(١) التاريخ وصعوبات كتابته
ينبغي أن أعترف بدايةً بأنني تهيَّبت الكتابةَ عن كتاب د. ثروت عكاشة «مذكراتي في السياسة والثقافة» بعد أن انتهيت من قراءته. وقد تأمَّلتُ أسبابَ هذا التهيُّب من التعرُّض لكتاب صديق عزيز أحترمه وأجلُّه مثل الدكتور عكاشة، وتساءلت في نفسي إن كان هذا يعود إلى الحرَج الذي قد أحسُّه لأنه أشار إلى شخصي في الكتاب إشاراتٍ كريمةً في أكثر من مناسَبة، عندما تعرَّض لفترة مسئوليته الثانية كوزير للثقافة (۱۹٦٦–۱۹۷۰م)، وعندما تعاونتُ معه وقبلتُ تعييني رئيسًا لمجلس إدارة دار الكتاب العربي للطباعة والنشر لمدة عام مُعارًا من جامعة عين شمس.
لكن الحقيقة أن هذا الاعتبار ليس الأساس في هذا الإحساس لديَّ بعد قراءة الكتاب، وأبادِر فأقول منذ البداية إن ما صنَعه «ثروت عكاشة» في ميدان الثقافة خلال ثماني سنوات من العمل وزيرًا للثقافة، هو أعظم مِن أن ينكِره عاقل، حتى وإن كان من ألدِّ خصوم ثروت عكاشة. ويَكفيه فخرًا أنه على يدَيه قامت مؤسَّسات كبرى مثل أكاديمية الفنون والكونسرفتوار وفرقة الموسيقى العربية، وأنه استطاع إنقاذ جزء أساسي من تراثنا القومي، مثل معابد أبي سنبل، بمعجزة علمية حضارية، بعد أن كادت هذه المعابد أن تَغرق وتضيع إلى الأبد بسبب إنشاء السد العالي. ولا يستطيع منصِف أن يتنكَّر للنهضة المسرحية التي جرت على يدَيه في الستينات، وقُدِّمت خلالها أعظمُ المسرحيات التي كتَبها كبار أدبائنا أمثال نعمان عاشور، وألفريد فرج، وعبد الرحمن الشرقاوي، وميخائيل رومان، ويوسف إدريس؛ ولا للدور الذي لعبته الثقافة الجماهيرية في عهده، رغم الصعوبات التي واجهَته من ناحية أجهزة الأمن والحكم المحلي. وتزداد أهمية إنجازات الدكتور عكاشة في وزارته الثانية عندما تعرف أنها كانت فترةَ تقتير مالي من ناحية الدولة، وأنه استلم العديد من مؤسَّسات الوزارة في سبتمبر سنة ١٩٦٦م وهي من الناحية التنظيمية والمالية في حالةٍ يُرثى لها، ثم جاءت كارثة يونيو سنة ١٩٦٧م ففرضَت مزيدًا من التقتير على ميزانية وزارة الثقافة.
ولقد ساهمَت مجموعة من العوامل في نجاح عكاشة في ميدان الثقافة بهذا الشكل الذي يلفت الأنظار. وفي مقدِّمة هذه العوامل حقيقةُ أنه مثقَّف من النوع النادر بين العسكريين، انفتح على الثقافة الغربية الرفيعة منذ شبابه المبكِّر؛ وإيمانُه الذي لا يتزحزح بالكيف ولا بالكمِّ في ميدان الثقافة، كما ساعَد على ذلك دون شكٍّ طبيعةُ العلاقة بينه وبين الزعيم جمال عبد الناصر، الأمر الذي سهَّل له حلَّ مشاكلَ كثيرة يَعجز الوزراء الآخَرون عن حلها، فضلًا عن قدرته الخارقة على العمل المستمر في جَلَد، وهو ما يعجز الكثيرون عنه.
مشكلتي إذن فيما يتعلَّق بهذه المذكرات لا تتعلَّق بالثقافة أساسًا، وإنما تتعلَّق بالجانب الخاص بالسياسة في هذه المذكِّرات. والذين تولَّوا التعليق على هذه المذكرات من كتَّابنا المرموقين، مثل د. لويس عوض ورجاء النقاش، اهتموا أساسًا بالجانب الثقافي من هذه المذكرات ولم يتعرَّضوا للجانب السياسي فيها، إمَّا لأنهم آثروا أن يتحدَّثوا فيما يعرفونه جيدًا، أو لأن حديث السياسة لا يَشغلهم كثيرًا، أو لما يمكِن أن يسبِّبه حديثهم في السياسة من حرَج إزاء بعض الأشخاص الذين يتعرَّض لهم الكتاب.
