(٣) كيرميت روزفلت في مرآة هيكل
كيرميت روزفلت شخصية أسطورية في تاريخ المخابرات الأمريكية. كان أحد عناصرها القيادية، وكان طوال سنوات الخمسينيات ممثِّلًا لها في الشرق الأوسط. وهو في نفس الوقت رجلٌ وثيقُ الصلة بشركات البترول الأمريكية، فعندما ترك المخابرات عُيِّن مستشارًا لشركة «جلف». ومن الممكِن القول إنه كان أحيانًا رجلَ شركات البترول في المخابرات الأمريكية، وأحيانًا أخرى رجل المخابرات الأمريكية في شركات البترول. وهو من ناحية أخرى يكاد يكون الطبعة الأمريكية للورانس الجزيرة العربية؛ كِلاهما كان يعمل بإخلاص زائد في عمله، وكِلاهما كان مغامرًا من الدرجة الأولى، وكِلاهما كان فيما يبدو يهرب من مشاكل شخصية أو عائلية بالانغماس في أنشطة المخابرات المثيرة.
لكن اسم روزفلت ارتبط بحدثَين هامَّين في الشرق الأوسط؛ أوَّلهما أنه كان العقل المدبِّر والبطل الحقيقي للانقلاب الذي دبَّرته المخابرات الأمريكية ضد مصدق في طهران عام ١٩٥٣م، ذلك الانقلاب الذي أعاد الشاه إلى الحكم وأدخَل مصدق السجن. وهيكل يقول إن عبد الناصر صُدِم عام ١٩٥٣م صدمة كبرى عندما اكتملَت له صورة الدور الذي لعبه كيرميت في الانقلاب على مصدق. وإذا صدَّقنا رواية مايلز كوبلاند في كتابه «لعبة الأمم»، فإن روزفلت لم يكُن العقل المدِّبر للانقلاب فحسب، وإنما كان القيادة التنفيذية لهذا الانقلاب في شوارع طهران ذاتها.
أمَّا الحدث الثاني الذي لعب فيه روزفلت دورًا ملحوظًا فهو انقلاب حسني الزعيم في سوريا عام ١٩٤٩م، وهيكل يقول في كتاب «سنوات الغليان» إن دوره كان جانبيًّا في ذلك الانقلاب، إلا أن الصورة عند كوبلاند تختلف عن ذلك؛ إذ يبدو أنه كان العقل المدبِّر أيضًا.
كيرميت روزفلت إذن شخصية مخابراتية أمريكية خطيرة، لعب أدوارًا استثنائية في انقلابَين أمريكيَّين في الشرق الأوسط؛ الانقلاب على حُكم مصدق الوطني في طهران، وانقلاب حسني الزعيم في دمشق.
هل كان لروزفلت صلة بأحداث مصر قبل الثورة؟
يجيب هيكل على ذلك في «سنوات الغليان» بأنه ظهَر في مصر ثلاثَ مرات في الأشهر الأولى عام ١٩٥٢م، وكان غطاؤه العلني عمله كصحفي. وفي هذه المرات الثلاث التقى بعدد من أقطاب القصر وأقطاب الوفد وكبار الساسة البارزين، مثل علي ماهر ونجيب الهلالي ومرتضى المراغي. ويوضِّح هيكل أنه بعد لقاء الرئيس روزفلت والملِك فاروق في منطقة قناة السويس، اتَّفق على حلقةِ اتصالٍ طرفاها روزفلت وأحمد حسنين.
وبعد موت أحمد حسنين في حادث سيارة غامض، انتقل الاتصال من جانب مصر إلى كبار موظَّفي وصحفيي القصر، ومن بينهم كريم ثابت.
