مع عباس الثاني
في سيرة محمد عبده شخصان مهمان كان لكلٍّ منهما أثر كبير يفرد بالكتابة عنه في تاريخ حياته العملية، هما: جمال الدين الأفغاني وقد تقدَّم الكلام على أثر التعاون بينهما في دعوة الإصلاح وحركة النهضة، وعباس حلمي الثاني خديو مصر بعد الاحتلال البريطاني، وسنقصر الكلام عليه في هذا الفصل ملتزمين فيه ما يستطاع من الإيجاز.
كان جمال الدين مثلًا للقوة المؤيدة الموجبة، وكان عباس الثاني مثلًا للقوة المعطلة السالبة؛ أولاهما قوة روحية مستمَدة من عظمة الأستاذ وعظمة تلميذه في وقت واحد، وثانيتهما قوة مادية مستمَدة من سلطان المنصب وظروف السياسة، يكاد الذكاء في صاحبها أن يكون لغوًا لا يُذكَر فيما يعنينا من هذه السيرة؛ لأنه لا يقدِّم ولا يؤخِّر في مركز الحكم الذي يستعين به الحاكم على المقاومة والتعطيل، فكل حاكم في مركز عباس الثاني كان مستطيعًا أن يصنع ما صنعه في خصومته للأستاذ الإمام.
•••
جلس عباس حلمي على الأريكة الخديوية بعد أبيه «محمد توفيق» خديو الثورة العرابية، وبعد جده إسماعيل الذي عزلته دول الرقابة الثنائية — إنجلترا وفرنسا — بموافقة السلطان العثماني صاحب السيادة الشرعية على البلاد.
وكان دون الثامنة عشرة حين توفي أبوه، فوجب أن تُفرَض عليه الوصاية إلى أن يبلغ سن الولاية، وكان السلطان العثماني هو «صاحب الاختصاص» باختيار الوصي أو الأوصياء، ولكن المحتلين تدخلوا في الأمر، واحتالوا على اتقاء هذا الإشراف الفعلي على الدولة المصرية، فحسبوا السنين بالحساب الهجري رعاية لدين الأمير ودين الخليفة، وانحلت الأزمة على هذا النحو حلًّا يرضاه الأمير ويبغضه؛ لأنه يعفيه من الوصاية ويثبت له غلبة النفوذ البريطاني على شئون السياسة العليا في بلاده.
جلس على عرشه وهو مقسَّم النفس بين هذين الشعورين، ولكنهما في الواقع ينتهيان إلى شعور واحد بسطوة الاحتلال وافتياته على حقوقه وحقوق الدولة التي يتلقى أمر التعيين «فرماناتها الشاهانية».
وملكته حماسة السن بين الحذر والاندفاع، فغلبت في نفسه الفتية نزعة التحدي على نزعة الحذر، وواجه المحتلين بالمعارضة التي لم يألفوها من أبيه بعد اعترافه لهم بحماية عرشه، فأقبل عليه أنصار الحركة الوطنية من المتطرفين والمعتدلين، وحف به أبناء الجيل الجديد من أنداده في السن ومن الشبان الذين يكبرونه سنًّا، ولكنهم لم يشهدوا صدمة الاحتلال ولم يحتملوا خيبة الثورة العرابية.
وكان للأمير الشاب رأي صائب في الثورة العرابية، وفي مسلك أبيه معها ومع المحتلين.
كان بطبيعة الحال ينفر من الثوار ويسميهم بالعصاة كما يسميهم جميع أبناء بيته، ولكنه كان يتقبل العذر من بعضهم؛ لأنه كان لا يبرئ أباه من بعض الخطأ ومن بعض الضعف في علاج الثورة وعلاج الأزمات الأجنبية، وكثيرًا ما سمع في بداءة حكمه وهو يسخر من أبيه تلك السخرية التي عابها عليه لورد كرومر في كتابه عنه، ويقول لمحدِّثيه: سامح الله الوالد الطيب، لو كنتُ في مكانه لما فعلت هذا … أو لو كنتُ في مكانه لما سمحت لنفسي بذاك!
ورأيه هذا في أبيه هو الذي أنساه ممالأة الشيخ محمد عبده للثورة في دورها الأخير، ورغبته في الاطلاع على تاريخ لتلك الثورة يكتبه رجل يعرف أخطاء الثوار ويعرف أخطاء ولي الأمر، عسى أن يستفيد لنفسه من تجربة الحوادث التي عرَّضت أباه للثورة، وعرَّضته وعرَّضت الثوار معه لكارثة الاحتلال.
وفي إحدى المقابلات التي لم تكن قليلة بينه وبين الشيخ محمد عبده، شكا الأمير للشيخ ما يلقاه من عنت المحتلين وحجرهم عليه وعلى وزرائه، ووقوفهم دون ما يرجوه لبلده من الخير والقوة، فاغتنم الشيخ هذه الفرصة السانحة وذكَّره بما يستطيعه من أسباب الخير والقوة معًا في المعاهد التي له الولاية عليها ولا ولاية عليها للمحتلين، وهي معاهد الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، فراقه حديث الشيخ وكلَّفه أن يعود إليه بشرح مستفيض لوجوه الإصلاح المطلوب، وانتقل برنامج الإصلاح فعلًا من تلك الفتوى المهملة — فتوى الشيخ الإنباني — إلى العمل الحثيث على تنفيذ مطالب الإصلاح الأزهري في الإدارة والتعليم، ومضى العاملون في عملهم الناجح بضع سنوات، تغيَّرت فيها سياسة الخديو مع المحتلين، فلقي منه المصلحون شر ما يلقاه دعاة التقدم من دعاة النكسة والجمود.
