(٣) شهادة من داخل وزارة الثقافة
في أحد أيام شهر نوفمبر عام ١٩٦٧م كنت ألقي محاضَرتي الأسبوعية على طلاب السنة الرابعة بقسم الرياضة البحتة بكلية العلوم جامعة عين شمس، عندما وجدتُ أحد سُعاة القسم يقتحم عليَّ المدرَّج ليبلغني أن مكتب وزير الثقافة على التليفون، ونهرت الساعي لاقتحامه المدرَّج وأنا ألقي محاضَرتي على الطلاب، وطلبت منه أن يبلغ سكرتير الوزير أنني سأتَّصل به بعد انتهاء المحاضرة. وبالفعل اتَّصلت بوزير الثقافة فور انتهاء المحاضَرة، الذي أبلغني بضرورة حضوري إلى مكتبه لأمر هام.
وعندما ذهبت فُوجِئت به يبلغني أنه كان مع الرئيس عبد الناصر في اليوم السابق يبحثان معًا تعيينات المناصب الكبرى بوزارة الثقافة، وأن الرئيس قد اقترح تعييني في منصب رئيس مجلس إدارة الكاتب العربي للطباعة والنشر، وهي شركة الدولة للطباعة والنشر، وتضم سبع مطابع ونحو ثلاثة آلاف عامل وموظَّف.
والحقيقة أنني لم أكُن راغبًا في قَبول هذا المنصب، وحاولت إقناع الدكتور عكاشة أن يصرف النظر عن هذا الاقتراح، مُقترِحًا أسماءً أخرى. وكان لموقفي هذا أسباب عديدة، في مقدمتها أنني كنت أعرف الظروف التنظيمية والمالية الصعبة للشركة، فلما أبلغني أنه لا يملك ذلك لأنه توجيه من الرئيس، تمسَّكت بأن أبقى في الجامعة، وأن أذهب إلى وزارة الثقافة مُعارًا من الجامعة لمدَّة عام واحد فقط. وهو ما قبله الدكتور عكاشة في نهاية المطاف.
وكان وزير الثقافة يَعقد اجتماعًا أسبوعيًّا في مكتبه لرؤساء مؤسَّسات وشركات الوزارة، بالإضافة إلى وكلاء الوزارة ومديري العموم في الإدارات الهامة. وهكذا بدأت أحضر هذه الاجتماعات التي كان يحضرها أيضًا نجيب محفوظ رئيس مؤسَّسة السينما، وعبد الرازق حسن رئيس شركة الإنتاج السينمائي، ومحمود العالم رئيس مؤسَّسة المسرح، وسهير القلماوي رئيسة مؤسَّسة النشر، وسعد وهبة رئيس الشركة القومية للتوزيع، وسعد كامل رئيس إدارة الثقافة الجماهيرية، وعبد المنعم الصاوي وكيل وزارة الثقافة لشئون التخطيط … وآخَرون كثيرون. وهكذا بدأت أتعرَّف على مشاكل القطاعات المختلفة لوزارة الثقافة، وأقرأ عشرات التقارير التي كانت تُعرض في هذه الاجتماعات، والتي أعدَّتها القطاعات المختلفة عن ظروف عملها ومشاكلها، وفي مقدمتها ظروف السيولة المالية الصعبة التي كانت تعيش في ظلها شركاتُ الوزارة على ضوء سياسة التقتير التي التزمَت بها وزارة الخزانة في أمور الميزانية بعد هزيمة يونيو سنة ١٩٦٧م خصوصًا، والخراب الذي كانت عليه مؤسَّسات الوزارة عندما استلمها الدكتور عكاشة في يونيو سنة ١٩٦٦م.
وينبغي أن نعترف بالجهد الكبير الذي بذله الدكتور عكاشة في هذه الظروف الصعبة حتى يعيد لوزارة الثقافة نضارةَ وجهها مرة أخرى. وساعَده في ذلك جَلَده على العمل وإخلاصه لقضية الثقافة وصِلاته الوطيدة بالرئيس، كما أن مجموعة القيادات التي اختارها لمعاوَنته كانت كلها — إذا استثنيت شخصي — على درجة كبيرة من الكفاءة والإيمان بقضية الثقافة الرفيعة.
ولقد ذكر الدكتور عكاشة في مذكراته عن هذه الحِقبة كيف أن نجيب محفوظ وعبد الرازق حسن ذهبا إليه أحد الأيام، وأبلغاه أنه لا توجد في خزينة مؤسَّسة السينما سيولة كافية لدفع مرتَّبات العاملين في مؤسَّسة السينما وشركاتها في أول الشهر. لكنه نسي أن يذكر في مذكراته أن هذا بالدقَّة كان الوضع فيما يتعلَّق بشركة النشر عندما استلمتُ العمل فيها، وأنني استفدتُ من صلاتي القديمة بوزارة الخزانة عندما كنت أعمل مديرًا للبحوث فيها — من أجل عقد قرض لمؤسَّسة النشر من خزانة الدولة.
