طريقنا … حرية الفكر
في عام ١٩٢٤م قرر رئيس الوزراء المصري حل البرلمان في يوم افتتاحه.
ثم بدأت بوادر الأزمة العالمية تظهر في الأفق حوالي عام ١٩٢٨م.
وفي عام ١٩٢٨م جاء محمد محمود، فعطل الحياة النيابية بكاملها، وألغى مائة رخصة صحفية.
وخلال سنة ١٩٣٠م بلغت الأزمة العالمية قمتها، وأصبح الخراب الشامل يهدد الدول الرأسمالية الكبرى.
والكتاب وثيقة تاريخية تروي لنا فصلًا من قصة الحرية الفكرية في مصر، فهو يشير إلى الاستعمار كعائق كبير في طريق الحرية، ويضرب مثلًا بالإنجليز (ص١١): «حين كان أعظم ما يصرون عليه هو ألا تحدث في مصر دعاية اشتراكية؛ لأنهم يعرفون أن الاشتراكية هي الحمض الذي يكشف عن زيف الاستعمار ويوضح جرائمه.» ثم يقول (ص١٢):
«ولذلك، أعظم ما تسأل عنه إدارة المطبوعات عندنا عن المتقدم لها بطلب رخصة أو امتياز مَجلة أو جريدة هو هذه النقطة: هل هو اشتراكي؟ هل يمتُّ بصلة إلى التفكير الاشتراكي؟» ثم يقرر «ولذلك تعيش السياسة في مصر بلا مذاهب. فلا نجد حزبًا للاشتراكية أو الراديكالية، بل حتى لا نجد حزبًا للمحافظين؛ لأن الجمهور قد عمه تبلُّد أو جمود فكري يرجع إلى هذه الإدارة التي تمنع إنشاء الجرائد والمَجلات، وترى المصباح الأحمر، مصباح الخطر، في كل شخصٍ مستنير درس الاقتصاديات، وعرف أنها العامل الحاسم في تطور المجتمعات، وانتهى إلى التحليل العلمي الصحيح للفقر والاستعمار وبقاء النظم الاستغلالية.» وبعد أن أوضح سلامة في كتابه الثوري مضار الأمية السياسية التي يعيش فيها شعبنا، صرخ باسم حرية العقل البشري (ص١٦): «لهذا يجب أن يُلغَى قانون المطبوعات وإدارة المطبوعات، هذه الإدارة التي ليس لها شبيه في أمة ديمقراطية. لأنه ليس من الشرف للأمة المصرية أن تعيش كالموتى في القبور، قد كُتِبَ عليها الصمت والسكون إلى الأبد.»
وبالرغم من أن الكتاب يعرض لمراحل تطور الحرية الفكرية عبر التاريخ، إلا أننا نحس إحساسًا عميقًا بأن هذه الصفحات الطويلة جميعها، تمهيد للجزء الصغير الأخير، الذي خص به تطور الحرية الفكرية في مصر. وهو يصدِّر الكتاب بأسطورة رمزية عن جماعة تعيش على فتات القدامى وبقايا الأجداد حتى إذا خرج من بينهم واحد ليتعرف على الدنيا خارج أسوار مدينتهم الصغيرة — وكانوا يعتبرونها الكون كله — اتهموه بالكفر، وحكموا عليه بالموت، لو قدر له أن يعود. ثم عاد بالفعل ليقول لهم أشياء مثيرة، فقد رأى عالمًا جديدًا يبز مدينتهم في كل شيء، ولم يكد ينتهي من حديثه حتى انهالوا عليه بالرجم، ومات! ومرت سنوات طويلة، شعر أهل المدينة أثناءها بحاجتهم، لو أرادوا البقاء، إلى اكتشاف المجهول، والخروج من قوقعتهم. فهجروا المدينة إلى خارج أسوارها، وتوقفوا ذاهلين حين رأوا عالمًا أجمل وأرحب من عالمهم الصغير، وأخذوا يترحمون على شهيدِ جهلِهم قائلين (ص١٥): «إنه أنقذنا، ونحن ذبحناه». ويتضح لنا جليًّا أن كاتب الأسطورة يستهدف أن يفسر لنا جملة أشياء: فهو يؤكد أن المعنى الحقيقي للحرية ينبثق من صميم الكيان المادي للمجتمع، ويصر على أن إحساسنا بالحرية ينبع من الحاجة الاجتماعية للفرد، وينتهي بذلك إلى أن النصر النهائي للحرية مهما وقفت في طريقها أغلبية المعارضة، وقداسة القيم الموروثة، والشك والحيرة والقلق مع مولد كل جديد.