وتبيَّن بعد الوقعة الكبرى بين عباس الثاني والمحتلين أن النزاع كله فيما بينهم إنما كان نزاعًا على نفوذ الحكم، ولم يكن نزاعًا على حقوق الأمة ولا على مبادئ القضية الوطنية، وأن عباسًا كتوفيق، وإسماعيل من قبله، ينازعون السيطرة الأجنبية باسم الأمة تارةً واسم الحقوق الدستورية تارةً أخرى، ولا يعنيهم في الواقع إلا أن يستبدلوا سيطرة في أيديهم بسيطرة في أيدي الدول الأجنبية، ومَن طلب منهم الحكم النيابي وشجَّع الأحرار من رعيته على طلبه، فإنما يتخذ الحكم النيابة حجة على الدولة البريطانية عند شعوبها؛ لأنها تؤمن به في بلادها، ويلتمس من وراء ذلك أن يحكم من وراء النواب والوزراء ويستعيد لنفسه كل سلطانه المحدود، أو يستعيد القليل من الكثير في مسائل التولية والعزل، ومسائل الصرف والمنع على الخصوص.
وقد جرَّب طلاب الدستور أساليب إسماعيل وتوفيق في هذه المناورات، ثم جرَّبوا أساليب عباس بعدهما فتكشف لهم عن ولع بالاستبداد في عباس لم يتكشف لهم مثله من أبيه وجدِّه؛ لأنه لم يَكَدْ يظفر بقليل من السلطان على عهد سياسة الوفاق بعد عزل لورد كرومر، حتى انقلب على شيعته وشيعة الحركة الدستورية، فساقهم إلى السجن واحدًا بعد واحد، ثم ألجأهم إلى المنفى باختيارهم فرارًا من السجن والمصادرة.
ولاح له شبح العزل بعد الوقعة الكبرى بينه وبين المحتلين، فقنع بالقليل الميسور، واستعاض عن وفرة السلطان بوفرة المال يتهافت عليه حيثما وجد السبيل إليه، بل ظهر للأمة قصارى أمله من المحتلين بتسمية الحزب الذي ينتمي إليه ويرصد صحيفته للدفاع عنه في جميع أطواره وتقلباته … فقد سماه «حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية»؛ إيذانًا للمحتلين بالتسليم لهم بدعوى الإصلاح، والقناعة منهم بالمبادئ الدستورية دون الدستور الكامل على أساس سلطة الأمة، ولم تُذكَر في عنوان الحزب كلمة عن الاستقلال ولا عن الحرية الوطنية، كأنهما على الأقل مطلب مؤجَّل إلى ما بعد الفراغ من إصلاح الأداة الحكومية، الذي ارتهن به المحتلون موعد الجلاء … فلا جلاء إذن وفي الأداة الحكومية خلل يأخذونه ويدعون على هواهم أنه لا يزال بحاجة إلى الإصلاح.
•••
وقد أشرنا إلى الوقعة الكبرى التي كانت نقطة التحول في سياسة الخديو عباس الثاني مع المحتلين، فنذكر في هذا السياق أنها هي الحادثة التي اشتهرت بحادثة الحدود، واصطدم فيها الخديو بسردار الجيش المصري — الجنرال كتشنر المشهور — لأنه صرَّح للسردار بانتقاده لحركات الفرق العسكرية، ووجَّه انتقاده — على الأكثر — إلى الفِرَق التي يقودها الضباط الإنجليز؛ فاستقال السردار وطلبت الوكالة البريطانية ترتضيه، واضطر الخديو إلى استرداد كلماته وتوجيه ثنائه إلى الفِرَق التي أعلن انتقادها عند عرض الجيش على الحدود، ففعل راغمًا وهو يعتقد أنه نجا من خطر العزل بقبول هذا الإرغام.
حدث هذا في أوائل سنة ١٨٩٤، وقبل نهاية السنة كان الشيخ محمد عبده على اتصالٍ بالخديو يزوره في قصر عابدين — مقر العمل الرسمي — تارةً، ويُدعَى لزيارته أحيانًا في قصرَي القبة والمنتزه حيث يقضي سائر أوقاته في أعماله غير الرسمية، وكان يصحبه في مبدأ هذا الاتصال محمد ماهر باشا الذي كان يُدعَى يومئذٍ ببطل حادثة الحدود؛ لأنه كان وكيلًا لنظارة الحربية، وكان على نزاع دائم مع السردار حول اختصاص الوكيل والقائد العام في شئون الجيش وإدارة الاستعلامات السرية، وقد اصطحبه الخديو في رحلته إلى الحدود، وشاع بعد ذلك أن الجنرال كتشنر تعمَّد خَلْق الأزمة والتهويل فيها؛ لأنه غضب من اصطحاب الخديو لخصمه واعتبره انتصارًا له عليه … فبيَّتَ النية على خَلْق الأزمة التي تزجُّ بالدولة البريطانية في الخلاف بينه وبين الوكيل، والتسليم له بالرأي النافذ في الجيش وفي ديوان الوزارة.
