الأزهر
في منتصف القرن الثامن عشر (١٧٤٨) أُسنِدت ولاية مصر إلى الوزير العالم أحمد باشا كور، وكان من المشتغلين بعلوم الهيئة والرياضة، فرغب في مذاكرة علماء الأزهر الذين يدرسون تلك العلوم في حلقاتهم بالمسجد الجامع، وخاطب مقدم العلماء الشيخ عبد الله الشبراوي في ذلك ومعه عالمان من كبار علماء العصر هما الشيخ سالم النفراوي والشيخ سليمان المنصوري، فسكتوا ثم صارحوه بأنهم يجهلون تلك العلوم ولا يشتغلون بتدريسها، وانصرفوا بعد أول لقاء بينهم وبين الوالي وهم يحسبون أنها مسألة فرغ الحديث منها، ولكن الوالي عاد إلى الحديث مع الشيخ الشبراوي في جلسة من جلساته معه بعد صلاة الجمعة بمسجد القلعة، وكانت الخطبة في ذلك المسجد من عمل الشيخ الشبراوي، يؤم المصلين ومنهم الوالي، ويتناول الغداء على مائدته بعد الصلاة، ويجري الحديث بينهما أحيانًا على شئون الأزهر وشئون الدين على العموم، ثم ينصرف إلى موعده من الأسبوع الذي يليه.
قال الوالي ذات مرة ما فحواه: كنت أحسب مصر كما نسمع في بلادنا منبع العلوم والفضائل، فلما جئتها أخلفت ظني وذكرت المثل القائل: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه!»
قال الشيخ الشبراوي: بل هي كما سمعتم معدن العلوم والمعارف.
قال الوالي: وكيف؟ وأنتم أعظم علمائها ولم أجد عندكم شيئًا من العلوم التي سألت عنها، وغاية تحصيلكم المنطق والتوحيد، ونبذتم علوم المقاصد من هيئة ورياضة.
قال الشيخ: نحن لسنا أعظم علمائنا، وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم، وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث.
فعاد الباشا يقول: وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية، بل هو من شروط صحة العبادة كالعلم بدخول الوقت، وتحرير القِبْلة، ومواعيد الأهِلَّة، وعدد السنين.
فأجابه الشيخ موافقًا، ولكنه قال: إن معرفة ذلك من فروض الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية؛ كرقة الطبع، وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل، والأمور العطاردية، وأهل الأزهر بخلاف ذلك، أخلاط من القرى والآفاق.
فسأل الوالي: وأين البعض القائم بهذه الفريضة؟
فقال الشيخ: إنهم موجودون في بيوتهم يُسعَى إليهم. ودلَّه على الشيخ حسن الجبرتي والد الشيخ عبد الرحمن المؤرخ المشهور، مطنبًا في تزكية علمه وفضله.
فسألهم الوالي أن يدعوه إلى لقائه، فقال الشيخ: إنه أعظم قدرًا من أن يستدعيه مثلي، ولكنكم تكتبون إليه مع بعض خواصكم فيحضر إليكم، فكتب إليه الوالي واحتفى بلقائه عند حضوره، ووجده على ما وصف من الدراية بتلك العلوم التي يدرسها الباشا، فأكثر من الاجتماع به بعد ذلك للمذاكرة فيها.
ونحن نعرف هذه القصة من رواية الجبرتي في تاريخه، كما نعرف من قصص التاريخ الأخرى شيئًا كثيرًا عن حقيقة العلوم الفلكية التي تلقَّى بعضها عن أبيه، فإذا هي على صحتها واشتمالها على أدق المعارف الفلكية التي حصَّلها علماء الحضارة الإسلامية، تجمع بين العلم الرياضي الصحيح وأخلاط من التنجيم وقراءة الطوالع وأرصاد السعود والنحوس، ومن ذاك قول الشيخ عبد الرحمن في مقدمة كتابه عن الحملة الفرنسية: «إن وقائع الأيام وخطوبها، وحوادث الحادثات وكروبها … داخلة في حين الإبداع والاختراع بما أودعه الله من الخصائص في الآثار العلوية عند اقتران بعضها ببعض، وارتباط المناسبات الخفية بينها وبين ما على وجه الأرض، وذلك بحسب جري العادة الإلهية له مسبباتٌ وحوادثُ يُستدَلُّ عليها بتلك القرانات والمناظرات، وقد أودع الله في بعض خالصي النفوس البشرية والأرواح المجردة عن العلائق الجسمية والشهوات النفسية معرفة بعض تلك الحوادث، إما بإلهام أو باكتساب ونظر في علم الأحكام، فبالنجم هم يهتدون، وبالنظر في ملكوت السماوات والأرض يستدلون فيعرفون، من غير أن ينسب لتلك الآثار تأثيرات، وإنما هي أسباب عادية وعلامات، وإن من أعظم الدلائل على ما رُمِيت به مصر، وحل به لأهلها تنوع البؤس والإصر، بحلول كفرة الفرنسيس، ووقوع هذا العذاب البئيس، حصول الكسوف الكلي في شهر ذي الحجة بطالع مشرق الجوزاء المنسوب إليه إقليم مصر …»
ولكن هذا الخلط بين علم الهيئة والتنجيم لم يكن وقفًا على الفلكيين بالمشرق أو البلاد العربية، بل كان النظر في الكواكب لاستطلاع السعود والنحوس دراسة مقرَّرة في الجامعات الأوروبية، وكان أكبر الفلكيين في عصره — جوهان كبلر — المتوفى قبل منتصف القرن السابع عشر يدرِّس الفلك والرياضة بجامعة جراز، ويصدر بأمر الجامعة تقويمها السنوي مشتملًا على أرصاد العالم كله، منبئًا بطوالع البروج التي تشرف على مواليد الأمراء والملوك وتقبض على أَعِنَّة الحوادث من سلم وحرب، وخصب وقحط، ورواج وكساد، وكان العالِم الكبير يؤمن بأسرار تلك الطوالع والأرصاد، ويعزو مخالفة النبوءات أحيانًا إلى خطأ الحساب، أو إلى شوائب النفوس التي تتولى الرصد وتتلقى منه النبوءة، كما قال المؤرخ العربي فيما تقدَّم. وقد كان إسحاق نيوتن يضبط حركات الأفلاك بقانون الجاذبية وهو يدون مئات الصفحات في مباحث الطوالع والأرصاد وطلاسم السحر والزايرجة السوداء.