•••
والجزء الأول من القصة — أو المأساة! — يبدأ مع ظهور الدولة حيث «كانت الآلهة القديمة غير قادرة على كل شيء، فكان في عجزها هذا بعض التيسير للحرية الفكرية، وعجزها هذا يرجع إلى نظر الإنسان العلمي» (ص٢٥)، وقد تحول هذا النظر العلمي إلى عقائد دينية «لقلة وسائل التحقيق عند الإنسان الأول، ولأن طبقة من الناس رأت من مصلحتها أن تروج العقائد الدينية وتعيش منها» (ص٢٦). هذه الفئة التي رأت من مصلحتها تجميد النظرة العلمية في قالب العقيدة الدينية تكونت تاريخيًّا من شيوخ القبائل وزعماء العشائر الذين أصبحوا ملوكًا وكهنة، بعد أن كانوا يستمدون سلطانهم من صميم القيم الإنسانية التي تعيشها القبيلة أو العشيرة. فقد تحولوا إلى تأمين مصلحتهم الطبقية بالذود عن مطالب الفئات المالكة، وقمع العبيد. ولم يقتصر دفاعهم وقمعهم على القيم المادية، وإنما كانوا أبعد نظرًا فحاربوا القيم الروحية والفكرية للعبيد، بل روجوا بينهم مثالياتهم الداعية إلى الخضوع والمذلة، حتى إذا غزت هذه التعاليم دماءهم، لم يفكروا — تلقائيًّا — في محاولة تغيير وضعهم الاجتماعي.
واعتداء الدولة الأول — ممثلًا في الدولة العبودية — لم يكن قاصرًا على سيادة الطبقة القوية فحسب، وإنما تضمن اعتداء الأفكار السائدة على الأفكار التي يمكن — بظهورها — أن تناوئ التفكير الغالب. وكانت الوسيلة المجدية هي ترويج «العقلية السائدة» بين الجماهير المسحوقة. وليس هذا شيئًا صعبًا؛ لأن الطبقة التي تتصرف بوسائل الإنتاج المادي، تتصرف في نفس الوقت — كنتيجة طبيعية — بوسائل الإنتاج الفكري، فتخضع لها — بصورة قلقة — أفكار أولئك المحرومين من وسائل الإنتاج المادي. إلا أن عقلية الطبقة الحاكمة لا تسود — مع ذلك — إلا إلى اللحظة التي تنضج فيها، في قلب المجتمع نفسه، القوى المنتجة الجديدة، فتدخل بدورها في نزاع مع علاقات الإنتاج القديمة. والنزاع بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج هو المحور الدرامي للثورات الاجتماعية. وهكذا ينشب النضال بين الطبقات، وتُولَد الأفكار التقدمية التي تعكس مصالح الطبقة الجديدة الثورية وحاجاتها.
ولكن سلامة موسى يفصل بين الدين ورجل الدين (ص٥١)، وبين المسيح والمسيحية (ص٣٦)، وبين المسيحية والكنيسة (ص٣١٣). مع أن هذه جميعها يربطها خيط واحد هو الفلسفة التي نادى بها المسيح، وتفاعلت — فيما بعد — مع أحداث التاريخ وتولدت عنها بقية حلقات تطورها. ولو قلنا مع نيتشه: «إن المسيحي الوحيد مات على الصليب» لكانت المسيحية بذلك حادثًا فرديًّا لا قيمة له في تاريخ الحركات الفكرية، غير أنها في واقع الأمر ليست هكذا؛ لأن كلمات المسيح التي فسرها بولس على نحوٍ معين، كانت تتناسب طرديًّا مع تطورات المجتمع البشري وتاريخه. فالمسيحية هي «تاريخ المسيحية»، أما تعاليم الإنجيل فإنها الجذور الأولى لهذا التاريخ. البابوية — مثلًا — كانت تمثل إحدى مراحل المسيحية، هي مرحلة ارتداء ثياب الإقطاع. ثم ظهرت البروتستانتية — يقول سلامة — «لأن البابوية طغت وطمعت بحيث كان الكهنة يبيعون للناس غفراناتهم من خطاياهم. وأيضًا كان الناس قد سئموا المظالم التي ارتكبتها محاكم التفتيش» (ص١٣٥). والتفسير العلمي هو تقلُّص الإقطاع ونمو البرجوازية، بحيث كانت دعوة لوثر هي التعبير الفكري للنظام الاجتماعي الجديد.