قال «أحمد شفيق باشا» في مذكراته وهو من رجال الحاشية الخديوية، وكان في صحبة الخديو أثناء هذه الرحلة: «ترجع حركة الإصلاح الحديثة في الأزهر إلى أواخر سنة ١٨٩٤، وذلك أن الشيخ محمد عبده لما رأى من عباس جرأته وجهاده للأخذ بناصية الحكم والحد من تدخُّل الإنجليز، مال إليه وتقرَّب منه بواسطة محمد ماهر باشا، فاستقبله عباس بترحاب وعَطْف ومالَ إليه أيضًا لِمَا أنسه فيه من صدق الوطنية وأصالة الرأي، وتقابَلَا مرارًا بصفة غير رسمية في عابدين والقبة والمنتزه، وتحدَّثَا فيما يمكن عمله من خدمة الوطن وتحقيق أمانيه، فاقترح الشيخ عليه أن هناك ثلاث نواحٍ لا تزال بعيدة عن تدخُّل الإنجليز، ولا يعارضون الخديو في العمل لإصلاحها؛ لأنها دينية محضة، وهي الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، وأشار على سموه أن يبدأ بإصلاح الأزهر، واتفقا على أن يقدِّم الشيخ إلى سموه مذكرة بما يراه من وجوه الإصلاح.»
وكتب الشيخ محمد عبده المذكرة وانتهى البحث فيها إلى تأليف مجلس الإدارة من خمسة أعضاء، ثلاثة منهم هم أكبر علماء المذاهب في الأزهر، وهم: الشيخ سليم البشري المالكي، والشيخ عبد الرحمن الشربيني الشافعي، والشيخ يوسف الحنبلي، والعضوان الآخران هما الشيخ عبد الكريم سلمان، والشيخ محمد عبده من العلماء المعينين لوظائف الحكومة.
ولكن الشيخ عبد الرحمن الشربيني أنكر مبدأ الإصلاح من أساسه، فاستقال قبل شروع المجلس في عمله، ولم يقبل بعد ذلك عملًا في إدارة الأزهر إلا بعد إجماع النية على إقصاء الشيخ محمد عبده عن مجلس الإدارة والعودة بالأزهر إلى منهجه القديم، فاختاره الخديو لمشيخة الأزهر — كما تقدَّم — على هذه النية.
تلك كانت قصة الملتقى التاريخي بين أعظم رجلين في مصر لذلك الحين؛ أعظم رجل في مصر بعرشه الموروث وولايته الشرعية وحقوقه الرسمية، وأعظم رجل في مصر برجاحة لبِّه ومتانة خلقه وعلوِّ همته وصدق غيرته على حرية وطنه والنهوض بأمته.
أراد الأمير بتقريب الشيخ إليه أن يستعين به على تعويض السلطة التي انتزعها الإنجليز منه بسلطة في مجاله المأمون لا تمتد إليها يد الإنجليز، وأن يُقِيم الحجة عليهم في دعواهم التي يلهجون بها ويتذرعون بها لتسويغ رقابتهم على دواوين الحكومة وإطالة أمد الاحتلال، وهي دعوى الإصلاح، فإن الإدارة التي تنقل الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية من الفوضى إلى النظام لا تعجز عن إصلاح ديوان من دواوين الحكومة قديم عهد بالنظام «العصري»، مهما يعرض له من عوارض الاحتلال.
وأراد الشيخ بالتقرُّب إلى الأمير أن يسند ولي الأمر في محنته مع السلطة الأجنبية، وأن يستفيد من رغبته في العمل سندًا للمصلحين وعونًا له على رسالته المرجوة من قديم، وليس بين يديه — بعد عودته من منفاه — مجال أنفع من هذا المجال من طريق الإيمان الصادق والتعليم المفيد.
•••
ولكن الخديو لم يَنْسَ حب السلطة الذي ساقه — في الحقيقة — إلى طريق الإصلاح في هذا المجال الواسع، ولم يلبث أن علم أن رجلًا كالشيخ محمد عبده جدير أن يعينه في كل مهمة من مهام هذا العمل الكبير، إلا أن يكون عونًا له على تسخير الأزهر ومحاكم الشرع ومرافق الأوقاف للسلطة التي تفعل ما تشاء؛ لأنها خلصت في هذا الجانب من قيود المحتلين.
واشتد طغيان هذه الآفة على نفس الأمير بعد اضطراره إلى مصانعة المحتلين؛ فإنه أراد له مجالًا لا يلجأ فيه إلى مصانعة أحدٍ من رعاياه المسخرين له من باب أولى، ولجَّتْ به هذه الآفة لجاجها المخيف حين زين له فقدان السلطة أن يتهافت على جمع المال من كل مورد مفتوح بين يديه، ووجد هذا المورد مفتوحًا على مصراعَيْه في خزائن الأوقاف ووصايا التركات، وفي احتكار السيطرة على المحاكم الشرعية التي يتخرج قضاتها من بين يديه.
ولم تَمْضِ فترة التمهيد للإصلاح والتنظيم في مجال الدواوين الدينية حتى كان للخديو مسلك آخَر مع الشيخ محمد عبده وأعوانه ومريديه، فهو يستبقيه للانتفاع بقدرته وشجاعته، بل للاحتماء بمكانته الدينية أحيانًا في وجه السلطة الأجنبية، ولكنه يحاذر أن يسلمه زمام التصريف والتدبير في مركز من مراكز الأزهر المستقلة … فتخطَّاه في التعيين لمشيخة الأزهر مرتين، وكان ترشيحه لمنصب الإفتاء في الواقع حيلة مستورة لإبعاده عن المشيخة، وهو أجدر بها وأقدر على الإصلاح فيها من كل مَن تولَّاها على عهد الخديو عباس، وهو أعرف برجحانه عليهم من سواه.