•••
ونمضي مع الجبرتي في حديثه عن نذير النجوم ببلاء الفرنسيس، فنقول: إن هذا المؤرخ الأمين قد شهد حلول البلاء في القاهرة، ووصف أعمال المقاومة في خارجها وداخلها بين كفاح المحاربين ودعاء المسالمين، فقال: إنه «لم تكن إلا ساعة وانهزم مراد بك ومن معه، ولم يقع قتال صحيح وإنما هي مناوشة من طلائع العسكرين بحيث لم يُقتَل إلا القليل جدًّا من الفريقين، واحترقت مركب مراد بك بما فيها من الجبخانة والآلات الحربية، واحترق بها رئيس الطبجية خليل الجردلي، وكان قد قاتل في البحر قتالًا عجيبًا هو ومَن انضمَّ إليه من الغليونجية وبقية العسكر والمشاة الذين في المراكب مع مراكب الفرنسيس، وأقدم إقدام الأسد، فقدَّر الله أن علقت نار بالقلع، فنزل البعض منها إلى البارود الذي في المركب فاحترقت ومات هو ومَن بالمركب من المحاربين، فلما عاين ذلك مراد بك ولى منهزمًا وترك الأثقال والمدافع وتبعته عساكره، والمشاة نزلت في المراكب وانفصل الفريقان بدون طائل.»
قال: «وقد كانت العلماء عند توجُّه مراد بك للقتال تجتمع في الأزهر كل يوم لقراءة البخاري وغيره من الدعوات، وكذلك مشايخ فقراء الأحمدية والسعدية والرفاعية وغيرهم من طوائف الفقراء وأرباب الأشاير، كل يوم يذهبون للأزهر فيجلسون للأذكار، وتجتمع أطفال الكتاتيب للدعاء وتلاوة اسمه تعالى لطيف، وكل هذا حصل بسببه النفع العظيم، فهو وإن لم يدفع دخول الفرنسيس مصر لكونه أمرًا مقضيًّا محتمًا لا يُرَدُّ بالدعاء، لكن وقع اللطف بسبب هذه الدعوات، واجتماع القلوب بمجالس الذكر والاستغفار، وآثار اللطف التي حصلت مشاهَدة ولا تُنكر ولله الحمد.»
ثم قال: «ولما أصبح يوم الأحد المذكور، والمقيمون لا يدرون ما يُفعَل بهم ويتوقعون حلول الفرنسيس ووقوع المكروه، ورجع الكثيرون من الفارين وهم بأسوأ حال من العري والفزع، فتبيَّن أن الفرنج لم يعدوا إلى البر الشرقي، وأن الحريق كان في المراكب المتقدم ذكرها، فاجتمع في الأزهر بعض العلماء والمشايخ وتشاوروا، فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مراسلة إلى الفرنج وينظروا ما يكون من جوابهم، ففعلوا ذلك وأرسلوها صحبة شخص مغربي يعرف لغتهم وآخَر صحبته، فغابا وعادا وأخبرا أنهما قابلا كبير القوم وأعطياه الرسالة فقرأها عليه ترجمانه، ومضمونها الاستفهام عن قصدهم، فقال على لسان الترجمان: وأين عظماؤكم ومشايخكم؟ لِمَ تأخروا عن الحضور إلينا لنرتب لهم ما يكون فيه الراحة؟ وطمنهم وبشَّ في وجوههم … ثم قال لهم: لازم المشايخ والشرباجية يأتون إلينا لنرتب منهم ديوانًا ننتخبه من سبعة أشخاص عقلاء يدبرون الأمور. ولما رجع الجواب بذلك اطمأن الناس، وركب الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي وآخرون إلى الجيزة، فتلقَّاهم وضحك لهم وقال: أنتم المشايخ الكبار؟ فأعلموه أن المشايخ الكبار خافوا وهربوا، فقال: لأي شيء يخافون؟ اكتبوا لهم بالحضور ونعمل لكم ديوانًا لأجل الراحة …»
ولا بد أن نذكر ونحن بصدد الأزهر والحملة الفرنسية أن دعوات الأذكار كانت في حينها «قوة عملية» من جانب واحد على الأقل، وهو جانب اليقين بنفاذها في عقيدة الرعاة والرعية، لا يشكون في أثرها إذا خلصت النية وصدقت الشكوى، ولا يأمن الحاكم الظالم أن تُستجاب من المظلوم في شدة البلاء وانقطاع الرجاء في غير الله. وقد مضى على حملة نابليون نحو مائة وسبعين سنة، ونشبت الحرب بين مصر والحبشة، وتوالت الهزيمة بعد الهزيمة، فاعتصم الخديو إسماعيل يومئذٍ بتلك القوة — قوة التلاوة في البخاري والتماس الدعوات من العلماء — فلم يخامره الشك في أثرها، ولكنه قال للعلماء بعد اتصال الهزيمة: إما أنكم لا تقرءون البخاري، وإما أنكم لستم بعلماء. فردَّها إليه عالم جريء وذكَّره بالحديث النبوي؛ إذ يقول عليه السلام: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم …»
وقد ركب الفرنسيون رءوسهم بمصر، واقتحموا الجامع الأزهر ودنَّسوا محاريبه وربطوا فيه الخيل والدواب، فلم ينتقض غير قليل حتى خرجوا من مصر مدحورين، بعد أن خُيِّلَ إليهم وإلى الناس أنهم لن يرحلوا عنها مكرَهين، ولم يَنْسَ أبناء البلد أن يربطوا بين جلائهم السريع وبين عدوانهم على ذلك الحرم المقدَّس ودعوات علمائه عليهم بالخذلان والنكال.
•••
هذه نبذة موجزة من تاريخ الأزهر خلال فترة من فترات ذلك العهد، الذي كان كما تقدَّم أحلك ساعات الظلام قبل مطلع النهار، ويكفي تاريخ كل فترة من حياة هذا المعهد الخالد للتعريف بوظيفته التي استقر عليها، وبيان مكانته التي تبوَّأها من الأمة في أيام خضوعها لسلطان الدخلاء الواغلين عليها؛ فقد تقرَّرَ بحكم العرف والتقليد وحكم العقيدة والسمعة أنه صوت الأمة الذي يسمعه الحاكم الدخيل من المحكومين، وأنه ملاذ القوة الروحية في نفوس أبناء الأمة وفي نفوس الحاكمين الذين يدينون بعقيدتها، ومَن لم يكن من أهل تلك العقيدة فقد يحسب لها حسابها الذي ينساه إخوانها في الدين مع الجهالة المطبقة أو مع هوى الساعة، وقد حسب له الفرنسيون هذا الحساب ونسيه أناس من أمراء المسلمين، ولكنه لم يَضِعْ قطُّ كل الضياع في وقت من الأوقات.
