشديدة الانسياق وراء الأوهام العنصرية أو الدينية، التي لا تخدم في واقع الأمر سوى الفئات العليا المتحالفة على عرش السلطة من كبار الملاك وعملاء رأس المال الأجنبي.
و«المصري للمصري» تختلف عن المنظمات البرجوازية الصغيرة الأخرى في كونها التعبير الاقتصادي عن أزمة الطبقة المتوسطة المصرية، من وجهة نظر اشتراكية جامدة، أو مسيجة بفهم ميكانيكي للوضعية السياسية في مصر، بحيث تؤمن — إيمان البورجوازي الصغير — بأن مقاطعة البضائع الأجنبية وتشجيع الصناعة المحلية هو الطريق القصير إلى الاستقلال.
ولكني أرى في هذه الاختلافات الشاسعة بين الكتاب الاشتراكيين في تحليل الحقيقة التاريخية لهذه المنظمات، نتيجة طبيعية لانحراف الفكر الاشتراكي في مصر منذ بدايته ناحية اليمين أو ناحية اليسار، وغيبته عن التعبير الثوري، لابتعاده عن الشعب. بل إن عزلة الفكرة الاشتراكية عن الشعب هي التي أدت إلى الطابع السائد على الحركة الاشتراكية المصرية في انحرافاتها اليمينية المستمرة — في المستوى النظري — وذيليتها للسلطات المتوالية على الحكم. كما أنني أفسر بهذه العزلة عدم يقظة بعض الاشتراكيين في مصر على حقيقة الدعوات القومية، فليست «مصر الفتاة» أو «الإخوان المسلمون» تعبيرًا عن طبيعة الحركة القومية، وإنما هي انحرافات عن هذه الطبيعة في تلك المرحلة. وكذلك أفسر بهذه العزلة ما انطوت عليه «المصري للمصري» من قوقعة فردية اقتصادية تحوط العامل الاقتصادي في تطور المجتمع بهالة ميكانيكية من الفهم الجامد.
وفي هذا الوقت تمامًا، كتب سلامة موسى «الدنيا بعد ثلاثين سنة» مضمنًا رأيه في الواقع المعاصر له، ممنهجًا تحليله للأحداث بمنهج مغاير لنظرته السابقة، معبرًا — إلى حدٍّ كبير — تعبيرًا تقدميًّا عن كفاح الشعب المصري. فقد وضع المعاهدة في مكانها الصحيح حين قال إنها جسَّدت التهادن الشديد بين التيارات السياسية للطبقة المتوسطة من جانب، والاستعمار من جانبٍ آخر.
يقول في «كتاب الثورات» (ص١٩٠): «وكان الإنجليز في حاجةٍ إلى تأييد الشعب لنظام الحكم؛ لأن هدير الحرب الكبرى الثانية التي بدأت في ١٩٣٩م كانت لها ذبذبة تُحَسُّ وإن لم تُسمَع في ١٩٣٤م! واحتاج الإنجليز إلى أن يربطونا بمعاهدة تكفل لهم الأمان والمعونة إذا وقعت الحرب. ولم يكن من المعقول أن يوقع هذه المعاهدة إسماعيل صدقي وفؤاد دون نواب الشعب. وجيء بالوفد إلى الحكم، ووقعت معاهدة ١٩٣٦.»
ثم يفسر الحركات الفاشية تفسيرًا أقرب إلى الصواب، حين لا يعثر في المرحلة التاريخية التي كنا نجتازها وقتئذٍ على أية أوجه للتشابه بينها وبين التركز الهائل للاحتكارات الألمانية والإيطالية، ودرجة التنظيم والوعي السياسي العاليين في صفوف الطبقة العاملة في مركزة تلك الاحتكارات. فكان للتضليل باسم الاشتراكية بين العمال معنى خطيرٌ في كسب الجيوش الهائلة من الأيدي الصانعة لأدوات الحرب والاستعمار. كما أن العنصرية النازية، كانت تخدم مباشرة أهداف الاحتكار الألماني في السيطرة على الاحتكارات العالمية الأخرى. وكذلك كان للتضليل بالاشتراكية الوطنية والجنس الآري تراثٌ ضخمٌ عريقٌ في جوف التاريخ الأوروبي، في الفلسفة والسياسة على السواء.
