(١) سنوات البراءة
هذه السطور ليست عرضًا لكتاب «ملفات السويس» لمحمد حسنين هيكل، ومن باب أولى ليست تقييمًا للكتاب، ومع ذلك فمن الواضح لي أننا بصدد أهم كتاب صدَر حتى اليوم، لا عن العدوان الثلاثي عام سنة ١٩٥٦م فحسب، وإنما عن السنوات التي سبقت العدوان الثلاثي كذلك.
فالمؤلف شديد الاقتراب من مركز السلطة في مصر في تلك السنوات، وهو ليس مشاهِدًا ومراقِبًا فحسب، وإنما كان فاعلًا أيضًا في مرحلة تاريخية كاملة، وفضلًا عن أهمية هذا الاعتبار فإن الكتاب مليء بكمٍّ ضخم من الوثائق في صفحاته الأخيرة، بعضها حصل عليه المؤلف بالطريق السهل من خلال صِلته بعبد الناصر، والبعض الآخَر تعب في الحصول عليه من ملفات ووثائق الحكومتَين الأمريكية والبريطانية.
ومع ذلك، فإن الكتاب — كما يدرك هيكل نفسه — لن يكون كلمةَ التاريخ الأخيرة فيما يتعلَّق بالعدوان الثلاثي أو السنوات الأولى للثورة، لأسباب عديدة من بينها أن المؤلف نفسه كان أحد أطراف هذه الأحداث التاريخية. لكنني مع ذلك أتصوَّر أن هذا الكتاب سيظل دائمًا أحدَ المراجع الأساسية لأي مؤرخ يتناول دراسة تلك المرحلة.
وإذا كانت هذه السطور ليست عرضًا للكتاب، ولا هي محاوَلة لتقييمه، فماذا تكون إذن؟ وما الغرض من كتابتها؟
أظن أن الغرض منها هو الحوار مع الكتاب، ومحاوَلة استنطاقه فيما يتعلَّق بعدد من القضايا الهامة المتعلِّقة بهذه المرحلة، والتي كانت هاجسَ كثيرٍ من المثقفين، أو التي أثارت جدلًا طويلًا في أوساطهم في الماضي. وربما ألقى الكتاب مزيدًا من الأضواء على بعض هذه القضايا، أو أعطى رواية أخرى مختلفة عن رواية سابقة نُشِرت في مجال آخَر، الأمر الذي يحتاج إلى بعض الالتفات أو النقاش.
وغنيٌّ عن البيان أن هذا الحوار لا يستهدف الإساءة إلى ثورة يوليو وتاريخها، ومن باب أولى الإساءة إلى الزعيم الوطني جمال عبد الناصر؛ فليس أسخفَ — في رأيي — من هذه المحاوَلات التي تُجرى بشكل محموم في السنوات الأخيرة للإساءة إلى هذا التاريخ، عن طريق التلميح أو التصريح بأن ما حدث في يوليو سنة ١٩٥٢م كان انقلابًا دبَّرته الأجهزة الأمريكية الخفية كما دبَّرت انقلاب حسني الزعيم في سوريا سنة ١٩٤٩م، وأن إسرائيل لم تكُن بعيدة عنه ولا عن قائده. ومن المرجَّح أن هذه المحاوَلات الجديدة ليست بعيدة عن نشاط الأجهزة الخفية في الغرب، التي تريد أن تزيِّف وعي الناس فيما يتعلق بما حدث بعد أكتوبر سنة ۱۹۷۳م، وقد يكفي أن نقول أن صراع ثورة يوليو ضد الغرب عمومًا — والولايات المتحدة وإسرائيل خصوصًا — الذي تخلَّله عدوانان عسكريَّان رئيسيَّان (١٩٥٦م، ١٩٦٧م) كافٍ لدحض هذه السخافات. إن محاوَلات الإساءة إلى ثورة يوليو موجَّهة إلى الحاضر في حقيقة الأمر، وهذا الأمر واضح لي تمام الوضوح.
لكن هذا الحوار يستهدف الاقتراب قدر الإمكان من الحقائق التاريخية والصورة الحقيقية لبعض جوانب تلك المرحلة، والإجابة إن أمكن على بعض الأسئلة التي لم تجد في الماضي لدى العديد من المهتمِّين بهذه المرحلة إجابةً شافية.
