(٣) اليمن … هل كان الانسحاب المبكِّر ممكِنًا؟
كان عبد الناصر قد وصل بعد الانفصال السوري إلى قناعة بأهمية التركيز على بناء مصر كنموذج أمام العرب والعالم، وبالتالي أهمية التفرُّغ لتعزيز القاعدة — مصر — وجعلها حصينة بدلًا من الانشغال في تجارب عربية جديدة.
وبالفعل جرت مجموعة من الإجراءات السياسية والإدارية في هذا الاتجاه، لعل من أهمها طرح ميثاق العمل الوطني للقوى الشعبية في يوليو ١٩٦٢م.
ثم وقعت «تجرِبة» عربية جديدة، وكانت مفاجأة للعالم ومصر، أعني ثورة اليمن في سبتمبر سنة ١٩٦٢م. وأرسلت الحكومة الجديدة في صنعاء نداءً إلى «ج.ع.م» تطلب فيه المساعَدة العسكرية.
وفق القناعات التي أشار إليها هيكل في كتابه «سنوات الغليان»، والتي انتهى إليها جمال عبد الناصر بعد الانفصال، كان من المتوقَّع أن تُحجِم مصر عن التدخل العسكري في اليمن، وأن تكتفي مثلًا بإرسال أسلحة وذخائر للثورة الوليدة.
لكن هيكل يقول إنه كان هناك رأيان في تلك القضية عندما طُرِحت؛ رأي السادات الذي كان متحمِّسًا للتدخُّل العسكري، ورأي عبد الناصر الذي كان يرى إرسال أسلحة وذخيرة ثم الانتظار. وقد انتصر الرأي الأول بعد مناقَشات دارت لمدة ثلاثة أيام.
ومن حقِّنا أن نستنتج طبعًا أن انتصار الرأي الأول لم يحدث رغم أنف عبد الناصر، وإنما اقتنع هو بوجاهة هذا الرأي بعد الحوار؛ فوضْعُ عبد الناصر في قمة السلطة السياسية آنذاك لم يكُن يسمح لأحدٍ أن يتحدَّاه في رأي يراه إذا تمسَّك به.
فما هي الدواعي التي سهَّلت لعبد الناصر التحوُّل إلى الرأي الآخر الذي تحمَّس له السادات؟ إن هيكل لا ينكِر أن عبد الناصر لم يكُن يعرف الكثير عن الأوضاع في اليمن. صحيحٌ أنه أرسَل السادات وكمال رفعت في زيارة خاطفة لصنعاء، لكن مثل هذه الزيارة العاجلة لم تكُن تحتمل إلا تقدير الموقف داخل القيادة الثورية ذاتها؛ توجَّهاتها وفكرها وتوزيع القوى السياسية فيها. ولقد كان واضحًا للجميع أن العمليات — لطبيعة أرض اليمن وجغرافيتها — هي أقرب ما تكون إلى حرب العصابات، وأن الجيش المصري ليس مؤهَّلًا بطبيعة تركيبه لمثل هذه العمليات. لكن السادات عاد من صنعاء ليقول إن الثورة في حاجةٍ إلى مجردِ سِربٍ واحد من الطائرات!
هل حدثت دراسة جدية لردود الفعل المحتمَلة في الرياض؟ إن هيكل يقول إن مصر لم تكُن قادرة على إجراء حساب دقيق لموقف السعودية، وإنه ربما كان على القاهرة أن تدرك مبكِّرًا أن الرياض لن تسكت، وأن الحقائق الاستراتيجية لشِبه الجزيرة تجعل سكوت الرياض أمرًا مستحيلًا. فكيف فات القاهرة كلُّ هذا؟
إن الدارس لكتاب هيكل لا بد أن يُساوِره هاجسان عند الرد على هذا السؤال؛ والهاجس الأول هو أن مصر فيما يبدو قد بالَغت في أهمية الانقسامات داخل الأسرة المالكة في الرياض. فمهما كانت الخلافات بين فيصل وسعود، فإنها خلافات على أسلوب الحكم لا على الأهداف. ولا بد أن حدَثًا بعُمق الثورة اليمنية كفيلٌ بأن يتحدَّى أُسس أنظمة الحكم المستقرة في أقطار عربية عديدة.