أين فاشية أحمد حسين إذَن، التي نبتت في بلدٍ مستعمرٍ تخطو فيه الطبقة المتوسطة على أعتاب أشباه الإقطاعيين وعملاء رأس المال الأجنبي، والطبقات الشعبية فيه لا تشكل خطرًا عاجلًا على كيانه؟ إنها كما وصفها سلامة بدقة مجرد مداعبات للفاشية. أما جماعة الإخوان المسلمين، فقد تكاتفت في خلقها عوامل التخلُّف الحضاري والأساليب غير الديمقراطية في الحكم، التي أتاحت للدين أن يكون ستارًا مظلمًا في بلدٍ يقدس الدين، وغالبيته تعتنق الإسلام، وثقافته بعيدة عن أضواء الحضارة والديمقراطية في القرن العشرين. لذلك كانت الفرصة مهيأة للفئات الدنيا من البرجوازية التي تتوسل بأكثر القيم المحافِظة رجعيةً، لتغطية تكوينها الاقتصادي والاجتماعي الشديد القلق والذبذبة. ولهذا لا تكون تلك الهيئات معادية للشعب أصلًا، ولكنها تصل إلى هذه المعاداة فعلًا. كما أنها لا تعلن مطلقًا انسلاخ الطبقة المتوسطة عن الرأسمالية القومية، فهذا الفهم تخريب يساري للحركة القومية. وهي لا توجز قطعًا مشاعر الشعب التي كانت تغلي وقتذاك بالثورة على الاستبداد الداخلي والاستعمار الأجنبي معًا. وإنما هي تجسيد مخلص لما كنا نغطُّ فيه من تخلفٍ حضاريٍّ بالغ القسوة، عانقت عناصره العديدة التقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم وانخفاض مستوى الوعي إلى الحضيض، والبلبلة الفكرية العنيفة بين الشرق والغرب.
وأول ما نلقاه في «الدنيا بعد ثلاثين سنة» هو نبوءته بأن مجتمعنا عام ١٩٦٦م سوف يكون اشتراكيًّا بأن تؤمم الدولة «عصب الإنتاج» ويتطور معنى الديمقراطية «من الحكم على حساب الشعب إلى الحكم لمصلحة الشعب» (ص٣٦). ولو أننا أجرينا مقارنة موضوعية بين حلم ١٩٢٦ وحلم ١٩٣٦ لأحسسنا تغيُّرًا جذريًّا في منهج الرؤية الفلسفية للمجتمع. فقد ذاب التطور التدريجي البطيء للمجتمع الفابياني في نيران الأحداث العالمية والمحلية المتلاحقة، وازدهار التجربة الاشتراكية الأولى في الاتحاد السوفييتي، واتضاح معالم المقدمة التمهيدية للحرب العالمية الثانية، التي بدأت استعمارية وانتهت تحريرية بتحوُّل الاشتراكية إلى نظام عالمي.
•••
يقول سلامة موسى في تربيته (ص١٥١): «وجدت أن تفكيري في السياسة والثقافة كان على الدوام يساريًّا، وفي الأغلب ارتياديًّا … ومما يلاحظ أن جميع الكتاب في مصر بدءوا حياتهم الأدبية مذهبييِنَ ارتيادييِنَ، ثم انتهى كثير منهم إلى ملاذ التقاليد يدعون إلى الفعل الماضي بدلًا من اقتحام المستقبل. كما أني أجد أن لي استغراضًا ديمقراطيًّا في جميع ما أكتب يحملني على مكافحة الظلمات التي لا تزال حية في الشرق العربي؛ في الاجتماع والاقتصاد والعقيدة. ولكن لم يتغير موقفي من حيث إني كاتب مذهبي يساري أكافح الرجعيين الذين يجدون الحكمة خلفنا لا أمامنا، كما أكافح أيضًا الإقطاعيين الذين يعارضون الاتجاهات الديمقراطية في المنطقة العربية.»