لكني من ناحيتي أحسستُ بالصعوبات التالية عند تناوُل الجانب السياسي، وهو جانب على درجة عظيمة من الأهمية.
فهناك أولًا مشكلة ضخامة المذكرات التي تتجاوز صفحاتها ألفًا ومائتَي صفحة من القَطْع الكبير. وهي تغطي وقائع ووجهات نظر سياسية تمتدُّ على طول أكثر من ثلاثين عامًا، وتتناثر جغرافيًّا ما بين مصر والأردن وسوريا ودول المغرب، فضلًا عن فرنسا وإيطاليا وسويسرا وإسرائيل. وتتراوح الأحداث السياسية في أهميتها من أحداث على جانبٍ خطير من الأهمية التاريخية، مثل حصول عكاشة على خطة العدوان الثلاثي على مصر قبل العدوان الفعلي على مصر بيومَين، وإرساله عبد الرحمن صادق إلى مصر لإبلاغ عبد الناصر شخصيًّا بخطَّة العدوان، ووصول عبد الرحمن صادق إلى مكتب عبد الناصر يوم ٢٩ أكتوبر الساعة الواحدة ظهرًا، قبل بدء العدوان بساعات قليلة … إلى أحداث أقلَّ أهميةً، مثل القبض على مدير مكتب عكاشة وسكرتيره الخاص في سبتمبر سنة ١٩٦٢م، بحجَّةِ أنهم يروِّجون بعض النكات البذيئة عن عبد الناصر. وبين هذا وذاك تَرِد أحداث ليلة ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢م عندما تحرَّك الضباط الأحرار، وفي طليعتهم ثروت عكاشة نفسه، للاستيلاء على السلطة، أو اتصالاته بالجانب الإسرائيلي عندما كان يعمل في أوروبا ملحقًا عسكريًّا أو سفيرًا، أو دوره مع الجانب الفرنسي في قضية ثورة الجزائر. ومعظم هذه الأحداث كانت مجهولة لدى المهتمِّين بتاريخ هذه المرحلة من الناحية السياسية، فجاءت مذكرات عكاشة لتُلقي ضوءًا جديدًا على وقائع هذه المرحلة.
أمَّا الصعوبة الثانية فتتعلَّق عمومًا لا بمذكرات عكاشة فحسب، وإنما بكل مذكرات سياسية تكتبها شخصية عامة كانت طرفًا في أحداث البلاد السياسية، فالسؤال هنا هو: إلى أيِّ حدٍّ يمكِن الاعتماد على ما يَرِد في هذه المذكرات كوقائع تاريخية؟ إن عكاشة نفسه يقول في كتابه إنه لا يمكِن كتابة التاريخ بموضوعيةٍ حقَّة، إلا بعد انقضاء فترة مناسِبة من الزمن. وهو يعني هنا أهمية درء الأهواء الشخصية والنظر بموضوعية، لكن المشكلة الأخرى أن بعض كتَّاب هذه المذكرات يعتمدون على ذاكرتهم فيما يتعلَّق بأحداثٍ مضَت عليها سنوات طويلة. فإلى أيِّ حدٍّ يمكِن أن نثق بذاكرة الكتَّاب عندما تتقدَّم بهم السنُّ مع افتراضِ حُسن النيَّة؟ لقد خانت عكاشة ذاكرته وهو يتحدَّث عن أحداث قليلة الأهمية تتعلَّق بي وبالصديق محمود العالم، وهي أحداث وقعَت عام ١٩٦٧م. إذا كان هذا قد حدث فيما يتعلَّق بأحداثٍ وقعَت منذ عشرين عامًا، فما بالك بأحداث وقعت منذ أربعين عامًا؟
لا مَفرَّ هنا من دعم الحدث بالوثائق كلَّما كان ذلك ممكِنًا، ولقد فعل عكاشة ذلك عندما استطاع، لكن تظل هناك أحداث هامة اعتمد فيها على ذاكرته. أودُّ أن أشير مثلًا إلى قضية علي أبو نوار الذي لعب دورًا أساسيًّا في طرد جلوب من الأردن، والضوء الهام الذي ألقاه عكاشة على هذه القضية وعُرِف لأول مرة من مذكراته.
