مقدمة

في السنوات الأخيرة ظهر العديد من الكتب التي تتعلَّق بأحداث المرحلة الناصرية بأقلام ناصريين، وبعضُ هذه الكتب أخذَت شكل مذكرات، وإن كانت في الحقيقة غير ذلك، وإنما هي شهادة على ما جرى خلال تلك الحقبة كما رآها المؤلف من موقعه في القيادة الناصرية. وهذه المواقع التي كان يشغلها المؤلفون كانت في العادة رفيعة المستوى؛ مما يجعل لكتابات أصحابها أهمية خاصة لن يستطيع أي مؤرخ لتلك المرحلة أن يتجاهلها، حتى إن اختلف معها. وقد تركِّز هذه المذكرات على ميدان معين مثل الثقافة كما فعل ثروت عكاشة، أو الميدان العسكري كما فعل الفريق محمد فوزي، أو السياسة العربية كما فعل محمود رياض.

لكنَّ هناك كتبًا أخرى لنفس المرحلة لم تكن على شكل مذكرات، وربما كانت كتُب محمد حسنين هيكل أهمَّها جميعًا وأكثرها جدارةً بالحفاوة والتعليق، ومصدر هذا الحكم على كتُب هيكل هو موقعُه بالقرب من عبد الناصر شخصيًّا طوال المرحلة الناصرية، والدورُ الذي لعبه هيكل في تقديم النصح والمَشُورة للقائد، وفي صياغة أفكاره وخطبه وكتاباته السياسية، فضلًا عن توفُّر كم ضخم من الوثائق المصرية لديه عن تلك المرحلة. ومن أمثلة هذه الوثائق ما نشره في كتابَيه الأخيرَين «ملفات السويس»، و«سنوات الغليان».

لكن أهمية كتب هيكل لا تنحصر فقط في الاعتبارات السابقة؛ فرغم أنه صحفي فإنه باحث جاد في نفس الوقت، ولا بد أنه بذَل جهدًا كبيرًا للحصول على هذه الوثائق الأجنبية التي استعان بها في دعم وجهة نظره. وقد تُسبِغ تلك الحقيقة أهميةً خاصة على هذه الكتب؛ إذ إنها نمط من التأليف لم يعرفه تاريخ الصحافة المصرية من قبلُ في حدود علمي.

ومع كل هذه الأهمية التي أعلِّقها على كتب هيكل، فإنني بطبيعة الحال لا أعتبِرها الكلمة النهائية — وهل هناك حقًّا كلمة نهائية في التاريخ؟ — فيما يتعلَّق بتلك المرحلة؛ فموقع هيكل بالقرب من عبد الناصر لا يجعله حكَمًا موضوعيًّا في فَهم أحداث تلك المرحلة كما سبق أن ذكرت في مناسبات أخرى، والأقرب إلى الصحة أن نقول إنها وجهة نظر ناصرية هامة في مغزى تلك الأحداث مدعومة بوثائق لم يسبق نشرها من قبل.

ومع ذلك فمن واجب كل باحث أن يبذل الجهد في الاقتراب من الدراسة الموضوعية لتلك المرحلة قدر الإمكان، خصوصًا أن هذه الأحداث قد مضى عليها أكثر من ربع قرن، وأن العواطف والانفعالات الإنسانية التي صاحبَت بعضَها لا بد أن تكون قد هدأت أو اختفت، وأن الجو السياسي العام الذي تعيش فيه مصر اليومَ قد ابتعد كثيرًا عن الجو السياسي العام للمرحلة الناصرية، الأمر الذي يسهل ذلك.

فعلى أي صورة يمكِن أن يتبدَّى هذا الجهد من الباحث في الاقتراب من الموضوعية عند بحث هذه المرحلة؟

هنا ترِد على الخاطر مجموعة من النقاط الهامة، في مقدمتها أن فهم السياسة الخارجية والعربية يبدو صعبًا — وأحيانًا مستحيلًا — دون بحث تطورات السياسة الداخلية في مراحلها المختلفة. ولعل هذا من سلبيات كتُب هيكل التي تركِّز على القضايا العربية أو الخارجية دونَ أن تعطي عناية مماثِلة لآليَّات السياسة الداخلية وتحدِّياتها. ولا يعني هيكل من هذا النقد أنه في موقعه القديم كان أكثر اهتمامًا ومسئولية في القضايا العربية والخارجية منه في القضايا الداخلية. فما دام تصدَّى للكتابة عن تاريخ تلك المرحلة، كان من الضروري التعرُّض — من أجلِ مزيدٍ من الفهم والضوء — لذلك الجانب.