وسِرٌّ آخَر بعيد جدًّا من هذا المجال يرجع إليه هذا المسلك المتبدل من جانب الأمير، فإنه كان يطمح إلى الخلافة ويريد أن يستمد من سمعة الأزهر وعلمائه في العالم الإسلامي سندًا دينيًّا يرجحه على أمراء المسلمين الذين ينفسونها على السلاطين العثمانيين، وكان يرجو من مصانعة المحتلين أحيانًا أن يعاونوه بالسند السياسي، وأن يؤيدهم في المحيط الدولي بيت سفوا الإيطالي صديق الأسرة العلوية القديم، ومصلحته في ترشيح الخليفة المصري أن تدين له اليمن وشواطئ البحر الأحمر؛ لأنه صديق الخليفة المطاع، ولا يأبى المحتلون هذه المصلحة للدولة الإيطالية؛ لأنها دخلت معهم في المساومة على أملاك الدولة العثمانية، واتفقت معهم على نصيبها من المستعمرات: اليمن وأريتريا والصومال، فضلًا عن مصلحة الدولة البريطانية بين مسلمي الهند وغيرهم في قيام الخلافة في بلدٍ يهيمنون عليه، ولم يغفل عبد الحميد — باقعة آل عثمان — عن هذه المساعي الخفية، بل فطن لها واحتجز عنده جمال الدين الأفغاني لكيلا يعود إلى القاهرة ويؤيد هذه الحركة بنفوذه ونفوذ تلاميذه من المصريين والشرقيين، وحدث لما قام الخديو عباس بزيارة دار الخلافة للمرة الأولى أنه اِلْتَقَى هناك بجمال الدين، فاستدعى هذا إليه على الأثر وسأله: أتريد أن تجعلها عباسية؟ يريد أنه يتآمَر مع الخديو على إسناد الخلافة إليه، فكان جواب السيد: إن الخلافة ليست خاتمًا في يدي أضعه في أصبع مَن أشاء. ولم يفقد عباس الأمل في الخلافة بتأييد جمال الدين أو غير جمال الدين، ولم يَخْفَ عليه أن «محمد عبده» هو زميل جمال الدين في سمعته العالمية بين المسلمين، ولكنه علم بعد ذلك موضع الخلاف بين جمال الدين ومحمد عبده في خطة السياسة، وأن هذه الجهود السياسية حول الخلافة وما شابهها لا تجري مع برنامج عمله، وليست مما يصرفه عن خطة الإصلاح من طريق التربية والتعليم متى وجد السبيل إليها، فيئس من موافقته على هذا المسعى، وكاد أن يحسبه عقبة يتخطاها قبل توطين النفس على نجاحه بموافقة سواه.
•••
ولا نسهب في إحصاء حوادث الخلاف التي تتابعت بين الخديو والمفتي، واستحكم من أجلها الجفاء في النهاية بين هذين الرجلين اللذين خُلِقَا للتعاون في هذا المجال الواسع لو كان للتعاون محل بين الاستبداد والعمل المستقيم، فإن من حوادث تلك السنين سفاسف وصغائر لا جدوى من تعدادها، ومنها دسائس ومكايد ليس أيسر من المواربة فيها، ولكننا نذكر منها ما يدل على طبيعتها التي يأباها كل إصلاح، ولا يُنتظَر من رجل ذي خُلُق وكرامة أن يغضي عنها أو يترخص بينه وبين نفسه، أو بينه وبين الناس في قبولها.
فالخديو كان ينفق من أموال الأوقاف العامة على أوقاف أسرته وعلى مزارعه الخاصة، فكف يده عن ذلك فصل الحسابين ومراجعة المجلس للمصارف والموارد في «ميزانية الديوان» … ولجأ إلى الحيلة — مع تشديد الرقابة على الميزانية — فاصطنع طريقة الاستبدال لحمل الديوان على إقامة المباني وتعمير الأرض البور، وعرضها بعد ذلك للمبادلة بينها وبين مزارعه التي لا تساويها في القيمة ولا في الجودة، وكان أشهر هذه الصفقات صفقة أرض «مشتهر» وأرض ديوان الأوقاف التي أُعِدَّتْ للبيع في الجيزة بثمن أرض البناء، وفرق ما بينهما من الثمن لا يقل عن ثلاثين ألف جنيه، وظاهر الأمر أنها مبادلة بين مسيو اسمه زرفرداكي اليوناني الذي عرض على الديوان مزرعة مشتهرة باسمه وقسم المباني في الديوان، ولسوء حظ الخديو أن موظفًا من كبار موظفيه في القصر كان مندوبًا عن ولي الأمر بالمجلس الأعلى، فكان رأيه كرأي المفتي في هذه الصفقة وآراء الخبراء المختصين بتقدير المبادلات، وثبت من معاينتهم أن هناك نقصًا في تقدير أحد البدلَيْن، وزيادة في تقدير البدل الآخَر تبلغ جملتها خمسين ألف جنيه، فغضب الخديو على موظفه الكبير وعزله من خدمته؛ لأنه لا يُسأل عن سبب عزل الموظفين في ديوانه، ولكنه لم يستطع عزل المفتي لهذا السبب، ولا كان في حدود سلطته القانونية أن يعزله لغير سبب، فتحمل الأسباب للسخط عليه في غير مسائل الصفقات التي يتحاشى أن تثار للقيل والقال.
