الإنسان … ذلك المعلوم
كان الوضع التاريخي لسلامة موسى يحتِّم عليه أن يكون أبًا للنظرة العلمية في ميادين الفكر العديدة. ذلك أن مفاهيمنا عن جوانب الحياة المختلفة ظلت حبيسة الجدران المظلمة حتى ظهر هو كشمعة لا يقتصر نورها على جانب دون آخر، وإنما أضاءت — حسب قدرتها التاريخية — حياتنا كلها.
لذلك نقول إن الاهتمامات السيكولوجية بدأت تتخذ لها مكانًا في مجالات الفكر العربي الحديث، عندما رأى سلامة موسى أن النمو الحضاري لثقافتنا لا يكتمل عوده إلا إذا حاولنا تمثل الاتجاهات الجديدة في علم النفس.
ولا شك أن أوائل القرن العشرين كانت البداية الحقيقية لإرساء قواعد هذا العلم على أسس نابعة من الواقع الإنساني. ومن ثَم كان أمرًا طبيعيًّا أن يحمل سلامة على عاتقه عبء الرسول العلمي، أو همزة الوصل، بين قادة هذا الاتجاه في أوروبا، وبين الثقافة العربية.
والملاحظة الأولى في هذا الكتاب هو تأثره بالمرحلة الزمنية الطويلة التي قضاها المؤلف في أحضان فرويد نتيجة التأخر «الزمني» الذي اقتضته بلورة نظرته العلمية من ناحية، وحداثة ظهور الاتجاهات المضادة لفرويد — حسب منهج علمي — من ناحيةٍ أخرى.
ذلك أن علم النفس بقي طوال القرن التاسع عشر أسيرًا للفلسفات المعاصرة لنشأته. فبالرغم من أنه قد انفصل عن الدين منذ وقتٍ بعيد، وتباعد عن الفلسفة والفسيولوجيا من قريب، إلا أنه ظل سجين الرواسب القديمة فترة من الزمن.
والميول العقلية التي رافقت نهاية القرن الثامن عشر هي التي صاحبت الفلاسفة والعلماء في تفسيرهم المشاعر والانفعالات النفسية على أساس انفصالها عن مادية الجسم، وتطرَّف بعضهم في القول بأن «القوى العقلية» هي الوجود الإنساني الحقيقي، وأما «الجسم البشري» فلم يتبينوا منه سوى الجهاز العصبي، ومع ذلك لم يلفت نظرهم إلا كونه وسيلة دينامية لبعث الأفكار.
•••
وكتاب سلامة «محاولات سيكولوجية» يناقش في المستوى النظري والتطبيقي كافة النقاط الهامة التي ما تزال تشغل جانبًا هامًّا من التفكير الحديث. فوحدة الجسم والنفس التي قال بها أرسطو، معارضًا بذلك أستاذه القائل بعالم مثالي منفصل عن الأرض، هي القضية التي لقيت اهتمامًا إيجابيًّا على مدى العصور.
عالجها المثاليون تارةً بأن «النفس» أو «الروح» شيء مستقل عن الجسم وإن اتحدا معًا «كأصدقاء»، وأنكروا تارةً أخرى وجود الجسم على الإطلاق. إلى أن تقدم العلم في مجال البيولوجيا، ليرتدي المثاليون قناعًا ماديًّا يقول بوجود الجسم فقط. وأما المشاعر والإحساسات فمجرد خيال مريض وأحلام بلا معنى.
وجاء بافلوف ليفسر الأمر بأن تخلف دراسة وظائف المخ هو الذي أدى إلى اعتبار النشاط النفسي عند بعض العلماء الرجعيين «روحًا غامضة»، وهو بعينه الذي دعا آخرين إلى الالتفات نحو الظواهر السلوكية حسب التكوين العضوي فقط. وألغوا — بجرة قلم — المشاعر الإنسانية، وعرفوا الإنسان كآلة ميكانيكية تديرها الخلايا العصبية.
