(٢) رومانسية الفكر السياسي
قام «ثروت عكاشة» ليلة ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢م بدور تاريخي في تنفيذ مهامِّ الثورة من موقعه في سلاح الفرسان، وكان ثَمَّة اعتراف من الجميع بهذا الدور، إلى درجةِ أنه عند الاتجاه — بعد نجاح الثورة — إلى توسيع مجلس قيادة الثورة بتمثيل مختلف الأسلحة، كان الأمر محصورًا بينه وبين حسين الشافعي، الذي أدَّى دورًا تاريخيًّا هو الآخر في التنفيذ. ولقد اعتذر عكاشة عن دخول مجلس قيادة الثورة، مرشِّحًا حسين الشافعي الذي كان أعلى منه في الرتبة العسكرية. وبقول خالد محيي الدين إن عبد الناصر تنفَّسَ الصُّعَداء عندما اعتذر عكاشة؛ إذ جنَّبه الحرَج الذي كان يحسُّ به لو لم يدخل الشافعي مجلس قيادة الثورة.
لكن «عكاشة» يقول مع ذلك إنه أحسَّ منذ مشاركته في الثورة، ثم في الوزارة مدَّة ثماني سنين، أنه كان بين معظم رفاقه في الثورة غريبًا عنهم نزعةً ومشاربَ وميولًا، رغم اجتماعهم على أهداف متقارِبة. وهو يقول في المذكرات بنوع من الاعتداد: «لست محترفَ سياسة، وإنما كنت ذا نزعة ثورية.»
هذا الشعور بالغربة ربما يعود إلى طبيعة شخصية عكاشة ذاتها. وهو لا ينكِر ما يقوله الآخَرون عنه من أنه مُنطوٍ على النفس مُتقوقِع، وأن به عصبية فائرة تستفزُّها الهمسات الخفية، وأنه كثيرًا ما يكون بالغَ الحدَّة في أحكامه على الناس ما بين أبيض وأسود. كما لا ينكِر نزعاته الرومانسية في الأدب والفن، ومن هنا شغَفه بجبران وأدب جبران.
والذي يبدو لي أن هذه النزعات الرومانسية منعكِسة أيضًا في آرائه ومبادَراته السياسية في هذه المذكرات.
والرومانسية نقيض الواقعية، ومن هنا خطورتها إذا امتدَّت إلى المجال السياسي، وربما كان من الأدق لو قال «عكاشة» إنه ذو نزعة ثورية رومانسية، وهو ما يفسِّر في رأيي تورُّطه في أفكارٍ ومواقفَ سياسية لا صِلة لها بالوقائع، وتتناقض — في الحقيقة — مع مواقفه الوطنية الديمقراطية المعروف بها.
أذكر هنا على سبيل المثال واقعتَين وردتا في مذكراته:
الأولى عندما دعاه جمال عبد الناصر — بعد العدوان الثلاثي — هو وخالد محيي الدين إلى الغداء في منزله، وإذ بعكاشة يقدِّم للرئيس تقريرًا عن «الحياد السويسري» مقترِحًا أن نحذو حذْوَه، وكان منطق عكاشة أن «الحياد السويسري» يمكِن أن يكون المأمن لنا لكي نفرغ لبناء بلادنا من الداخل أولًا، ثم ننفذ إلى الخارج بعد ذلك! وعكاشة يعترف بأن عبد الناصر لم يرحِّب بهذه الأفكار، ولا بدَّ أنه اندهش من أن يخطر مثل هذا التفكير الرومانسي في ذهن عكاشة، ومصر كانت خارجة من تجرِبة العدوان الثلاثي، ومسئوليات مصر في العالم العربي على ما هي عليه.
أمَّا الواقعة الثانية فقد حدثت في ديسمبر ۱۹۷۷م، عندما ذهب السادات في رحلته المشئومة إلى القدس، فإذ بعكاشة يندفع فيرسل إليه رسالةَ تأييد حارَّة على هذه الزيارة، قال فيها: «منذ أن سمعت نبأ مبادَرتك الشجاعة المذهلة، أحببت في تجرُّد تام أن أصارِحك بعُمق صدى مبادَرتك في نفسي، ومدى ما أحسُّه تأييدًا لهذا الموقف الحكيم.» وبالطبع ردَّ السادات على عكاشة برسالة شكر مسهبة.
ولقد أحسَّ «عكاشة» بعد ذلك بخطأ موقفه عندما وُقِّعت اتفاقية كامب دافيد، وأرسل إلى السادات رسالةً أخرى منتقِدًا المعاهَدة، فلم يعبأ السادات بأن يردَّ عليه.