وكادت أوامره في الأزهر أن تكون إلغاء تامًّا لقوانينه التي وُضِعت لترفيه أحواله، وصيانة الكرامة الواجبة لعلمائه، ومنع العبث بدرجاته العلمية ومراتبه الدينية، فلم تكن كساوي التشريفة لعلمائه بأسعد حظًّا من الرتب والنياشين التي كانت تُباع في الأسواق بأسعارها المحدودة لكل درجة من درجاتها، سوى أن الرتب والنياشين تباع بالمال وكساوي التشريفة تباع بالخدمات والسعايات في سوق الدعاية أو سوق المتاجرة باسم الدين. وإن لمِنْ أغرب الخواطر التي خطر للخديو أن يسوم المجلس عليها أن يرسل إلى أحد الأعضاء مَن يقترح عليه الاستقالة، ويأمر رئيس المجلس أن يطلب كسوة التشريفة من الدرجة الأولى لإمام قصره تمهيدًا لتعيينه خلفًا للعضو المستقيل، وبهذا يتطوع المجلس لتحويل هيئته الموقرة إلى أداةٍ تُجرِي أهواء الخديو ولباناته مجرى القوانين، وتحوي تبعاتها أمام الناس على الرغم من أنوف المخالفين له من الأعضاء، ولا يبقى بعد ذلك أعضاء ينتظر منهم الخلاف غير محمد عبده وصاحبه عبد الكريم سلمان، فلما تأخر صدور الطلب من شيخ المجلس بالإنعام على إمام القصر بالكسوة المطلوبة، قال له مؤنبًا في محفل التشريفات: ألم آمرك بتوجيه كسوة التشريفة إلى إمام معيتي بدلًا من الشيخ الذي ينوي أن يستقيل؟ فتلعثم شيخ الجامع، وبادر الشيخ محمد عبده إلى الجواب قائلًا: إن المجلس إنما يعمل بالقانون الذي أصدره سموه، فإذا بدا لسموه أن ينقضه ليجري الإنعام بالكساوي العلمية على حسب رغبات سموه الشخصية، فهو صاحب الشأن في إصدار القانون بالنظام الجديد.
وأكبر الظن عندنا أن تفويت المنافع لم يلهب من ضرام الغيظ في نفس الأمير ما ألهبه هذا الجواب الصريح من مفتي الديار. ومَن مفتي الديار هذا؟ إنه عند العالم الإسلامي أكبر مقام ديني علمي في زمانه، ولكنه عند الأمير لا يعدو أن يكون فلَّاحًا بين ألوف الألوف من أولئك العبيد الأرقاء، الذين خُلقوا للسمع والطاعة عند كل أمر وكل سؤال.
وإذا صح أن يكون ضرام الغيظ عذرًا للمتسلط المستبد المغلوب على استبداده، فهذا هو العذر الذي قد يفسِّر ذلك الإسفاف الذي هبط بالأمير إلى الدرك الأسفل في حقده على ذلك الفلاح الجريء واستباحة ما لا يستبيحه الكريم، ولا اللئيم العاقل، في الكيد له والسعي إلى إجلائه عن مقامه؛ مقامه في منصبه، ومقامه في أعين الناس بين مشارق الأرض ومغاربها، ولم يكن ليخفى عليه أنه كان أعظم مقام في بلاد الإسلام.
ولولا الحقد الذي يسلب المرء رشاده، لما سمح أمير في مركزه أن يخطب علانية ليجعل العمل على إنهاض المسلمين بالتعليم الصالح زيغًا في العقيدة ومروقًا من الدين، وليسند مشيخة الجامعة الإسلامية الكبرى إلى رجل يقول إن تعليم هذا العلم يمحو الدين ويزري بعلماء المسلمين.
ولولا هذا الحقد لما استباح لنفسه أن يحبط كل عمل لذلك المُصلِح الكبير، حتى العمل الذي جهد طول حياته لإبراء المسلمين من داء الخمول، وإنقاذهم من الأوهام التي تعوقهم عن اللحاق بجيرانهم في ركب الحضارة لسوء فَهْم الدين، واختلاق الموانع التي يزيفها الجامدون باسم الشرع المظلوم.