لكن وفق رواية كوبلاند في «لعبة الأمم»، فإن يد روزفلت لم تكُن بعيدة عن مجريات أحداث مصر في الشهور التي سبقت ثورة يوليو. وكان هناك رأيان لدى الأوساط الأمريكية في مصر فيما يتعلَّق بالأزمة السياسية بعد حريق القاهرة؛ رأيُ السفير كافري الذي كان قد فقد الأمل في الملِك وأصبح يعتقد أن الجيش هو مناط الأمل، وكان لروزفلت رأيٌ آخَر وهو إعطاء فاروق فرصة أخيرة القيادة «ثورة بيضاء» تُصلِح الأوضاع وتقضي على الفساد. وثَمَّة دلائل عديدة على أن وزارتَي نجيب الهلالي قبل الثورة مثَّلتا تلك المحاوَلة الأمريكية في «الثورة والتطهير». ومع أن نجيب الهلالي كان من الناحية الشخصية رجلًا مستقيمًا، فإنه كان رجلًا ضعيفًا لا يمثِّل أيَّ قوة سياسية في مصر. وكان اعتماده على القصر وعداؤه للوفد بمثابة نقطة الضَّعف القاتلة في وزارتَيه؛ فالقصر كان في الحقيقة هو رأس الفساد في مصر، والوفد كانت ما تزال له شعبية بين الناس، خصوصًا بعدما ألغى معاهَدة ١٩٣٦م واتَّخذ موقفًا عدائيًّا من قوَّات الاحتلال البريطاني. ومن الواضح أن هيكل نفسه كان متشكِّكًا في جدوى عملية نجيب الهلالي، باعتبار أنها تعتمد أولًا وأخيرًا على القصر الذي لم يكُن جديرًا بالثقة أصلًا. ففي كتابات أخرى يحكي هيكل كيف أنه واجَه رئيسَ الوزراء الهلالي في شُرفة منزله بالإسكندرية — وبحضور صِهره د. محفوظ — متسائِلًا عن الضمانات التي أخذها الهلالي من الملِك، وكانت إجابة رئيس الوزراء تشير إلى حالة العجز الذي يشعر به إزاء فاروق.
ثم وقعت أحداث ثورة يوليو بينما نجيب الهلالي ووزير داخليَّته — رجل القصر — مرتضى المراغي في مصيف الإسكندرية، وتحوَّل الموقف تحوُّلًا كاملًا خلال يوم واحد.
هل كان هيكل يعرف كيرميت روزفلت قبل الثورة، في الشهور التي سبقتها؟
لا يقول هيكل شيئًا من ذلك في كتابَيه «ملفات السويس»، «سنوات الغليان». لكن الأرجح أنه كان يعرفه؛ فالغطاء العلني لروزفلت عندما جاء إلى مصر هو عمله كصحفي. ومن الواضح وفق رواية هيكل أن روزفلت كان وثيق الصلة بصحفيي القصر، وفي طليعتهم بطبيعة الحال الأخوان مصطفى وعلي أمين صاحبا دار أخبار اليوم حيث كان يعمل هيكل آنذاك.
ما هو الدور الذي لعبه كيرميت روزفلت في السياسة المصرية الأمريكية بعد الثورة؟ تلك هي المسألة الأساسية التي أود التعرُّض لها هنا. ولكن قبل أن أتعرَّض للإجابة على هذا السؤال من واقع رواية هيكل في كتابَيه، أحبُّ أن أوضِّح أنني لست من الذين يقولون إن أحداث يوم ٢٣ يوليو هي صناعة أمريكية يختبئ روزفلت خلفها. فالحقيقة أنني مقتنع تمامًا من كل المتابَعات العربية والأجنبية لثورة يوليو بأن هذا غير صحيح. وحتى كوبلاند في كتابه «لعبة الأمم» لم يَدَّعِ ذلك، بل يقول إنه كان لدى الأمريكيين إدراك بأن ثَمة شيئًا يجري في الجيش، وإنهم كانوا على اتِّصال ببعض الضباط الذين لم يكونوا من الحلقة الرئيسية لقيادة الضباط الأحرار، وإن السفارة الأمريكية لم تكُن على علمٍ بموعد تحرُّك الجيش، وإن روزفلت بعد أن انحاز لرأي كافري كتَب تقريرًا بعد عودته إلى واشنطن يحذِّر فيه من اعتبار الانقلاب «طفلًا أمريكيًّا»، وإن كان قد اعتبره بطبيعة الحال فرصةً ذهبية لدعم النفوذ الأمريكي على حساب النفوذ البريطاني، ولإدخال مصر في حِلف عسكري في الشرق الأوسط، ولإتمام صلح مع إسرائيل. ولقد قال روزفلت في تقريره إنه مقتنِع بأنه إذا كان لا مفرَّ من عدوٍّ يخاف من النظام الجديد، فهو الطبقات العليا في مصر والإنجليز، وليس إسرائيل!
