(٢) الوحدة والانفصال

يعرض كتاب هيكل «سنوات الغليان» بالتفصيل لقصة الوحدة والانفصال، لظروف نشأتها وظروف انفراطها، وكثير مما كتبه هيكل صحيح ويستحق الإشادة عند التعرُّض لقضية الأخطاء، لكن عددًا من المسائل ما زال في حاجة إلى توضيح.

وربما كان في مقدمة هذه المسائل السؤال عن الأسباب التي دعت إلى العجلة في إتمام الوحدة — وبهذه الصورة الاندماجية — مع أن هيكل يعترف بأن عبد الناصر لم يكُن يعرف الأوضاع الحقيقية للمجتمع السوري.

وربما نتذكَّر أنه في خريف ١٩٥٧م كان التهديد التركي بغزو سوريا على أشدِّه، وكان من المعروف أن هذا هو تخطيط حلف بغداد؛ لأن سوريا كانت في مقدمة الرافضين لمبدأ أيزنهاور، ولأن النفوذ السوري في بيروت كان يمثِّل مشكلة أمام حلف بغداد ورئيس الجمهورية اللبنانية كميل شمعون.

وفي هذه الظروف نزلت القوات المصرية في اللاذقية، فاستُقبِلَت استقبالًا شعبيًّا لا نظير له. وكان وصول القوات المصرية إلى اللاذقية بمثابة إعلان واضح من القيادة الناصرية بأنها سوف تحارب إلى جانب سوريا إذا وقَع هجوم على سوريا.

واستهدف هذا الإعلان في تقديري الضغطَ على زعماء حلف بغداد والقوى الإمبريالية التي تقف وراءَهم لإعادة حساباتهم على ضوء هذه الحقيقة أملًا في تجنُّب العدوان، وهو ما حدث بالفعل.

ليس سهلًا إذن القول بأن التعجيل بالوَحْدة كان هدفه إنقاذ سوريا من العدوان المترقَّب؛ لأن القوات المصرية كانت موجودة في سوريا دونَ وحدة، وكان عبد الناصر قد أعلن أنه سوف يحارب إلى جوار سوريا إذا هُوجِمت.

إن مثل هذا القول السابق لا يقول به هيكل على أي حال، وإن كان قد استخدمه آخَرون لتبرير العجلة في إنجاز الوَحْدة. أمَّا ما يقوله هيكل في كتابه لتبرير الاستعجال، فهو أن الوَحْدة تمَّت على عجل؛ لأن الصراعات بين الكُتَل العسكرية في الجيش السوري كانت تهدِّد كيان سوريا ذاتها، وأن الضباط السوريين اتفقوا درءًا لهذا الخطر على أن يذهبوا إلى القاهرة ويضعوا السلطة في يد عبد الناصر.

والذي يبدو غريبًا في الأمر هو أن يتخطَّى القادة العسكريون رئيسَ الجمهورية ومجلس الوزراء والبرلمان، ويذهبون للتفاوض مع عبد الناصر على الوَحْدة دونَ معرفة الجميع، وأن يكون للضباط البعثيين الدورُ القيادي في هذا العمل السياسي المصيري. فما هو السر وراء كل هذه التحرُّكات السورية العاجلة؟

في تقديري أن قادة حزب البعث كان يساورهم القلق من تزايُد نفوذ الحزب الشيوعي السوري في أوساط الشعب آنذاك، وكانت الانتخابات البلدية على الأبواب؛ إذ كان من المفروض أن تتم في يناير ١٩٥٨م، وإذا حكمنا من معركة رياض المالكي الانتخابية في خريف ١٩٥٧م، فقد كان من الواضح أن النفوذ الجماهيري للحزب الشيوعي السوري في تزايُد واضح في ضوء مواقفه في مقاوَمة انقلابات الزعيم والحناوي والشيشكلي وصلابة مواقفه إبَّان العدوان الثلاثي على مصر، وفي مقاوَمة مبدأ أيزنهاور والتهديدات التركية لسوريا.