ومن هذه الأسئلة حقيقةُ العلاقة بين قيادة ثورة يوليو وبين الولايات المتحدة في السنوات الأولى للثورة، وعلى وجه التحديد قبل صفقة الأسلحة التشيكية عام ۱۹٥٥م، وما يرتبط بهذا السؤال من سؤال آخَر عن تفسير لنجاح تلك الثورة بهذه السهولة، مع أن الاحتلال البريطاني كان قائمًا آنذاك في قناة السويس، بقوَّات تصل إلى ثمانين ألف جندي بريطاني، عدا الطيران والبحرية.
ثم إلى أيِّ حدٍّ كان العامل الإسرائيلي مطروحًا من الجانب الأمريكي في السنوات الأولى؟ وبأيِّ قدر من الإلحاح؟ وكيف كانت استجابة الثورة له في تلك السنوات الصعبة؟ ثم تأتي أيام العدوان الثلاثي نفسه وما كنت أعرفه من قبلُ من أن عبد الناصر لم يكُن يتوقَّع العدوان عندما حدَث، رغم التحذيرات المتكررة والمتتالية له قبل أكتوبر سنة ١٩٥٦م، الأمر الذي يؤكِّده هيكل في كتابه.
في كتاب شهود «شهود ثورة يوليو» ﻟ «أحمد حمروش» تَرِد شهادة «ثروت عكاشة» — وكان إبَّان العدوانِ الملحقَ العسكري المصري في باريس — عن إرسال مخطَّط العدوان كما حدث بالفعل إلى عبد الناصر قبل العدوان بأسابيع، كما تَرِد شهادة «أمين هويدي» بأنه عندما وقع العدوان لم تكُن هناك حالة طوارئ في الجيش، وكان الضبَّاط ينامون في منازلهم. كما تَرِد شهادة «زكريا العادلي إمام» — الملحق العسكري المصري في تركيا آنذاك — عن نفس الموضوع. وكيف أنه سافر في ١٩ أكتوبر إلى القاهرة، وأطلع مدير المخابرات العسكرية والمشير عبد الحكيم عامر على مخطَّط العدوان كما وصل إليه.
ولقد بقي في القاهرة حتى يوم ٢٧ أكتوبر بأملِ مقابَلة عبد الناصر، لكنه فشل في ذلك وعاد إلى تركيا. وبعد يومَين وقَع العدوان الثلاثي، ولقد قال عبد الناصر لثروت عكاشة عندما قابَله بعد العدوان: «لقد نفَذنا من سَمِّ الخِياط.» فهل كان هذا الموقف الغريب من عبد الناصر مجردَ تقديرٍ عسكري وسياسي خاطئ لحسابات الموقف، أم أن هناك عوامل أخرى دخلت في الموضوع؟
وفي إطار هذه الأسئلة كلها تَرِد قضية تطوُّر وعي القيادة السياسية في مصر، التي بدأت بمجموعة من الضبَّاط الساخطين على النظام الملكي والاحتلال البريطاني لمصر — وإن كانوا مشوَّشين فكريًّا — وانتهت بوعيٍ أوضح من قيادة ثورة يوليو لحقائق الموقف العالمي وانعكاساته على مصر والوطن العربي.
وبعض هذه الأسئلة التي طرحناها في هذا السياق قد وجدَت إجابات في كتب صدرت قبل «ملفات السويس». وقد لا تكون هذه الإجابات صحيحة، خصوصًا متى انتبهنا إلى أن أحداث ثورة يوليو وتاريخها ما زالت جزءًا من صراع الحاضر كما قلنا من قبلُ، وأنه من الصعب لذلك أن تصبح أحداث يوليو مجرد تاريخ ليس إلا، على الأقل في المستقبل المنظور.
وأنا أشير إلى وجه التحديد هنا إلى كتاب «لعبة الأمم» لمايلز كوبلاند، الذي عمل كضابط مخابرات أمريكي في مصر فترةً ليست بالقصيرة، والذي صدر بعد عدوان ١٩٦٧م وقبل وفاة عبد الناصر.