ونرى سلامة موسى في كتابه «محاولات» يؤكد وحدة الجسم والنفس على الأساس الذي قال به بافلوف، وهو أن مشاعرنا إفرازات حتمية للتكوين العضوي والاجتماعي للأفراد. وعواطف القلق والخوف التي يحدثها «الهم في نفوسنا مثلًا تثير بعض الغدد الصماء فتفرز سوائل خاصة تجري في جسمنا فيزيد الضغط للشرايين إلى حدٍّ لا نتحمله إذ ينفجر الشريان ونموت فورًا في ثانية أو ثانيتين» (ص٣٨).
•••
قاد هذا التعريف سلامة موسى إلى البحث عن طبيعة «مخ الإنسان» (ص١١٥) فاكتشف الأساس المادي لعملية التفكير التي يمكن إيجازها في أن النشاط العصبي للخلايا المخية يتوقف على القوة العضوية لهذه الخلايا وكثرتها، وهذا هو الشق الأول في ذكاء الفرد، تتحدد بواسطته القدرات الذاتية للإنسان. وأما الشق الثاني فهو البيئة المحيطة بالفرد حيث تتخصص في تنمية هذه القدرات. ولذا كانت وظيفة المخ هي أن يعكس الظروف السائدة داخل الكائن العضوي والظروف الخارجية في نفس الوقت، ويمكن بذلك أن نعتبر الشعور هو الجزء من النفس المتصل بالبيئة اتصالًا مباشرًا، والذي يكون خبراتنا التي نكتسبها في سلوكنا.
ويترك سلامة موسى التشريح الوظيفي للمخ، لعلماء الفسيولوجيا بعد أن عثر في البيئة الاجتماعية على «عامل هام» يؤثر في الكيان السيكولوجي للفرد.
والبيئة — عند سلامة — ليست غير النظام الاجتماعي القائم، وما يفرزه من أخلاقيات وفلسفات وعواطف (ص٣٥). ولقد أثبت بافلوف من قبل «ما يحدد أساسًا شعور الإنسان ليس جهازه العضوي وظروفه البيولوجية، كما يعتقد الماديون السطحيون ورجال التحليل النفسي، بل يحدده، على عكس ذلك، المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان والمعرفة التي يحصل عليها منه، فالظروف الاجتماعية للحياة هي المنظم الحقيقي للحياة العضوية والذهنية». وبذلك أكد بافلوف ما تقوله الماركسية بأنه ليس شعور الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد شعورهم.
وبدأت اهتمامات سلامة موسى تتخذ شكلها الموضوعي، بعد أن رأى في الاتجاه القائل بالظروف العضوية وحدها، اتجاهًا مضادًّا للإنسان. ذلك أن الوراثة المطلقة تؤدي بالضرورة إلى تجاهل الظروف البيئية للكائن الحي ومن ثم إلى تجاهل تحسينها والعمل على إيجاد ظروف أخرى أكثر توافقًا لتنمية الكفاءات الإنسانية.
وربما كانت نظرية التطور هي التي أسهمت — بطريقٍ غير مباشر — في الأخذ بالوراثة العضوية كقانون ثابت لارتقاء الكائنات الحية، إذ التقت آراء دارون في الحيوان مع آراء مندل في النبات.
وهكذا كانت صيحة نيتشه لإيجاد السوبرمان — أو الإنسان الأعلى — هي صيحة الانتصار التاريخي للعلوم البيولوجية. ومن بعده كان سبنسر امتدادًا مخلصًا لهذه الدعوة فنادى بعلم اليوجينيا «أي تحسين النسل» الذي يبيح التناسل لذوي الصفات الممتازة ويمنعه عن أصحاب العاهات السيئة.
ولكن هذه الصيحات جميعها ما لبثت أن توارت، حيث إنها عبَّرت عن ذلك المجتمع القوي البارع في اعتماده على تنازع البقاء بين الأفراد، وفيما بعدُ بين الشعوب.
فإذا ما استمرت هذه الدعوات الفردية في مجتمعٍ ما لا نشك في أن دعائم هذا المجتمع هي الفردية والمباراة في ميادين الاقتصاد والاجتماع.