إن هذا في رأيي أحد الأسباب المباشِرة التي دفعت بقيادات البعث ورموز سياسية أخرى نحو التعجيل بالوَحْدة. وقد تصوَّر البعث أن الثمرة السياسية لهذه الوَحْدة هي من نصيبهم، وأنها كفيلة بقَطْع خط الرجعة على مشكلة الانتخابات البلدية.

ولقد طرح بعض السياسيين السوريين مشروعًا للاتحاد الفيدرالي بين مصر وسوريا أكثر من مرة، ولم يكن لهذا الطرح صدًى عميق في أوساط القيادة الناصرية.

ففي أواخر عام ١٩٥٦م طرح رئيس الجمهورية السوري شكري القوتللي مشروعًا لاتحاد فيدرالي تحت اسم «الدول العربية المتحدة»، يضم مصر وسوريا، ويكون بابه مفتوحًا لانضمام أي دولة عربية أخرى. وفي يوليو ١٩٥٧م، وإبَّان معارك الضغط الإمبريالي على سوريا، اتخذ مجلس الوزراء السوري قرارًا بطلب إقامة اتحاد فيدرالي مع مصر.

ولو كان هذا الاتحاد الفيدرالي محل قَبول في القاهرة، لَكان في الإمكان حلُّ مشكلة الكُتَل المتصارعة داخل الجيش السوري، فالاتحاد الفيدرالي يقوم على أساس سياسة خارجية وجيش واحد وتخطيط مركزي في القضايا غير المحلية، أيْ وزير خارجية واحد، ووزير دفاع واحد، ورئيس واحد للقوات المسلَّحة هو رئيس الجمهورية الذي سيكون بالقَطْع جمال عبد الناصر.

لكن قَبول هذا الاتحاد الفيدرالي كان يعني استمرارَ النظام الحزبي والبرلماني قائمًا، وهو نظام كانت فيه سوريا متقدِّمة على مصر من زاوية الديمقراطية، كما يترك موضوع نفوذ الحزب الشيوعي السوري بلا حل.

وعندما أتحدَّث في هذه المسألة، فإنني أود أن أوضِّح نقطتَين؛ الأولى هي أنني كنت في سوريا في خريف ١٩٥٧م كمحرِّر للشئون العربية لصحيفة المساء القاهرية، وقمت بالطواف على معظم المدن السورية والتحدُّث إلى العديد من السياسيين والضبَّاط السوريين في كافة القضايا القائمة؛ وبالتالي فإنني أتحدَّث عن شئون سوريا آنذاك عن خبرة ميدانية. أمَّا النقطة الثانية، فهي أنني لا أريد أن يفهم أحد — عندما أتحدَّث عن تزايُد نفوذ الحزب الشيوعي السوري — أن هذا الحزب كان على وشك السيطرة على البرلمان أو المجالس المحلية لو جرَت انتخابات حرَّة.

إن هذا أبعد ما يكون من ذهني، لكن ما أدَّعيه هو أن هذا الحزب كانت لديه آنذاك فرصةُ الحصول على بعض المواقع الهامة في عدد من المجالس البلدية، وربما أربعة أو خمسة نوَّاب إذا جرَت انتخابات عامة.

إن حدوث هذا لم يكُن مقبولًا، لا من جانب قيادة حزب البعث ولا من جانب عبد الناصر؛ فالبعثيون لهم صراعات تاريخية مع الشيوعيين السوريين، والعديد من القوى القومية العربية كانت شديدة العداء للفكر الشيوعي، وما زلت حتى اليوم أذكر جلسةَ نقاشٍ حاد بيني وبين ميشيل عفلق في حضور خالد محيي الدين ولطفي الخولي وآخرين من قادة حزب البعث العربي حضروا إلى القاهرة عام ١٩٥٧م.