إن من الشائع لدى البعض أن هدف هذا الكتاب الرئيسي هو الإساءة إلى ثورة يوليو، وسمعة عبد الناصر بالذات، وأنا لا أعتقد أن هذا الشائع عن الكتاب صحيح — بعد أن أعدتُ قراءتَه للمرة الثانية — والأقرب إلى الحقيقة أن الكتاب محاوَلة في البحث عن إجابات لأسباب فشل السياسة الأمريكية في التعامل مع قادة العالم الثالث، بصرف النظر عن مدى فشل أو نجاح تلك المحاوَلة من جانب المؤلف. أو هو محاوَلة لإلقاء أضواء على الجوانب غير المعلَنة رسميًّا في السياسة الأمريكية للأفعال وردود الأفعال بين الطرفَين الأمريكي وغير الأمريكي، وتفسير لازدواجية العمل الأمريكي في قنواته الرسمية وقنواته غير الرسمية، وهو إعادة تأكيد لما هو معروف من فشل أساليب «المحاكاة» التي هامَت بها أجهزة المخابَرات الخارجية الأمريكية في فترة من الفترات، فيما سُمي «لعبة الأمم» للتنبُّؤ بمواقف قادة العالم الثالث إزاء القرارات الأمريكية.
ولا شكَّ أن كتاب كوبلاند يحتوي على العديد من التصوُّرات والأوهام والأفكار التي نفترض أنها تعبِّر عن الفكر الأيديولوجي للمؤلف، والتي لا تُلزِم القارئَ بشيء، لكن كوبلاند لا يحاول فعلًا أن يدَّعي أن أحداث يوليو سنة ١٩٥٢م كانت من تدبير الولايات المتحدة وأجهزتها الخفية، كما حدث في سوريا عام ١٩٤٩م في انقلاب حسني الزعيم، أو كما حدث في إيران ضد مصدق عندما شجَّعته أمريكا على تأميم البترول، ثم دبَّرت الانقلاب ضده وأعادَت الشاه بعد أن كان قد هرب.
بل إن كوبلاند يذكر في كتابه صراحةً أن كيرميت روزفلت (مسئول الشرق الأوسط في المخابرات الأمريكية) قد حذَّر في تقرير له بعد عودته من زيارة لمصر أوائل سنة ١٩٥٢م من «أن يتصوَّر أحد داخل الحكومة الأمريكية أن الانقلاب القادم (في مصر) هو انقلابنا. فهو مسألة داخلية بحتة ليس لنا فيها أي نفوذ تقريبًا، ولكن يمكِن أن نساعده بعدم معارَضته.»
ولعل هذا الاستطراد يدخل بنا إلى السؤال الأول في هذا الحوار؛ أعني حقيقة العلاقة بين قيادة الثورة والولايات المتحدة في السنوات الأولى للثورة.
وقبل أن نتعرَّض لبحث هذا السؤال من واقع كتاب «ملفات السويس» أو غيره من الكتب، يجدر بنا أن نشير إلى أنه كانت لدى المراقِب العادي شواهدُ وقرائن كافية — قبل شهادة هيكل — توحي بالصلة الوثيقة، منها مثلًا دور السفير الأمريكي «كافري» في تأمين خروج فاروق وتوديعه عند رصيف الميناء، ثم تشكيل الوزارة التي أعقبت وزارة «علي ماهر»، والتي تميَّزت باختيار عدد كبير من الوزراء من جماعة «الرواد»، وهي جماعة للخدمة الاجتماعية كانت على صلة وثيقة بالأوساط الأمريكية (أحمد حسين، وعباس عمار، ووليم سليم، وإسماعيل القباني … إلخ)، ثم تعيين «أحمد حسين» سفيرًا لمصر في واشنطن بما هو معروف عنه من وثيق صلته بالأجهزة العلنية والخفية الأمريكية، وقناعاته بأن مصير مصر يرتبط بالولايات المتحدة ارتباطًا وثيقًا. ثم تأتي بعد ذلك شهادة «خالد محيي الدين» في كتاب «شهود ثورة يوليو» عندما يتذكَّر أن الحذر من إغضاب الأمريكيين قد بدأ في مارس سنة ١٩٥٢م، عندما بدأت تثور مناقشات في أوساط الحركة حول استخدام كلمة الاستعمار الأنجلو أمريكي في المنشورات، والرغبة في اقتصار الحديث على الاستعمار البريطاني. وخالد يشير هنا إلى منشورات الضباط الأحرار التي كانت بعض أوساط اليسار المصري (أحمد فؤاد وآخرون) تتولَّى كتابتها وطبعها باسم الحركة.