وهكذا أقبلت حركة ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢م لتملأ فراغ المد الثوري الذي افتُعِلَت له السدود عام ١٩٤٦م على اليد الحديدية «صدقي» وفي ٢٦ يناير سنة ١٩٥٢م على أيدي السراي والاستعمار وتهادن الوفد.
-
«… وقد عشنا هذه الأيام الماضية، ونحن في ارتفاع، في غلواء، نصنع تاريخنا بأيدينا ونقطع بيننا وبين عار العبودية والذل والخضوع للمستعمرين ونخطط الخطط للمستقبل.»
-
«لقد كنا نعيش سدًى قبل ٢٣ يوليو … كان الظلام حالكًا وكان الغد أحلك من الأمس. وكان الاجتراء على أن نعيش شرفاء ونتحدث باللغة الشريفة ونحلم الأحلام المُرَجِّية يسلط علينا ألوانًا من العقوبات القاسية، فكنا نرتد إلى الصمت ونلوذ بالخفاء … أما الآن فلم تعد تنقصنا الحوافز، ولم تعد تنقصنا الآمال، فلنكن شجعانًا ولنكن عظماء، ويجب لذلك أن نرفض ركود الموت ونطالب نمو الحياة.»
-
«والآن يجب أن نؤيد الثورة ونعين أهدافها وفلسفتها وندعو إلى محو القيود القديمة وأشكالها المختلفة. ثم نبني الاشتراكية على أصولها الصحيحة دون أن نلجأ إلى الغش أو الخديعة. وقد سبق لنا أن ضحكنا حين سمعنا «مقامًا كبيرًا» — يقصد الملك — يقول إنه اشتراكي. ونرجو ألا نضحك مرةً أخرى.»
-
«وعلينا أن نأخذ في مستقبلنا بمبدأين كي يعم التمدُّن بلادنا؛ وهما:
-
(١)
إنشاء المصانع الكبيرة بالمئات والألوف.
-
(٢)
التفكير الاشتراكي الذي يربي الضمائر ويجعل القلوب تفكر والعقول تحس.»
-
(١)
-
«وفي النهاية أقول: إن التقدير الصحيح لثورتنا لا يمكن أن يكون شيئًا آخر غير الوجدان الذي للروح العصري في العالم في جميع معانيه ومركباته. والأساس لهذا الروح هو الإنتاج الصناعي الآلي الذي نتسلط به على الطبيعة، ونستخدمها ونغيِّرها.»
كتب سلامة موسى هذه الكلمات في سبتمبر من عام ١٩٥٢م (راجع كتاب «انتصارات إنسان» من ص ٩٠ إلى ص ٩٥).
ثم كتب في نوفمبر من نفس العام مقالًا بعنوان «الثورة ومستقبلنا الاقتصادي»، وفي يوليو سنة ١٩٥٦م كتب «من أحمس إلى جمال عبد الناصر» شارحًا الأهداف الكبرى للرأسمالية القومية في التصنيع وخطة التنمية والإصلاح الزراعي ومعركة السويس.
وبالرغم من أن اشتراكية سلامة موسى ظلت بمنأى عن التفاصيل الدقيقة للماركسية اللينينية، فإنها ظلت بعيدة أيضًا عن أية خطوط عامة للأحزاب الاشتراكية اليمينية في أوروبا. وكادت تكتسب من سمات البرجوازية الصغيرة قلقها وتوترها وذبذبتها الشديدة بين الاشتراكية العلمية واشتراكيات البرجوازية الصغيرة … إلا أن تعاظم القوى الاشتراكية في العالم، وتطور مجتمعنا في إطار البلدان المستقلة حديثًا، جعل من سلامة موسى في المرحلة الأخيرة من تطوره، صديقًا مخلصًا للاشتراكية العلمية.