أمَّا عبد الناصر، بشخصيته البونابرتية إلى حدٍّ كبير، فمع أنه كان مستعِدًّا للاستماع إلى الآخرين، فإنه لم يكُن مستعِدًّا لقَبول أحد إلى جانبه مشارِكًا في اتِّخاذ القرار، حتى لو كانت تلك المشارَكة ثانوية.

ومَن يراجِع محضر اجتماع عبد الناصر مع الضباط السوريين الذين حضروا للإلحاح على التعجيل بالوحدة، كما ورد في كتاب هيكل، فسوف يجد إشارات واضحة هدفها تخويف عبد الناصر من تزايُد النفوذ الشيوعي في سوريا إن لم تتم الوحدة. وإذ سأل عبد الناصر هؤلاء الضباط: ما الذي جرى في سوريا حتى يتعجَّلوا الوَحْدة ويأتوا إلى القاهرة على هذه الصورة دونَ علم رئيس الجمهورية أو مجلس الوزراء؟ تحدَّث بعضهم عن تسلُّل الشيوعيين إلى أعصابٍ حسَّاسة داخل جهاز الدولة، وعن نشاط خالد بكداش الذي حوَّل حارة الأكراد في دمشق إلى قلعة حصينة.

والمثير للابتسام أن هذا الحديث قد جرى في حضور اللواء عفيف البزري قائد الأركان السورية، وهو الضابط الذي كان متَّهمًا بالماركسية واقترابه من الحزب الشيوعي السوري، فضلًا عن أن عبد الحميد السراج نفسه قائد المكتب الثاني (المخابرات) «كان متَّهمًا في أوساط المخابرات الأمريكية بأنه شيوعي»!

لكن ملخَّص المحضر لا يحتوي شيئًا عن موضوع آخَر هو بيت القصيد في رأيي؛ أَلَا وهو الانتخابات البلدية التي كان مقرَّرًا لها أن تُجرى في أوائل عام ١٩٥٨م. لكن التقرير الذي رفعه السفير «رينهاردت» إلى أيزنهاور بعد ذلك يحتوي على إشارة صريحة إلى أن من دواعي العجلة في موضوع الوَحْدةِ الخشيةَ من أن تُسفِر الانتخابات البلدية في أوائل عام ١٩٥٨م عن هزيمة يُلحِقها الشيوعيون بحزب البعث. وربَّما أضيفُ إلى هذا اجتهادًا ومعلومة.

أمَّا الاجتهاد فهو أن تلك بالدقَّة نفس الأيام التي تمَّت فيها وحدة الشيوعيين المصريين بالقاهرة، وأُعلِن عن تأسيس الحزب الشيوعي المصري في يناير ١٩٥٨م، ولا بد أن عبد الناصر قد تصوَّر أن مؤامَرة تُحاك ضده في القاهرة ودمشق. أمَّا المعلومة فهي أنه قد جرت بيني وبين اللواء عفيف البزري بعد الوَحْدة مناقَشاتٌ حول اجتماع الضباط هذا مع عبد الناصر، وكان رأيه في دواعي التعجيل قريبًا جدًّا مما أذكره هنا. وكان اللواء البزري قد تم عزله بعد الوَحْدة بقليل عن قيادة الجيش السوري، ونُقِل إلى القاهرة بحجَّة تعيينه في مجلس التخطيط الأعلى الذي لم يكُن له وجود حقيقي. وقطعًا للفراغ المُمِل قام بتأليف كتاب صغير في التخطيط، وطبَعه في مطبعة صحيفة المساء، ورجاني أن أتولَّى مراجَعته، وفي هذه الظروف جرَت المناقَشة بيني وبينه.

وُلِدت الوَحْدة إذن في فبراير ١٩٥٨م في تلك الصورة الاندماجية التي فُرِضت فرضًا على بعض السياسيين، فاضطروا إلى قَبولها تحت ضغط العسكريين. وكان رئيس الجمهورية في مقدمة هؤلاء المرغمين، وهو القائل بعد عودة الضباط من القاهرة: «قُضِي الأمرُ الذي فيه تستفتيان»، وكان أوَّل مَن أيَّد الانفصال بعد حدوثه، رغم أنه المُواطِن العربي الأوَّل.