ووفقًا لكتاب «ملفات السويس»، فإن بداية العلاقات مع أمريكا هو «القائمقام عبد المنعم أمين»، وهو رجل يصفه «هيكل» بأنه ذو حياة اجتماعية نشيطة، وعلى صلة اجتماعية بعديد من الديبلوماسيين الأجانب، ويقول «عبد المنعم أمين» نفسه في شهادته في كتاب «شهود ثورة يوليو» إن «عبد الناصر» زاره مع كمال الدين حسين في يوم ٢٠ يوليو سنة ١٩٥٢م، وتحدَّث عن الظروف الضاغطة للإسراع بالتحرك، وإنه وافَق على الاشتراك فورًا. وهو يذكر أن «عبد الناصر» قال هامسًا لكمال الدين حسين وهما يطلَّان على النيل من شقته (أيْ شقة عبد المنعم أمين): «هو عاوز ثورة ليه؟ ما هو عنده كل حاجة.»
وهيكل يقرِّر أن «عبد المنعم أمين» لم ينضم إلى تنظيم الضباط الأحرار إلا ليلة الثورة، وأن «عبد الناصر» قرَّر ضمَّه إلى مجلس قيادة الثورة مباشَرة دون مرور على مستويات التنظيم المتصاعدة!
وهذه الرواية تناقض — إلى حدٍّ ما — شهادة «عبد المنعم أمين» في نفس الكتاب، و«هيكل» يقول إن «عبد الناصر» كلَّف «عبد المنعم أمين» صباحَ ٢٣ يوليو بإخطار السفارة الأمريكية بنوايا الحركة وتوجُّهاتها، على أنَّ من الشائع تاريخيًّا (ويؤكِّده كوبلاند في كتابه) أن «علي صبري» هو الذي تولَّى الاتصال بالسفارة الأمريكية يوم ٢٣ يوليو لسابق معرفته بالملحق العسكري الأمريكي. و«عبد المنعم أمين» نفسه يقول في شهادته إنه ذهب إلى السفارة البريطانية صباح ٢٣ يوليو وقابَل القائم بالأعمال، وأبلغه أن الحركة تتعلَّق بالشئون الداخلية للجيش، وأن الهدف هو إصلاح الجيش ومفاوَضة الإنجليز.
وأيًّا كانت الحقيقة، فإن كافة أطراف الرواية تتَّفق على الدور البارز لعبد المنعم أمين في الشهور الأولى للثورة كهمزة وصل مع الطرف الأمريكي، وأن «عبد الناصر» نفسه قد طلب منه أن يوثِّق صلتَه بهم، و«هيكل» لا يخفي تصوُّر «عبد الناصر» آنذاك «بأن الصورة الشائعة في العالَم في تلك السنين عن أمريكا كانت برَّاقة ومشرِقة، سواء من ناحية القوة والحيوية وسلامة النية إلى درجة السذاجة»، وهو نفس المعنى الذي يتكرَّر في صياغة الميثاق الوطني بعد ذلك عام ١٩٦٢م. ويقول هيكل في هذا السياق إنه بالقدر الذي كان تفكير عبد الناصر واضحًا تجاه بريطانيا، فإن تفكيره إزاء الولايات المتحدة كان «قلِقًا». وبشكلٍ عام، كان رأيه طيبًا في الولايات المتحدة في تلك الفترة، وكان في ذلك متأثرًا بدورها في الحرب العالمية الثانية، ثم بما قرأه من وثائق أمريكية سياسية، خصوصًا وثيقة إعلان الاستقلال والدستور.