يقول سلامة موسى (ص٤١): «المجتمع الاقتنائي الذي نعيش فيه ونأخذ بأخلاقه يغرس في كل منا منذ الطفولة رغبة جنونية في الاقتناء حتى ليصبح برنامج حياتنا أن نجمع أكثر ما نستطيع. وهذه الرغبة الجنونية في الاقتناء تحملنا على أن نقيس الشرف والعظمة والكرامة والسعادة والتفوق بالاقتناء.»
وفي مكانٍ آخر يذكر (ص١٩): أنه «ليس الاكتفاء الذاتي من صفات الإنسان فهو يعتمد في بقائه المادي على مصادر خارجة عنه، وكذا يعتمد في نمو شخصيته على الارتباطات التي يكونها مع بيئته بطريقةٍ أو بأخرى.»
ومن هنا أخذ سلامة موسى يعير الواقع المحلي اهتمامه الأول، فكانت دراسته للمجتمع هي المفتاح الحقيقي لأبواب حياتنا النفسية.
يحلل سلامة نقلتنا الاجتماعية من النظام الإقطاعي إلى المجتمع البورجوازي الصناعي (ص١٩) بأنها كانت مرحلة اقتصادية وسيكولوجية أيضًا. فالظروف الخارجية أو المجال المادي يتغيَّر أولًا، ثم بعد ذلك ونتيجة له يتغير الشعور أو المجال الفكري.
وتتبلور هذه التمزُّقات كلها في قلوب الأفراد الذين ينتمون إلى الطبقة البرجوازية الصغيرة في مجتمع برجوازي. حتى إن الكاتب الأمريكي أوفر ستريت يعترف في كتابه «العقل الناضج» (ص١٥٢): «ليس الجو الذي نعيش فيه بنقي ولا بصحي، وعلى ذلك فهو لا يساعد على تحقيق النضج الكامل للملايين الذين يتنفسون فيه ويتقبلونه على علاته.»
أحسَّ سلامة موسى بوطأة القيم الموروثة من المجتمع الإقطاعي على أبناء الجيل الناشئ ومن ثم كان تعبيره عن أزمة هذا الجيل هو تجسيد لأزمة النظام الاجتماعي. ولكن هذه العملية التاريخية لم تمض في خطها العلمي دون تعرجات. إذ كانت تعاليم الفابيين الإنجليز ما تزال تحشو رأس سلامة موسى ببعض الرواسب، فهو «مثلًا» يقول (ص٣٥): «قد يخفف من الروح الاقتنائي في المجتمع إيجاد ضمانات اجتماعية كما هي الحال في إنجلترا.» والواقع أن هذه الضمانات هي ضِمادات لجراح الرأسمالية، ومحاولات يائسة للتوفيق بين أشلائها.
وإذا كانت قمة التناقض في المجتمعات الطبقية تدعو إلى تغطية صراعاتها، فإنها تدعو في بعض الأحيان إلى التشبث بذيول النظم المنهارة، كأن ننعم بالأيام الخوالي التي عشنا في كهوفها الإقطاعية. وعند هذه النقطة يتوقف سلامة ليتحدث عن الرأسمالية الصناعية الوافدة قائلًا (ص٢٥): «هذه حال سيكولوجية جديدة قد تفشَّت لسيادة حال اجتماعية جديدة. ولذلك يجب أن نقف من وقت إلى آخر عن هذه الهرولة، وأن نعود إلى أخلاقنا الزراعية التواكلية على سبيل العلاج.» وهو علاج يبدو واضحًا أنه «يستند على طمأنينة وراحة الخرافة» والتعويل عليهما هو إبراز عنيف للمدى الذي وصلت إليه حدة النظام الرأسمالي الجديد. أما العلاج الحقيقي فهو الاستنارة بمنهج علمي يحل مشكلاتنا الحاضرة حتى تنتهي تلقائيًّا في المستقبل.
وربما كانت الغيبيات الإقطاعية هي المخدرات التي يتعاطاها الفلاحون (ص٢٤)، وربما كانت العقيدة الدينية جدارًا سيكولوجيًّا للذين يعانون قسوة التناقض الجذري في المجتمع (ص٢٧). غير أن صحة الأمر الواقع لا تقيم دليلًا على وجوب بقائه، وإنما هي عامل هام في محاولة تغييره.