وربما كان من اللافت للنظر في هذا السياق أيضًا ما فعله «عكاشة» بخصوص مشكلة «هنري كورييل»، الذي كان قد سُحِبت منه الجنسية المصرية ورحل من مصر قبل الثورة. وإن «عكاشة» يقول إنه قابَله لأول مرة في جنيف في مَطلع ۱۹٥۸م، وإن «كورييل» أدَّى خدمات هامة لصالح الثورة الجزائرية؛ وبالتالي قدَّم «عكاشة» لعبد الناصر مذكِّرة في ٢٢ أبريل ١٩٦١م يطلب فيها ردَّ الجنسيةِ المصرية لكورييل، وإن عبد الناصر لم يكُن معترضًا وإن كانت الأجهزة المتخصِّصة بالأمن تولَّت دفن الموضوع!
ووجْهُ الغرابة في هذا هو التوقيت؛ فقد كان هذا زمن العَداء الحاد من النظام الناصري للشيوعيين، لا في مصر وحدها وإنما في سوريا والعراق أيضًا، وكان الشيوعيون المصريون في السجون قد مرُّوا بتجرِبة تعذيب معروفة، وكانت قيادات «الحزب الشيوعي السوري» مطارَدة داخل سوريا وخارجها، والحملة الإعلامية ضد الشيوعية على أشدِّها. تلك بالدقَّة كانت أيام مقتل «شهدي عطية الشافعي» و«فريد حداد»، واختفاء «محمد عثمان» في طنطا، و«فرج الله الحلو» في لبنان، فكيف توقَّع «عكاشة» في مثل هذا التوقيت أن يوافق على طلبه هذا بردِّ الجنسية المصرية إلى كورييل.
لقد أوردت هذه الأمثلة لتوضيح كيف أن الرجل الثوري الذي لا شكَّ في نزوعه الثوري، يمكِن أن يتورَّط في مواقف ومفارَقات عندما تكون هذه الثورية ذات طابع رومانسي لا صلة لها بالوقائع. ومن المؤكَّد أن القائد السياسي الثوري يحتاج إلى الخيال والطموحات لكي يستحق هذا اللقب، لكنه يحتاج أيضًا إلى الارتباط بالواقع المادي الملموس حتى لا تكون الهوَّة واسعة بين طموحاته ونتائج عمله.
ولا شكَّ أن مذكرات عكاشة في جانبها السياسي غنية بالدروس والعِبَر في هذا الميدان وفي ميادين أخرى عديدة، وهي تُلقي أضواء تاريخية هامة على جوانب كثيرة لم تكُن معروفة إطلاقًا، أو كانت هناك قبل مذكراته أضواءٌ خافتة عنها.
ومن بين هذه الجوانب التي أثارت اهتمامي في المذكرات موضوعُ الاتصالات التي جرت بين «عكاشة» والإسرائيليين إبَّان عمله ملحقًا عسكريًّا في باريس أو سفيرًا في روما. فقد طالما تساءلتُ بيني وبين نفسي إن كانت هناك قد جرَت اتصالات مباشِرة أو غير مباشِرة بين مصر الناصرية وبين إسرائيل، وماذا كانت حدودها. لكني لم أكُن أملك معلومات محدَّدة لها شهود.
وعندما صدر كتاب «هيكل» «ملفات السويس» اتَّضح أنه منذ أول أيام الثورة كانت هناك محاوَلات إسرائيلية لجسِّ نبض النظام الجديد، قام بها رسُل غربيون من بريطانيا والولايات المتحدة وغيرهما. ومن أمثلتها زيارة «ريتشارد كروسمان» — أحد قيادات حزب العمَّال البريطاني — لعبد الناصر في ديسمبر ١٩٥٢م، وذهابه إلى تل أبيب ثم عودته إلى القاهرة حاملًا من القادة الإسرائيليين اقتراحًا بلقاء سري في أي مكان بين عبد الناصر وبن جوريون.
وإذ فشلت كل هذه المحاوَلات، فقد لجأ الإسرائيليون إلى الاتصال بالمسئولين المصريين على مستويات أدنى، وواضح من مذكرات «عكاشة» أن قسمًا كبيرًا من هذه الاتصالات تمَّ من خلال «عكاشة» وهو في أوروبا، وأن «عبد الناصر» كان بالطبع على عِلم بها، وكان يوجِّه «عكاشة» في كيفية التصرُّف، وغنيٌّ عن البيان أيضًا أن المخابرات المصرية كانت قريبة منها أيضًا.
