(٢) العامل الإسرائيلي

في كتاب «مثقَّفون وعسكر» يحكي «صلاح عيسى» أنه قد عُذِّب كثيرًا في سجن القلعة عام ١٩٦٦م، بعد أن كتب عدَّة مقالات في صحيفة «الحرية» البيروتية عن «ظاهرة يوليو»؛ إذ اعتبر المسئولون في مصر أن هذا يعني عودة بعض فصائل اليسار في مصر إلى الاتِّهام التقليدي، بأن ما حدَث في يوليو سنة ١٩٥٢م هو انقلاب عسكري مدعوم خارجيًّا وليس بثورة.

وأنا أريد أن أستخدم هذا التعبير هنا، ليس بمعنى أنه بديل عن ثورة يوليو، وإنما بمعنًى معيَّن … هو قدرة تمرُّد عسكري على أن ينجح ويثبت أقدامَه في بلدٍ به ثمانون ألف عسكري أجنبي على مقربة من العاصمة، ومحاوَلة تفسير سبب عدم تدخُّل قوات المحتلِّ الأجنبي لإجهاض هذا التمرُّد العسكري.

إن من السهل اليوم على الإنسان، وهو يستعيد أحداث يوليو سنة ١٩٥٢م، أن يدهش للعيوب والنواقص العديدة الدالة على عدم كفاءة عملية التنفيذ، وقد يكفي أن نشير إلى أن خطة قطع التليفون بين المدن لم تتم، وأن «يوسف صديق» قد تحرَّك إلى كوبري القبة قبل ساعة الصفر بساعة، وأن قائد الثورة كان على وشك أن يُعتقَل من جانب بعض قوَّاته التي لم تكُن تعرفه، وأن خبر موعد الحركة قد تسرَّب إلى أجهزة الأمن السياسي عن طريق والدة أحد الضبَّاط الأحرار التي انزعجَت لخروج ابنها بسلاح متأخِّرًا … إلخ. ومع ذلك نجحت الثورة في الاستيلاء على السلطة بهذه السهولة دون طلقة واحدة تقريبًا.

ومن السهل أيضًا أن نقول — وهذا صحيح تمامًا — إن جهاز الدولة كان قد وصَل في أواخر عهد «فاروق» إلى حالة من العفن لم تكُن تَسمح له بمقاوَمة حقيقية. ولكن لماذا لم تتدخَّل القوات البريطانية؟ هل يكفي أن تقول في تفسير ذلك إن السفير البريطاني كان غائبًا؟

لا أعتقد ذلك.

إن التدخل البريطاني لو كان قد حدث، فليس بالضرورة هدفه حماية «فاروق» بالذات، وإنما حماية النظام الملكي ككل، بصرف النظر عن الجالس على العرش. و«هيكل» لا ينكِر أن «عبد الناصر» مال إلى الرأي الذي كان يقول إن الإنجليز لن يتدخَّلوا لأسباب عديدة، وإنه — أي «هيكل» — كان صاحب هذا الرأي، وإن هذا أوَّل دور أدَّاه بالقرب من «عبد الناصر».

ويعترف «هيكل» الآن بخطأ هذا الرأي، فنحن نعرف من «ملفات السويس» أن اجتماعًا عسكريًّا بريطانيًّا عُقِد يوم ٢٣ يوليو، حضَره القائد العام للقوَّات البريطانية في مصر والقائم بالأعمال «كريسويل»، وأن خطةً وُضِعت في هذا الاجتماع لاحتلال القاهرة والإسكندرية (سُمِّيت بخطة رودون)، وأن منشورات طُبِعت في القاعدة بالقناة — باللغة العربية — تدعو سكان القاهرة والإسكندرية إلى الهدوء والاستسلام للتدخُّل، ويعترف «هيكل» بأنه ثبت خطأ تقديره بأن القوات البريطانية لا تزيد عن فرقة واحدة في القناة؛ إذ اتَّضح أنه في ليلة ٢٣ يوليو كانت هناك أربع فرق بريطانية (.٨ ألف جندي)، فضلًا عن الطيران والبحرية، وأن تفكير لندن كان يتحرك بسرعة زائدة للتدخُّل في الفترة ٢٣–٢٦ يوليو، ومع ذلك لم يتم التدخل. لماذا؟