كانت تلك سنوات «البراءة» إذن من جانب عبد الناصر، وهي فيما يبدو سنوات «البراءة» لهيكل أيضًا. وهنا قد يُطرح سؤال هام: هل حدث اتصال بين حركة الضباط الأحرار وبين الولايات المتحدة قبل الثورة؟
لا يقول هيكل شيئًا عن ذلك في كتابه، غير أن كيرميت روزفلت أرسل في أوائل سنة ١٩٥٢م بهدف إقناع فاروق بتنظيم «ثورة سلمية» في مصر بقيادته، مشرفًا على تصفية «القديم» وإحلال «الجديد»، وثَمَّة قرائن متعددة على أن وزارة «الهلالي» الأولى وما رافَقها من شعار التطهير كانت هي المحاوَلة في اتجاه «الثورة السلمية» التي تحدَّث عنها كوبلاند، بصرف النظر عن جدية الموضوع كله، وعن قدرة الهلالي نفسه في هذا الميدان، وعندما يئس «كيرميت روزفلت» من فاروق، انحاز إلى وجهة نظر كافري بأن الجيش وحده هو القادر على معالَجة الموقف المتدهور.
ولقد كان من المعروف لدى أجهزة المخابرات الغربية أن هناك حركة في داخل الجيش، وكانت منشورات الضباط الأحرار قد وصلت إلى جهات أجنبية مصرية؛ ولذا لم يكُن صعبًا على المخابَرات الأمريكية أن تدبِّر لقاءات مع بعض الضباط النَّشِطين اجتماعيًّا في حفلات الديبلوماسيين الأجانب في محاوَلة لاكتشاف نوايا الحركة في أقل القليل.
ووفقًا لرواية «كوبلاند»، فلقد تمت ثلاثة لقاءات بين روزفلت وضباط «بعيدين عن مركز التنظيم وإن كان يمكِن الاعتماد عليهم»، وواحد من مساعِدي عبد الناصر الموثوق فيهم. وقد تبيَّنَ من هذه الاجتماعات أن هناك مساحة من الاتفاق حول قضايا داخلية، وهناك بنود صعب الاتفاق عليها، ومن أهمها الموقف من إسرائيل.
وإذا صدَّقنا رواية «كوبلاند»، فإن روزفلت عاد إلى واشنطن قبل الثورة وقدَّم لوزير الخارجية تقريرًا ملخَّصه كما يلي:
-
أن الثورة الشعبية المتوقَّعة في دوائر الخارجية، والتي يسعى إليها الشيوعيون والإخوان المسلمون، ليست مطروحة.
-
أنه لا توجد طريقة لإبعاد الجيش عن التحرك.
-
أن الضباط الذين يُرجَّح أن يقودوا الانقلاب لهم دوافع سياسية، وهذا ما يجعل فرصة نجاحهم كبيرة ويجعلهم أكثر تعقلًا ومرونةً في مفاوَضاتهم بعد الاستيلاء على السلطة.
-
أنه قد يكون على الولايات المتحدة أن تقبل إزاحة فاروق، وربما نهاية الملكية.
-
أنه إذا نجح الانقلاب، فعلى الولايات المتحدة ألَّا تضغط جدِّيًّا على العسكريين لإجراء انتخابات.
-
أنه لا ينبغي لأحد أن يتصوَّر أن هذا الانقلاب هو «انقلابنا»؛ فهو مسألة داخلية بحتة، وليس لأمريكا فيها نفوذ تقريبًا. وإذا كان لا مفرَّ من عدو يخاف من هذا الانقلاب، فهو الطبقات العليا في مصر والإنجليز، وليس إسرائيل.
ويعترف «كوبلاند» أن واشنطن قد علمت بالانقلاب من قراءة صحف يوم ٢٣ يوليو، وأنه وإن كانت تقارير المخابرات تشير إلى أن شيئًا ما يجري داخل الجيش، فإنها كانت غير قادرة لا على تحديد الموعد أو طبيعة التحركات.