ثم ينبغي أن يتبدَّى هذا الجهد للموضوعية في استخلاص دروس وعِبَر وأخطاء تلك المرحلة. فمهما كان الأثر الموضوعي لقيادة عبد الناصر ايجابيًّا بشكل عام، فإن سجلَّ الأخطاء السياسية ليس بسيطًا، خصوصًا أن الأمور انتهت بهزيمة مدوية عام ١٩٦٧م، مما يجعل بحث موضوع الأخطاء مسألةً على جانب عظيم من الأهمية، لا لكتابة التاريخ فحسب، وإنما لمستقبَل حركة التحرُّر العربي في نضالها ضد الإمبريالية، ومن أجل العدالة الاجتماعية والتنمية والوحدة.

وأشهد أن كثيرًا من هذه الكتابات الناصرية قد تعرَّضت لقضية الأخطاء والدروس، بعضها في إسهابٍ كما فعل عكاشة في مذكراته، وإن كان هذا لا يعني أنني أتَّفق معه في تحليل تلك الأخطاء والدروس. لكن كتاب هيكل الأخير يمضي سريعًا على هذه القضايا أو لا يتعرَّض لها إطلاقًا، مع أنها كانت جديرة بمزيد من البحث والتحليل. صحيحٌ أن هناك إشارات ترِد هنا أو هناك إلى بعض الأخطاء، لكنها إمَّا موجَزة دون تأصيل في بعض الموضوعات. وفي موضوعات أخرى يبدو هيكل وكأنه كتَب فصولها عام ١٩٥٩م لا عام ۱۹۸۹م.

إنني أشير على وجه الدقة إلى الأحداث العربية للمرحلة ۱۹٥۸–١٩٦٣م، بدءًا من قضية الوحدة المصرية السورية، ثم قضية الصراع المدمِّر بين نظامَين وطنيَّين هما نظام عبد الناصر ونظام عبد الكريم قاسم، وما انتهى إليه هذا الصراع من أحداث مؤسِفة وأخطاء على الجانبَين استفادت منها بالدرجة الأولى الإمبريالية والرجعية العربية، وانتهاءً بقصة الانفصال والثورة اليمنية، ثم انتصار ثورة الجزائر وما تلاها من الانقلاب على بن بيللا.

ولعل جذر هذا الموضوع الذي لا يريد هيكل أن يواجِهه هو مشكلة الوحدة العربية وخطأ التصوُّر الناصري عن الوحدة الاندماجية، وعن إمكانية القفز فوق الفوارق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الموضوعية بين البُلدان العربية المختلفة ذات الأسواق والمصالح المتباينة. وهو خطأ تورَّط فيه عبد الناصر تحت تأثير الفكر القومي والبعثي التقليدي آنذاك، وإن كان العديد من القوميين والبعثيين قد تخلَّوا عنه بعد ذلك. وقد أدى هذا الموقف إلى رفض مشروع الوحدة الفيدرالية، مع أنها لو كانت قد تحقَّقَت بين مصر وسوريا، ثم بين «ج.ع.م» والعراق، لَكانت قد نقلت الوضع العربي كله نقلةً أساسية اقتصاديًّا وعسكريًّا، ولَجعلت كارثة ١٩٦٧م أمرًا شِبه مستحيل.

إن الفهم التقليدي لقضية القومية والوحدة — حيث يجري إنكار البُعد الوطني ولا يتم الحديث إلا عن البُعد القومي — قد أساء إلى حركة التحرر العربي، وضيَّع على الشعب الفلسطيني فرصًا تاريخية، وأدى في الماضي إلى انقسام حاد لقوى حركة التحرر العربي بين الأحزاب الشيوعية العربية من جانب، وبين القوميين العرب والبعثيين من جانب آخَر، مع أنها جميعًا فصائل تقف في خندق واحد في العديد من البُلدان العربية اليوم، كما كانت تقف في نفس الخندق إبَّان طردِ جلوب من الأردن، والعدوان الثلاثي على مصر، ومشروع أيزنهاور، والتهديد التركي لسوريا في خريف ١٩٥٧م، حتى وقوع الوحدة المصرية السورية وبداية الخلاف.

ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم جرت مياه كثيرة في نهر السياسة العربية، وصدر العديد من المؤلَّفات والشهادات السورية والعراقية عن أحداث تلك المرحلة. وكان من المتصوَّر أن يكون هيكل قد استفاد منها خصوصًا في التدقيق في سجل الوقائع، كما فعَل مع الوقائع الخاصة بالتعامل مع الغرب أو مع الاتحاد السوفييتي.

لكن عداء هيكل للفكر الشيوعي والشيوعيين العرب يبدو في كتاب «سنوات الغليان» في قمَّته، مع أنه كان من المفهوم أن يكون فِكره قد تطوَّر كثيرًا عن ذلك. إن الاتهامات المنصبَّة على رءوس الشيوعيين العرب في الكتاب مذهلة في اتساعها وغرابتها وبُعدها عن الإنصاف؛ فهم أعداء للقومية العربية وللوحدة، وهم عملاء لموسكو … إلى آخِر قائمة الاتهامات في الأسطوانة المعروفة. وبدا وكأن هيكل قد كتب هذه الفصول بالذات لا عام ۱۹۸۹م، وإنما عام ١٩٥٩م، عندما كان يهدِّد الشيوعيين العرب في مقالاته بأن عليهم أن يضعوا أقفالًا على أفواههم!

وقد أدى به هذا الموقف إلى ترديد معلومات عن أوضاع سوريا أو العراق آنذاك، هي إمَّا غير صحيحة أصلًا أو غير دقيقة. وفي رأيي أن هيكل قد وصل إلى هذا لأنه اعتمد أساسًا في هذا الجانب من الكتاب على تقارير الأجهزة الأمنية المصرية، وهي تقارير مليئة بالأخطاء والسخافات التي كتبتها مخيلة عملاء في دمشق أو بغداد ينقص الكثيرَ منهم الضميرُ الوطني فضلًا عن الإحساس بالمسئولية.

ولقد أشرتُ في مقالات هذا الكتاب — كمثال على هذا — إلى قضية فرج الله الحلو الذي قُبِض عليه في دمشق، وجرى تعذيبه ثم قتله على يد رجال عبد الحميد السراج، وبعد ذلك قُطعت أجزاء جسمه بمنشار وأُذِيبت في الأحماض!

إن قضية فرج الله الحلو لا تنبع أهميتها من بشاعةِ ما حدث فقط، وإنما أيضًا من حقيقةِ أنه كان الأمين العام الفعلي للحزب الشيوعي السوري اللبناني بعد سفر بكداش، وكان يقود الحزب من دمشق عندما قُبض عليه عام ١٩٥٩م، ولو اهتم هيكل بأن يطَّلع على قرار الاتهام الذي أصدره القضاء العسكري السوري في يونيو ١٩٦٢م في حق ضباط المباحث السورية الذين تولَّوا هذه الجريمة، والمذكورين بالاسم واحدًا واحدًا، بما في ذلك ملخَّص بأقوال كل واحد منهم في التحقيق، لَمَا ورَّط نفسه في ترديد القصة المزيَّفة من أن فرج الله الحلو قد مات قبل الوحدة بسنتَين، وأن نعيه قد نُشِر في الصحف اللبنانية آنذاك!

فإذا تحوَّلنا من هذا إلى المعلومات الخاصة بالعراق خصوصًا إبَّان مرحلة الصراع بين قاسم وعارف، «رجل عبد الناصر في بغداد» كما كانوا يردِّدون، لَوجدنا نفس التورُّط في معلومات كاذبة أو غير دقيقة. والحقيقة أنني لو تفرَّغت لتصحيح هذه المعلومات والوقائع الواردة في الكتاب، لَاحتجت إلى تأليف كتاب كامل في هذا الصدد. لكن هذا غير متاح اليوم؛ ولذا يكفي أن أشير إلى بعض الأمور الواردة في الكتاب.