ولقد سبق لي أن أوضحت في مقالات سابقة أن أمريكا بعد دورها القيادي في الحرب العالمية الثانية، كانت تزحف بسرعة — خصوصًا منذ ١٩٤٧م — على مناطق النفوذ البريطاني التقليدية، وأنها وجدَت في ثورة يوليو فرصتَها الذهبية لدعم مركزها في القاهرة على حساب بريطانيا، وأنها تصوَّرت أن استراتيجيتها في الحِلف العسكري الغربي والصلح بين العرب وإسرائيل سوف تكون أسهلَ مع الحكَّام الجُدد ذوي التجرِبة السياسية «الهشَّة»، وكانت أول خيبة أمل جدية لها هي صفقة الأسلحة مع تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٥٥م.
ومع ذلك لقد ظل النفوذ الأمريكي في السنوات الأولى للثورة وحتى عام ١٩٥٥م واضحًا تمامًا. وكان من علاماته دورُ السفير كافري في وداع فاروق في الإسكندرية بعد طرده، والتمثيل البارز لجماعة الروَّاد في وزارات الثورة الأولى، وتعيين أحمد حسين سفيرًا في واشنطن، وهو الرجل الذي كان على صلة وثيقة بكيرميت روزفلت.
ويحكي هيكل أن روزفلت وصل إلى مصر — بعد الثورة — في أكتوبر سنة ١٩٥٢م حاملًا جوازَ سفرٍ مكتوبًا عليه أنه مستشار خاص للرئيس الأمريكي، وأنه حتى تلك اللحظة لم يكُن عبد الناصر يعرف حقيقة عمل كيرميت ممثِّلًا للمخابَرات الأمريكية في الشرق الأوسط، وربَّما يلاحظ القارئ أن تلك كانت نهاية أيام ترومان في البيت الأبيض، وكانت الانتخابات الأمريكية على الأبواب، وكان من الواضح للجميع أن أيزنهاور — بالدور الذي لعبه في الحرب العالمية الثانية — سوف يكون الفائز بالرئاسة. ولقد أجمع كل الباحثين لتلك المرحلة — بما فيهم هيكل في كتابه الأخير — على أن أيزنهاور كان يعتبر المخابرات الأمريكية ذراعَه الأساسية في تنفيذ سياسته الخارجية قبل وزارة الخارجية الأمريكية. ولعله كان في ذلك متأثرًا بالدور الذي لعبَته المخابرات في الجبهة الثانية خلال الحرب.
وبمجرد وصول روزفلت إلى القاهرة، اتَّصل الوزير المفوَّض في السفارة الأمريكية ماكلينتوك بعبد المنعم أمين — عضو مجلس قيادة الثورة — ليبلغه برغبة روزفلت في لقاء سري مع القيادة بعيدًا عن أعيُن الإنجليز. وبالفعل تم ترتيب عشاء في بيت ماكلينتوك حضَره من الجانب المصري عبد الناصر وعامر وصلاح سالم وعبد المنعم أمين.
ووفق رواية هيكل في «ملفات السويس»، بدأت الجلسة بموضوع السودان والجلاء، وانتهت بموضوع السلاح. ولم يرتبط روزفلت بشيء، لكنه بدأ يسأل عن تصوُّر القيادة المصرية لقضية الدفاع عن الشرق الأوسط، كما أثار مسألة إسرائيل ونوايا النظام الجديد حيالها. وكانت إجابات عبد الناصر عامَّة، لكن هيكل يقول إن روزفلت اقتنع بالكثير مما سمع؛ لأن تطوُّر الأحداث أظهَر أن رأيه كان إلى حدٍّ ما متعاطِفًا مع الخطوط التي شرحها عبد الناصر. ويُعيد هيكل تأكيدَ هذا المعنى في كتابه الأخير عندما يقول إن لروزفلت دورًا ملحوظًا في الضغط على الإنجليز لقَبول الجلاء.