إن كتابه عن برنارد شو — صدر عام ١٩٥٧م — يصوِّر هذه المرحلة تصويرًا دقيقًا. يعرِّف سلامة الاشتراكية (ص٥٧) بأنها تأميم أدوات الإنتاج الرئيسية في المجتمع. ويؤكد في الصفحات (من ٥٨ إلى ٦٠) أن الاشتراكية جرثومة مفيدة للمجتمع تنمو في أحشاء الرأسمالية فتقضي عليها، إما بالتدريج، أو بالسكتة الثورية. والنظام الاشتراكي هو الحل الوحيد لمأساة الإنسان في المجتمع الطبقي (ص٦٢، ٦٥، ٦٦) والتأميم هو القاعدة الفسيحة التي تُبنى عليها الاشتراكية. وبالتالي فالتأميم في المجتمعات المتحررة يُعَد عملًا تقدميًّا (ص٦٤). والاشتراكية في السياسة الدولية هي التعايش السلمي بين النظم الاجتماعية والاقتصادية المختلفة.
ويقدم لنا سلامة موسى نتائج دراساته للاشتراكيين الطوباويين فيقول إن اشتراكيتهم «كانت في الأكثر أمنيةً إنسانية، ولم تكن برنامجًا علميًّا» (ص٧٦). ولكنه يبادر بالتقاط الجانب الإيجابي في هذه الاشتراكيات، إذ هي «انطوت على ثلاثة أشياء:
-
(١)
فكرة الجمعيات التعاونية.
-
(٢)
فكرة النقابات العمالية.
-
(٣)
فكرة الاشتراكية» (ص٧٧).
-
«إن الحرية الاجتماعية طريقها الاشتراكية.»
-
«كان الحل الاشتراكي حتمية تاريخية.»
-
«إن الاشتراكية العلمية هي الصيغة الملائمة لإيجاد المنهج الصحيح للتقدم.»
-
«إن رأس المال في تطوره الطبيعي في البلاد التي أرغمت على التخلف لم يعد قادرًا على أن يقود الانطلاق الاقتصادي.»
-
«إن الرجعية ما زالت تملك من المؤثرات المادية والفكرية ما قد يغريها بالتصدي للتيار الثوري الجارف، خصوصًا في اعتمادها على الفلول الرجعية في العالم العربي المستوردة من جانب قوى الاستعمار. إن اليقظة الثورية كفيلة تحت كل الظروف بسحق كل تسلل رجعي مهما كانت أساليبه ومهما كانت القوى المساعدة له.»
-
«إن الاشتراكية مع الديمقراطية هما جناحا الحرية.»
ولا يقدم لنا مشروع الميثاق هذه المبادئ مجردة عن صورة العالم المعاصر، كما يراها قائد الثورة. إن إطار هذه المبادئ هو التغيُّرات الجذرية التي طرأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
- أولًا: تعاظم قوة الحركات الوطنية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، حتى لقد استطاعت هذه الحركات أن تقود معارك عديدة ومنتصرة ضد القوى الاستعمارية، ومن ثَم أصبح لهذه الحركات الوطنية تأثير عالمي فعال.
- ثانيًا: ظهور المعسكر الشيوعي كقوة كبيرة يتزايد وزنها المادي والمعنوي يومًا بعد يوم في مواجهة المعسكر الرأسمالي.
- ثالثًا: التقدم العلمي الهائل الذي حقق طفرة في وسائل الإنتاج فتحت آفاقًا غير محدودة أمام محاولات التطوير.»
هذه الوثيقة الخطيرة لا تضاف إلى تراث الاشتراكيات الوطنية عند النازيين والفاشيست، أو الاشتراكيات الديمقراطية عند الأحزاب الإمبريالية. إن مشروع الميثاق هو الإضافة المنهجية المتكاملة التي قدمتها مصر ممثلة في قائد ثورتها القومية إلى تراث البلدان المستقلة حديثًا، إلى كتابات نهرو وسوكارنو وسيكوتوري وكوامي نكروما. ولا شك أن طبيعة هذه البلدان تتفاوت تاريخيًّا وحضاريًّا — على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية — ولكن جمهوريتنا تحتل مكانًا تقدميًّا في طليعة الكفاح من أجل التحرر الوطني.