من هذه الأمور مثلًا محاوَلات التلميح المستمرة في الكتاب بأن القائد الفعلي لثورة تموز في العراق هو عارف، وليس عبد الكريم قاسم، مع أنه من الثابت تاريخيًّا اليومَ، على ضوء مذكرات العديد من الساسة العراقيين والرسائل الجامعية التي كُتِبت عن الموضوع، أن قاسم هو الذي وضع خطة التمرد العسكري، وأنه هو الذي كتب البيان الذي قرأه عارف من الإذاعة. ومَن يقرأ كتاب هويدي (كنتُ سفيرًا في العراق) ومذكرات العديد من الساسة العراقيين، فسوف يدرك على الفور أن عارف كان رجلًا متهورًا وأحمق، ولم يكن جديرًا باسم عبد الناصر في بغداد. ولقد أصبح عارف بعد ذلك رئيسًا للجمهورية — هو وشقيقه عبد الرحمن — ولم تتحقَّق في عهدهما وَحْدةٌ اندماجية ولا فيدرالية ولا يحزنون.

ثم هناك ما يردِّده الكتَّاب عن «ثورة» الشوَّاف في الموصل. وكثير مما هو وارد في الكتاب غير دقيق أو غير صحيح أصلًا، وبعض الوقائع ذات الدلالة لا يَرِد ذِكرها أبدًا. إنني أشير هنا إلى دور المخابرات السورية في هذه «الثورة»، وفي نقل السلاح لها، وفي توفير محطة إذاعة للثوَّار نقلت من الحدود السورية العراقية إلى الموصل. ومما له دلالة أن أحد رموز هذه «الثورة» هو شيخ عشائر شمر الذي تضرَّرت مصالحه كإقطاعي من قانون الإصلاح الزراعي الذي أصدرته ثورة تموز، والذي كان على علاقة وثيقة بالمخابرات السورية.

ثم هناك مثال صغير أخير يبيِّن مدى عزوف هيكل عن التدقيق في مصادره قبل كتابة ما كتَب؛ فالكتاب يقول إن عبد القادر إسماعيل هو زعيم الحزب الشيوعي العراقي في ذلك الوقت، مع أن مَن يعرف أوضاع العراق في تلك المرحلة ولو معرفة محدودة، كان يعلم أن عبد القادر إسماعيل لم يكُن زعيمًا للحزب ولا حتى عضوًا في مكتبه السياسي. أمَّا زعيم الحزب آنذاك فهو حسين رضوي الذي اشتهر حركيًّا باسم «سلام عادل»، والذي أُعدِم بعد ذلك.

•••

ربما أكون قد أطلت، لكني حريص على توضيح أن أضعف أجزاء كتاب «سنوات الغليان» هي تلك التي تتعرَّض لأوضاع سوريا والعراق إبَّان تلك المرحلة. وقد أشرت إلى أسباب هذا الضَّعف في اعتماد هيكل على تقارير أجهزة الأمن في كتابةِ ما كتَب، وعدم قيامه بأي جهد في تدقيق الوقائع، بل حتى أسماء الأشخاص.

لكن هذه الملاحظات التي أوردها هنا لا تعني على الإطلاق التقليل من أهمية الكتاب، وإنما تعني أن فصول هذا الكتاب تتفاوت قوَّتها وأهميتها، وأن الدقَّة التاريخية التي اشتهر بها هيكل في العديد من كتاباته قد خانَته في بعض أجزاء الكتاب.

وغني عن البيان أنني أكنُّ لهيكل من الناحية الشخصية كل تقدير، وكما ذكرت في مقالاتي المنشورة في هذا الكُتَيب، فإنني تردَّدت طويلًا قبل الرد على هيكل لاعتبارات سياسية شرحتها. لكني اقتنعت في نهاية الأمر بأن تقديم وجهة النظر الأخرى ضروري، ما دام كتاب هيكل قد صدر ونُشِر في العديد من الصحف العربية.

ولقد حرصت على أن أضمَّ هنا — إلى جانب مقالاتي في الرد على هيكل — مقالات أخرى سبَق نشرها في صحيفة «الأهالي» عن كتاب «ملفات السويس» لهيكل أيضًا، هذا بالإضافة إلى تعليقاتي على مذكرات عكاشة.

وكلي أمل أن يثير نشر هذا الكتاب الصغير حوارًا صحيًّا نتحرَّر فيه من أوهام الماضي، ونتعاون فيه جميعًا لوضع أيدينا على أخطاء ودروس الماضي بأمل أن تستفيد منه حركة التحرُّر العربي في حاضرها ومستقبلها.

د. عبد العظيم أنيس

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