فقد كاد المسلمون الآسيويون أن ينعزلوا عن سكان أفريقيا الجنوبية، ويفقدوا وظائفهم وأشغالهم فيها لشيوع تلك الأوهام بينهم وكثرة المرجفين بالتحريم والتحليل بين أدعياء الدين فيهم، وقد تعاقبت على تلك البلاد هجرة المسلمين من الهنود والعرب واختلاطهم بأبنائها الأُصَلاء، فدخل في الإسلام طوعًا ألوفٌ من الأفريقيين السود؛ لما أَنِسُوه من سماحة هذا الدين وسلامته من شوائب المحظورات التي تكثر في عباداتهم كما تكثر في عبادات بعض الأوروبيين والآسيويين، ثم حالت هذه الحال زمنًا بعد ازدحامٍ بالأوروبيين وخضوع أكثرها لحكوماتهم أو جماعات التبشير منهم، فتحرَّج المسلمون أنفسهم من مجاراة أولئك الغرباء الطارئين عليهم، وقعدت بهم وساوسهم الدينية عن كفاح الحياة معهم، تحرُّجًا من مجاراة القوم في عاداتهم وأزيائهم، وخسر الإسلام زمنًا ما كان يكسبه من سهولته وقلة قيوده في أحوال المعيشة قبل وفود الأوروبيين، فأعرض عنه أبناء البلاد الأُصَلاء، وهانت مخالفته على طلاب الرزق الذين تضطرهم مطالب العيش إلى مشاركة الأوروبيين وغير المسلمين الآسيويين في مرافق أعمالهم. مَنْ ذا الذي يقوى على زحام العيش في بيئة يخشى فيها أن يلبس القبعة، وأن يتناول الطعام من العلب المحفوظة، وأن يؤدي الصلاة في مسجد له إمام على غير مذهبه بين المذاهب الأربعة؟
هذه وأمثالها كانت عوائق المعيشة، بل عوائق التدين بالإسلام، في معترك الحياة بين المسلمين وجيرانهم من سكان أفريقيا الجنوبية والشرقية … وفي هذه وأمثالها كانت أسئلة الاستفتاء تتوارد على مفتي الديار المصرية، فيجيب عنها وهو يعلم خطر الإجابة التي يجيب بها مَن يجهل ظروفها وعواقبها، وكانت إحدى هذه الفتاوى تلك الفتوى التي شغلت صحافة مصر، وصحافة العالم الإسلامي، عدة أشهر باسم فتوى الترنسفال، ونتيجتها في بضعة أسطر أن الشيخ المفتي أباح للمسلم أن يلبس القبعة، وأن يأكل من طعام أهل الكتاب كما ورد في القرآن الكريم، وأن يؤدي الصلاة وراء كل إمام يدين بالإسلام.
هذه هي الفتوى وهذه هي ظروفها وعواقبها التي نظر إليها مفتي مصر في إجابته عنها.
ولم يبِحْ المفتي عادة واحدة كان يحرِّمها الخديو وحملة الأقلام الذين سخَّرهم في الحملة الشعواء على فتوى الترنسفال، فإنهم كانوا جميعًا يلبسون القبعات، ويأكلون في المطاعم الأوروبية وفي بيوت الأجانب، ويغشون الولائم «الرسمية» وغير الرسمية داخل القطر المصري وخارجه، ومَن شهد منهم صلوات الجُمَع فإنما كان يشهدها ومعه مئات من المسلمين من أتباع المذاهب الأربعة … ولكن الفتوى عمل من أعمال المفتي يجب إحباطه والتشهير به وتنفير الناس منه مهما يكن في ذلك من الضرر بالإسلام والمسلمين، وقد يكون في ذلك إعراض الوطنيين السود عن الإسلام بعد إقبالهم عليه، وقد يكون فيه تعويق لجهاد المسلمين المهاجرين عن كفاح الحياة في أفريقيا الجنوبية مع سائر المهاجرين الذين تعفيهم عقائدهم من تلك القيود، وقد يكون فيه استخفاف المسلم بتكاليف دينه إذا ثقلت عليه في لبسه ومأكله وعبادته مع أبناء ملته ووطنه، وقد يكون فيه المساس بسمعة الدين بين أهل الحضارة، وتمثيله لهم في صورة العقبة المتحجرة التي تأبى على المسلم أن يجتمع على معيشة واحدة مع أبناء الحضارة الأوروبية … وقد يكون فيه كل ذلك، بل كان فيه كل ذلك لو أفلح كيد المضلِّلين كما أرادوه، لكن ماذا يعنيهم ذلك كله إذا اشتفت صدورهم من الرجل المغضوب عليه، وأفسدوا عليه عمله في خدمة الإسلام والمسلمين أو في خدمة ما يشاء من مقصد عام، ما داموا لا يجدون له مقاصد خاصة يفسدونها عليه؟
إلى هذا الحضيض أسفَّتْ جماعة الحملة على فتوى الترنسفال، ولا نظن أن نقل الكثير أو القليل من كلامهم الذي ملئوا به الصحف بضعة أشهر يزيد القارئ علمًا بمبلغ ذلك الإسفاف، فإن الاتجار باسم الدين هو عنوان عملهم الوضيع، وإنه لعنوان يغني عن أسوأ ما كتبوه تحته من كذب فاضح وهراء مرذول.
وأخس من هذا الكذب وهذا الهراء أن يسبوا عرض الرجل بالتهم التي يعلمون أنها باطل مختلق؛ لأنهم الذين اختلقوه وروَّجوه، فقد كان قرَّاء الصحف المصورة لذلك العهد يجهلون الكثير عن صناعة التصوير الشمسي التي يعرفها اليوم عامة القرَّاء، ويحسنها بعض هواة التصوير كما يحسنها الخبراء المختصون بتدبير المناظر للصحافة المصورة … ومن أسرار تلك الصناعة التي كانت مجهولة يومئذٍ عند عامة القرَّاء أن يلفق المصور رسمًا واحدًا من ثلاثة رسوم أو أربعة متفرقات، فهذا التلفيق هو الذي توسلوا به إلى خداع العامة بصورة للمفتي في حلبة الرقص يخاصر فتاة إفرنجية وكلبها يعبث بأطراف جبته، ولو استطاعوا المبالغة في رص المحظورات جميعًا في منظر واحد لتمموا هذا المنظر بكأس من الخمر وصحفة من لحم الخنزير، ولكنهم عجزوا عن جمعها، فاكتفوا من المحظورات بمحظور المفتي مع امرأة يغازلها ويراقصها ويصحبها كلبها في حلبة الرقص على غير المألوف في مراقص القوم، وخُيِّلَ إليهم أنها ريبة لا تُدفَع، ودليل من أدلة الإثبات لا يُدحَض، ولكن الصورة أُحيلت على التحقيق القضائي، فلم تثبت على امتحان الخبراء ولا على المعالجة بأدوات التحليل والتكبير، وأدين صاحب الصحيفة التي قبلت أن تنشرها لهم بين صحف الخلاعة التي سخَّروها لحملتهم، واسمها «حمارة منيتي» يغني عن المزيد في الدلالة عليها … وإلى قصة هذه الصورة يشير اللقاني رحمه الله في بعض أبياته إذ يقول:
ويعني بالقبة قصر الأمير المعروف؛ لأنهم دبَّروا فيه هذه التلفيقة وكاد سرها أن ينكشف بين أيدي القضاة والمحققين، لولا ضرورة التستر على مقام الأمير المهدَّد بهذه الفضيحة.