لعل التفسير الوحيد المقبول هو أن الولايات المتحدة قد تدخَّلت لإقناع البريطانيين بالامتناع عن هذا العمل. ومما يدعم هذا التفسير تأشيرةُ رئيس الوزراء البريطاني «ونستون تشرشل» بخط يده على أحد التقارير التي وصلته عن تطور الأحداث في مصر — في أغسطس سنة ١٩٥٢م — ويقول فيها: «أعجبني بَرنامج نجيب. وقد تكون هناك سياسة مناسبة تشترك فيها الولايات المتحدة لإنجاح نجيب.» وهي تأشيرة لم يقتنع بها الوكيل الدائم للخارجية وليم سترانج.

وبينما كان الملحق العسكري البريطاني في مصر — وهو المتَّصل بأجواء المخابرات الأمريكية — يبرق إلى وزارة الدفاع واصفًا القيادةَ الجديدة بأنها «مجموعة من الضباط الوطنيين المهتمين بالإصلاح الداخلي»، كان القائم بالأعمال يبرق إلى الخارجية البريطانية بتقييمٍ آخَر عن الحركة التي قادت الثورة، بأنها «مجموعة من الضباط الشباب، معظمهم من «البلطجية»، المتأثرين بالشيوعيين والإخوان المسلمين، ولا بدَّ أن نكون على حذرٍ من تصرُّفاتهم في الأيام القادمة.»

وما يمكِن أن نرجحه في كل هذا هو أن موقف الولايات المتحدة كان حاسمًا في «فرملة» فكرة التدخُّل البريطاني، وأن هذا كان مرتبطًا بالحسابات الأمريكية في إمكانية التحالف مع النظام الجديد وتوجيهه وجهةَ مَصالح الغرب عمومًا، وأمريكا خصوصًا، لا سيما فيما يتعلَّق بإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، ويلفت النظر في هذا المجال موقفُ حكَّام السعودية الذي كان بشكل عام وديًّا للنظام الجديد، مع أنه كان من المتوقَّع أن يكون العكس باعتباره نظامًا جمهوريًّا قام على أنقاض النظام الملكي.

وبصرف النظر عمَّا أثبته التطور التاريخي من خطأ هذه الحسابات الأمريكية، فإن هذا الموقف من جانب أمريكا في سنوات بداية امتداد نفوذها السياسي والاقتصادي إلى المنطقة لم يكُن أمرًا شاذًّا بالنسبة لما فعلَته في حالة كوبا عند بداية ثورة كوبا. ومع اختلاف الظروف بين مصر وكوبا، يظل هناك وجه الشبه في أنه كان للولايات المتحدة قاعدة عسكرية في كوبا، ولم تتدخَّل أمريكا ولم تعارِض الثورة الكوبية إلا عندما أسفرَت عن إرادتها المستقلَّة وبَرنامجها الاجتماعي، وهو نفس ما حدث في مصر.

لكن السياسة الأمريكية اليومَ في ظلِّ التحوُّلات اليمينية المتتالية تخلَّت عن هامش المرونة الذي كانت تتميز به في عام ١٩٥٢م في مصر، أو ١٩٥٩م في كوبا. لقد ورثت أمريكا السياسات البريطانية، وأصبحت مستعدَّة للدفاع عن الأنظمة الرجعية المتخلِّفة إلى آخِر طلقة، بحيث يمكِن أن نقول إن «ظاهرة يوليو» ليس من المرجَّح تكرارها، وعلى عكس ١٩٥٢م يمتدُّ النفوذ الأمريكي اليومَ في مناطق عديدة في آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا. فإذا حدث تغيير في أي منطقة من مناطق نفوذها، فلا بد أن يكون من تدبيرها وتحت إشرافها، كما حدث في الفلبين أو هايتي. أمَّا دول العالم الثالث التي تحرَّرت من السيطرة الأمريكية رغم أنف واشنطن — كما هو الحال في نيكارجوا اليوم — فنصيبها التآمُر المستمر والتدخل العسكري المباشِر كما حدث في جرينادا، أو غير المباشر كما يحدث اليومَ في نيكاراجوا.