وكتاب «محاولات سيكولوجية» يبحث العوامل التي يمكن لها أن تقوم بدور التغيير في مجتمعنا العربي. وأول هذه العوامل هو الوقوف على التشريح العلمي لمظاهر هذا المجتمع.
فالقلق، والخوف، والفراغ، واليأس، وكافة العواطف الحائرة التي يعاني منها مجتمعنا، هي نسيج حياته اليومية. و«عدم الاستقرار» النفسي هو الدلالة الأولى لعدم الاستقرار الاقتصادي الذي يشكل بدوره مظهرًا حيًّا في التركيب البنائي لحياتنا الاجتماعية.
والقوى الخارجية المحيطة بالشاب العربي في مجتمعنا الحديث تشمل تاريخًا عريضًا بالصفحات القاتمة … أما قواه الداخلية فهي صفحات ثورية مستمدة من القيم التي عاشها في خياله مع الشعوب الأخرى تارة، ومن ضراوة الحياة التي يعيشها تارة أخرى.
وأما الاستعدادات الحربية، فتفسيرها نأتي به من قلب الأساليب الاستعمارية في التعامل، والتي نشأت كأغصان طبيعية على ساق النظام الرأسمالي.
والقلق الذي اختلفت المدارس النفسية البورجوازية في تفسير نشأته ليس «توترًا غريزيًّا» كما يقول فرويد، وليس «ضعفًا عامًّا في الجهاز العصبي أو خطأ في التركيب العضوي كاختلال في الأوعية الدموية أو في القلب» كما تقول المدارس السلوكية.
وسلامة موسى يوضح مدى التركيز والضغط اللذين تتصف بهما الطبقة المتوسطة في معاناتها هذا الصراع غير المتكافئ، فيذكر «أن أطماع هذه الطبقة كثيرة جدًّا، وسبيل تحقيقها ليس سهلًا. فطبقة الفقراء التي استسلمت لحالها وارتضت مكانها ليس لها أطماع تثير عواطف الخوف من الفشل أو الشك فيما يئول إليه الغد. وكذلك الشأن بين الأثرياء في الطبقة العالية، إذ إن أفرادها يجدون كل ما يصبون إليه» (ص٣٩).
والقاعدة الاقتصادية للقلق تحمل هرمًا كاملًا من الاهتزازات المرضية القلقة. فالأزمة الجنسية التي تراود شبابنا هي في جوهرها أحد ألوان القلق. ولقد أخذ سلامة موسى فترة طويلة يكشف العلاج الفرويدي لهذه الأزمة، فكان يشرف على أقسام الشباب في إحدى الهيئات الاجتماعية بالقاهرة. ولاحظ أن «التسامي» بالجنس بالوسائل الرياضية والفنية هو «خرافة» لا شك فيها، وهكذا تلقف نتيجة عكسية لآراء فرويد. لذلك فهو يصارحنا (ص٤٩): «يجب أن أقول إن صعوبات الشباب في مصر أثقل من الصعوبات التي يلاقيها الشباب في أمريكا وأوروبا. لأن الاختلاط بين الجنسين هناك قد خفف إلى حدٍّ كبير من إرهاق الغريزة الجنسية، كما أن الفرص الاجتماعية للشباب أكثر مما هي عندنا. ولذلك يجب أن نعطف على شبابنا، بأن نقدر صعوباتهم، ونيسرها، ونمهدها، كلما حانت فرصة.»
وقدَّم سلامة رأيًا للتيسير العاطفي، اقترح فيه (ص٥٤) زواج الطلبة، على أن يتكفل آباؤهم بالإنفاق عليهم، دون أن ينشئ الواحد منهم بيتًا مستقلًّا إلا بعد التخرج.
وواضح جدًّا أن الاقتراح يمتنع عمليًّا عن التنفيذ، فمنسوب الوعي الاجتماعي عند الجيل الماضي لم يرتفع إلى هذا المستوى. كما أن هذه الزيجات لن تنجح في مجتمع لم يتشبَّع بثقافة علمية تساعده في التعرُّف إلى أهداف التيسير العاطفي. ويبقى بعد ذلك جزء كبير من شبابنا، ممن لا ينتمون إلى فئاتٍ قادرة، في انتظار العلاج.