وقد ثبت أن فيصل وصِهره كمال أدهم هما اللذان قادا تحدي الوجود العسكري المصري في اليمن قبل سعود.
أمَّا الهاجس الثاني فهو أن العلاقات الجيدة التي كانت قائمة آنذاك بين القاهرة وواشنطن لا بد أن تكون قد سهَّلت أمام عبد الناصر قَبول مبدأ التدخل العسكري دون توقُّع ردود فعل عنيفة من واشنطن.
ولا شك أن وصول جون كينيدي إلى البيت الأبيض في يناير سنة ١٩٦١م كان إيذانًا بإعادة نظرة شاملة في توجهات السياسة الأمريكية، خصوصًا في مواقعها الإقليمية. وضِمن إطار هذه الإعادة انتصرت الاتجاهات الليبرالية التي كان يمثِّلها مستشاروه من أمثال تشستر بولز، في معامَلة الأنظمة الوطنية غير الشيوعية في بُلدان العالم الثالث معامَلةً إيجابية، بهدف إبعادها عن السوفيت ومنحها المعونات الاقتصادية التي تسمح بإيجاد روافع ضغط عليها إذا لزم الأمر. ولا شك أن مصر بنزاعاتها مع موسكو آنذاك — كانت في مقدمة هذه البُلدان.
تلك كانت الظروف التي اقترح فيها دين راسك في يناير ١٩٦٢م منْحَ مصر معونات اقتصادية لعدَّة سنوات لتعزيز إمكانية الارتباط الطويل الأجل بين واشنطن والقاهرة، ودعوة عبد الناصر لزيارة واشنطن رسميًّا. وفي هذه الظروف أيضًا ذهب الممثل الشخصي لجون كينيدي في فبراير سنة ١٩٦٢م للقاء عبد الناصر في القاهرة، وأرسَل من هناك برقية إلى الرئيس الأمريكي يقول فيها إن زيارته للقاهرة كانت مشجِّعة بأكثر مما قدَّر، وإنه وجد في القاهرة نظامًا عالي الكفاءة وفي حاجة إلى الدعم، وإن التخوُّف من انتصار الشيوعية في المنطقة لا أساسَ له. وبعد أسابيع من تلك البرقية سافَر القبسوني على رأس وفد اقتصادي مصري إلى واشنطن، ووقَّع اتفاقًا اقتصاديًّا طويل المدى هناك.
صحيحٌ أن أصدقاء واشنطن من الحكَّام العرب التقليديين لم يكونوا راضين عن هذه السياسة الجديدة، لكن كينيدي كان يردِّد دائمًا أمام الشاكين أن أصدقاء واشنطن من العرب سوف يكونون أول المستفيدين إذا نجحت السياسة الأمريكية الجديدة إزاء القاهرة.
ولقد ذهب فيصل في أكتوبر سنة ١٩٦٢م — أيْ بعد ثورة اليمن بقليل — وطالَب أمريكا بمسانَدته في جهد سعودي بريطاني أردني مشترك للعمل ضد الثورة الجديدة، لكنه خرج من اجتماعه بكينيدي غير مرتاح بالكامل؛ إذ أعطاه كينيدي انطباعًا بأنه يفكِّر في الوساطة بينه وبين عبد الناصر.
والثابت أن فيصل توقَّف في لندن في طريق عودته إلى الرياض، وأنه وجد في لندن تجاوبًا قويًّا للعمل معه ضد الثورة اليمنية، بما في ذلك الاستعانة بالأردن لدعم الملكيين، كما أنه من الثابت أن لندن وواشنطن دخلتا في جدلٍ حادٍّ نوعًا ما حول الطريقة المُثلى لمواجهة أزمة اليمن.