فهل يمكن فصل المسيحية عن الكثلكة واللوثرية وبقية الحركات المتطورة عن المسحية؟ وهل يمكن بالتالي أن نفسر الصراعات التي دارت على مدى التاريخ بين هذه المذاهب جميعًا … كل منها ترى في اتجاهاتِ غيرها هرطقات ملحدة؟ إن هذا التفسير يمكن الحصول عليه إذا وعينا الصراعات الاجتماعية الدائرة في أعماق أي مجتمع. فالقضية نفسها أثيرت مع بزوغ الإسلام ونموه، ويذكر سلامة (ص٦٨) أن الخليفة العباسي الأكبر المأمون، كان يردد دائمًا: «إن الحكماء هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده؛ لأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس، وهم ضياء العلم وواضعو قوانينه، ولولاهم لسقط العالم في الجهل والبربرية.» وفي مكانٍ آخر يؤكد تسامح الإسلام مع حرية التفكير؛ إذ كان مسلمو الأندلس يسمحون للمبشرين بالمسيحية أن يقفوا على أبواب المساجد لدعوة المسلمين إليها (ص٧٢)، ولكن هذه القصص جميعها لا تغفر أبدًا لبعض الحكام المسلمين ما أقاموه من حواجز ضخمة أمام الحرية الفكرية (ص٧٣، ٧٤)، بل إن أحد مفكري الإسلام العظام، كالغزالي، يصف كل من فهم فلسفة أرسطو بأنه «يجب تكفيره، هو ومتبعيه من متفلسفة المسلمين كابن سينا والفارابي وأمثالهم» (ص٨٨). ولقد ظهر داخل بعض الحكومات الإسلامية — كما حدث في مصر خلال حكم الدولة الفاطمية — كثير من الحركات المناوئة للإسلام، كما شيد الحاكم بأمر الله دار الحكمة في القاهرة. على أن مأساة ابن رشد في الأندلس، والسهروردي في حلب، تقيم دليلًا جديدًا على أن حرية التفكير في ظل الحكومات الدينية يتهددها الخطر، فبعد أن نُفِيَ ابن رشد أذاع المنصور خليفة الأندلس منشورًا يمنع الاشتغال بالفلسفة (ص١٠٦) وهذا بعينه ما حدث لابن حزم، بعد أن أخذ عليه بعض الفقهاء ما يقوله عن حرية الحب والمرأة والحياة، فقد أبلغوا المعتضد بن عباد أمير إشبيلية ما يأخذونه عليه، فجمع كتبه وأحرقها، وحينئذٍ قال ابن حزم:
هذه هي قصة الإسلام مع الحرية الفكرية، يعلق عليها سلامة (ص٥٧) بقوله: «في هذه الأمثلة نرى اضطهادًا صريحًا، ولكن لا يمكننا — مع الإنصاف — أن ننسب هذا الاضطهاد للإسلام». فهل نستطيع حقًّا أن نفصل بين الدين ورجل الدين؟ يقول سلامة موسى (ص٢٦): «إن الدين في نفسه لا يمكنه أن يضطهد العلم، وإنما الاضطهاد يرجع إلى الحكومة، ولكن الكهنة أنفسهم لا يمكنهم أن يضطهدوا أحدًا ما لم تكن السلطة في أيديهم … فالاضطهاد الذي كابده الناس في الماضي من رجال الدين، إنما كابدوه لأن هؤلاء الرجال كانوا قابضين على السلطة.» والسؤال، إذَن، هو: ما هي طبيعة العلاقة بين الدين وحرية الفكر، حتى إن رجل الدين — إذا تولى زمام الحكم — أصبح خطرًا على هذه الحرية؟ سلامة موسى يؤكد أن رجال الدولة أسبق من رجال الدين في التسلح به، للقضاء على كل تيار عقائدي يختلف مع تركتهم الفكرية الموروثة، بل ربما نزع رجل الدين إلى الزهد، ولكن رجل الدولة والحكومة يحتاج إلى الدين لكي يستطيع أن يخيف به العامة؛ لأن الدين يَزيد سلطانه فلا يقصر على هذا العالم، بل يمتد إلى العالم الثاني. ولذلك نجد أن رجلًا مثل مكيافيللي ينصح الأمير — أي الحاكم — بحماية الدين «ولو كان هو نفسه لا يؤمن به؛ لأن الدين يعاونه على حكم الجماهير وتثبيت سلطانه» (ص٢٧). إذَن فالدين هو «لب» القضية، هو في جوهره سلاح، ليس من المهم أن نعرف حامله. وهكذا نتساءل من جديد: هل يقف الدين عائقًا لحرية الفكر؟
إن المجتمعات الطبقية وحدها هي التي أفادت من سيطرة الدين؛ لأنه يكفل لها السيطرة على الجماهير. ومن هنا يستحيل التفكير الحر في هذه المجتمعات؛ لأن قيم النظام الاجتماعي السائد، تصبح «دينًا» سائدًا هي الأخرى.