إن عكاشة يختم هذه القصَّة بالقول إن أبو نوار اضطرَّ إلى الاستقالة ومغادرَة الأردن عندما فشلت مصر والسعودية في تقديم العون المالي الذي يحلُّ محلَّ المعونة البريطانية التي قُطِعت. وفي ظني أنا أن أبو نوار قد هرب من الأردن إلى مصر في ظروف أكثر تعقيدًا من هذه، وتتعلَّق بالانقلاب الذي أعدَّه الملك حسين على الحركة الوطنية الأردنية في أوائل سنة ١٩٥٧م. ولقد كنتُ واحدًا من الذين عاصَروا أحداث الأردن، ومن شهودها، وإن كنت بالطبع أعتمد على ذاكرتي وأنا أكتب هذا دونَ مراجَعة لأية وثائق. لكن الأخطر من هذا كله أن هناك وقائع شهودها أحياء في مصر حتى اليوم، وهم يناقضون رواية عكاشة لها، وهنا أشير على وجه الخصوص إلى الواقعة التي يقول عكاشة إنها حدثت في ١٢ سبتمبر سنة ۱۹۷۰م في مطار القاهرة، عند توديع مختار ولد داده، وما قاله عبد الناصر لشعراوي جمعة في حضور أربعة وزراء وفق رواية عكاشة، فالمتابِع لمجلة روزاليوسف يرى نفيًا صريحًا من شعراوي جمعة لهذه الواقعة؛ مما يضع الدارس لهذه المذكرات في حيرة.
أمَّا الصعوبة الثالثة التي تتعلَّق بهذا الجانب السياسي في المذكرات، فتختصُّ بما هو واضح في المذكرات من مشاعر المرارة التي عبَّر عنها عكاشة إزاء بعض المحيطين بعبد الناصر، الذين وصَفهم بالانتهازيين، وقال عنهم إنهم استولَوا على الثورة ولم يكونوا من الضبَّاط الأحرار. وهذا الشعور قد يكون إلى حدٍّ كبير طبيعيًّا لدى شخص غامَرَ برأسه ليلة ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢م دون تردُّد، بينما الآخَرون لم يفعلوا ذلك. وعكاشة هنا يكاد يردِّد المقولة المشهورة بأن الثورة يخطِّط لها الدُّهاة، وينفِّذها الشجعان، ويستولي عليها الجبناء! ولقد مرَّت بعكاشة أحداث جعلت من هذه المرارة شعورًا مفهومًا؛ عندما فشل في انتخابات الاتحاد الاشتراكي بدائرة ديوان الوزارة مثلًا؛ أو عندما قُبِض على مدير مكتبه وسكرتيره الخاص وهو وزير للثقافة، بينما كان تحت الفحص الطبي في لندن في عام ١٩٦٢م؛ أو عندما اكتشف أن تليفونه تحت المراقَبة بعد أحداث ۱۹٦٧م؛ أو عندما جاءه طبيب صديق في أكتوبر سنة ١٩٥٧م، وكان قد صدَر قرار بتعيين عكاشة مستشارًا لرئيس الجمهورية، ليبلغه أن المجموعة المحيطة بعبد الناصر لا ترحِّب به بينهم، بمقولة إن طبيعته تختلف عن طبيعة المجموعة، وإن علاقته الوثيقة بعبد الناصر تَسمح له بنقل وجهة نظره مباشَرةً دونَ حجاب، وهو ما يُغضِبهم!
فهل كان المحيطون بعبد الناصر هم المؤثِّرون عليه حقًّا في اتخاذ قراراته، أم إنهم كانوا منفِّذين أساسًا لسياساته وتعليماته؟ ومَن هم هؤلاء المحيطون الذين يصبُّ عليهم عكاشة جام غضبه؟
إن الإشارات والتلميحات هنا تنصرف أولًا إلى علي صبري، ثم بعد ذلك وبشكلٍ أصرح شعراوي جمعة وسامي شرف فيما يبدو لي.