والذي يبدو من كتابَي هيكل وكتابات الآخَرين أن هذا الثالوث (روزفلت، إيكلبرجر، كوبلاند) كان الفعالية الأساسية في تنفيذ سياسة المخابرات الأمريكية في مصر، وأنه كان لهذه المجموعة خطُّ عملٍ يتعاطف إلى حدٍّ كبير مع توجُّهات عبد الناصر آنذاك، وأنها كانت على علاقات شخصية ودية مع العديد من المحيطين بعبد الناصر، وأنه لم يكُن من النادر أن يتباين خطُّ هذه المجموعة مع الخطِّ الرسمي لسياسة الخارجية الأمريكية.
وثَمَّة أدلَّة عديدة على هذا، لا في كتاب «لعبة الأمم» وحده، وإنما أيضًا في كتابَي هيكل الأخيرَين، وظلَّ هذا هو الموقف إلى وقت متأخر، حتى بعد عدوان السويس. ومع أن عبد الناصر عرف في أغسطس سنة ١٩٥٣م حقيقةَ وضعِ روزفلت، وأنه مهندس الانقلاب على مصدق، فإنه وافَق على إنشاء قناة اتصال مصري أمريكي غير رسمية، طرفها الأمريكي هو روزفلت ومعاوِنوه، وطرفها المصري هو علي صبري. والأكثر من هذا أن روزفلت اقترح تدريبَ بعض القيادات المصرية على أعمال المخابَرات، فوافَق عبد الناصر ورشَّح لذلك أربعة: كمال رفعت، ولطفي واكد، وحسن التهامي، وصلاح دسوقي.
وفي محاوَلة فيما يبدو لتخفيف اندهاش القارئ من قَبول عبد الناصر لهذا كله، يقول هيكل إن عبد الناصر لم يكُن في الحقيقة مقتنِعًا بما يجري من خلال تلك القناة، لكنه أراح نفسه في النهاية بالقول إنه إذا كانت هذه هي الطريقة الأمريكية في السياسة، فلا بأس من تجربتها. ويحاول هيكل تلطيف الأمر أكثر عندما يذكِّر القارئ بأن هذه هي سنوات ثقة عبد الناصر في أمريكا.
وعندما ذهب إيكلبرجر إلى لندن في عام ١٩٥٦م، واجتمع بجورج يونج (المسئول عن الشرق الأوسط في المخابرات البريطانية)، واكتشف منه أن هناك خطةً لاغتيال عبد الناصر (أشار بيتر رايت في كتابه «صائد الجواسيس» بالتفصيل إلى هذا الموضوع)، سارَع بعد عودته إلى تسريب معلومات إلى عبد الناصر عن هذه المؤامَرة. ويقول هيكل إن المعلومات وصلت فعلًا لعبد الناصر ودعَته للتساؤل عن الغرض من تسريب هذه المعلومات إليه.
أمَّا كوبلاند فمن الواضح أنه بعد أن ترك المخابرات، وافتتح مكتبًا للعلاقات العامة لخدمة شركات البترول في بيروت، حاوَل أن يستثمِر علاقاته الطيبة بالقاهرة، وإن كان فيما يبدو قد بالَغ في ذلك مما أثار ضِيقها. وهيكل نفسه لا يُخفي في كتابه الأخير أنه كان لدى القاهرة رغبة في مساعَدة كوبلاند عن «فهم لما حلَّ بمجموعة روزفلت» كلها، ثم تبدَّل الموقف عندما تبيَّن أن كوبلاند يبحث عن أيِّ صفقة في أيِّ سوق!