ويكفي أن نتأمَّل اليومَ سياسات ريجان في العالم الثالث حتى نرى الطابع المغامِر للسياسة الأمريكية، إلى درجةِ أنها لم تَعُد تعبأ بالقوانين الدولية المستقرة والمعترَف بها من منظَّمات الأمم المتحدة.

ننتقل الآن إلى قضية شديدة الأهمية، وهي العامل الإسرائيلي، وما نعنيه هنا بالعامل الإسرائيلي هو موقف الأطراف المختلفة ورؤيتها من قضية الصراع العربي الإسرائيلي في السنوات الأولى للثورة، خصوصًا الجانب الأمريكي من ناحية، وقيادة الثورة من ناحية أخرى. ولقد أشرنا من قبلُ إلى مذكرة «تقدير الموقف» الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية في سبتمبر سنة ١٩٥٢م، والتي تقترح أن يُصدِر النظام الجديد في وقتٍ ما تصريحًا علنيًّا يُعلِن فيه نواياه غير العدوانية تجاه إسرائيل، وفي الاجتماعات الأولى التي تمت بين قيادة الثورة والجانب الأمريكي كانت مسألة إسرائيل مطروحة دائمًا للنقاش. حدث هذا في أول زيارة لكيرميت روزفلت بعد الثورة في أكتوبر سنة ١٩٥٢م في حفل العشاء الذي أُقيم في منزل «وليم ماكلينتوك» — الوزير المفوَّض بالسفارة — وحضَره «عبد الناصر» و«عبد الحكيم عامر» و«صلاح سالم»، و«عبد المنعم أمين». كما حدث نفس الشيء في زيارة «ريتشارد كروسمان» النائب العمَّالي والوزير السابق البريطاني — المعروف بقَبول الصهيونية — عند زيارته لعبد الناصر بعد الثورة بخمسة شهور (ديسمبر سنة ١٩٥٢م) عندما جاء يسأل عبد الناصر: ماذا تنوي أن تفعل مع إسرائيل؟

وهو نفس السؤال الذي وجَّهه «أينشتين» لهيكل عندما قابَله في برستون. ومن القاهرة طار «كروسمان» إلى تل أبيب لمقابَلة «بن جوريون»، ثم عاد إلى القاهرة بعد أسبوع يطلب مقابَلة عبد الناصر مرةً ثانية، ويَعرض عليه اقتراحًا باجتماع مشترك للاثنين في أيِّ مكان في العالم سِرًّا أو علنًا.

وكان خط دفاع عبد الناصر في تلك «الهجمات» على النظام الجديد هو أن موضوع إسرائيل لا يقع في أول سُلَّم أولوياته، وأن هذه القضية على أي حال تخصُّ الدول العربية مجتمِعةً لا مصر وحْدَها، وبالتالي لا تستطيع أن تبتَّ فيها مصر وحْدَها. أمَّا سُلَّم أولويات الثورة فهو جلاء الإنجليز والتنمية.

ولقد كان من الممكِن أن يكون هذا الموقف مقنِعًا — إلى حدٍّ ما — لبعض دوائر الغرب، خصوصًا في الأشهُر الأولى للثورة، ولديها ما يَكفيها من مشاكل الصراع داخل قيادة الثورة. ولكن لم يكُن من الممكِن أن يكون هذا الموقف مُقنِعًا مدَّة طويلة.