ويقارن سلامة موسى بين شباب القرية وشباب المدينة، فيقول إنه بينما لا يساق الريفي إلى الشذوذات الجنسية، نجد أنه يعالج الأمر — تلقائيًّا — بالزواج المبكر. والحق أن التبكير في الزواج عند فقراء الفلاحين ليس علاجًا بقدر ما هو «تعويض» لكيانهم الاقتصادي الواهن.
أما شباب المدينة — يقول سلامة — ممن ينتمون إلى الطبقة المتوسطة فإنهم يعانون الشذوذات الجنسية في أشكالها المختلفة؛ فالعادة السرية تمتص حياتهم، والأمراض تأكلهم، ومن يقبل منهم على ممارسة البغاء ينتقل من القلق الجنسي إلى قلق نفسي مرير. وعندما تصل الأزمة إلى أعلى مراحلها، نتذكر القمة وننسى الجذور، ونردد مع فرويد كالببغاء «الجنس هو الجذر الوحيد لكافة نشاطاتنا ومشاكلنا» على حين أن النظام الاجتماعي القلق هو ذلك الجذر الأساس «ففي المجتمع العلمي يعيش الذكور مع الإناث منذ ميلادهم إلى وفاتهم، لا ينفصل جنس عن الآخر؛ لأن هذا هو الوضع الطبيعي الذي تصرخ به الطبيعة، والمجتمع الذي يعارض الطبيعة مجتمع فاسد، وهو لن يستطيع أن يهزمها؛ لأن الطبيعة ترد اللطمة، فيكون من الانفصال بين الجنسين تلك الشذوذات الجنسية التي شاعت في أمم شرقية عديدة، بل قد يكون الجنون …» (ص٦٦، ٦٧).
ولو تأملنا القيمة الحقيقية لأوديب «سوفوكليس» لاكتشفنا اختلافًا حاسمًا بين التفسير الواقعي للمأساة، وبين التفسير الفرويدي. فأوديب كان يمثل مأساة البطولة الفردية عند الإغريق، ولم يكن يعي أبدًا ما أراده له فرويد من تشويه للمعنى الرمزي الكبير الذي احتوته الأسطورة.
ويستنتج سلامة — بعد ذلك — أن فرويد قد عبَّر عن مجتمعٍ وعصرٍ تسودهما الفردية المطلقة من كل قيدٍ اجتماعي، سواء كان هذا القيد عرفًا عامًّا، أو قانونًا علميًّا. ومن هنا تبدأ أزمة المدرسة الفرويدية في محاولتها تفسير الحياة على ضوء هذا المنهج القاصر.
ويؤكد سلامة أيضًا، أن «محاولة تفسير حقائق الحياة على ضوء غريزة واحدة من الغرائز معناه، من الناحية النظرية، قلب كثيرٍ من الحقائق. حتى تلائم التفسير» (ص٢١٣).
والحق أن مقولة «الغرائز» هذه حان لها أن تتضح، فكافة المناقشات التي تدور حول اكتسابها أو وراثتها هي مناقشات تدور في حلقةٍ مفرغة؛ لأن الغرائز لا تُورَّث ولا تُكتسب، وإنما هي تعبير عن حاجاتٍ أساسية في التكوين العضوي للجسم البشري، كالتنفس مثلًا: هل يمكن اعتباره غريزة؟ أم هو عملية فسيولوجية لا يمكن تفسير وجودها بالوراثة أو الاكتساب، وإنما نقول بأنها تستمد وجودها الطبيعي كعنصر حاسم لدوام الحياة؟
وحينئذٍ، ينبغي أن نفرق بين هذه الحاجات الأساسية كالطعام والجنس، وبين العادات الأخرى (كحب التملُّك ورغبة الظهور وشهوة المقاتلة) فهذه أيضًا ليست غرائز، وإنما هي عادات مكتسبة من تاريخ المجتمع الطبقي.