ويشير «هيكل» في كتابه إلى مذكرة «تقدير موقف» للخارجية الأمريكية بتاريخ ١٨ سبتمبر سنة ١٩٥٢م، تتضمَّن تأييد النظام ماديًّا ومعنويًّا بهدف تحقيق أهداف الغرب، خصوصًا السلام مع إسرائيل، وتشير المذكرة إلى أهمية أن يُصدِر النظام الجديد تصريحًا علنيًّا في وقتٍ ما يعلن فيه نواياه غير العدوانية تجاه إسرائيل.
يمكِن إذن أن نقول إنه واضح من مصادر مختلفة طبيعةُ التقدير الأمريكي؛ وهو أن النظام الجديد وإن كان بالقطع ليس «طفلًا أمريكيًّا»، فإنه فرصة ذهبية لإزاحة النفوذ البريطاني وإحلال النفوذ الأمريكي محلَّه، وأن قضية العودة إلى الحياة البرلمانية ليست مطروحة في المستقبل القريب، وأن السلطة الجديدة قد تكون أقدر على معالجة «العامل الإسرائيلي» بما يتَّفق مع الرؤية والمَصالح الأمريكية.
تلك كانت سنوات زحف النفوذ الأمريكي ليحلَّ محلَّ النفوذَين الفرنسي والبريطاني بعد الحرب العالمية الثانية. والأمريكيون في العادة يعتبرون أن عام ١٩٤٧م هو نهاية عصر السيادة البريطانية في الشرق الأوسط؛ إذ في أوائل هذا العام بالذات كتبَت بريطانيا إلى واشنطن رسالةً تُعلِن فيها أن حكومة جلالة الملك غير قادرة على دفع خمسين مليون دولار مطلوبة لدعم مقاوَمة حكومتَي اليونان وتركيا للنفوذ الشيوعي؛ وعلى ذلك فإمَّا أن تملأ واشنطن تلك الفجوات في دفاعات الغرب، أو أن تتركهما للسيطرة الشيوعية.
وليس بالصدفة إذن أن يَصدر «مبدأ ترومان» في مارس سنة ١٩٤٧م، وأن يتلوه مشروع مارشال هذا على المستوى العلني. أمَّا على المستوى السري فقد أُنشِئت وكالة المخابرات المركزية في نفس العام، وبدأت الوكالة الجديدة تعمل في سوريا لإزاحة النفوذ الفرنسي الضعيف وإحلال النفوذ الأمريكي محلَّه (انقلاب حسني الزعيم)، ثم تحوَّلت إلى مصر تبحث عن إمكانياتها هناك — كما أسلفنا من قبلُ — لنفس الأهداف.
ولقد استطاعت واشنطن أن تحقِّق مع النظام الجديد قناتَين للاتصال؛ الأولى هي القناة الرسمية (السفارات ووزارات الخارجية)، والثانية هي القناة غير الرسمية (المخابرات). ويَذكر «هيكل» أن «كيرميت روزفلت» طلب من «عبد الناصر» تكليفَ مصدر واحد تُجرى الاتصالات من خلاله، وأن «عبد الناصر» كلَّف «علي صبري» بذلك.
و«هيكل» يقول إن «عبد الناصر» في مبدأ الأمر لم يكُن يعلم حقيقةَ وضع «روزفلت» في المخابَرات الأمريكية، فقد كان يعتقد أنه مستشار رئيس الجمهورية، لكن «عبد الناصر» عرَف بعد ذلك ووافَق على تنظيم القناة «غير الرسمية» بين مصر وأمريكا، و«هيكل» يقول إن «عبد الناصر» لم يكُن مقتنِعًا بما يجري، لكنه أراح نفسه في النهاية بأنه إذا كانت هذه هي الطريقة الأمريكية، فلا بأس من تجربتها. ولقد ظلَّت هذه القناة «غير الرسمية» تلعب دورًا هامًّا في الاتصالات وفي المحاوَرات إلى ما بعد صفقة الأسلحة التشيكية، بل إلى وقت زيارة وزير الخزانة الأمريكي «أندرسون» للقاهرة في ديسمبر سنة ١٩٥٥م — الذي جاء يعرض على مصر مقايَضة السد العالي بالصُّلح مع إسرائيل — وبعد أن غادَر أندرسون مصر غاضبًا، قرَّر «عبد الناصر» إغلاق قناة الاتصال «غير الرسمي» مع واشنطن، ومع ذلك فحتى إبَّان أزمة السويس، عندما ذهب علي صبري إلى نيويورك لمتابَعة الموقف في مجلس الأمن، حاوَل «كيرميت روزفلت» إعادة تنشيط تلك القناة من جديد بدعوة «علي صبري» إلى الحضور إلى واشنطن للحوار، لكن القاهرة رفضت ذلك.