وحرية التفكير التي تمتنع تلقائيًّا في مجتمع طبقي، نعثر فيها على كافة ألوان التعصب الديني والعنصري، وإلا فنحن نتساءل: ما هي طبيعة العلاقة بين حرية الفكر وحرية الحياة في أمريكا، وأزمة اللون الأسود ما تزال تهز تمثال الحرية عند مدخل نيويورك؟ والجواب يشير إلى القضية التي يثيرها سلامة (ص١١٦) بصدد اضطهاد فريق من المواطنين على يدي فريق آخر، لا من السلطة الحكومية. والواقع أنها مغالطة أن نقول باضطهاد الشعب لجزء من أبنائه، دون «إرادة» السلطات الحاكمة، فلا شك أن هذه السلطات تؤيد هذا الاضطهاد بصورةٍ أو بأخرى، ما دمنا نقول بأن الدولة هي صولجان الطبقة الأقوى. وبالتالي، فإننا حين نطلب «حرية التفكير» لا نستهدف إيجاد مفكرين أحرار، بقدر ما نريد شعبًا حر الفكر. وغالبًا ما تكون الاضطهادات — بين صفوف الشعب — نتيجة الرواسب القديمة للنظم الاجتماعية السابقة. لأن وسائل الإنتاج تتغير أولًا ثم تليها علاقات إنتاج. وعندما نادى هارولد لاسكي بأن تعترف الدول جميعًا بحرية الفكر؛ لأن الدولة لا يمكن أن تتعرَّف على رغبات رعاياها إلا بواسطة هذه الحرية، كان يتجاهل — في واقع الأمر — أن الدولة، أية دولة، لا يمكن أن تحقق طلبات بنيها على اختلاف طبقاتهم — كما عرفنا من قبل — لأنها في الأغلب تمثل مصالح طبقة واحدة. وما يقال من أن المجتمع الرأسمالي الحديث يمنح شعوبه قدرًا كبيرًا من حرية الفكر (كما نرى في فرنسا، ونسمع في إنجلترا)، بالرغم من وجود الطبقات، هو قول بعيد عن التأني في تأمل الواقع الحقيقي لهذا المجتمع. ففي إنجلترا «حيث يمكنك أن تصرخ بأعلى صوتك، وبأي رأي، في حديقة هايد بارك» نرى المجتمع ينتخب عن طيب خاطر، وبأغلبية كبيرة، حزب المحافظين لتولي سلطات الحكم (١٩٥٩م). ومعنى ذلك أن هناك «مناعة بعيدة المدى» تقي الدولة الإنجليزية، والاحتكار الإنجليزي، من شرور الدمية المسماة «هايد بارك» … تمامًا كما يستهزئ عضو الكونجرس الأمريكي من الدمية القابعة عند مدخل نيويورك.