والحقيقة أن المرء لا يملك إلا أن يدهش من مثابَرة روزفلت على المحافَظة على علاقات ودية مع نظام عبد الناصر. فمع أن عبد الناصر قرَّر إغلاق قناة روزفلت بعد فشل بعثة أندرسون إلى القاهرة، الذي جاء يعرض مقايَضة السد العالي بالصلح مع إسرائيل، فإننا نعلم من كتاب «ملفات السويس» أن روزفلت حاوَل إعادة تنشيط هذه القناة إبَّان أزمة السويس عند لقائه مع علي صبري في نيويورك، وأنه اقترح عليه السفر إلى واشنطن لمقابَلة ألان دالاس رئيس المخابرات، إلا أن القاهرة رفضَت الاقتراح. والأكثر من هذا أن علي صبري تلقَّى بعد العدوان الثلاثي بأيام رسالةً من روزفلت يرجوه فيها إقناعَ السوريين بالمحافَظة على خط التابلاين وعدم تدميره!
بل حتى بعد كل ذلك بسنين، وبالتحديد في أواخر ١٩٥٨م، عندما بدا اتجاه السياسة المصرية إلى طريق العداء للشيوعية، سارَع كيرميت روزفلت بالكتابة إلى صديقه القديم أحمد حسين قائلًا إن هناك احتمالًا كبيرًا في أن يزور القاهرة، وإنه يَلمح في الجو علاماتٍ سياسية مواتية. وكان تعليق عبد الناصر عندما عرف بهذه الرسالة، أنه يفضِّل في الظروف الراهنة أن يكون للاتصالات مع الولايات المتحدة قناةٌ واحدة هي القناة الرسمية.
إن من الواضح من كتابَي هيكل أن السياسة الأمريكية قد احتفظَت بروزفلت كمَلجئها الأخير إذا تعذَّرت الملاجئ الأخرى مع السياسة المصرية. فميزة هذه القناة ليس أنها غير رسمية فحسب، وإنما يتم الضغط من خلالها عبر شخصيات هي في حكم «أصدقاء» النظام المصري.
فكيرميت روزفلت هو الذي يُرسَل إلى القاهرة إبَّان مفاوَضات الجلاء بهدف إقناع عبد الناصر باشتراك أمريكا في المفاوَضات، وأن تُجرى تلك المفاوَضات تحت قيادة عسكرية. وكيرميت روزفلت هو الذي يُرسَل إلى القاهرة في مارس ١٩٥٥م لتحذير عبد الناصر من الاشتراك في مؤتمر باندونج. وفي أواخر سبتمبر ١٩٥٥م، عندما تسرَّب خبر صفقة الأسلحة مع براغ، قام دالاس بإرسال روزفلت لتوجيه إنذار لعبد الناصر من خلال هيكل، وهو إنذار بوقف المعونة الأمريكية وقطع العلاقات الديبلوماسية إن لزم الأمر، وفرض حصار بحري على الشواطئ المصرية لمنع وصول شحنات السلاح. وحتى يؤكِّد أيزنهاور إنذارَه، قام بإرسال جورج آلن ليقدِّم الإنذار رسميًّا. وعندما علم عبد الناصر بذلك أرسل إلى السفير بايرود وإلى روزفلت — عبر هيكل — رسالةً بأنه سيَطرد جورج آلن إذا قدَّم إنذارًا في المقابَلة.
والغريب أنه في مثل هذه الظروف، وعندما علم بنيَّة عبد الناصر في إلقاء خطاب — بمعرض صور — يعلن فيه الصفقة قبل وصول جورج آلن، حاوَل كيرميت — كما يقول كوبلاند في كتابه — أن يُقنِع عبد الناصر أن يضيف فقرة في الخطاب تؤكِّد نواياه غير العدوانية تجاه إسرائيل. ويقول كوبلاند إن عبد الناصر وافَق على ذلك، ثم عدل عنها بعد ذلك عندما توتَّر الجو بمناسَبة موضوع الإنذار.
•••
لقد أوضحت إذن في السطور السابقة أنه في السنوات الأولى للثورة كانت هناك مجموعة مخابراتية أمريكية على اتصال بالقيادة السياسية المصرية، فيما عُرِف بقناة الاتصال غير الرسمي، يرأسها كيرميت روزفلت؛ وأن هذه المجموعة كانت تعتبر نفسها صديقة للنظام الجديد، وكان النظام الجديد ينظر إليها نفس النظرة إلى حد كبير؛ وأنها لعبت أدوارًا مفيدة للنظام مثل دور روزفلت في الضغوط على بريطانيا للجلاء، ومثل قيام إيكلبرجر بتسريب معلومات إلى عبد الناصر عن تدبيرٍ بريطاني لاغتياله؛ وأن هذه المجموعة كانت مقتنِعة بأن القيادة المصرية ذات صبغة معادِية للشيوعية، وأنها يمكِن أن تنضمَّ إلى حِلف غربي إذا تحقَّق جلاء البريطانيين عن قناة السويس، وبالتالي فإن هذه القيادة يمكِن أن تكون الحليف الطبيعي لواشنطن، وأن تفتح الطريق للصلح مع إسرائيل.
