محور حياة
صحبنا الفتى الناشئ في مراحل التعليم إلى نحو الثانية والعشرين من عمره، فلو أننا أردنا أن نلتمس لحياته في هذا الدور محورًا تدور عليه يجتمع لنا في كلمة واحدة، لما كانت هذه الكلمة أصدق ولا أوفى من كلمة التعليم.
صحبناه إلى أول لقاء له بأستاذه العظيم جمال الدين الأفغاني، وسنصحبه بعد ذلك رَدَحًا من العمر في الصفحات التالية، ولا نرانا نعرف لحياته المباركة محورًا غير ذلك المحور الذي دارت عليه كل أدوار حياته، على تعداد جوانبها واتساع ميادينها.
بل نحسب أننا لو صحبناه في كل صفحة من الصفحات التي عنيت بأخباره وآثاره، لما ابتعدنا من ذلك المحور المكين، وإن ذهبنا إلى غاية الأمد الذي أحاطت به حياته الحافلة بجلائل أعماله، متعلمًا ومعلِّمًا وعاملًا على نشر العلم النافع حيث استطاع، وقد استطاع ما لم تستطعه العصبة أولو العزم في جيل واحد، من الثانية والعشرين إلى السادسة والخمسين.
إننا نصاحب الطفل محمد عبده كما نصاحب الفتى محمد عبده، والشيخ محمد عبده، فلا نراه أبدًا إلا على مفترق طريقين من طرق العلم، أصلحهما هو الذي يختاره له القدر أو يختاره لنفسه، منذ تعلم الكتابة في بيته إلى أن فارق دنياه وهو يناضل نضاله الدائم في سبيل أصلح الثقافتين وألزم التعليمين.
كان في نحو السابعة حين ابتدأ بتعلم الكتابة والقراءة، فكان في قريته الصغيرة أمام طريقتين في هذه المرحلة الأولى من مراحل التعليم: طريقة السوط والفلقة وصياح العشرات من الصبية بين جدران المكتب العتيق، وطريقة التعلم في البيت بين يدي أستاذ واحد من أهله يفهمه ويُعنَى بتفهمه، ويعز عليه أن يعنته بالسوط والفلقة وجلبة الصياح في مكان كالمكان الذي يختار للمكتب في ذلك الزمن، فكان من حظه أن يتعلم حروفه الأولى على أفضل الطريقتين.
وارتقى في المرحلة الثانية من مراحل التعليم في القرية وهي حفظ القرآن، فلم يتعلمه في المكتب العتيق مأخوذًا بقسوة الضرب والشتم، مرتاضًا على الترديد مع زملاء له يحفظون غير حفظه ويرددون غير ترديده، ويستعينون بالحركة الآلية على هذا الحفظ الآلي الذي لا يعقله الأستاذ ولا التلاميذ، بل هو قد حفظ منه ما استطاع أهله أن يعلموه في البيت، ثم أسلموه إلى الحافظ المعتقد الذي يقرأ الكتاب مع تلميذه الوحيد قراءة بعد قراءة، قبل أن يأخذه باستظهاره من فاتحته إلى ختامه مقروءًا أو غير مقروء، لا فرق بين تعليم الضرير وهو لا ينظر إلى الصفحة، وتعليم البصير الذي ينظر إلى الكلمات والآيات فيدرك جهده من الإدراك معنى الانتقال من آية إلى آية، ويستعيده للفهم جهده قبل أن يستعيده للحفظ والاستظهار … فكان في هذه أيضًا مجدودًا موفَّقًا إلى أمثل الطريقتين، وفضله في مثل هذه السن أنه وافق هذه الطريقة باستعداده للمضي فيها إلى غايتها، ولم ينفر منها كما نفر من التعليم — وهو أكبر من تلك سنًّا — لأنه تعليم معيب.
•••
ثم ألفى نفسه مترددًا عند مفترق الطريقين أيضًا، على فجوة أوسع من كل فجوة مرت به منذ اختبر التعليم في البيت أو عند حافظ القرآن.
ألفى نفسه على مفترق الطريقين بين دروس المسجد الأحمدي يوم ذاك، ودروس قريبه الصوفي الحكيم الشيخ درويش بكنيسة أورين.
ألفى نفسه بين طريقة الأذن والذاكرة، وطريقة الذهن والوجدان.