إن معاهد الدين والمدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية والفنية وغيرها من دور التثقيف والتعليم، تعمل بتوصية وإشراف الحكومات الخاضعة — بصورةٍ مباشرة — لأصحاب المال والأعمال، على بث معتقدات الطبقة المتميزة، فتثبت الأوضاع القائمة، وتوطد حق المتميزين في تميزهم ومن ثم تصبح حرية الفكر في المجتمع الرأسمالي «دمية» لا أكثر. إذ ماذا يمكن لحديقة هايد بارك وجريدة الديلي وركر أن تصنعا بعقول صيغت على مائدة واحدة؟
أما الوضع في فرنسا، فيختلف كثيرًا عنه في بريطانيا؛ لأن توازن القوى وحده هو الذي جعل ما يشبه حرية الفكر ضرورة لازمة. فبالرغم من أن الجمهورية الفرنسية تتربع على عرش اليمين، إلا أن القوى المقابلة تتربع على عرش اليسار. وهي قوى لا تقل وزنًا عن غريمتها … بهذا فقط اختلف الوضع بين المجتمعين: الإنجليزي والفرنسي.
أما حكومة الولايات المتحدة، فقد تذكرت المجتمع القديم، حيث كان يقف «صاحب الرأي» في المجلس التشريعي، وفي عنقه حبل غليظ، حتى إذا لم توافق الهيئة على رأيه بعد سماع أقواله وحججه، بادرت إلى شنقه بالحبل المعلق في عنقه! تذكرت أمريكا صورة هذا المجتمع، وخلقت على نسقها مجتمعًا يحرق فيه مكارثي كتب: هوارد فاست، وآرثر ميللر، وشتاينبك، وهمنجواي، وريتشارد رايت. بل إنها نجحت في شراء بعضهم بالدولار! وهذه هي الحرية — أو البربرية — في المجتمع الرأسمالي.
•••
إن سلامة موسى في الجزء الأخير من كتابه يناقش «حرية الفكر» كمفهوم الفابيين الإنجليز في الحرية … إذ هو يقف إلى جانب الحرية النابعة من قباب مجالس النواب، ولا يؤيد الحرية النابعة من الثورة (ص١٩٠). وليس من شك أن هذا المفهوم القاصر تبلور عنده حينذاك؛ لأن نظريته العلمية للحياة كانت في أطوار نموها الأولى، فلم تكن قد تكاملت بعد، ونتيجة للإرهاب الفكري الذي عانته مصر بعد عودته من أوروبا (حيث قضى فترة طويلة عضوًا بالجمعية الفابية التي أثرت في فلسفته الفكرية إلى حدٍّ كبير). واتضح قصور ذلك المفهوم حسب تعريفنا للحرية الفكرية التي لا تنفصل عن الحرية الاجتماعية. وهذه يطالب بها الفابيون عن طريق مجلس العموم، لا عن طريق مجلس الثورة.
لقد تناسبت حرية التفكير في المجتمع اليوناني القديم، مع المستوى الثقافي لهذا المجتمع، إذ لم يكن قادة النظام على وعي «بقيمة» الفكر الحر، على نقيض المجتمعات الرأسمالية الحديثة ذات المستوى العالي من الثقافة … فقط تزداد حذرًا واضطهادًا لحرية الفكر. وسلامة يرى (ص١٣١) في المستوى الهابط لوعي السلطات عاملًا هامًّا في ذيوع التفكير الحر، ويدلل على ذلك بما حدث ﻟ «نيقولاكاسا» حين أعلن شكه في ثبوت الأرض قائلًا إنها تتحرك كبقية الكواكب «وأعتقد أنها تدور حول محورها كل يوم». ويقول سلامة: «ولم يُضطهد كاسا لهذه الظنون الخطيرة؛ لأن رجال الدين لم يفطنوا لمرماها البعيد.» بينما التاريخ لن ينسى ما فعلته الكنيسة بالعالم العظيم جاليليو.