ومن فَهْمِ الواقع على جليته أن نذكر أن أهل البلد قد حدَّدوا وظيفة الأزهر ووظائف علمائه تحديدًا يعز أحيانًا على الدستور المكتوب، فكان منهم مَن يتولَّى الصدارة في شئون السياسة ومخاطبة الحكام؛ لأنه أقدر على هذا العمل وأصلح له من زملائه، وإن كان فيهم مَن هو أوسع علمًا وأشهر بالتقوى، وكان منهم مَن يثق الناس بتقواه ويطمئنون إلى نزاهته في أمور الدين والرئاسة، وهكذا كان منهم مَن يفاوض الوالي التركي وليس هو بأعظم علماء البلد، وكان منهم مَن يفاوض القائد الفرنسي وليس هو بمكان الرئاسة العلمية، ولكنهم كانوا مرشَّحين لوظيفة السفارة بين الأمة والحكومة بما لهم من خبرة في سياسة الناس وأساليب الإقناع وعلاج المشكلات، ولغيرهم سمعته في هداية القلوب والبصائر والتماس الوسيلة عند الله إذا خابت الوسائل عند العباد.
ولم تنقطع الصلة زمنًا طويلًا بين هذه الرئاسة القوية الروحية وبين القرية المصرية من قرى الريف أو قرى الصعيد، وقد يغنينا عرض أسماء الشيوخ والرؤساء الذين اختارهم نابليون وألَّف منهم الديوان الكبير للعلم بمبلغ هذه الصلة بين الأزهر والقرية، فقد تألَّف هذا الديوان من عشرةٍ ندر منهم مَن لم يُنسَب إلى قرية يُعرف بنسبته إليها كما يُعرَف باسمه ولقبه، وهم: عبد الله الشرقاوي، والشيخ خليل البكري، والشيخ مصطفى الصاوي، والشيخ سليمان الفيومي، والشيخ محمد المهدي، والشيخ موسى الرسي، والشيخ مصطفى الدمنهوري، والشيخ أحمد الويشي، والشيخ يوسف الشبراخيتي والشيخ محمد الدواخلي. وقبل ذلك كان الشيخ «الشبراوي» يقول للوالي العثماني: إن الغالب على أبناء الأزهر أنهم أبناء القرية والريف.
وقد تقدَّم في الكلام على القرية خبر الثورة التي أثارتها شكاية أهل بلبيس لابن إقليمهم الشيخ الشرقاوي الكبير، فلا يفوتنا أن نذكر أن شكاية الأقاليم كانت تصل إلى قادة الأزهر من كل طائفة معتدى عليها، ولو وقع العدوان عليها في رحلة الطريق. وحدث أن سليمان بك أغا نهب سفينة لبعض أبناء الصعيد تحمل التمر والميرة وشيئًا من الأزواد والأطعمة، وزعم الأغا أنه استخلص بما نهبه ديونًا له على أولاد وافي من أهل الصعيد، فغضب المجاورون من الصعايدة وأبلغوا مشايخ الأزهر أن السفينة إنما كانت تحمل رزقًا مرسَلًا إليهم من عشائرهم في قُرَاهم، فركب الشيخ الدردير والشيخ العروسي والشيخ المصيلحي إلى الأمير إبراهيم بك، وواجهوا سليمان أغا في حضرته بكلام شديد، ولم يرجعوا إلا على وعد بردِّ ما استلبه كله، مع البقية التي فضلت عنده مما استولى عليه.
•••
ومن الواضح أن الجامع الأزهر إنما استقرت له هذه المكانة في العالم كله؛ لأنه المدرسة الجامعة في الرقعة الوسطى من العالم الإسلامي الفسيح من المشرق إلى المغرب، بين مدارس بغداد في المشرق ومدارس قرطبة في المغرب، وقد أفِلَتْ هذه المدارس حينًا مع أفول الدولة العباسية وأفول الدولة الأموية وسائر الدول الأندلسية، وورثت الجامعة الأزهرية شهرتها جميعًا، كما ورثت القاهرة شهرة مصر القديمة بالعلوم والمعارف التي حسبت من السحر المباح زمنًا عند كثير من حكماء الإسلام، وتلك هي العلوم والمعارف التي كان «ذو النون» المصري يبحث عنها في نقوش البرابي وتحت ركام الكنوز المدفونة في الرغام، وإنما كان الوزير العثماني «أحمد باشا» يقول عن مصر إنها اشتهرت في العالم كله بأنها «معدن العلوم والمعارف»، وهو يعني تلك الشهرة العريقة التي ذاعت عنها قديمًا، ثم اتصلت بها بعد الإسلام شهرة الجامع العتيق، ثم شهرة الأزهر بعد انفراده بأمانة العلم في بلاد الإسلام.