وإذا كان هذا هو طبيعة الموقف المنفتِح في واشنطن إزاء نظام عبد الناصر، أفلم يكُن في إمكان مصر أن تسحب قوَّاتها بسرعة بعد دعم النظام الجديد ودون المخاطَرة بانهياره؟
إن الذين يعتقدون مثلي بأن موقف مصر في مسانَدة الثورة اليمنية عسكريًّا كان من ناحية المبدأ موقفًا صحيحًا ومشرِّفًا للنظام الناصري؛ يلحُّ عليهم مع ذلك التساؤلُ حول ما إذا كانت القيادة الناصرية لم تعرف كيف تخرج من اليمن في الوقت المناسب، وما إذا كانت قد تباطأت في بقائها بأكثر مما هو ضروري، بحيث تحوَّل الأمر في النهاية إلى عملية استنزاف لمصر عسكريًّا واقتصاديًّا، وهو ما كانت بريطانيا والأنظمة الرجعية العربية تودُّه وتعتبره أمرًا مفيدًا لها.
وإذا كان ليس من السهل أن يَقطع المرء برأي نهائي على ضوء المعلومات المتاحة، إلا أنه قد بدا لي من خلال قراءة كتاب هيكل أن ثَمَّة فرصة بدَت وضيَّعتها مصر كما يبدو. ففي ۱۷ نوفمبر سنة ١٩٦٢م أرسل كينيدي لعبد الناصر خطابًا يحتوي على مقترَحاته لحل الأزمة اليمنية، وردَّ عبد الناصر في اليوم التالي موافِقًا، وكذلك فعَل السلال وفهمت القاهرة أن الأطراف الأخرى قد وافقت كذلك. وعيَّن الرئيس الأمريكي ممثِّلًا خاصًّا له هو رالف بانش لترتيب إجراءات فضِّ الاشتباك عن طريق المراقبين الدوليين. والأهمُّ من ذلك أنه وفقًا لمشروع كينيدي أعلنَت واشنطن اعترافها بالنظام الجديد في صنعاء، على الرغم من أن كينيدي كان يعلم أن مثل هذا الاعتراف قد يُغضِب الرياض وعمان. فلماذا إذن تعثَّر الموقف بعد ذلك؟
إن هيكل يقول إن جهود فضِّ الاشتباك في اليمن وقفت أمام طريق مسدود، فلم يكُن في استطاعة المراقبين تنفيذ فض الاشتباك لاختلاط الموقع. لكن الذي يبدو لي أن مصر لم تنفِّذ التزاماتها في هذه الصفقة بسحب قوَّاتها بالقدر الكافي. وواضحٌ من خطابات عبد الناصر إلى عامر في صنعاء أنه كان متردِّدًا، وكان يملؤه في قرارة نفسه أحيانًا الشعورُ بأن المشروع الأمريكي خدعة.
وعلى الرغم من أن اجتماع عبد الناصر بالسفير الأمريكي بادو في ٥ أكتوبر سنة ١٩٦٣م قد أوضَح إلحاحَ واشنطن على مسألة سرعة سحب القوات المصرية، فإن عبد الناصر أجاب أنه سحب نحو ثمانية آلاف من قوَّاته فعلًا، وأنَّ هناك خطَّة بسحب قوَّات جديدة، لكن الواضح من إجابات عبد الناصر أنه خلال عام كامل لم يَسحب غير هذا العدد المحدود.
وفي ۱۹ أكتوبر سنة ١٩٦٣م أرسَل كينيدي إلى عبد الناصر خطابًا آخَر يُبدِي فيه قلقَه الشخصي الشديد لتباطؤ مصر في الاضطلاع بدورها في فض الاشتباك وسحب القوات، ثم عاد كينيدي في ٢٧ أكتوبر سنة ١٩٦٣م وأرسل رسالة شفوية أخرى يقول فيها إن موقف «ج.ع.م» في واشنطن يتعرَّض لنقد شديد بسبب فشلها في فض الاشتباك بصورة جوهرية.