ولقد ظل هذا هو موقف عبد الناصر — وفق «ملفات السويس» حتى عندما بدأت مرحلة المفاوَضات مع بريطانيا للجلاء عن قناة السويس — ويذكر الكتاب أنه عندما بدأت هذه المفاوَضات، أرسَل رئيس الوزراء الإسرائيلي «موسى شاريت» مبادَرات مستقلَّة مع رُسُل كثيرين إلى عبد الناصر باقتراح لقاء مفاوَضات مباشِرة، وكان رد عبد الناصر دائمًا هو أن موضوع إسرائيل مؤجَّل بالنسبة له، وأن مشكلة فلسطين هي مشكلة جماعية عربية.

وعندما جاء «دالاس» لزيارة مصر في مايو سنة ١٩٥٣م، أثار على مائدة العشاء في منزل السفير كافري نفس الموضوع بإلحاح، وقال إن «السلام مع إسرائيل هو من طبيعة الأمور»، وإن الإسرائيليين ساميُّون مثل العرب وأولاد عمومتهم (لاحِظ أن هذا هو نفس ما ردَّده السادات بعد ذلك بربع قرن)، وإن الخطر الحقيقي هو خطر الشيوعية وليس إسرائيل. ولقد اضطر عبد الناصر إلى الرد على بعض هذه الادِّعاءات مفندًا. وعندما سأله دالاس: «هل يعني هذا الردُّ استحالةَ السلام مع إسرائيل؟» لجأ عبد الناصر إلى ردِّه التقليدي؛ وهو أن إسرائيل ليست شاغلَه اليوم.

لكن خط الدفاع هذا، الذي لجأ إليه عبد الناصر في أوائل الثورة، لم يكُن ممكِنًا أن يستمر طويلًا، ومن الواضح أنه اعتُبِر من الجانب الإسرائيلي ثم الأمريكي بمثابة تهرُّب من إعطاء ردود واضحة على تساؤلات الغرب. وكان من الواضح أن إسرائيل لا تريد تنفيذ اتفاقية جلاء بريطانيا عن مصر دون اتفاق للصلح مع إسرائيل. وعندما وقعَت اتفاقية الجلاء في ٢٧ يوليو سنة ١٩٥٤م، كانت إسرائيل قد فقدَت الأمل في أن تنحاز قيادة الثورة إلى صفِّ التفاهم مع إسرائيل، وثبت لديها خطأ تقديرات أجهزة المخابرات الأمريكية. إن كوبلاند يشير في كتابه «لعبة الأمم» إلى تقارير روزفلت الأولى، التي يقول فيها: «إذا كان هناك من عدوٍّ يخاف من هذا الانقلاب، فهو الطبقات العليا والإنجليز، وليس إسرائيل.» وكوبلاند يقول صراحةً في كتابه بأن النقطة الأساسية في تأييد النظام الجديد هي أن تكون في هذا البلد المفتاح (مصر) سلطةٌ لها من القوَّة بحيث تستطيع أن تتَّخذ قرارات غير شعبية مثل الصُّلح مع إسرائيل.

وإذا كان الجانب الإسرائيلي قد فقد الأمل وبدأ يتحرَّك في التآمر على هذا الأساس، فإن الجانب الأمريكي ظل يحاول بعد ذلك على أساس مقايَضة الصلح مع إسرائيل بشيء عزيز على قيادة هذه الثورة، وكان هذا هو السد العالي!

وقبل أن تصل الأمور إلى هذا الحد بزيارة «أندرسون» (وزير الخزانة الأمريكي) في ديسمبر سنة ١٩٥٥م، كان على «عبد الناصر» أن يتخلَّى عن خط دفاعه الأوَّل فيما يتعلَّق بإسرائيل لأنه لم يَعُد مقنعًا، بخط دفاع ثانٍ بمناسبة الأزمة التي أثارها اقتراح اشتراك إسرائيل في مؤتمر باندونج باعتبارها دولة آسيوية. لقد كان هذا هو رأي «أونو» رئيس بورما؛ إحدى الدول الخمس التي وجَّهت الدعوة إلى المؤتمر. وأرسَل «عبد الناصر» رسالة إلى «أونو» يقول فيها إن العرب على استعداد لقَبول مشروع الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين، الذي صدر عام ١٩٤٧م. فإذا قبلته إسرائيل، فإن الطريق يكون ممهَّدًا لاشتراكها، وكانت هذه أول مرة يلتزم فيها عبد الناصر بقرار التقسيم رسميًّا، لكنه فعَل ذلك وهو واثق أن إسرائيل لن تقبل.