واختار بكداش أن يغادر البلاد فلا يحضر جلسة البرلمان التي تمَّت فيها الموافَقة على الوَحْدة بشروط عبد الناصر الثلاثة الشهيرة.

وعندما نتأمَّل اليومَ شرْطَه الأول في حل الأحزاب في سوريا، فلا بد أن ندرك الخطأ التاريخي الذي وقع فيه عبد الناصر بإصراره على هذا الشرط، فضلًا عن عدم واقعيته واستحالة تنفيذه بالكامل.

فالأحزاب السورية من نوع البعث والحزب الشيوعي، لم تكُن أحزابًا من النوع المتهاون والمتواطئ مع الأجنبي كما كانت الأحزاب في مصر عند وقوع ثورة ۱۹٥۲م، بل على العكس، فقد كان لهذين الحزبَين صورة جماهيرية جيدة على ضوء نضالهما ضد الدكتاتورية العسكرية في سوريا وإعادة الحياة الديمقراطية، وفي مواجَهة حلف بغداد ومبدأ أيزنهاور والتهديد التركي لسوريا؛ أيْ أنها كانت قوى وطنية تحرُّرية كان من الممكِن أن تلعب دورًا إيجابيًّا في دعم الوحدة.

وفضلًا عن ذلك، فإن حزب البعث له امتداداته التنظيمية في الأقطار العربية الأخرى، ولهذا فإن الدعوة إلى حلِّه لم تكُن دعوة عملية ما دامت قيادته في دمشق تدير نشاطه القومي «وتتظاهر بأنها لا تدير نشاطه الوطني»، أمَّا الحزب الشيوعي السوري فقد كان حتى ذلك الوقت هو والحزب الشيوعي اللبناني حزبًا واحدًا، وكان بكداش هو القائد الحقيقي للحزبَين؛ ولذا فإن قرار حل الحزبَين لم يتحوَّل إلى حقيقة، وما كان من الممكِن أن يتحوَّل إلى حقيقة ولو حسنت النوايا!

ولقد أشار هيكل في حديثه عن الأخطاء إلى أن عبد الناصر حاوَل أن يُسقِط أحوال مصر على سوريا، ولم يكُن هذا أمرًا واقعيًّا. ولم يكُن من الواقع أن يتصوَّر عبد الناصر أن في إمكانه معاداة الأحزاب في سوريا دون أن يؤدِّي هذا إلى انقسامات داخل الجيش السوري وظهور معارَضة داخله.

لقد أفلت عبد الناصر بأعجوبة من نتائج الانقسامات في الجيش والمعارَضة الداخلية في مصر نتيجةً لموقفه من الأحزاب المصرية، وشهد الجيش المصري عمليات تطهير داخلية ومحاكَمات جرَت طوال عامَي ۱۹٥۳م و١٩٥٤م، حتى استتبَّ الأمر لعبد الناصر بعد أزمة مارس ١٩٥٤م. وساعد على هذا أنه كان يتابع تطوُّرات الموقف يومًا بيوم، ويتَّخذ القرارات المناسبة لدعم موقفه. لكنه في حالة دمشق كان بعيدًا، ولم يكن في الحقيقة يعرف ظروف سوريا معرفةً جيدة، واعتمد على عبد الحكيم عامر وعبد الحميد السراج اللذين اشتدَّ الصراع بينهما. وفي الوقت الذي كان السراج يبعث لعبد الناصر بأن هناك تدبيرات لانقلاب من جانب بعض المحيطين بعامر، كان عامر ينكِر ذلك بشدة، وعندما وقعَت الواقعة تبيَّن أن الانقلاب تم تدبيره في مكتب عامر وباسمه وسلطته!