ودون هذا الحضيض من الابتذال في حق أمير يهدده الاحتلال في كرامة عرشه أن يذهب في مساومة المحتلين إلى حد الاعتراف باحتلال بلاده، واستعراض الجيش المحتل في ساحة قصره، والوقوف تحت العلم البريطاني يوم الاحتفال بعيد ملك الإنجليز؛ تزلُّفًا منه إلى العميد البريطاني ليغضي عن تصرفه بالوظائف الحكومية التي تحده القوانين عن محاسبة موظفيها بغير إدانة يثبتها التحقيق، ومنها وظائف المندوبين الحكوميين بمجلس إدارة الأزهر، ووظيفة الإفتاء التي يصدر بها قرار التعيين والعزل من وزارة الحقانية.
لم يَدْرِ صاحب جريدة المنار — الذي إنْ خرج عن مدار بحثه ضلَّ، وإنْ دخل في غيره ذلَّ — أن الجناب العالي وقف تحت ذلك العلم بحضرة جلالة الملك إدوارد السابع ملك الإنكليز وإمبراطور الهند، ولم يكن جناب اللورد كرومر في ذلك الموقف إلا صورة من صورة الملك التي يمثله بها في هذا اليوم مائة قائد فوق كرة الأرض … وينكر صاحب المنار استعراض الجناب العالي لعساكر جيش الاحتلال مشيرًا إلى اكتفاء المغفور له الخديو السابق بالإشراف عليه من نوافذ القصر، كأنه لم يَدْرِ أن مولانا الخديو الحالي — حفظه الله — عسكري النشأة، يرتدي في الأعياد والمواسم الكسوة العسكرية، وهو عالم بدقائق الحركات الحربية بحيث لو أخذ بيده قيادة جيش جرَّار لكان من أمهر قادة عصره. وماذا يريد بقوله: وقف الجناب العالي تحت العلم الإنكليزي في أول يوم من شهر الصيام؟ وأي دَخْل للأيام والأيام إخوة والليالي أخوات، ولم يعلم بأن مائة مليون من المسلمين يحيون هذا العلم في ذلك اليوم يوم الاستعراض.
ولم تشذَّ عن خدمة الدسائس الخديوية في هذه الحرب الشائنة بينه وبين المفتي صحيفة واحدة من الصحف التي كانت تنعت نفسها بنعت الوطنية، بين متطرفة ومعتدلة أو محافظة على القديم وغالبة في المطالبة بالجديد … وبلغ الكتاب أجله واستقال الشيخ محمد عبده من مجلس الإدارة، وجيء بأعداء العلوم الحديثة شيوخًا للجامعة الإسلامية، ومدبرين لنظام الإدارة والتعليم فيها، فانتظم المتطرفون والمعتدلون صفًّا واحدًا في الثناء على أعداء الإصلاح والشماتة بالمفتي المستقيل، وراح أشد هذه الصحف تطرفًا يقول إنه تأخَّرَ في الاستقالة؛ لأنه كان من الواجب عليه أن يتخلى عن عمله منذ علم أن «ولي الأمر» متغيِّر عليه.
وليس هؤلاء الصحفيون من الغباء بحيث يجهلون حكم الفضلاء عليهم وحكم التاريخ من بعدهم، إذا علم الناس أنهم في القرن العشرين يستنكرون التعليم الحديث باسم الدين، فنقلوا المسألة بحذافيرها من حرب بين الإصلاح واللصوصية إلى حرب بين المفتي والسلطة الشرعية، وحسبوا عجز الخديو عن فصل الموظف الكبير بغير محاكمة تأديبية دليلًا على تأييد الاحتلال الأجنبي لذلك الموظف الكبير، ومثله في حماية القانون ونظام الدواوين لهم ألوف الموظفين.
أما المسألة بحذافيرها في وضعها الصحيح، فهي أن المفتي لم ينتفع بحقه في وظيفته لجر منفعة شخصية، أو ترويج سياسة بريطانية، أو التفريط في حق من الحقوق الوطنية، فإذا كان سماسرة القصر يريدون أن يقولوا إن إصلاحه للتعليم وتطهيره للدواوين ونهوضه بأبناء وطنه وأبناء دينه عمل يوافق الاحتلال ولا يوافق الوطنية، فذلك هو الخزي الأكبر لمَن يفتريه؛ لأنه يدمغ الوطنية بميسم الهوان، ويدَّعِي للاحتلال فضلًا يسقط حجة الوطني عليه ولا يطمع في ادعائه بألسنة مأجوريه.