وكانت زيارة «أندرسون» لمصر في ديسمبر سنة ١٩٥٥م هي آخِر محاوَلة لمحاصَرة قيادة الثورة في الموضوع الإسرائيلي ومقايَضتها، فقد بدأ أندرسون في أول اجتماع له مع عبد الناصر بسؤاله عن فُرَص الصلح مع إسرائيل. وأعاد «عبد الناصر» موقفه الذي اتخذه في باندونج؛ أيْ قَبول مشروع التقسيم، وطار أندرسون إلى تل أبيب للتداوُل مع «جوريون» في الأمر، وعاد بعد أسبوع يحمل مرة أخرى اقتراح «بن جوريون» بمفاوَضات مباشِرة في أيِّ مكان سرًّا أو علنًا، ورفض عبد الناصر، وسافر أندرسون إلى واشنطن لقضاء عطلة عيد الميلاد مع أسرته والتشاور مع واشنطن، ثم عاد إلى القاهرة يحمل معه اقتراحًا أمريكيًّا مؤدَّاه أن واشنطن مستعِدَّة أن تتقدَّم إلى الطرفَين المصري والإسرائيلي بمشروعاتِ حلولٍ تفصيلية يوقِّعها الطرفان دون لقاء بينهما، ثم تتاح فرصة اللقاء بعد التوقيع، وحمل أندرسون معه ملفًّا يحتوي على ثلاثة مشروعات رسائل؛ إحداها موجَّهة من عبد الناصر إلى أيزنهاور، والأخرى تتضمَّن مبادئ التسوية مع إسرائيل كما تراها مصر، والثالثة موجَّهة إلى البنك الدولي من عبد الناصر يوافق فيها على إشراف البنك على موارد مصر المالية وأوجُه صرفها خلال سنوات تنفيذ مشروع السد.

وبعد مداوَلات متَّصلة انهارت المفاوَضات في نهاية الأمر، ورفَض عبد الناصر مقايَضة السد العالي بالصلح مع إسرائيل، وسافَر أندرسون غاضبًا، واستعدَّ دالاس لإعلان رفض أمريكا تمويلَ السد العالي بعد ذلك.

إن المهم هنا أن نلاحظ أن أمريكا — حتى لحظة إبرام صفقة الأسلحة التشيكية — لم تفقد الأمل في أن تؤثر على موقف القيادة المصرية فيما يتعلَّق بإسرائيل. ويحكي «مايلز كوبلاند» أن «كيرميت روزفلت» طار إلى القاهرة بناءً على دعوة «عبد الناصر» قبل إعلان الصفقة بيوم واحد، وحاوَل أن يُقنِع عبد الناصر أن يتضمَّن خطابه الذي يُعلِن الصفقةَ فقرة تتعلَّق بالاستعداد للتفاهم مع إسرائيل، وأن إسرائيل لا ينبغي أن تخاف من الصفقة الجديدة. ويقول كوبلاند إن عبد الناصر وافَق على ذلك، لكنه رفَع هذه الفقرة من خطابه بعد أن علم بما ستفعله أمريكا إذا تمت الصفقة.

تبقى ملاحظتان في النهاية لا تتعارضان مع هذه الرواية للأحداث.