ولقد عقد عكاشة أربعة مؤتمرات للحوار المفتوح بين المثقَّفين والعاملين في ميدان الثقافة — في الفترة الأولى لاستلامه العمل كوزير الثقافة — أوَّلها مؤتمر السينمائيين في أكتوبر سنة ١٩٦٦م، والثاني مؤتمر للمسرحيين في ديسمبر سنة ١٩٦٦م، والثالث مؤتمر للأدباء والكتَّاب في فبراير سنة ١٩٦٧م، وآخِرها مؤتمر الفنون التشكيلية في أبريل سنة ١٩٦٧م، وكانت هذه المؤتمرات مناسَبة هامة لاستطلاع الرأي في إصلاح أجهزة الثقافة ورسم خطة العمل، وانتهت عمليات الاستطلاع والدراسة إلى اندماج كافة شركات النشر في شركة واحدة هي شركة دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، التي تولَّى رئاستها الصديق محمود العالم، ثم تبعتُه أنا في رئاستها إثر نقله رئيسًا لمؤسَّسة المسرح، كما تم إدماج شركات السينما الست في شركتَين؛ واحدة للإنتاج رأسها د. عبد الرازق حسن، وأخرى للتوزيع، كما أنشأ مركزًا للأفلام التسجيلية كان حسن فؤاد مديرًا له.
ولست أنوي أن أتحدَّث تفصيلًا عمَّا حوَته المذكرات من إنجازات هامَّة، وطبيعة المصاعب التي كانت تواجه الوزارة تفصيلًا، يكفي هنا أن أشير إلى أن هذه هي الفترة التي بدأ فيها معرض الكتاب الدولي بالقاهرة لأول مرة في يناير ١٩٦٩م، وهي فترة إحياء العيد الألفي للقاهرة ومعرض توت عنخ آمون الذي أخذ يَجُوب عواصم العالَم، وهي أيضًا فترة الاحتفال بانتهاء العمل في إنقاذ معابد أبي سنبل في سبتمبر سنة ١٩٦٨م، وإنشاء الفرقة القومية للموسيقى العربية، وهي فترة ازدهار العروض الجادة والنشاط الواسع للثقافة الجماهيرية، وازدهار نشاط معهد الباليه من جديد، لكن قد يكون من الضروري أن أتعرَّض لمسألتَين وردتا في المذكرات.
الأولى خاصة بموقف الدولة من المسرحيات التي كانت تُعرض آنذاك، مثل «المسامير» لسعد وهبة، و«العرضحالجي» لميخائيل رومان، و«إزاي ده يحصل» لعزت عبد الغفور، و«الفتى مهران» لعبد الرحمن الشرقاوي، و«إنت اللي قتلت الوحش» لعلي سالم، و«ثورة الزنج» لمعين بسيسو.
وينبغي أن نسجِّل للدكتور عكاشة هنا موقفَه الجيد في الدفاع عن استمرار عرض المسرحيات، بصرف النظر عن موقف أجهزة الأمن، وهو يقول في مذكراته إن عبد الناصر كان مؤيدًا له في ذلك.
أمَّا مشكلة الثقافة الجماهيرية فقد كان موقفه في رأيي أقلَّ توفيقًا. وقد انتهت هذه القضية بخروج سعد كامل واستقالة حسن فؤاد. والقصة كما يرويها الدكتور عكاشة نفسه تتلخَّص في أن الثقافة الجماهيرية قامت على أكتاف مجموعة من الشباب المتحمِّسين من خارج الوزارة رشَّحهم سعد كامل وعيَّنهم عكاشة بمكافآت شهرية شاملة. وعكاشة يعترف أنهم كانوا شعلة من التفاني والنشاط. وفي هذه الظروف كان من الطبيعي أن يصطدم بعضهم بأجهزة الحكم المحلي الآسِنة الراكدة والمحافِظة في نزعاتها، حدَث هذا خصوصًا بين عز الدين نجيب وإبراهيم بغدادي محافظ كفر الشيخ آنذاك. هنا نجد روايتَين: رواية عكاشة في مذكراته بأن وزير الداخلية طلب منه وضْعَ حدٍّ لهذه التصرُّفات، والأخرى رواية شعراوي جمعة بأنه قال لسعد كامل تليفونيًّا: «ابقى شد ودنه» (يعني عز الدين نجيب).
على أي حال، كان الموقف كله يمكِن معالَجته بهدوء أكبر ومرونة أشد لو أن عكاشة لم يندفع في انفعاله للاصطدام مع سعد كامل، فلجأ إلى نقله، ممَّا أدَّى إلى استقالة سعد كامل ومِن بعده حسن فؤاد؛ الأمر الذي أصاب كلَّ عملٍ في الثقافة الجماهيرية بأضرار بالغة، وتلك واحدة من الحالات التي تبدَّت فيها عصبية الوزير الفائرة دون مبرِّر حقيقي، وأدَّت إلى نتائجَ بالغةِ السوء.
إن عكاشة يتعرَّض لعلاقته بالمثقَّفين الماركسيين من أمثال كاتب هذه السطور بمودَّة واحترام، ويقدِّم في مذكراته شهادةً لهم لا أحبُّ أن أُعِيد كتابتها هنا، وهم لا شكَّ يبادِلونه هذه المودَّة وذلك الاحترام متَّخذين من تعاوُنهم معه مثالًا على كيفية وإمكانية تعاوُن المثقَّفين ذوي النزعات الفكرية المتبايِنة في العمل العام، في إطار الخط الوطني الديمقراطي الذي يجمعهم جميعًا.
إن هذه المذكرات للدكتور ثروت عكاشة هي عمل موسوعي بكل المقاييس، ومهما كانت ملاحظاتي هنا أو هناك على بعض ما جاء فيها، فلا شكَّ أن الدكتور عكاشة جدير بكل تهنئة على هذه المَلْحمة التي تسجِّل كفاح المخلِصين من أبناء مصر من أجل تهذيب الروح وتنقية الفكر والذوق من شوائب التخلُّف، وتحويل الفكر والفن إلى سلاح في يد المثقَّفين وكِسْرة خبز للملايين من المواطنين على أرض هذا الوطن.