وإنما الخيانة للوطن ذلك الجرم المهين الذين أقدم عليه الخديو، ودافعوا عنه دفاع المستميت يوم وقف تحت العلم البريطاني ليحيي جيش الاحتلال، وأقبح منه في الإجرام أن يقترف هذه الجريمة في حق وطنه وحق عرشه، ليتوسل بها إلى حمل الإنجليز على الإغضاء عنه حين يتعرض لوظائف الحكومة التي يحميها القانون، وأقبح من كل هذا أن يكون هَمُّ الأمير من التعرض لتلك الوظائف خيانة الأمانة، وسلب المال الحرام، وتلويث موظفيه الكبار بلوثة الجبن والاختلاس، أما الموظف الذي يعمل في تلك الوظيفة ما يشرفه ويشرف أبناء وطنه ودينه، فلا جناح عليه أن يحسن ويسيء الأمير وتابِعوه، وإنما يسيئون إلى أقدس المقدسات من حرمات الحق والفضيلة.
•••
ولسنا في مقام الموازنة بين وطنية محمد عبده ووطنية عباس الثاني وسماسرة قصره، فإننا بهذه الموازنة نهبط بقدر الرجل العظيم الذي لا نعرف في زمانه قدرًا أحق من قدره بالتشريف والإكبار، ولكننا نزيد هذا الشرف بيانًا لمَن يجهلونه بمَثَل من أمثلةٍ كثيرةٍ لمواقفه إلى جانب الخديو حين يعتدي عليه المحتلون، وحين ينظر الخديو حوله فلا يرى له سندًا أقدر على حمايته من مكانة الشيخ في العالم الإسلامي، ومن شجاعته التي لا يعنيها إغضاب الإنجليز منه، وهو لا يأمن عضب الأمير عليه.
ونحن في هذا الكتاب الموجز لا نملك الإسهاب حيث يغنينا الإيجاز المفيد، وحسبنا — على قاعدتنا هذه — حادث واحد هو الذي استهدف فيه الخديو لأشنع إهانة تلحق بصاحب عرش من العروش في بلاده، وهو حادث ليون فهمي الذي أدى إلى صدور الأمر من الوكالة البريطانية بتفتيش قصر رأس التين، بحثًا عن ليون فهمي هذا لاتهام الإنجليز إياه بقتله في قصره أو إخفائه هناك لتقييده ونقله على الرغم منه إلى الآستانة إجابةً لطلب «المابين»، أو قصر السلطان عبد الحميد.
يومئذٍ لجأ الأمير إلى حمى الشيخ وصائب رأيه، فلبَّاه ورجاه أولًا أن يستوثق من خلو القصر ويخت المحروسة من ذلك الطريد العثماني إن كان حقًّا مقبوضًا عليه، ثم أشار عليه بأن يكتب بلاغًا إلى معتمدي جميع الدول المعترفين باستقلال مصر بأن السلطة المحتلة تعتدي على حرم قصره، وأن يبلغ المحتلين في الوقت نفسه أنه يفعل ذلك إذا هم اجترءوا على تنفيذ أمر التفتيش؛ فتراجع الإنجليز حذرًا من إثارة هذه القضية الدولية بطلب من صاحب السلطة الشرعية، ويقينًا بأن «المابين» العثماني يؤيد هذا الطلب الذي وجَّهه الأمير إلى الدول بسببه، ويقينًا من الجهة الأخرى بتأييد الرأي المحترم من أبناء البلاد لأميرهم وعلى رأسهم مفتي الديار الذي يهابون اجتماع فتواه الدينية إلى جانب الوثائق القانونية، واعتقادًا منهم أن الأمير لا يهددهم هذا التهديد وفي قصره ذلك الطريد الذي يبحثون عنه.
•••
يظهر — والله أعلم — أنكم أردتم بالسير وراء نعشه المجاملة بعد الموت، وهو على ما تعهدونه عدو الله، وعدو النبي، وعدو الدين، وعدو الأمير، وعدو العلماء، وعدو المسلمين، وعدو أهله، بل وعدو نفسه، فلِمَ هذه المجاملة؟
إن هذا الانتقال من أخلاق الفلاح محمد عبده إلى أخلاق الأمير عباس الثاني مفاجأة شديدة الوقع على النفوس الآدمية التي ينتمي إليها الفلاحون كما ينتمي إليها الأمراء، ولكنه في ختام هذا الفصل أصدق من تسويد الصفحات بأشتات الوقائع والأخبار، وصنوف الدسائس والوشايات، للدلالة على كُنْهِ الخلاف بين الرجلين، وعلى طبيعة تلك العداوة المزرية وطبائع خدَّامها الذين باعوا ضمائرهم في سوق المنافع، أو فيما هو شر من سوق المنافع؛ سوق الحسد البغيض والغرور الباطل.
وقد ذهب محمد عبده وعباس الثاني إلى ذمة التاريخ، ولحقت بهما الأسرة الخديوية بقضها وقضيضها، ومعها منافعها التي تباع الضمائر من أجلها، ولكن باعة الضمائر هؤلاء هم أسلاف في النسب أو أسلاف في العمل لخلفائهم الذين عاشوا ويعيشون بعدهم إلى هذه الأيام، وحاجتهم إلى مداراة أنفسهم كحاجة أسلافهم في زمانهم، كلما أعيد القول في قضايا الإصلاح وقضايا الجهاد عادوا إلى الستار القديم يتوارون خلفه، وأعادوا معاذيرهم تهمًا للمخلصين وتبديلًا لوقائع التاريخ وافتياتًا على الوطن والدين، وسيماهم على وجوه صفحاتهم لا تخفى على الناظرين.