أولاهما تتعلَّق بما يذكره كاتب هذه السطور من خطاب لصلاح سالم في المحلة سنة ١٩٥٣م، تحدَّث فيه عن موضوع الصلح مع إسرائيل، وكان هذا الخطاب مَثار دهشة أوساط المثقَّفين آنذاك، وأوساط عديدة محلية وعربية. والثانية تتعلَّق بشهادة خالد محيي الدين في كتاب «شهود ثورة يوليو»، وفيها يقول إنه خلال إقامته في الخارج بعد أزمة مارس سنة ١٩٥٤م، قد علم «أن هناك اتصالاتٍ سِرية مع إسرائيل يقوم بها عبد الرحمن صادق — الملحَق الصحفي في سفارتنا بباريس — ومؤدَّاها تطمين إسرائيل بأنه عند جلاء الإنجليز يمكِن حلُّ المشكلة.»

وربَّما تتَّصل الملاحظة الأولى بأجواء المناوَرة السياسية، أو بتبايُن الرأي داخل مجلس قيادة الثورة من موضوع إسرائيل، وهو أمر تجدَّدَ مرةً أخرى عندما أطلَّ مشروع حِلف بغداد، ثم ازداد وضوحًا بعد ذلك خلال الساعات الأولى من العدوان سنة ١٩٥٦م، عندما اقترح صلاح سالم على عبد الناصر أن يسلِّم نفسه للسفارة البريطانية إنقاذًا لموقف مصر!

أمَّا الملاحظة الثانية فربما تدخل ضمن نطاق المناوَرات السياسية المفهومة في عملية الجلاء. لكن من الواضح أن الإسرائيليين قد وصَلوا إلى قناعات أخرى مغايِرة في صيف ١٩٥٤م، الذي أوشكت فيه مفاوَضات الجلاء على الانتهاء. لقد وُقِّعت الاتفاقية في ٢٧ يوليو سنة ١٩٥٤م، لكن في ٢٤ يوليو قامت المخابرات الإسرائيلية عن طريق عملائها من اليهود المصريين بحملةِ تفجيرٍ استهدفَت ضِمن ما استهدفَت مكاتبَ الاستعلامات الأمريكية (فضيحة لافون)، وكان الهدف الأساسي هو الإساءة إلى موضوع الجلاء وإلى العلاقات المصرية الأمريكية، وفي فبراير سنة ١٩٥٥م وقعَت الغارة الإسرائيلية الأولى على غزة، وقُتِل فيها العشرات من الضباط والجنود المصريين.

وكان هذان العملان يَعنيان أن إسرائيل قد بدأت العمل عندما وصلَت إلى قناعة اليأس من الاتفاق مع النظام الجديد، واستهدفَت بأعمال استفزازية كشْفَ النظام وفضْحَه كنظام عاجز، وبالتالي دفعه إلى أحضان واشنطن، أو فتح الطريق للإجهاز عليه.

يبقى الهامش الأخير على «ملفات السويس»، وأعني به حسابات عبد الناصر التي ثبت جنوحها فيما يتعلَّق بعدوان سنة ١٩٥٦م، ووفقًا للكتاب فقد كان تقدير عبد الناصر لردِّ فعل الغرب على تأميم القناة هو أن الولايات المتحدة سوف تتردَّد غالبًا، وأن فرنسا لا تستطيع الردَّ بمفردها لانشغالها في حرب الجزائر، وأن إسرائيل لا تستطيع أن تتَّخذ من التأميم ذريعةً لشنِّ حربٍ ضد مصر، فضلًا عن أن هذا سوف يكون بمثابة حرب ضد الأمَّة العربية؛ مما يفرض على أمريكا في عهد سيادة مَصالح شركات البترول (عهد أيزنهاور) «فرملة» إسرائيل، أمَّا بريطانيا فهي الطرف الذي يخشى بالفعل تدخُّله.