وإذا كانت صورة هذا التصور قد بدأت تهتزُّ ابتداءً من صفقة الأسلحة التشيكية، فقد كان من السهل على رجل مثل كوبلاند أن ينسب هذا الفشلَ إلى التضارب بين القناتَين، الرسمية وغير الرسمية، في التعامل مع مصر، وغلبة توجُّهات القناة الرسمية في نهاية الأمر. وفي رأيي أن هذا هو أحد أهداف كتاب «لعبة الأمم». أمَّا روزفلت، فإنه لم يَيئس من معركة كسب النظام المصري نهائيًّا إلى صف الولايات المتحدة إلى عام ١٩٥٦م، كما يشهد على ذلك خطابه إلى إيكلبرجر (المنشور في كتاب هيكل الأخير)، وسمَّاها فيه معركة القرن!
لكن التضارب لم يكُن في الحقيقة قائمًا بين مجموعة روزفلت وأجهزة الخارجية الأمريكية فحسب، وإنما ظهر هناك تبايُن آخَر داخل جهاز المخابرات الأمريكية ذاتها، بين اتجاهَين مثَّل أحدهما جيمس إنجلتون، ومثَّل الآخَر كيرميت روزفلت. وقد ظهر هذا التباين في مرحلة متأخِّرة نسبيًّا، عندما أصبح واضحًا أن حسابات روزفلت ومجموعته فيما يتعلَّق بنظام عبد الناصر لم تكُن صحيحة.
ويشير هيكل في كتاب «ملفات السويس» إلى اجتماع هام عُقِد في المخابرات الأمريكية، في واشنطن في أوائل ١٩٥٦م، لمناقشة الموقف من عبد الناصر، بعد أن كشف عن وجهه الحقيقي بصفقة الأسلحة التشيكية، وبمعارَضته لحِلف بغداد، وبرفضه عرضَ أندرسون بمقايَضة السد العالي بالصلح مع إسرائيل، ثم بإغلاقه قناة الاتصال غير الرسمي. وقد حضر هذا الاجتماعَ جيمس إنجلتون الرجل الثاني بعد آلان دالاس، وفرانسيس راسل قائد المجموعة «ألفا»، وريموند هير، كما حضره كيرميت روزفلت أيضًا. وبينما عبَّر إنجلتون عن قناعته بضرورة إطلاق إسرائيل ضد العرب، فإن كيرميت روزفلت عارَض أسلوب الانقلاب على عبد الناصر لأنه غير عملي، واعتبر الإقدام على محاوَلة اغتياله بمثابة كارثة، وقال إن على السياسة الأمريكية أن تبحث عن بدائل غير الانقلاب والاغتيال في الوقت الراهن على الأقل.
ويشير هيكل إلى أنه كانت هناك مدرستان في وكالة المخابرات الأمريكية؛ مدرسة إنجلتون، ومدرسة روزفلت. وفي إشارته إلى تركيب الوكالة، يبسِّط هيكل الأمور كثيرًا عندما يقسِّم العاملين بالوكالة إلى ثلاث طبقات: طبقة القمَّة من أبناء البيوتات المكلَّفين بالاتصال بالملوك والرؤساء، وهذه الطبقة في رأي هيكل متفتِّحة التفكير إلى حد كبير باعتبار طبيعة اتصالاتها. ثم هناك طبقة «الكشَّافة» من أبناء الطبقة الوسطى والمهنيين، ومهمة هؤلاء تنظيم الشبكات وتجنيد العملاء. وأخيرًا هناك الطبقة التي في القاع من المكلَّفين بالعمليات المباشِرة مثل: سرقة الوثائق، والتصنُّت، والخطف، والاغتيال.