ولقد قام بالاتصال بعكاشة «جوزيف جولدن» الذي كان معروفًا باسم «جو جولدن» — وهو مواطن إسرائيلي يعمل مستشارًا للشئون العربية لناحوم جولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي — وكانت هذه الاتصالات ذات الطابع المخابراتي تستهدف من الجانب الإسرائيلي تقييمًا أدقَّ لموقف النظام في مصر، بالإضافة إلى تقديم مقترحات محدَّدة في قضايا محدَّدة، إلا أن الهدف الأكبر الذي كان يسعى إليه «ناحوم جولدمان» هو تدبير لقاء بينه وبين عبد الناصر. ومع أن هذه الاتصالات قد تمت خلال سنوات ١٩٥٦م، ۱۹٥٧م، ۱۹٥۸م (بما في ذلك بعض سنوات الوحدة المصرية السورية)، فإنه يبدو من المذكِّرات أنه قد تم لقاء بين عكاشة والملحق الصحفي الإسرائيلي في باريس في ديسمبر سنة ١٩٥٤م، في محاوَلة إسرائيلية تستهدف الحيلولة دون تنفيذ أحكام الإعدام في المخرِّبين من اليهود المصريين الذين استخدمتهم إسرائيل فيما عُرِف باسم فضيحة لافون، كما يتَّضح من المذكرات أن إلياهو ساسون كان سفيرًا لإسرائيل في روما، عندما كان عكاشة سفيرًا لمصر في نفس العاصمة، وأنه أرسل إلى عكاشة خطابًا بخصوص الإذاعة العبرية بالقاهرة، وإن كان «عكاشة» لم يرد عليه.
ومن الأمور الهامة التي يتطلَّع إليها قارئ هذه المذكِّرات معرفةُ تقييم عكاشة لنظام عبد الناصر على ضوء خبرته في الوزارة والسفارة، وباعتباره صديقًا لعبد الناصر قريبًا منه، وكأحد الذين وجدوا أنفسهم منذ اللحظة الأولى في لعبة الصراعات، وهو لا يُجِيدها بطبيعة شخصيته الانطوائية الخَجُولة.
لقد حرص «عكاشة» في مقدِّمة مذكراته على أن يواجِه هذه المسألة ويقدِّم فيها رؤيته، وإن كان حريصًا على أن يوضِّح أنه لا يؤرِّخ للثورة، وإنما يذكر فقط ما كان منه من مشارَكة أو ما جرى تحت سمعه وبصره. و«عكاشة» يصف نفسه بأنه انتقائي مستقل ذو ميول ليبرالية، وهو يصِف نظام عبد الناصر بأنه نظام سياسي سلطوي يجمع السلطة كلها في يد رئيس الجمهورية دونَ مُساءَلة دستورية حقَّة أمام الشعب. وهو يقول إن هذا النظام القائم على مركزية السلطة مَردُّه إلى عبد الناصر مبنًى ومعنًى، إيجابًا وسلبًا، معتمِدًا على «التوفيقية» وعلى التجربة والخطأ.
والمأخذ الأساسي عند عكاشة في نظام «عبد الناصر» هو مشكلة منهج الحكم الذي تمثَّل في مركزية السلطة. فأخطاء الثورة على امتدادها لم تكُن وليدة الحكم بقدْرِ ما كانت وليدة منهج الحكم. والمشكلة فيما يبدو أن عبد الناصر قد استعان في ظل هذه المركزية بفريقَين: قسم على درجة كبيرة من الشرف والوطنية، وقسم آخَر كان يثق بهم وإن كانوا قد غرَّروا بها!
إن قضية «مركزة السلطة» التي يشير إليها «عكاشة» هي قضية في رأيي صحيحة، وهي تثير بالطبع قضية الديمقراطية السياسية، لا بالمعنى الليبرالي المعروف في الغرب الذي لم يكُن يلائم ظروف الثورة وطموحاتها من قريب أو بعيد، وإنما بمعنى إطلاق المبادَرة للجماهير الشعبية في إعادة بناء الوطن وحماية النظام والدفاع عن الأهداف الوطنية والشعبية التي كان عبد الناصر مؤمِنًا بها. وهذه القضية هي في الحقيقة تتعلَّق بالتنظيم الجماهيري للنظام، الذي بدأ من هيئة التحرير حتى الاتحاد الاشتراكي، وكان تنظيمًا عاجزًا في كل مراحله كما أثبتَت الأحداث. ولم تكُن هناك رغبة من النظام في إطلاق مبادَرات الجماهير.