في الطريقة الأولى يبتدئ المعلم بتدريس النحو لجَمْعٍ من التلاميذ الذين يجهلون كل شيء عنه، فيلقي عليهم في أول درس ومن أول صفحةٍ إعرابَ: بسم الله الرحمن الرحيم، ويحدِّثهم عن حرف الجر وعن الاسم المجرور، وعن المضاف والمضاف إليه، وعن النعت ومطابقة الوصف للموصوف، كأنهم قد فرغوا من دروس العربية كلها قبل أن يقرءوا البسملة على بابها الأول … فمَن وعى ما سمع فقد أدركته بركة العلم والمسجد، ومن لم يعِ شيئًا مما سمع، فذلك عندهم مطموس محجوب عن البركة والفائدة.
وهذه هي الطريقة التي سمَّيْنَاها بطريقة الأذن والذاكرة؛ لأن أساتذتها يخاطبون في تلميذهم أذنًا تسمع الكلمات، وذاكرة تثبتها كما هي وتعيدها كما سمعتها، ولا يعنيهم منه بعد ذلك أن يكون له ذهن يفهم ويتصرف فيما يفهم، أو وجدان يستضيء بنور المعرفة المفهومة ويستلذ الشعور بما وعاه منها.
وقد عاف الفتى الناشئ هذه الطريقة، ولم يستطع أن يغالط نفسه في حقيقتها، وإنما يفعل ذلك أحد اثنين من الطلاب: طالب مغلق الذهن عن كل معرفة مفهومة أو غير مفهومة، فهو عاجز عن الاستماع إلى ما يفهم وما لا يفهم مما يُلقَى على أذنيه، فلا يلبث بعد معالجة الحفظ والمراجعة زمنًا أن يسلِّم الأمر تسليم اليائس؛ لأنه من أولئك المطموسين «لم يُفتَح عليهم»، وليس لهم من العلم نصيب مقدور.
والطالب الآخَر الذي يزهد في تلك الطريقة ولا يغالط في حقيقتها، هو صاحب الذهن الذي يتطلب الفهم والوجدان، والذي يلمح النور إذا رآه، فإن لم يجدهما في ساحة الدرس لم يبالِ أن يتركه لما هو أقدر عليه من شواغل حياته، وبخاصة حين تكون هذه الشواغل رياضة كرياضة الفروسية تستريح إليها كل نفس حية وكل طبع سليم، وعملًا كعمل الزراعة يقوى عليه صاحب الجسد في العمل، وصاحب البنية التي تحتمل الجهد ولا تعييها المشقة.
ولعمري إن من بواكير العظمة المستقلة في هذا الفتى الناشئ أن يركن إلى عقله في الحكم على هذه الطريقة بالعقم، ولا يستسهل قبل ذلك أن يتهم عقله وأن يصنع ما صنع الألوف من قبله في مثل بدايته، فإنهم كانوا يكبرون أن يعيبوا هذا التعليم، وهو محفوف بتلك الهالة المرهوبة التي تحف باسم المعهد الأحمدي وأسماء العلماء الذين يجلسون للتعليم فيه، ومن اسم السيد البدوي تستعيد تلك الطريقة هيبتها، وهو ثاوٍ في ضريحه براء منها، وأنه كما قال الشيخ مصطفى عبد الرازق في ترجمته للأستاذ الإمام: «أشهر أولياء القطر المصري، وصيته وكراماته ذائعة في أنحاء وادي النيل، وللناس فيه اعتقاد، ولزائريه من صور التوسل والزلفى ما لا يخلو من إسراف.»
ولا شك أن الشيخ «عبده حسن خير الله» قد تلقَّاها خيبة أمل مرة في وليده المنذور للعلم والرئاسة الدينية والدنيوية، ولولا رجاء الأب الذي يأبى أن تزعزعه صدمة أو صدمتان لما عاود الكرة على الفتى المتمرد، ولا حال بينه وبين البقاء في القرية كما أراد، ولكنه لو كُشِف له حجاب الغيب، لعلم أنه يشاهد من فتاه الصغير أنضر بواكير العقل المستقل والمعارضة القوية، التي صار بها الطالب «الخائب» أستاذ الشرق الناهض بعد سنين.
أما الطريقة الأخرى، طريقة العقل والوجدان، فلم يكن بينه وبينهما غير إشارة لطيفة من أستاذه الفلاح البسيط درويش خضر، وغير كتاب مخطوط يُلقَى بين يديه ليقرأه ويستقل بفهمه ويسأل عما يغمض عليه من كلماته، إن شاء.
فلم تكن لهذه الطريقة مهابة المعهد الكبير أو الأساتذة الكبراء، ولم يكن لذلك الكتاب اسم يروع بالتواتر والتقليد، أو شكل يعجب بصنيع الطبع والتجليد، ولكنه كان بصفحاته المشوشة المبعثَرة، وخطه الساذج الممسوح، كافيًا لاجتذاب الطالب المتمرد على العلم وانصرافه عن لهو الفتوة في ملاعب الخيل وحلبات السباق؛ لأنه خاطب منه الذهن المتفتح والوجدان المتطلع إلى النور.