وتشير «ملفات السويس» إلى أن المسئولين عن القناة «غير الرسمية» من الناحية الأمريكية كانوا بشكلٍ عام أكثرَ تفهُّمًا لوجهات نظر عبد الناصر، وتعاطُفًا مع مطالَبة من المسئولين الأمريكيين في القناة الرسمية. وهيكل يقول إنه عندما وصل «كيرميت روزفلت» في أكتوبر سنة ١٩٥٢م، وأثار مسألة نوايا النظام الجديد مع إسرائيل، واستمع إلى وجهة نظر «عبد الناصر» في هذا الصدد، فإنه اقتنع بالكثير مما سمع؛ إذ إن تطوُّرات الأحداث فيما بعدُ أظهرت أن رأيه كان إلى حدٍّ ما متعاطفًا الخطوط التي شرحها عبد الناصر.
وحتى بعد صفقة الأسلحة التشيكية وزيارة أندرسون لمصر، فعندما ذهب «جيمس إيكلبرجر» — مسئولُ المخابرات الأمريكية في مصر آنذاك — في أوائل سنة ١٩٥٦م إلى لندن للاجتماع بمسئول العمليات الخاصة في المخابرات البريطانية، اكتشف وجود خطة لاغتيال عبد الناصر. وعندما عاد إلى القاهرة، حاوَل تسريبَ هذه المعلومات إلى عبد الناصر، مما دعاه للتساؤل حول الهدف من هذا التسريب؛ هل هو الدسُّ لبريطانيا أم محاوَلة التخويف؟
والكتاب «ملفات السويس» يشير إلى اجتماع في المخابَرات الأمريكية حضره «جيمس أنجلتون» و«كيرميت روزفلت» و«فرانسيس راسل» و«ريموند هير» في أوائل سنة ١٩٥٦م لمناقَشة الموقف من «عبد الناصر»، حيث اقترح «أنجلتون» إطلاق إسرائيل ضد مصر، لكن روزفلت قال في الاجتماع إن أسلوب الانقلاب على عبد الناصر لا يَصلح في مصر، وليست هناك وسيلة للخلاص منه إلا إذا تقرَّر اغتياله، وهو يرى أن الإقدام على هذه الخطوة كارثة، وأن على السياسة الأمريكية أن تبحث عن بدائل غير الانقلاب والاغتيال في الوقت الحالي على الأقل.
فإذا تحوَّلنا إلى كتاب «لعبة الأمم» لكوبلاند، فسوف نرى ما يؤكِّد نفس هذا الانطباع. إن أحد توجُّهات هذا الكتاب هو أن أمريكا «خسرت» عبد الناصر بسبب ما فعلَته القناة «الرسمية»، وما يؤثر على سلوكها غير اعتبارات الحسابات الباردة للمَصالح الأمريكية، وهو يستشهد بأحداث عديدة للتدليل على وجهة نظره، ومن المؤكَّد أن «كوبلاند» كان يعتبر نفسه صديقًا للنظام، إلى درجةِ أنه بعد أن ترَك المخابرات أنشأ له مكتبًا خاصًّا في بيروت، وحاوَل أن يُبقي على اتصاله بعبد الناصر، وأرسَل له عددًا كبيرًا من الرسائل، وإن كان عبد الناصر لم يرد عليها كما يقول هيكل في كتابه «بين الصحافة والسياسة».