ولم يَكَد ينقضي عام ١٩٥٨م وبعض عام ١٩٥٩م حتى استقال الوزراء البعثيون من الحكم، بعد أن فقدوا الأمل في السيطرة على دولة الوحدة، وفقَد الحكم كافة القواعد الحزبية التي كانت سندًا له، باستثناء البيروقراطيين السوريين، دون وجود قاعدة جماهيرية منظَّمة لسلطة الوحدة، ثم جاءت الطامَّة الكبرى بتعيين عبد الحكيم عامر «نائبًا للملك» في دمشق.

إن هذه القضية التي أثيرها هنا ليست مجرد تعيين عامر في هذا المنصب على الرغم مما كان يعرفه عبد الناصر عن عامر، وكان من المفروض أن يكون رادعًا له عن اتخاذ هذا القرار. وهيكل نفسه الذي كان دائمًا قريبًا من القمة، يقول إن عامر عاش بعد ما جرى في عدوان ١٩٥٦م نصفَ منكسِر ونصفَ معزول، وعبد الناصر هو نفسه القائل لهيكل في أكتوبر ١٩٥٧م: «إن عامر لا يجيد الإلمام بالتفاصيل في أي موضوع، وإنه لو سُئِل عن قصة سيدنا يوسف، لَقال إنها قصة ولد تاه ولقوه.»

إنني لا أشير فقط إلى عيوب عامر في الإدارة السياسية والعسكرية، وإنما أشير إلى خطأ عبد الناصر البارز في تعيين مصري أصلًا في هذا المنصب، باعتبار أن هذا القرار لا بدَّ أن يثير حساسيات وطنية لدى السوريين.

ولستُ أخجل من تسمية هذه بالحساسيات الوطنية، فالحقيقة أنه في عالَم اليوم لا ينبغي تجاهل البُعدَين الوطني والقومي عند بحث قضية أي شعب عربي. إن الفَهم التقليدي للقومية باعتبارها نقيض الخصوصيات المحلية والمشاعر الوطنية في كل قُطر عربي أمرٌ تُجافِيه الوقائع ويتنافى مع حقيقة وجود أسواق عربية مختلفة واقتصاديات مختلفة. وكان من المبالَغات غير المفيدة التي ألحَّ عليها البعثيون آنذاك، إهمال اسمَي مصر وسوريا واستبدال الإقليمَين الجنوبي والشمالي بهما، فضلًا عن تسمية الجيشَين بالجيش الأول والجيش الثاني! ولقد دفَع الشعب الفلسطيني ثمنًا غاليًا لإهماله البُعد الوطني في قضيته واعتماده على البُعد القومي وحده، وكان ذلك من أسباب كارثة ١٩٤٨م، وها هم الفلسطينيون اليومَ يتحدثون دون حرج عن الهُويَّة الفلسطينية واستقلالية القرار الفلسطيني! نحن إذن لا نخطِئ عندما نتحدَّث عن مشاعر وحساسيات وطنية استثارها تعيينُ مصريٍّ في وظيفة نائب الملِك في دمشق، وليلاحظ القارئ أنني لست مخترعَ هذا التعبير في وصف وظيفة عامر، وإنما هيكل نفسه في كتابه أوَّلُ مَن استخدمه، وإذا أضفنا إلى ذلك حقيقةَ أن معظم الضباط المصريين في دمشق كانوا غير مُسيَّسين، وليس لديهم وعي سياسي، وأن العديد منهم بالإضافة إلى كبار الموظفين المصريين الذين أُرسِلوا إلى دمشق تَعامَلوا مع السوريين بمنطق الاستعلاء، استطعنا أن نضع أيدينا على أحد العوامل التي لعبت دورًا هامًّا في انفراط عِقد الوَحْدة.

ومما له دلالة في رأيي، أن يقول السراج عندما احتدم الخلاف بينه وبين عامر «إنه قادر على إخراج عامر من دمشق مضروبًا بالبندورة.»