كيف تركت الأمور لتتداعى إلى هذا الحد؟ وهل يكون لهذا صلة بالموقف في عدن؟
يقول هيكل في تفسير هذا إن الأطراف غير الأصلية في الاتفاق المصري الأمريكي (السعودية، بريطانيا، الأردن، باكستان) كانت قادرةً على تخريبه، وإن زمام المبادَرة انتقل من أيدي الحكومات وكاد يستقر في أيدي أجهزة المخابَرات وشركات البترول وتجَّار السلاح وقادة العشائر.
لكن هذا قد يَصلح تفسيرًا وليس تبريرًا لضياع تلك الفرصة في إنهاء التدخل المصري بطريقة مشرِّفة. وقد يساعد على هذه القناعة بأن ثَمَّة فرصة ثمينة قد ضُيِّعت، أن السعودية ذاتها بدأت تميل إلى الوصول إلى حل مع مصر بعد انهيار نظام قاسم في بغداد في فبراير سنة ١٩٦٣م؛ الأمر الذي زاد من رجحان كفَّة عبد الناصر في العالَم العربي وإزاء الأطراف الدولية الأخرى. ولقد دارت محادَثات بين حافظ وهبة وعلي خشبة، لكنها فيما يبدو لم تَنتهِ إلى نتيجة محدَّدة.
والحقيقة أن المرء لا يملك إلا الشعور بهاجسِ أن القيادة العسكرية المصرية كانت في وادٍ، بينما كانت القيادة السياسية في القاهرة في وادٍ آخَر، وأن عدم قدرة عبد الناصر على السيطرة على أوضاع الجيش ربَّما كانت ذات صلة بفقدان السيطرة على مجريات الأمور في اليمن ذاتها.
ولقد ثبَت أن القيادة العسكرية المصرية كانت تخطِّط لعمليات عسكرية في الحجاز، وأن الطيران المصري قام بعمليات استطلاع على الحدود السعودية، وأن مؤنًا أُلقِيت بالمظلَّات في الحجاز لمساعَدة أنصار عبد الناصر هناك. وعندما سأل عبد الناصر عن هذا الموضوع بعد حملة الصحف الأمريكية، جاء الرد من المخابَرات العسكرية المصرية بأن الوقائع صحيحة، وأنها تمَّت بناءً على طلب من الأمير طلال!
إن آخِر رسالة بعَث بها كينيدي إلى عبد الناصر في أكتوبر سنة ١٩٦٣م عن قضية اليمن كانت تحتوي على نبرة تهديد، وتردَّد عبد الناصر مدةً طويلة في أسلوب ردِّه على الرسالة؛ فقد كان حريصًا على المحافَظة على المساعَدات الاقتصادية الأمريكية من ناحية، لكنه من ناحية أخرى لم يكُن مستعدًّا لقَبول رسائل بها نبرة تهديد من واشنطن. وكتب عبد الناصر رسالة فأخرى فثالثة ثم مزَّقها جميعًا.
ثم تولَّى القدَرُ حلَّ مشكلة تردُّد عبد الناصر؛ إذ جرى اغتيال كينيدي في نوفمبر سنة ١٩٦٣م، ودخل إلى البيت الأبيض عدوُّ عبد الناصر اللَّدُود وصديقُ إسرائيل الحميم؛ الرئيسُ جونسون.
وكان على عبد الناصر أن يسارع بتعديل موازين علاقاته الدولية على ضوء هذا التطور. وهكذا بدأ ذوبان الجليد بين القاهرة وموسكو وتَسارَع، وربما كان وصول جونسون إلى البيت الأبيض أدعى إلى سرعة تنظيم سحْبِ القوات المصرية، وهو ما لم يحدث مع الأسف الشديد، وظل هذا النزيف مستمرًّا حتى ١٩٦٧م.
إن الانطباع الذي يخرج به قارئ الكتاب هو أن المشكلة اليمنية تحوَّلَت إلى أقدار لم يكُن في وسع عبد الناصر دفْعُها، وأن زمام المبادَرة أفلت من يده ويد واشنطن، فإلى أيِّ حدٍّ كان هذا صحيحًا؟
يبدو أننا في حاجةٍ إلى دراسات أوسع لهذه القضية حتى تنجلي الصورة تمامًا.