لقد حاولت فيما مضى من صفحاتٍ إلقاءَ بعض الضوء على حقيقة العلاقات بين قيادة الثورة وأمريكا في سنوات الثورة الأولى، وهي المشكلة التي دار حولها لغطٌ كثير في الماضي. ومن الواضح أنها كانت علاقات وثيقة، وأنها جرَت على مستويَين لم يكونا دائمًا متماثِلَين في توجُّهاتهما (المستوى الرسمي والمستوى غير الرسمي)، وأن الطرف المصري (عبد الناصر) كان يثق آنذاك بنوايا الولايات المتحدة بشكل عام، وكان متطلِّعًا إلى تأييدها في موضوع جلاء القوَّات البريطانية من القناة، وفي الحصول على مساعَدات عسكرية لدعم الجيش، وعلى مساعَدات اقتصادية للمساهَمة في التنمية، وأن الطرف الأمريكي كان متطلِّعًا إلى الحلول محلَّ النفوذ البريطاني في مصر باعتبارها مفتاح المنطقة العربية، وإلى ترتيب حِلف عسكري شرق أوسطي تحت القيادة الأمريكية، وإلى تحقيق نوع من الصُّلح بين العرب وإسرائيل. وكان التقدير الأمريكي آنذاك أن النظام الجديد قد يكون القادرَ وحْدَه على اتِّخاذ مثل هذه الخطوة.
ومن المؤكَّد أن الولايات المتحدة قد ضغطت على بريطانيا في مفاوَضات الجلاء، وأن بريطانيا كانت تحسُّ بالدور الأمريكي في مصر المناقِض لسياساتها، وأنها اشتكَت لواشنطن كثيرًا من ذلك، لكن مجال المناوَرة البريطاني كان محدودًا وهي تعتمد على أمريكا اعتمادًا شِبه كامل بعد الحرب، سواء في الجوانب العسكرية أو الاقتصادية، وانتهت المفاوَضات باتفاقية للجلاء ربطَت عودة القوات البريطانية إلى قاعدة القناة بالهجوم على إحدى البلاد العربية أو تركيا (أيْ بحِلف الأطلنطي)، واضطر عبد الناصر إلى قَبول ذلك.
أمَّا فيما يتعلَّق بالمساعَدات العسكرية والاقتصادية، فقد تعثَّرَت لاعتبارات تتعلَّق بالقناة الرسمية، وفشلت مصر في الحصول على السلاح من واشنطن إلا إذا ارتبطَت بالصُّلح مع إسرائيل، ثم جاء مشروع السد العالي — وهو أكبر مشروع للثورة الجديدة — وجاءت كلمة حاسمة وباترة أيضًا: السد العالي مقابل الصُّلح مع إسرائيل، وهو ما رفضه «عبد الناصر» في نهاية الأمر. وقد يكون من المفيد أن نشير إلى أن المصالح التي حكمَت سياسة أمريكا في سنوات الثورة الأولى، أيْ في عهد «أيزنهاور»، هي في الحقيقة مَصالح الجمهوريين التقليدية في الجانب الغربي من الولايات المتحدة، وهي شركات البترول وشركات السلاح بالدرجة الأولى. وعندما قابَل «دالاس» وزيرُ خارجية الولايات المتحدة السفيرَ الإسرائيلي في واشنطن أبا إيبان قبل سفره إلى القاهرة في مايو سنة ١٩٥٢م، قال «دالاس» للسفير إن الخبراء نصحوه بعدم فتح موضوع إسرائيل في الزيارة الأولى لمصر، فردَّ إيبان قائلًا: «إنها نصيحة تَفُوح منها رائحة البترول.»
وإذا كان الموقف الأمريكي في كل هذا مفهومًا، فإن موقف «عبد الناصر» في تلك الفترة — كما يشرحه «هيكل» — ليس مفهومًا تمامًا، فالكتاب يشير بمناسَبة محادَثات الجلاء إلى تقديرِ موقفٍ كتَبه «عبد الناصر» من أربع نقاط، آخِرها هي: «التحدي الحقيقي الذي يتبقَّى إذن: كيف تستطيع مصر أن تحصل على المساعَدات العسكرية والاقتصادية من أمريكا دون أن تجد نفسَها متورِّطة في ارتباطات والتزامات لا تريدها؟» فهل حقًّا كان يمكِن أن يتصوَّر «عبد الناصر» أن مثل هذا التحدِّي له إجابة عملية، أم أن هذه كانت لا تزال سنوات «البراءة»؟!