وهكذا يعرِّف سلامة موسى — حسب منهجه العلمي — «أن ما كنا نسميه غرائز إنما هو ميول لدنة يمكن توجيهها إلى أية ناحية، وأن ٩٩ في المائة مما نسميه غرائز هو اتجاهات اجتماعية قد غرسها فينا المجتمع، برجوعٍ انعكاسية مكيفة. فالمجرم يرتكب جريمته بعاداتٍ ذهنيةٍ وعاطفيةٍ اجتماعية، وليس بغريزةٍ موروثة. قل مثل ذلك في الجندي الشجاع والمرأة الجبانة، وفي المؤلف الذكي والصحفي المهرج؛ لأن لكل هؤلاء مركَّباتٍ هي في صميمها رجوعٌ انعكاسية مكيفة» (ص٢١٩).
وقد تنحرف هذه الميول أو تستقيم، ولكنها تعود في النهاية إفرازًا طبيعيًّا للتركيب العضوي والاجتماعي للفرد. فالسيادة الاقتصادية للرجل في المجتمعات القروية انحرفت بالبعض إلى «السادية» في الجنس والحب، وإلى «عبودية العمل المأجور» في الزواج والبغاء. وعندما يتذكر سلامة موسى ما كتبه أدلر عن زواج المال، يقول (ص٨٨): «لقد ضحكت عندما قرأت له عن الرجل أو المرأة التي تتزوج من أجل المال، فقد رفض بحث هذا الموضوع، وقال إن الحياة أسمى من أن نجعلها نكتة … أجل، إن الزواج من أجل المال هو نكتة، ولكنها ليست النكتة التي تضحك، وإنما هي التي تدعونا إلى البصق.» ولعل كاتبنا قصد أن يبصق على النظام الذي جعل من «زواج المال» ضرورة … غير إنسانية.
والجزء الأخير من «محاولات سيكولوجية» يناقش الثلاث نقاط الباقية في فلسفة فرويد.
والنقطة الأولى، يخص بها الأدباء والفنانين ورجال الفكر، بل وربما أصحاب العبقريات جميعًا. فقد رأى فرويد في إنتاج الفنان أو العبقري «عملية إشباع» فقط، نتيجة «تفريج لا شعوري» لمكبوتات طفلية في النفس. وخرج من ذلك بأن عملية الخلق الفني أو العلمي تحدث بطريقةٍ لا واعية. ولما كانت الاهتمامات الحاسمة في لا وعينا — كما يرى فرويد — هي الجنس، فإنه يُرجح أن كافة الأعمال الفنية والعلمية ما هي إلا تعبير في أشكال مختلفة عن الطاقة الجنسية «دينامو الحياة البشرية».
وما هو الواقع؟ يجيب إنجلز: «إن العالم المادي الذي يمكن إدراكه بالحواس، والذي ننتمي نحن إليه هو الواقع الوحيد.»
•••
والنقطة الثانية هي الأحلام، والأحلام في عرف فرويد عملية تهريب للرغبات المكبوتة. ولا يفرِّق سلامة موسى بين حلم النوم وحلم اليقظة (ص٩٥)؛ لأن جميعها تعبيرات لاشعورية عن كامنة الفرد، ولا ريب أن الواقع الاجتماعي الذي يشكل مظاهر حياتنا الفنية تشكيلًا علميًّا، هو بعينه الذي ينظم أحلامنا وفق رغائبنا وأمنياتنا. هذه الرغائب والأمنيات التي لا يمكن أن تُرَد إلى الطفولة إلا بنفس المقدار الذي تُرَد به إلى جميع مراحل حياة الفرد؛ لأن بقية مراحل العمر إما أن تسهم بتغيير هذه الرغائب، أو أن تَزيدها وضوحًا. وهي في كلا الحالين تقول لنا: إن المجتمع قد تغيَّر، أو أنه ما يزال كما هو. ولما كانت أحلامنا هي صرخات ذاتية موجهة إلى المجتمع، فإن تحليل أسبابها لا يجب أن ينحصر بالضرورة بين أغوار النفس فقط، وإنما يجب أن يغور في أعماق المجتمع نفسه أيضًا.