ومن هنا يبدو التبسيط الشديد للمشكلة عند «عكاشة»، عندما يقول بأن قِسمًا من أعوان «عبد الناصر» كان على درجة كبيرة من الشرف والوطنية، وكان القِسم الآخَر غير ذلك. والمسألة الأساسية ليست قضية شرف ووطنية المساعدين، على أهمية ذلك، وإنما هي قضية وعي سياسي لأعوان عبد الناصر، وهي أولًا قضية موقع الجماهير الشعبية في آليات السلطة، وإذا تأمَّلنا بعضَ مَن يصفهم «عكاشة» من أعوان عبد الناصر بأنهم غرَّروا به، وأنهم رجال انتهازيون لم يكونوا من الضباط الأحرار، فريما وجدنا بعضهم أنضجَ سياسيًّا من العديد من الضباط الأحرار الذين عرفتهم مصر.
وفي إطار هذا التبسيط المُخِل في رؤية عكاشة توضِّح مذكراته أنه قدَّم لعبد الناصر خلال أزمات النظام (انهيار الوحدة المصرية السورية عام ١٩٦١م، هزيمة ١٩٦٧م) اقتراحًا واحدًا يتكرَّر دائمًا، أَلَا وهو إنشاء حزب للثورة، وحزب معارِض بشرط أن يكون مؤمنًا بمبادئ الثورة! وهذا الكلام تكرَّر على يد «القيسوني» بصيغة أخرى بعد ١٩٦٧م، وهو أن يكون هناك جناحان أو منبران في الاتحاد الاشتراكي؛ جناح يميني بقيادة «زكريا محيي الدين»، وجناح يساري «بزعامة» «علي صبري»، على أن يتبادل الجناحان الحُكم!
وليس من الغريب أن يَصدر مثل هذين الاقتراحَين من «عكاشة» أو «القيسوني»، فهما معزولان عُزلةً كاملة عن الجماهير، و«عكاشة» نفسه لا يخفي أنه رجل لا يحب الجماهير، وحريص على البُعد عنها لأنه بطبعه ليس جماهيريًّا. وفي رأيي أنه واهم إذا تصوَّر أن هذا الاقتراح كان سوف يحلُّ مشكلة النظام، فليست القضية أن نحاول شكليًّا تقليدَ ما كان يجري في بريطانيا من تبادُل حزبَين للسلطة (المحافظون والعمَّال)، أو ما كان يجري في أمريكا بين الحزبَين الجمهوري والديمقراطي؛ لأن الظروف بيننا وبين هذه البُلدان جد مختلفة، أو لأن مصر في ظل الثورة لم تكُن في حاجةٍ إلى مثل هذا النظام الليبرالي التقليدي إذا أرادَت حقًّا أن تشقَّ طريقَها المستقل وأن تبني إنتاجها وتسخِّره لصالح الطبقات الشعبية، كما حاوَل عبد الناصر بكل إخلاص أن يفعل.
الأكثر من هذا أن مثل هذا الاقتراح هو بمثابة قفز فوق المشكلة الأساسية التي لم يشأ النظام الناصري أن يواجِهها، أو واجَهها وفشل في حلها … أعني موقع الجماهير الشعبية، وأساسًا العمَّال والفلاحين والشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة في آليَّات السلطة، وديناميكية النظام في تجديد نفسه وكوادره من خلال هذه الجماهير.
ولقد عاش عكاشة في ظل عبد الناصر غريبًا عن النظام كما أسلفنا، وساعَد على هذا بقاؤه في الخارج سنوات طويلة، وإذا كان قد بقي في إطار النظام ثمانيَ سنوات كوزير للثقافة، وسنوات أخرى كسفير أو رئيس مجلس إدارة البنك الأهلي، فما ذلك إلا لصداقته الحميمة بالشخصيتَين الرئيستَين في النظام، أعني «عبد الناصر» و«عبد الحكيم عامر». وليس بالصدفة أن «عبد الناصر» قد لجأ إليه في أدق المهمَّات التي كان يحاول إنجازها بالخارج، كما ليس بالصدفة أن يلجأ إليه «صلاح نصر» يومَ ٨ يونيو سنة ١٩٦٧م ليبلغه أن «المشير عامر» عازم على الانتحار، ويرجوه أن يذهب إليه لإثنائه عن هذا المصير.
وأخيرًا أود أن أقول إنني لم أملك إلا التعاطف مع الدكتور عكاشة خلال العديد من المواقف التي يتعرَّض لها الكتاب، لكني لم أستطع أيضًا أن أنسى حقيقة عزلته عن العمل الجماهيري الشعبي، وأنه كان في العمل السياسي أقرب إلى أن يكون من الهُواة، وتلك هي إحدى نقاط ضَعْفه الأساسية.