والمأثور عن الفاطميين أنهم كانوا يشتغلون بالنجوم والكيمياء والعلوم الكونية التي نسميها اليوم بالعلوم الطبيعية أو العلوم الحديثة، وكان الإمام جعفر الصادق — وهو إمام رفيع القدر بين علماء الإسلام من جميع المذاهب — حجة في علوم الدين والدنيا، يعلِّم أبا حنيفة الفقه ويعلِّم جابر بن حيان الكيمياء، وكان علماء الفاطميين ودعاتهم يقتدون به في الجمع بين هذه العلوم، ويستعينون بالمنطق والفلسفة على نشر دعوتهم بين أهلها من طلاب الدنيا والدين. وليس في أوراق المحفوظات الباقية سجل ثابت لتدوين أسماء العلماء وأسماء الكتب التي درسوها بالأزهر من هذه العلوم، ولكن إجازات العلماء بعد إنشاء الأزهر بأكثر من ثمانية قرون كانت تحتوي أسماء العلوم التي أجيز لهم أن يلقِّنوها الطلاب في حلقاتهم، ومنها سند العالم الكبير الشيخ أحمد عبد المنعم الدمنهوري المتوفى قبل نهاية القرن الثاني عشر للهجرة (١١٩٢ﻫ)، وفيها بيان الدروس التي حضرها وأجادها وألَّف فيها، وهي عدا علوم الفقه واللغة دروس «الحساب والميقات والجبر والمقابلة والمنحرفات، وأسباب الأمراض وعلاماتها، وعلم الأسطُرلاب والزيج والهندسة والهيئة، وعلم الأرثماطيقي، وعلم المزاول، وعلم الأعمال الرصدية، وعلم المواليد الثلاثة وهي الحيوان والنبات والمعادن، وعلم استنباط المياه، وعلاج البواسير، وعلم التشريح، وعلاج لسع العقرب، وتاريخ العرب والعجم …»
وهذه العلوم المتفرقة تجمع في ذلك العصر صفوة المعارف الإنسانية التي تُدرَّس في معاهد الثقافة العليا، وكانت — على ما يظهر — تباح لمَن يستعد لها من الطلاب المتقدمين الذين يختارهم أساتذتهم ويأنسون فيهم القدرة على النقل عنهم، ولعل هذا ما عناه الشيخ الشبراوي بقوله عن هذه العلوم إنها «فروض كفاية» يتخصَّص لها مَن يطلبها، ولا تُفرَض على الذين يحضرون دروس العلماء الآخَرين ولا يُقبِلون عليها، ولعل الأساتذة الذين يبلغون فيها مبلغ التعليم والإفادة يعتزلون الحلقات العامة بطلابهم ومريديهم، كما فعل الشيخ الجبرتي الكبير، وهو على الأرجح قد تلقَّى مبادئها عن شيوخ من قبله تعلموها وعلموها على طريقته في أخريات أيامه، وعلى هذه الطريقة بعينها تعلَّم الشيخ الدمنهوري كما سيَرِدُ في الصفحات التالية.
وإذا بدا من هذه الطريقة أن «العلوم الكونية» كانت من الدراسات «المخصوصة»، أو الدراسات التي لا تباح على عواهنها، فمن جُزَاف القول أن يُنسَب ذلك كله إلى الجمود وضِيق الأُفُق وقلة الاكتراث بالحَجْر على القول أو الحَجْر — كما نقول في عصرنا الحديث — على حرية التفكير.
فقد يقع الذنب على شيء غير الجمود والحَجْر على الحرية الفكرية.
نعم، قد يقع ذنب «التقييد» الذي أُحِيطت به دراسة العلوم الكونية على طريقة تدريسها، أو طريقة إعداد الطلاب للتقدُّم فيها، وما من علم من تلك العلوم سلم من الخلط بينه وبين علم زائف يشبهه ويحمل عنوانه، وليس هو بذلك العلم الأصيل في حقيقته ونفعه.
فعلم الفلك قد اختلط بعلم التنجيم، وانتقل من ثقاته وأمنائه إلى المحتالين والملفقين لأكاذيب الطوالع وعلاقات الألفة والزواج والمشاركة في أعمال الكسب والارتزاق.
وعلم الكيمياء قد اختلط بتحضير الذهب، وسحر المعادن، وصناعة السموم بغير رقابة عليها وعلى الجرائم الخفية التي تُستخدَم فيها.
وعلم المنطق قد اختلط بالسفسطة والجدل، وظهر من طريقة تعليمه في الأمم القديمة من عهد الإغريق إلى عهد البيزنطيين أنه مفسدة للعقول، ومدرجة للعبث بالعقائد وقواعد التفكير الصادق والبحث المفيد.
وليس من الإغراب في الظن البعيد أن نعتقد أن أصحاب الرأي وذوي البصر بالتربية في العصر الحديث كانوا يحيطون تلك العلوم بمثل ما أُحِيطت به من القيود بالأمس، لو أنها بقيت إلى اليوم بأضرارها وشوائبها، ودامت على حالها من اختلاط الصحيح بالزائف واختلاط المتعلمين بين طلابها على استعداد وعلى غير استعداد، وبين المشتغلين بها للعلم والفائدة والمشتغلين بها للاحتيال والشعوذة، فليس الجمود وحده علة تقييدها بالأمس، وليست حرية الفكر وحدها هي التي رفعت عنها قيودها اليوم، ولكنها حكمة بصيرة دعت إليها أسبابها في حينها، وأوجبتها أمانة الفكر وسلامة المجتمع على المسئولين عنها من أهل العلم والسياسة.
إلا أن الحكمة البصيرة إذا حاف عليها الجمود، واصطلحت عليها الأَثَرة مع الجمود، ذهبت أسبابها وبقيت قيودها، وتحولت من الرقابة البصيرة إلى الحَجْر الأعمى والعداء اللجوج، وكان فعل الأَثَرة هنا أشد من فعل الجمود في كراهة المزايا العلمية التي يمتاز بها العارفون، ويحرمها أصحاب الظهور بالمعرفة وهم يكرهونها مخلصين لجهلهم بحقيقتها، إن لم يكرهوها مغرضين لخوفهم من مزاحمتها، وقد أوشك الحذر من تلك العلوم أن ينقلب في أوائل القرن السابع عشر من الحكمة البصيرة إلى الجمود المعيب والغرض المريب، وضَعُف الغيورون عليها من حمايتها واحتمال تبعاتها ومصاعبها، ولكنهم استفادوا من قوارع الهزيمة بعد الحملة الفرنسية شيئًا واحدًا على الأقل، وهو الشعور بالأسف عليها، والجرأة على بث هذا الأسف في كتبهم المتداولة، ومنها كتبهم التي ألَّفوها في صميم علوم الدين والشريعة، فلم يَنْسَ الشيخ حسن العطار — وهو يبسط القول في أصول الفقه في حاشيته على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع — أن يصرح بأسفه لإهمال علوم الحكمة واللغة، فيقول في كلامه على القياس من الجزء الثاني: «مَن تأمَّل ما سطَّرناه وما ذُكِر من التصدي لتراجم الأئمة الأعلام، عَلِم أنهم كانوا من رسوخ قَدَمهم في العلوم الشرعية والأحكام الدينية لهم اطلاع عظيم على غيرها من العلوم، وإحاطة تامة بكلياتها وجزئياتها، حتى في كتب المخالفين في العقائد والفروع، يدل على ذلك النقل عنهم في كتبهم والتصدي لدفع شُبَههم، وأعجب من ذلك تجاوزهم إلى النظر في كتب غير أهل الإسلام؛ فإني وقفت على مؤلَّف للقرافي ردَّ فيه على اليهود شُبَهًا أوردوها على الملة الإسلامية لم يأتِ في الرد عليهم إلا بنصوص من التوراة وبقية الكتب السماوية، حتى يظن الناظر في كتابه أنه كان يحفظها على ظهر قلب، ثم هم مع ذلك ما أخلوا في تثقيف ألسنتهم وترقيق طباعهم من رقائق الأشعار ولطائف المحاضرات.