ومع أن هيكل لا يقول لنا صراحةً إلى أي هذه الطبقات الثلاث ينتمي كيرميت، فإن من الواضح أنه ينتمي إلى القمَّة. وبالتالي فإذا كانت مواقفه إزاء نظام عبد الناصر إيجابيةً إلى حد كبير، فما ذلك إلا لأنه ينتمي إلى طبقة «متفتِّحة التفكير» بطبيعة اتصالاتها مع الرؤساء والملوك، ومثل هذا القول يتناقض مع حقيقةِ أن جيمس إنجلتون كان في القمَّة، وكان دمويًّا في آنٍ واحد. وكيرميت روزفلت هو أيضًا الرجل المدبِّر والمنفِّذ للانقلاب على الحكم الوطني في طهران عام ١٩٥٣م، وفيه سالت دماء كثيرة وقُتِل المئات من الساسة العسكريين ورجال الدين وقادة الأحزاب، وكل هذا لا ينبئ عن «تفتُّح في التفكير» من قريب أو بعيد.
ولعل الأقرب إلى الفَهم في تفسير موقف روزفلت من نظام عبد الناصر، هو أنه كان إلى حدٍّ كبير يعبِّر عن المصالح البترولية الأمريكية التي ارتبط بها وارتبطَت به. وعندما كانت مصالح شركات البترول الأمريكية — بعد انتزاعها حصَّةً كبيرة من بريطانيا — هي تدمير نظام مصدق وإعادة الشاه، لم يتردَّد روزفلت في القيام بهذه العملية القَذِرة. وعندما كانت مصالح شركات البترول الأمريكية تتمثَّل في إنشاء خط التابلاين من السعودية إلى ساحل البحر الأبيض، لم يتردَّد روزفلت في تدبير انقلاب حسني الزعيم لإزاحة العقبات. أمَّا في مصر فالموقف كان أكثر تعقيدًا، فمصر والسعودية كانتا تربطهما علاقاتٌ قوية، وشركات البترول كانت حسَّاسة من ناحية السعودية، ونظام عبد الناصر كان في سنواته الثلاث الأولى ينبئ عن عَداءٍ مستحكم ضد الشيوعية والحركة العمَّالية (إعدام خميس والبقري في كفر الدوَّار)، كما كان مستعِدًّا في نهاية الأمر لفتح قنوات الاتصال مع المخابرات الأمريكية. ومن هنا ظلَّ الأمل قائمًا في كسب نظام عبد الناصر إلى جانب الأحلاف العسكرية والصلح مع إسرائيل حتى أواخر عام ۱۹٥٥م، عندما ترك أندرسون القاهرة غاضبًا بعد فشل مشروعه، وحتى بعد ذلك عندما اشتدَّ الصراع بين قاسم وعبد الناصر في أواخر ١٩٥٨م وأوائل ١٩٥٨م، وعادت سياسة العَداء للشيوعية من جديد في «ج.ع.م»، عاد الأمل من جديد في بعض أوساط المخابرات الأمريكية في «استعادة» نظام عبد الناصر.
أمَّا جيمس إنجلتون، فربَّما كان أكثر ارتباطًا بالمصالح التقليدية الاقتصادية للساحل الشرقي في الولايات المتحدة، وهي مصالح ذات ارتباطات قوية مع أوروبا وإسرائيل، لا العالم العربي، وربَّما كان هذا هو المنطق الذي حكم تفكيره وتوجُّهاته أكثر من أيِّ شيء آخَر.
وبعد خيبة أمل كيرميت روزفلت في مصر، ظهَر في سوريا في محاوَلة تدبير انقلاب؛ تطبيقًا لنصيحة ريموند هير بقصِّ «أجنحة عبد الناصر»، وذلك بعزل السعودية عن مصر، وتدبير انقلاب في دمشق. كما ظهر أيضًا في عمان في مارس ١٩٥٧م إبَّان أزمة الحكم الوطني هناك، ثم ظهر في السعودية في لقاء مع الأمير فيصل.