وكان تقدير «عبد الناصر» أن «إيدن» في موقف ضعيف، وأن هذا سيُغريه بالعنف، لكن على إيدن أن يتصرَّف بسرعة وأن يضرب والحديد ساخن، وإلا فإن المناخ العام للأزمة سوف يهدأ أو يبرد. ومن هنا كان تقدير عبد الناصر هو أن احتمال التدخل العسكري ضد مصر هو ۸٠٪ خلال الأسبوع الأول للتأميم، ثم يتناقص بعد ذلك فيصل إلى ٢٠٪ في أواخر أكتوبر.

وحيث إن تقارير أجهزة المخابرات المصرية عن وضع القوات البريطانية في قبرص، توضِّح أن بريطانيا لا تستطيع وحْدَها اتخاذ إجراء عسكري، فإن الثغرة التي تبقى — وفق رواية هيكل — هي ما إذا كانت بريطانيا على استعداد للتحالف مع أطراف أخرى في العملية؛ فرنسا وإسرائيل.

ويقول «هيكل» إن «عبد الناصر» استبعد إمكانية تحقُّق ذلك، وإن هذا هو الخطأ الظاهر الذي شاب موقفَه، ولكن بصورةٍ أعقدَ من رواية هيكل. وهي تذكِّرنا بخطأ فاضح آخَر حدَث في حسابات أزمة ١٩٦٧م قبل بداية العدوان.

فواقع الأمر — كما ذكرنا من قبلُ — أن «ثروت عكاشة» أرسَل إلى «عبد الناصر» مشروعَ مخطَّط العدوان كما تم تنفيذه بالفعل، قبل أن يتم بأسابيع، وأن «زكريا العادلي إمام» فعَل نفس الشيء، بل إنه أرسَل برقيةً من تركيا يومَ ٦ أكتوبر هذا نصُّها: «ستوجِّه إنجلترا وفرنسا إنذارًا نهائيًّا إلى مصر، يعقبه اعتداء جماعي بالتعاون مع إسرائيل في منتصف نوفمبر سنة ١٩٥٦م.» وأنه أعقبها بأخرى قال فيها: «رغم أن المعلومات عندي أن الهجوم في منتصف نوفمبر، إلا أن الظواهر تدل على أن الهجوم سيكون آخِر أكتوبر.» وهو ما حدث فعلًا.

ويعلم كاتب هذه السطور من خالد محيي الدين أنه هو أيضًا وصلَته من فرنسا معلومات عن مخطَّط العدوان الثلاثي قبل حدوثه، وأنه نقَل هذه المعلومات إلى عبد الناصر فاستخفَّ بها.

ويقول «عكاشة» في شهادته أن «عبد الناصر» قال له عندما قابله بعد العدوان: «لقد نفَذنا من سَمِّ الخِياط.» ثم أردف: «الواقع أنني لم أصدِّق إمكانَ حدوث هذا العدوان؛ لأن كل الحسابات كانت تؤدِّي إلى استحالة حدوثه، غير أنني استفدت مما بعثتَ به إليَّ في اتخاذي بسرعةٍ قرارَ سحبِ قواتنا المسلَّحة من سيناء قبل الإطباق الكامل عليها.»

كيف يمكِن تفسير موقف عبد الناصر من هذا الموضوع؟ بل كيف يمكِن تفسير شهادة «أمين هويدي» بأنه في ليلة العدوان على مصر، في ٢٩ أكتوبر سنة ١٩٥٦م، لم تكُن هناك حالة طوارئ في الجيش، وكان جميع الضباط يَبيتون في منازلهم، رغم هذه التحذيرات المتكررة؟

هل هي الثقة الزائدة في النفس، أم كانت هناك تطمينات كاذبة مخادعة من جانب الولايات المتحدة بأنها لن تَسمح للقوى الثلاث الأخرى بالعدوان على مصر؟ بمعنًى آخَر: هل لعبت واشنطن دورًا في تضليل مصر في سنة ١٩٥٦م كما فعلت في ١٩٦٧م؟

أسئلة حائرة، وإن كان جلاؤها أمرًا هامًّا من الناحية التاريخية. ومع ذلك، فنحن نفتقِد الإجابةَ عليها في «ملفات السويس».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