ومَن نظر ما دار بين المصنِّف — رحمه الله — وبين عصرِيِّه الأديب الصلاح الصفدي من المراسلات البليغة والأشعار الرقيقة، علم أنه — رحمه الله — ممَّن تخضع له رقاب البلغاء وتجري في مضماره سوابق الأدباء. وكذا ما دار بين سلطان المحدِّثين الحافظ ابن حجر العسقلاني ومَن عاصره من فحول الأدباء من لطائف الأشعار والنكات الأدبية، وكذا العلَّامة الدماميني، بل بين الحافظ السيوطي والسخاوي من المناقضات وما ألَّفه من المقامات، وفيما انتهى إليه الحال في زمن وقعنا فيه؛ علم أن نسبتنا إليهم كنسبة عامة زمانهم، فإن قصارى أمرنا النقل عنهم بدون أن نخترع شيئًا من عند أنفسنا، وليتنا وصلنا إلى هذه المرتبة، بل اقتصرنا على النظر في كتب محصورة ألَّفها المتأخرون المستمدون من كلامهم، نكررها طول العمر ولا تطمع نفوسنا إلى النظر في غيرها، حتى كأن العلم انحصر في هذه الكتب، فلزم من ذلك أنه إذا ورد علينا سؤال من غوامض علم الكلام تخصلنا منه بأن هذا كلام الفلاسفة ولا ننظر فيه، أو مسألة أصولية قلنا لم نرها في جمع الجوامع فلا أصل لها، أو نكتة أدبية قلنا هذا من علوم أهل البطالة، وهكذا؛ فصار العذر أقبح من الذنب. وإذا اجتمع جماعة منا في مجلس، فالمخاطبات مخاطبات العامة والحديث حديثهم، فإذا جرى في المجلس نكتة أدبية ربما لا نتفطن لها، وإنْ تفطَّنَّا لها بالغنا في إنكارها والإغماض عن قائلها إن كان مساويًا، وإيذائه بشناعة القول إن كان أدنى، ونسبناه إلى عدم الحشمة وقلة الأدب. وأما إذا وقعت مسألة غامضة من أي علم كان، عند ذلك تقوم القيامة، وتكثر القالة، ويتكدر المجلس، وتمتلئ القلوب بالشحناء، وتغمض العيون على القذى، فالمرموق بنظر العامة الموسوم بما يُسمَّى العلم إما أن يتستر بالسكوت حتى يقال إن الشيخ مستغرق، أو يهذر بما تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع.
فحالنا الآن كما قال ابن الجوزي في مجلس وعظ ببغداد:
وهذه نفثة مصدور، فنسأل الله السلامة واللطف.»
ثم عاد الشيخ إلى بث هذا الأسف بعد ذكر العلوم العصرية والإلمام بمؤلفاتها المترجمة عن اللغات الأوروبية، فقال في عرض الكلام على الخلاء والملاء وضغط الهواء: «إنَّا لو وضعنا خشبة مستوية أو أنبوبة مسدودة الرأس في قارورة، بحيث يكون بعض الأنبوبة داخل القارورة وبعضها خارج عنها، وسددنا رأس القارورة بحيث لا يدخلها هواء ولا يخرج، وذلك بأن نسد الخلل بين عنق القارورة والأنبوبة سدًّا محكَمًا لا يمكن نفوذ الهواء فيها، فإذا أدخلنا الأنبوبة فيها أكثر مما كانت بحيث لا يخرج شيء من الهواء عنها انكسرت القارورة إلى خارج، وإذا أخرجناها عنها بحيث لا يدخل فيها شيء من الهواء انكسرت إلى داخل، ولولا أنها مملوءة بالهواء وما فيها من الأنبوبة بحيث لا تحتمل شيئًا آخَر لم يكن كذلك، فدَلَّ ذلك على امتناع الخلاء. وقد قال شارح حكمة العين: إن هذه إقناعيات لا برهانيات. وأقول: إن مسألة الخلاء ومسألة إثبات الميل في الأجسام من مسائل العلم الطبيعي، وبتحقيقها ينكشف للفَطِن أسرار غريبة، وعليها ينبني كثير من مسائل علم جَرِّ الأثقال وعلم الحيل واستحداث الآلات العجيبة. ووقع في زماننا أن جُلِبت كُتُبٌ من بلاد الإفرنج وتُرجِمت باللغة التركية والعربية، وفيها أعمال كثيرة وأفعال دقيقة اطَّلَعْنا على بعضها، وقد تتحول تلك الأعمال بواسطة الأصول الهندسية والعلوم الطبيعية من القوة إلى الفعل، وتكلَّموا في الصناعات الحربية والآلات النارية ومهَّدوا فيها قواعد وأصولًا، حتى صار ذلك علمًا مستقلًّا مدوَّنًا في الكتب، وفرَّعوه إلى فروع كثيرة، ومَن سمت به همته إلى الاطلاع على غرائب المؤلفات وعجائب المصنَّفات، انكشفت له حقائق كثيرة من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته — إن كانت سليمة — في رياض الفهوم.
فالنفس الإنسانية بالاطلاع على حقائق المعارف تتكمل، والفاضل الكامل بأنواع العلوم يتفوق ويتفضل، لا بتحسين هيئة اللباس والمزاحمة على التصدر في مجالس الناس. قال الحكيم الفارابي:
فلا تجعل سعيك لغير تحصيل الكمالات العرفانية مصروفًا، ولا تتخذ غير نفائس الكتب أليفًا ومألوفًا.
وهذه نفثة مصدور، ولله عاقبة الأمور، لعمري لقد تساوى الفَطِن والأبله الأفن، واستنسر البغاث وسد طريق النظر على الناظر البحَّاث، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.»