والتربية العلمية لا تتيح لنا فرصة المباراة للتفوق؛ لأن التقدم الفردي والجماعي يصبح ذاتيًّا وتلقائيًّا، بعد أن هيَّأ المجتمع كافة الظروف العلمية المثيرة للتقدم. ومن ثم لا يجد التنافس مجالًا؛ لأن الإنسان — بكفاءته الخاصة — وُضِعَ في مكانه الصحيح، ولذلك هو يحوِّل التنافس — الذي كان بينه وبين الآخرين — إلى صراع بينه وبين الطبيعة، واكتشاف قوانينها، والسيطرة عليها.
•••
ثم يناقش سلامة موسى (ص٧٥) العلاقة الوثيقة بين السيكولوجيا والأخلاق فيقول: إن ما نسميه «عواطف طبيعية ما هو إلا عواطف اجتماعية» مؤيدًا بذلك بافلوف حين قال (ص١٣٦): «إن أخلاقنا هي مجموعة من العادات والاتجاهات.»
هذه الواقعة الطريفة توضح إلى أي مدى آمن الناس — زمنًا — بالوراثة، ولكن القوانين العلمية أصبحت في متناول الفرد بحيث لم يعد مقيدًا بأغلال قدرية تسمَّى بالوراثة.
ويبرهن سلامة على كون الأخلاق مظهرًا اجتماعيًّا للواقع البشري، فيصف الأشكال الأخلاقية في المجتمعات الدينية بالانحراف «فالرهبنة مبدأ انتحاري ضد الأمومة والأبوة» (ص١٩٠). «وإنه لمما ينفع ويثمر أن نقول إن الزهور، وهي أجمل ما في النبات، هي الأعضاء التناسلية. وكان يجب في منطقنا الاجتماعي أن نسمي الزهرة: عورة» (ص١٩١).
وقد ذابت فعلًا تلك «المشكلات» التي كانت تثيرها العقائد الدينية من وقتٍ لآخر، وأحس الإنسان في غمرة الانتصارات العلمية التي يحرزها كل يوم، أن «الخير والشر» ليسا من صفات الإنسان، وما يلصق أحدهما بالفرد دون الآخر هو النظم الاجتماعية التي يعيشها هذا الفرد. وأحس كذلك أن «الجبر والاختيار» أسطورة تغتصب رداء الفلسفة؛ لأن حرية الإنسان لا تنفصل عن ضرورة الظروف الموضوعية المحيطة به.
وما أخلاقنا إذَن إلا استجابات تلقائية للواقع الاقتصادي والاجتماعي والذاتي.
ما هو واقعنا؟ لنردد ما يقوله الكاتب الأمريكي أوفر ستريت في كتابه «العقل الناضج»: ما إن يُوجَّه النقد إلى نظامنا الاقتصادي حتى يسارع أنصاره إلى إبداء فخرهم بالحقيقة التي سبق أن أوردناها، والتي مؤداها أن هذا النظام قد رفع مستوى المعيشة في البلاد التي ساد فيها. وقد يبدو من تَكرار هذه الحقيقة أن رفع مستوى المعيشة كان من بين الأهداف الرئيسية التي كان الناس يسعون إليها، وأنه كان المحور الذي يدور حوله اهتمامنا وجهودنا، وأنه في ضوئه وُضِعَت معايير النجاح والإخفاق. ولو أن الأمر كان كذلك لقام دليلًا على أن الرأسمالية الصناعية عامل من عوامل النضج النفسي، ولدعت هذه الرأسمالية الإنسان إلى النهوض بمسئوليته في الخلق والإبداع، وحثته على استخدام خياله لفهم حاجات الآخرين، وجعلته يرى نفسه كاملًا متكاملًا، وعضوًا في مجتمع، يمثل هو الآخر كلًّا متكاملًا. على أن الحقيقة الناصعة تختلف عن ذلك كل الاختلاف (ص٢٣٠).
يقول سلامة موسى (ص٤٤): «ولكننا حين نندغم في حركة وطنية أو بشرية سامية، نجد أن الكفاح فيها، وما قد يجره من تضحياتٍ هائلة كالسجن والفقر والنفي، كل هذه الكوارث لا تحطم النفس، بل هي ترفعها وتَزيدها كرامة.»
لنبحث إذَن عن هذه الكرامة الجديدة.