ففي شرقنا العربي، حيث تتضافر قوى حماة الدين، والاستعمار، والتقاليد، والنظام الرأسمالي، تقف الشعوب تائهة في دوامة قاسية لا تهدأ. وفي مصر، على سبيل المثال، يؤرخ سلامة للحرية الفكرية، فيذكر الإمام محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، كنموذجين رائعين للعمل الدائب المثمر من أجل الحرية (ص١٩٣). أما أقرب حوادث الاضطهاد في مصر — يقول سلامة — فهي حادثة الشيخ علي عبد الرازق الذي «وضع كتابًا عن الخلافة قال فيه إنها ليست من أصول الإسلام، وإن الخليفة حاكم مدني، فعوقب على هذا الكتاب بتجريده من العالِمِية، وفصلِه من المحاكم الشرعية» (ص١٩٦). ويذكر سلامة أيضًا، ما حدث للدكتور منصور فهمي بعد أن كتب دراسة بالفرنسية عن رسول الإسلام، فقد مُنِعَ حينذاك من التدريس في الجامعة. وما حدث للدكتور طه حسين حين وضع كتابه عن الشعر الجاهلي. وأستطيع أن أضيف من عندي اسمًا جديدًا هو سلامة موسى نفسه، فقد عانى هذا المفكر العظيم من اضطهاد المستعمرين والمستبدِّين لحرية التعبير أمدًا طويلًا. وربما كان كتابه عن «حرية الفكر» هو الصوت الوحيد الذي حمل التفاؤل والأمل إلى الطبقة الجديدة النامية. إنه يبدأ هذا الكتاب بقوله: «إن رجل الذهن الذي يعيش الآن في القاهرة عام ١٩٢٧م قد كان يجد أروح لذهنه أن يعيش في أثينا قبل ٢٥٠٠ سنة، أو في الإسكندرية قبل ألفي سنة، لما كان يجد في هاتين البلدتين من روح التسامح التي لا نجدها نحن الآن» (ص٣٥). لقد أحس الرجل بأزمة الحرية الفكرية تحت نِير النظام الرأسمالي، ومن ثم فهو يصيح «ليس هذا الكتاب دعوة إلى كراهية الدين، وإنما هو دفاع عن حرية الشخص في اختيار عقيدته كما يراها في مرآة ذهنه وضميره. وبعبارة أخرى نقول إن الدين يؤذي الناس إذا كانت الدولة تسومهم إياه؛ لأنه يقف حاجزًا دون حرية التفكير والاعتقاد. وليس إنسان يستطيع أن يعيش بلا دين، ما لم يكن أبله أو مغفلًا لأن الدين ليس في الحقيقة سوى استقرار الفرد على علاقةٍ ما بينه وبين الكون، أصله وغايته، ما فيه من ناس وحيوان. فدعامة الدين يجب أن تكون قوة داخلية نابعة من الذهن، نؤمن بها إيماننا بالحقائق العلمية. ولا يحق لسلطة خارجية أن تأمرنا بالإيمان فنؤمن، فإذا لم نؤمن عوقبنا بالحبس أو بالجلد أو القتل» (ص١٥٤).
وأمتنا ليست جامدة ولا ميتة، لأن حرية التفكير من التقاليد الرئيسية في الفكر العربي. والنزعة العقلية الحرة، حتى من سلطان الدين، هي النزعة البارزة في التراث العربي. فالمعتزلة ناقشوا الدين على أساس العقل، وذهبوا في الجدل إلى أنه ليس من العدل أن يُكلَّف الإنسان بواجبات دينية أو خلقية، وأن نحمله تبعة أعماله ومجازاته عليها إذا لم يُعترف له سلفًا بحرية الاختيار، «وقد بالغوا في التمسك بهذا الرأي حتى قال عنهم المستشرق جولد زيهر إنهم في سبيل الدفاع عن حرية الإنسان لم يتورعوا عن تقييد إرادة الإله.» والمفكرون المسلمون لم يتحدثوا عن حرية الفكر، غير أن موقفهم من النزاع بين الدين والعقل لا يترك مجالًا للشك في تمسكهم بهذه الحرية. إذ ما كانوا ينحنون لأية سلطة فوق سلطة العقل، أو يتقيدون بأي شيء عند البحث عن الحقيقة. هذا الحسن بن الهيثم — وهو من أعظم العلماء الذين أنجبتهم الإنسانية — يصرح بأنه نشأ متشكِّكًا في جميع الآراء والعقائد، ثم انتهى بعد البحث والتأمل إلى إنكار كل ما لا تؤيد الحواس وجوده. وهذا هو الفيلسوف ابن رشد يعلن في رسالته «فصل المقال» بأنه إذا تعارضت العقيدة مع العقل، لا يتردد في ترجيح كفة العقل.
حينئذٍ، يُنشِد الأحرار للفكر الحر أغنية الانتصار.