والشيخ حسن العطار — نافث هذه الشكوى — قد كان مثلًا للعالِم المثقَّف بثقافة عصره قبل نحو القرن ونصف القرن. وُلِد بالقاهرة سنة ١١٩٠، وتوفي بها سنة ١٢٥٠ هجرية (١٧٧٦–١٨٣٥م)، وشهد حملة نابليون وعاشر علماءها واستفاد من زيارة معالمها، وعاش زمنًا في دمشق وزمنًا في أشقودرة بالبلاد الألبانية، واجتهد لنفسه في تحصيل المعارف الحديثة، فدرس الطبيعة والفلك والهندسة والمنطق، وطرفًا من علم الميكانيكا الذي كان يُسمَّى بعلم الحيل، وألَّف الرسائل في العمل بالأسطرلاب، والربعين المقنطر والمجيب، والبسائط، وأدمن الاطِّلَاع على كتب الأدب، فنظم الشعر وأجاد كتابة الرسائل، وأُسنِد إليه تحرير الوقائع المصرية عند إنشائها لاشتهاره بجودة الأسلوب والتمكُّن من صناعة القلم، مع حسن الاطلاع على المعارف الحديثة وحسن الفهم للعلاقة بين قواعدها النظرية ونتائجها العملية في المخترعات وعجائب الفنون، ثم تولَّى مشيخة الجامع الأزهر بعد أن قارب الخامسة والخمسين، فبقي فيها إلى سنة وفاته.
•••
ولقد تولَّى هذا العالِم الفاضل مشيخة الجامع الأزهر — وهو كما نرى — لا تعوزه الغيرة على العلم الحديث، ولا الرغبة في تعميمه واجتذاب العقول الناشئة إليه، ولكنه كان — رحمه الله — رجلًا من رجال الفطنة والكياسة، ولم يكن على غرار ذوي البأس الصارم والعزيمة الغلَّابة من أولئك المُصلِحين النوادر، الذين يُناط بهم افتتاح العهود وهدم العوائق الراسخة في سبيل الإصلاح، ولا سيما الإصلاح الذي يعارضه أعداؤه باسم الدين، ويعتصمون منه بالحصون المنيعة من العادات المتأصِّلة والمصالح المتأشبة، وصغائر الغرور والادعاء ووجاهة المظاهر والألقاب، ونحسبه — لو كان من أولئك المصلِحين النوادر — لما تسنَّى له في مدى السنوات القلائل التي تولَّى فيها مشيخة الجامع أن يقوم بعمل ذي بال لتجديد نظام التعليم وإتمام العدة اللازمة لابتداء ذلك النظام؛ فإن العزيمة الغلَّابة لا تكفي وحدها للغلبة على معارضة الشيوخ وإعراض الطلاب، وتبديل مصالح هؤلاء وهؤلاء في النظام القديم بمصالح مثلها أو أكبر منها تعوض عنها العلماء المعارضين والطلاب المعرضين. وقد تكفي عزيمة الشيخ للابتداء في العمل، إن لم تَكْفِ للتقدُّم البعيد في طريقه، لو أنه وجد من ولاة الأمر معونة صادقة تفعل بالسلطان ما لا يفعله البرهان، ولكن ولاة الأمر في عهده كانوا يؤثرون سكوت العلماء عنهم على إثارتهم بالشكوى والاتهام من أجل عمل يغضبهم ولا يُرضِي أحدًا غيرهم، وليس هو — بعدُ — من العمال التي تُلجِئهم الضرورة العاجلة إليها.
على أننا قد نبلغ في تهوين أثر القدوة الحية إذا خطر لنا أن نفثة المصدور ذهبت في الهواء، فإنها نفثة عالِم كبير يسمعها منه العاقل والغافل، ويقرؤها في كُتُبه مئات الطلاب من مريديه ومريدي غيره من العلماء الموافقين والمعارضين، وتأتي في أوانها الذي مهَّدت له الحوادث وتهيَّأت له النفوس المتطلعة والآمال المتوثبة، فهي من طلائع الجو الذي يتفتح له الأُفُق وإن لم يمتلئ به لأول وهلة، وعلى هذه السُّنَّة من سُنَن التجديد تبتدئ طلائع الأجواء في جميع الآفاق.
ثم تعمل الضرورة الواقعة عملها غير مدفوعة بحيل المحتالين وتَعِلَّات الكسالى المتعنتين، فقد نفث الشيخ نفثته في مفتتح القرن التاسع عشر والمدارس الحديثة تتوالى عامًا إثر عام، بين مدرسة للهندسة ومدرسة للطب، ومدرسة للألسن ومدرسة للعلوم الطبيعية، ويتوالى معها بناء المعامل لصناعات السِّلْم والحرب، ويُختَار لها الطلاب والمحترفون من أبناء الأزهر الناشئين، كما تُختَار منهم البعوث إلى البلاد الأوروبية، فيقضون فيها الأعوام المعدودة ويعودون إلى مناصب الرئاسة أو مناصب الأستاذية، ويصعدون من تلك المناصب إلى أرفع مراتب الدولة، وتتهيأ لهم وسائل التنفيذ التي لم تكن مهيَّأة لشيخهم في منصبه، فلم يَمْضِ جيلٌ واحدٌ حتى كان في القاهرة من تلاميذ العلوم الحديثة حزبٌ كبيرٌ يفهم ما ينبغي عمله للمُضِيِّ بالنهضة العلمية في سبيلها، ويملك من الرأي والمشورة المسموعة ما يُعِينه على خصومها …
ويتفق أن يكون أكبر دعاة هذه النهضة تلميذًا للشيخ العطار اختاره للسفر إلى الغرب، ونصح له قبل سفره «أن ينبِّه على ما يقع في هذه السفرة، وعلى ما يراه وما يصادفه من الأمور الغريبة والأشياء العجيبة، وأن يقيِّده ليكون نافعًا في كشف القناع عن مُحَيَّا تلك البقاع».