ولم يكُن أيضًا من قبيل الصدفة أن أعضاء مكتب عامر في دمشق هم مِن قادة الانقلاب، بمَن فيهم النحلاوي مدير مكتبه والعقيد هشام عبد ربه المسئول عن أمن عبد الناصر عند نزوله في قصر الضيافة في دمشق! ولا بدَّ أن يكون هذا العامل في ذهن عبد الناصر عند سماعه بأنباء الانقلاب؛ لأن هيكل يقول في كتابه بأن أوَّل ما خطَر في ذهن عبد الناصر هو أن السراج هو قائد الانقلاب!

لقد اشترك في قيادة الانقلاب في سبتمبر ١٩٦١م نوعان من الضباط؛ نوع استثارَته المشاعر الوطنية عن «الاستعمار المصري»، الذي تمثَّل في مظاهر معينة مثل وجود عامر في منصب القيادة في دمشق، ومثل كثرة فروع بنك مصر في المدن السورية، ومثل الدور الذي يلعبه الضباط المصريون في دمشق، ومن هذا النوع ضباط مثل هشام عبد ربه وفايز الرفاعي وربما النحلاوي نفسه. ثم هناك نوع آخَر على صلة عضوية بالرجعية السورية التي استثارَتها إجراءات يوليو ١٩٦١م، وعلى رأس هؤلاء حيدر الكزبري قائد حرس البادية، وقريب مأمون الكزبري رمز الشركة الخماسية، وهي أكبر شركة سورية خاصة في ذلك الوقت.

ولعل أبلغ دليل على أن المشاعر الوطنية السورية كانت مُستثارة تمامًا في ظل الفراغ السياسي وصراعات السُّلطة بين عامر والسراج، هو قصة البيان رقم ٩ للانقلاب الذي وافَق عليه المشير بعد مفاوَضات بينه وبين الضباط، وأُذِيع فعلًا من راديو دمشق. ووفقًا لهذا البيان فقد وافق المشير على طلبات الضباط مقابل أن تعود الوحدة كما كانت. وتمثَّلَت هذه الطلبات في أن تكون كل قيادة الجيش السوري للضباط السوريين وحدهم، وأن يُعاد إلى دمشق كلُّ الضباط السوريين الذين تم نقلهم إلى القاهرة. لكن عبد الناصر لم يوافق على نتائج هذه المفاوَضات بين عامر وضباط مكتبه، فضلًا عن أن حيدر الكزبري هدَّد بنسف مقر القيادة، بما فيها المشير، بعد إذاعة البيان رقم ٩. إنني لا أريد أن أنكِر دور الرجعية السورية في الانقلاب، إلا أنني أنكر أنه كان الدور الوحيد، فالحاصل أن القوى التي تجمَّعت حول الوحدة تبدَّدت شيئًا فشيئًا، حتى آخِر «المخلصين» عبد الحميد السراج أرسَل لعبد الناصر قبل الانقلاب بأيام برقيةً يقول فيها: «إنك أسلمتني لمَن أهانني. أرجو قَبول استقالتي.»

ولقد مرت معظم سنوات الوحدة وسط جو مشئوم، جو مُعاداة الشيوعية والحملات المحمومة على الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية العربية، وشغل عبد الناصر نفسه بالصراع ضد قاسم في العراق أكثر مما شغل نفسه بقضية دعم الوحدة. وكانت تلك سنوات التهدئة مع الإمبريالية الأمريكية، التي بدأت بلقاء عبد الناصر وراونتري في ديسمبر ١٩٥٨م واستمرت حتى عهد كينيدي، وليس بالصدفة أن كريستيان هيرتر — وزير خارجية أميركا — عندما قابَل هيكل في سبتمبر ١٩٦٠م خلال زيارة عبد الناصر للأمم المتحدة، حاوَل أن يلفت نظره إلى أن القلق في سوريا يتزايد، وأن هناك أسلحة كثيرة تهرب إلى داخل سوريا عبر حوران. كان هذا إذن المناخ الذي نجح فيه الانفصال، وما أقساه من درس!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