وفي ظني أن القضية هنا أكثر تعقيدًا مما تصوِّره مذكرات عكاشة. فبعد إنجاز الثورة — أي ثورة — لا ينبغي أن يكون المعيار في اختيار الناس لتنفيذ أهدافها ودعم مستقبلها هو وحده ما إذا كانوا من الضباط الأحرار أو لا؛ لأن الثورات كلها توضِّح أن هناك مَن هم قادرون على الاشتراك بشجاعة في إنجاز ثورة، لكنهم غير مؤهَّلين من ناحية الكفاءة في تحقيق أهدافها الطويلة بعد نجاحها. والمثل على ذلك عامر وصلاح نصر، فما من أحدٍ يُنكِر على عامر شجاعتَه في فلسطين أو ليلة ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢م، لكن وجوده على رأس الجيش المصري بعد الثورة كان كارثةً بكل المقاييس، ونفس الأمر ينطبِق على صلاح نصر الذي بنى المخابرات كدولة داخل الدولة، واستخدَمها لأغراضه الخاصة.
لماذا إذن تتركَّز نيران عكاشة على ثلاثة من المحيطين بعبد الناصر، بينما تظل علاقته وثيقةً إلى آخِر لحظةٍ بعامر وصلاح نصر، مع أنهما بمقياس المسئولية العامة وما حدث للجيش عام ١٩٥٦م، وعام ١٩٦٧م، وما حدث من انفصال سوري عام ١٩٦١م؛ كانا أحرى أن تُوجَّه نيران النقد إليهما؟
إن الانقلاب على دولة الوحدة تم في سبتمبر سنة ١٩٦١م، بينما كان عكاشة في دمشق هو وكمال رفعت. ولقد احتُجِز الاثنان لمدة أربع وعشرين ساعة بعد الانقلاب، وعندما عادا إلى القاهرة ذهبا مباشَرةً إلى بيت عبد الناصر.
ولا شكَّ أنه يذكر بالفضل لعكاشة أنه كتَب لعبد الناصر منذ أيام الوحدة الأولى، معبِّرًا عن شكوكه في هذا التسرع لإنجاز الوحدة، الأمر الذي اعترف به عبد الناصر بعد ذلك، وكان من الواضح لعكاشة أن السوريين باتوا يحسُّون أن قنوات الاتصال بينهم وبين الرئيس عبد الناصر قد سُدَّت، وأن الأمور في سوريا باتت تسير في غير المجرى الذي ينبغي أن تسلكه، وكل هذا صحيح. ولكن إذا استثنينا مسئولية عبد الحميد السراج في دمشق، فمن الواضح أن المسئولية الأولى فيما حدث تقع على أكتاف المشير عامر الذي كان الحاكم الفعلي في سوريا، والذي اعتُقِل عندما وقع الانقلاب الذي نفَّذه مديرو مكتبه بدمشق!
لماذا إذن فشلت مذكرات عكاشة في إبراز هذه الحقيقة عندما تحدَّث عن الانفصال كواحد من شهوده، وعندما ذهب إلى عبد الناصر مواسيًا؟ إن عكاشة يقول إنه حذَّر عبد الناصر في تلك الجلسة من الانتهازيين حوله، وهو يقول إن كمال رفعت أمَّنَ على كلامه، وذكرا أسماءَ هؤلاء الانتهازيين. أمَّا المسئول الأول عمَّا جرى من انفصال — عامر — فلا تَرِد في المذكرات كلمةٌ واحدة عنه وعن مسئوليته.
فهل يُعزى هذا إلى العلاقة الشخصية الحميمة التي كانت تربط عكاشة بعامر؟
أتساءل عن هذا دون رغبة في إعفاء المحيطين بعبد الناصر من المسئولية، غير أنه ليس من الواضح لي حتى اليوم حدودُ مسئوليتهم في الانفصال، بقدْرِ وضوح مسئولية عامر في هذه الكارثة لأول تجرِبة لدولةِ وَحْدةٍ عربية في العصر الحديث.
وغنيٌّ عن البيان أنني بقيت حتى انقلاب مايو سنة ۱۹۷۱م — وما بعده بسنوات — دون أي معرفة أو لقاء مع أيٍّ من المحيطين بعبد الناصر من مساعِديه، وما زال هذا هو الوضع حتى اليوم، وربَّما عانيتُ شخصيًّا في زمن عبد الناصر — على البُعد — من بعض هؤلاء المساعِدين.
لكننا نتحدَّث في قضايا عامة تتعلَّق بتاريخ مصر، وهذا يقتضي أن ننحِّي الجروح الشخصية جانبًا، وأن نتسلَّح بأكبر قدر ممكِن من الموضوعية.