أخذت عن أستاذنا الشيخ المعمر علي الزعتري خاتمة العارفين بعلم الحساب واستخراج المجهولات، وبما توقف عليها كالفرائض والميقات، ووسيلة ابن الهائم ومعونته كلاهما في الحساب، والمقنع لابن الهائم، ومنظومة الياسميني في الجبر والمقابلة، ودقائق الحقائق في حساب الدرج والدقائق لسبط المارديني في علم حساب الأزياج، ورسالتين إحداهما على ربع المقنطرات والأخرى على ربع المجيب، كلاهما للشيخ عبد الله المارديني جد السبط، ونتيجة الشيخ اللدائقي المحسوبة لعرض مصر، والمنحرفات للسبط المارديني في علم وضع المزاول، وبعض اللمعة في التقويم. وأخذت عن سيدي أحمد القرافي الحكيم بدار الشفاء بالقراءة عليه كتابَ الموجز واللمحة العفيفية في أسباب الأمراض وعلاماتها بشرح الأمشاطي، وبعضًا من قانون ابن سينا، وبعضًا من كامل الصناعة، وبعضًا من منظومة ابن سينا الكبرى، والجميع في الطب. وقرأت على أستاذنا الشيخ عبد الفتاح الدمياطي كتاب لقط الجواهر في معرفة الحدود والدوائر للسبط المارديني في الهيئة السماوية، ورسالة ابن الشاط في علم الأسطرلاب، ورسالة قسطا بن لوقا في العمل بالكرة وكيفية أخذ الوقت منها، والدرر لابن المجدي في علم الزيج. وقرأت على أستاذنا الشيخ سلامة الفيومي أشكال التأسيس في الهندسة، وبعضًا من الجغميني في علم الهيئة، وبعضًا من رفع الإشكال عن مساحة الأشكال في علم المساحة. وقرأت على شيخنا الشيخ عبد الجواد المرحومي جملة كتب، منها رسالة في علم الأرثماطيقي للشيخ سلطان المزاحي. وقرأت على الشيخ محمد الشهير بالسحميمي منظومة الحكيم درمقاش المشتملة على التكسير وعلم الأوفاق وعلم الاستنطاقات وعلم التكعيب، ورسالة أخرى في رسم ربع المقنطرات والمنحرفات لسبط المارديني، وعلم المزاول ومنظومة في علم الأعمال الرصدية، وروضة العلوم وبهجة المنطوق والمفهوم لمحمد بن ساعد الأنصاري، وهو كتاب يشتمل على سبعة وسبعين علمًا، أولها علم الحرف وآخِرها علم الطلاسم، ورسالة للإسرائيلي، ورسالة للسيد الطحان، كلاهما في علم الطالع، ورسالة للخازن في علم المواليد، أغنى الممالك الطبيعية وهي الحيوانات والنباتات والمعادن. وأخذت عن شيخنا الشيخ حسام الدين الهندي شرح الهداية في الحكمة، ومتن الجغميني في علم الهيئة بمراجعة قاضي زاده ومطالعة السيد عليه. وأخذت عن سيدي أحمد الشرفي شيخ المغاربة بالجامع الأزهر كتاب اللمعة في تقويم الكواكب السبعة …»
ولما ذكر ما تلقَّاه من هذه العلوم أعقبه بما طالعه بنفسه بدون الأخذ عن شيخ، فقال: «طالعت كتاب إحياء الفؤاد بمعرفة خواص الأعداد في علم الأرثماطيقي في كرَّاسين، وكتاب عين الحياة في علم استنباط المياه، في نحو كرَّاسين، والرسالة في الكلام اليسير في علاج البواسير في نحو كرَّاسين، ورسالة التصريح بخلاصة القول الصريح في علم التشريح في نحو كرَّاسين، ومنها كتاب إتحاف البرية بمعرفة الأمور الضرورية في علم الطب في نحو خمسة كراريس، ومنها رسالة القول الأقرب في علاج لسع العقرب في نحو كرَّاسٍ، ومنها منهج السلوك في نصيحة الملوك في نحو عشرة كراريس، ومنها كتاب بلوغ الأرب في أسماء سلاطين العجم والعرب، مُعَنْوَنًا باسم السلطان مصطفى خان ابن السلطان أحمد خان، المولود في رابع عشر شهر صفر سنة تسع وعشرين ومائة وألف، يوم الأربعاء أول النهار في الساعة الأولى بعد الشمس، الجالس على سرير الملك في سابع عشر شهر صفر الخير سنة إحدى وسبعين ومائة وألف، يوم الأحد قبل الشمس.» انتهى كلامه ملخَّصًا بتصرُّفٍ.
وانظر إلى هذا الإمام الذي كان شيخ مشايخ الجامع الأزهر، وكان له في العلوم الطبية والرياضية وعلم الهيئة الحظ الأوفر، مما تلقَّاه عن أشياخه الأعلام فضلًا عن كون أشياخه كانوا أزهرية، ولم يَفُتْهم الوقوف على حقائق هذه العلوم النافعة في الوطنية، وفضل العلامة الجبرتي المتوفَّى في أثناء هذا القرن في هذه العلوم وفي فن التاريخ أمر معلوم، وكذلك العلامة الشيخ عثمان الورداني الفلكي، وكان للمرحوم الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر أيضًا مشاركة في كثير من هذه العلوم، حتى في العلوم الجغرافية، فقد وجدت بخطه هوامش جليلة على كتاب تقويم البلدان لإسماعيل أبي الفداء سلطان حماة المشهور أيضًا بالملك المؤيد، وللشيخ المذكور هوامش أيضًا وجدتها بأكثر التواريخ وعلى طبقات الأطباء وغيرها، وكان يطَّلِع دائمًا على الكتب المعرَّبة من تواريخ وغيرها، وكان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية، مع غاية الديانة والصيانة، وله بعض تآليف في الطب وغيرها زيادة عن تآليفه المشهورة … فلو تشبَّث من الآن فصاعدًا نجباءُ أهل العلم الأزهريين بالعلوم العصرية التي جدَّدها الخديو الأكرم بمصر بإنفاقه عليها أوفر أموال مملكته، لفازوا بدرجة الكمال وانتظموا في سلك الأقدمين من فحول الرجال، وربما يتعللون بالاحتياج إلى مساعدة الحكومة، والحال أن الحكومة إنما تساعد مَن يلوح عليه علامات الرغبة والغيرة والاجتهاد، فعملُ كلٍّ من الطرفين متوقِّف على عمل الآخَر، وترجع المسألة دورية، والجواب عنها أن الحكومة قد ساعدت بتسهيل الوسائط والوسائل ليغتنم فرصةَ ذلك كلُّ طالب وسائل، وكلُّ مَن سار على الدرب وصل، وإنما تكون المكافأة على تمام العمل … فهذا ما يتعلق بطبقة العلماء، وقد ذكرنا ما يتعلق به في الفصل الأول من الباب الأول من هذا الكتاب مبسوطًا بما فيه الكفاية.
•••
وهذا الفصل من كتاب «مناهج الألباب» يُعتبَر وثيقة «رسمية» من أهم الوثائق في تاريخ التعليم بالجامع الأزهر؛ لأنه يشتمل على ثَبَت صحيح بأسماء المؤلَّفات الكثيرة التي كانت تُؤلَّف في علوم الطب والرياضة والطبيعة وغيرها من العلوم التي تُسمَّى بالعلوم الكونية تمييزًا لها من العلوم الإلهية أو الشرعية، ويشتمل كذلك على أسماء مؤلِّفيها والعلماء الذين يدرِّسونها وطريقتهم في تحصيلها، إما بالقراءة على أصحابها أو بالمطالعة في مراجعها. ومن هذا الثَّبَت الصحيح يتبيَّن لنا أنها كانت تحيط بصفوة المعارف البشرية كما عرفها الناس إلى نهاية العصور الوسطى في بداية القرن السابع عشر، وأنها كانت دراسات «موسوعية» جامعية من طراز مناهجها في أنحاء العالم كله على عهدها.
ويدل هذا الفصل على موقف الحكومة يومئذٍ من مسألة التعليم بالجامع الأزهر، فإنها كانت على موقف الحذر من تقرير علوم تُدرَّس فيه بغير طلب من أهله، هيبة لعلمائه وخوفًا من تهمة المساس بالدين والاجتراء على سُنَن السلف ومجاراة البدع المستحدثة؛ بدع الفرنجة أو بدع الفلاسفة كما قال الشيخ العطار بألسنتهم حين تُتلَى عليهم مسألةٌ من مسائل المعرفة لم تَرِدْ في كتاب من كتب المتأخرين، وكأنما كان النابغة الأزهري — رفاعة — يلوح لشيوخ العلماء بالخطة التي يسلكونها إذا ترقبوا من الحكومة أن تغيِّر مسلكها، «فإن الحكومة إنما تساعد مَن يلوح عليه علامات الرغبة والغيرة والاجتهاد، فعملُ كلٍّ من الطرفين متوقِّف على عمل الآخَر، وترجع المسألة دورية …» إن لم يبدأ علماء الأزهر من قبلهم بمسلك جديد.
وقد دلَّ رفاعة بما كتبه عن مسألة التعليم الأزهري على صراحة الرائد المجدد وحصافته في وقت واحد، فكان صريحًا في تنبيهه إلى إهمال محمد علي الكبير لتلك المسألة، وكان صريحًا في تنبيهه العلماء إلى موضع تقصيرهم أو موضع مشاركتهم في تبعة ذلك الإهمال، وكان حصيفًا في عنايته بسرد أسماء العلوم والمؤلَّفات التي سبق إليها العلماء الأسبقون، فإنه — ولا شك — قد فطن للوجهة التي اتجه إليها تيار الفكر الحديث في البلاد، وكشف عن الموطن الحساس الذي لمسته هذه المسألة من جانب العاطفة القومية، فمنذ الحملة الفرنسية وقعت الصدمة في ذلك الجانب من العاطفة القومية موقعين متناقضين متلازمين: موقع اليقين بغلبة القوم، وفيه من دواعي الوجوم والانكسار ما فيه، وموقع العزاء بسبق الشرق إلى تلك العلوم، والإيمان بأنها عند القوم عارية مستعارة نستردها لنقول لأنفسنا وللعالم إنها بضاعتنا رُدَّتْ إلينا، وفي ذلك من تجديد الثقة ما فيه.
ورفاعة في دعوته نجباء الأزهر إلى العلم العصري باسم السلف، إنما تسلَّم هذه العاطفة من حيث تركها روَّاد الفكر الحديث، ولعله تعمَّد أن يسوق الكلام فيها بذلك الأسلوب التقليدي المسجوع، ليدخل في روع قرائه أن الكاتب العصري لا يعجز عن مثل ذلك الأسلوب، أو لا ينقصه ولا يخلعه عن قلمه؛ لأن المعرفة العصرية لا تنقطع بكاتبها عن ماضيه.
ولم يتمكن رفاعة من تقرير النظام الذي كان يؤثره لتعليم طلاب الأزهر؛ لأنه أُبْعِد إلى السودان في أخريات أيامه لتنظيم التعليم فيه، وتوفِّي سنة ١٨٧١ والأزهريون لا يحفزون لتلك الخطوة التي كان ينتظر منهم أن يخطوها تشجيعًا للحكومة على استخدام سلطانها في تقرير نظامه اعتمادًا على دعوة أهله، ولكن شيخ الجامع لعهده — الشيخ مصطفى العروسي — خطا في داخل الأزهر خطوة حسنة بالرقابة على علمائه وطلابه، وانتقاء الصالحين منهم للتعليم والتعلُّم ومتابعة الدرس في العلوم التي يتطلبها العمل الجديد في دواوين القضاء ومدارس الحكومة العصرية، وأهمها علوم الحديث والتفسير والأصول والتوحيد والفقه، والنحو والصرف، والمعاني والبديع والمنطق، ثم جاء خليفته الشيخ محمد المهدي العباسي فأسَّس نظام الامتحان لشهادة العالمية على نظامها الحديث، بعد استئذان الحكومة لاعتبار هذه الشهادة في ولاية الوظائف العامة غير التدريس بالجامعة الأزهرية، وجعل هذه الشهادة على درجات: أولى وثانية وثالثة، على حسب إجابة الطالب وطبقة الكتب التي يُجرَى الامتحان في مادتها.
•••
على هذه الحالة كان الجامع الأزهر حين وصل الشاب محمد عبده إلى القاهرة لينتظم في سلك طلابه.
المفروض فيه بحكم الشهرة الموروثة أنه جامعة عالمية تزوِّد طلابها بكل ما وسعته العقول البشرية من معارف الماضي والحاضر، وعلوم الدين والدنيا.
والحقيقة الواقعة أن دروسه يومئذٍ كانت مقصورة على قشور من علوم الفقه واللغة يتلقاها الطالب عن أستاذه، ويعول في تحصيلها على حفظ الذاكرة، وقلَّما يطالبه أحدٌ من أساتذته أو يطالب هو نفسه بوعيها والتصرف في لفظها ومعناها.
وكان التعليم والتعلُّم كلاهما فوضى مهملة لا رقابة عليها لأحد، فلما دعا الأمر إلى اختيار طائفة من خريجي الأزهر لوظائف القضاء والتعليم، رُسِمت لهم شروط الامتحان ودرجات الإجازة على مثال الشهادات المدرسية التي كانت ترشح الحاصلين عليها من خريجي المدارس العصرية لوظائف الدولة.
وقد كان الراغبون في تغيير هذه الحالة غير قليلين، ولكنهم كانوا لا يملكون سلطة التغيير، أو يملكونها ويؤثرون أن يتمهلوا حتى يجيء طلب التغيير من أهله؛ تجنُّبًا لإثارة الشبهات بابتداع البدع واتباع دعاة الزندقة — أو الفرنجة — في أمر المعهد الأكبر من معاهد الدين.