ولسنا نعلم اليوم شيئًا عما احتوته تلك الصفحات المخطوطة، إلا أنها نخبة من حكم الصوفية وجوامع النوادر والأمثال.
ولكننا نستطيع أن نعلم عن تلك «الصوفية» أنها شيء غير الجذاب والتواكل، وغير الكسل والزهد في أعمال المعيشة؛ لأن أستاذه الذي هداه إلى ذلك الكتاب كان فلَّاحًا يعمل في الزراعة، وكان يحضه على تعليم الحساب والهندسة والمنطق وعلوم الحياة، وينهاه عن العزلة واجتناب الناس، ولو كانوا على غير ما يرضاه من خُلُق وسيرة؛ لأنهم بذلك أحوج إلى الهداية ومصاحبة العقلاء.
ولا يخلو مذهبٌ صوفيٌّ قطُّ من التفرقة بين الظاهر والباطن، وبين شواغل الجسد وشواغل الروح، ولكن هذه التفرقة قد تتباعد بالفوارق كما يتباعد النقيضان، وقد تتباعد بها كما يتباعد اللباب والقشور. ومثل هذه الصوفية هي التي نعلقها من مزاج رجل كالشيخ محمد عبده له بنية الفلاح السليم، ونشاط الرياضي المقدام، وثقة العقل المستقل، وهمة الكفاح الذي يأبى أن يستكين لمغالبة الأحداث أو مغالبة الخصوم.
وفي الأسرة كلها على ما يظهر نفحة من هذه الصوفية العاملة التي تؤمن بحقيقة لهذه الدنيا وراء قشورها الظاهرة، فمن أجداد محمد عبده أولئك الفلاحون الذين أقاموا مساكنهم حول ضريح «عبد الملك»، وقامت المحلة كلها — من ثَمَّ — على أساس ذلك الضريح.
ومن خئولة أبيه الشيخ «خضر» الذي تدل تسميته على هذه النزعة من أبيه، ومنهم الشيخ «درويش بن خضر» الذي وضع بين يدي تلميذه ذلك الكتاب، وهو لا ينسى أن يحثه على العمل والعلم في كل لقاء، ومنهم أبوه «عبده» وأخوه «مجاهد» فيما تخلَّقَا به من خُلُقٍ، وما عرفنا عنهما من غيرة على العلم، مع اشتغالهما بالفلاحة وكفاح الحياة، وهذه الطبائع التي تهديها الفطرة السليمة إلى الإيمان بشيء وراء القشور وسر وراء الكلمات، قد تهديها هذه الفطرة السليمة بعينها إلى العصمة من أكاذيب الأدعياء وأباطيل اللصقاء بالصوفية؛ لأن طبيعة العمل والجد في فطرتهم تأبى عليهم أن ينخدعوا بما ينخدع به الكسالى الذين ينفرون من الجد الصادق بمقدار ارتياحهم إلى الأوهام الباطلة، ويرحبون بما يُحبِّب إليهم التواكل والاستقامة إلى أحلام اليقظة وتعلات الغرور بمقدار إعراضهم عن الواقع الصادع والبرهان الدامغ، إن كان وراءهما جهد واجتهاد.
وغاية ما تسيغه الفطرة السليمة من استطلاع الأسرار أن تتفاءل بها لتمضي في عملها، ولكنها لا تتفاءل أو تتشاءم منها لتعرض عن العمل أو تركن إلى الكسل، وكذلك كانت فطرة هذه الأسرة في «صوفيتها» البريئة، فإننا سمعنا عن عقائدهم في الأولياء وأبناء الطريق، ولكننا لم نسمع عن واحد منهم ساقه اعتقاده إلى إهمال حقله أو إلقاء فأسه، والتخلي عن كفاحه للعيش، أو كفاحه للخصوم.
•••
ومن هذا التفاؤل إصغاء الطالب المتبرم بدروس المعهد إلى الكلمة التي لوَّح بها مَن قال عنه: «إنه يشبه أن يكون من أولئك الذين يسمونهم بالمجاذيب» … وقد سمعها منه يوم كان يحدِّث نفسه بالانتقال من طنطا إلى القاهرة، عسى أن يجد في الأزهر ما لم يجده في الأزهر الثاني أو الأزهر الصغير.
ولم يلبث أن أقام بالقاهرة أيامًا حتى ألفى نفسه في الأزهر كما ألفى نفسه قبل مرة على مفترق الطريقين: طريق الأذن والذاكرة، وطريق الذهن والوجدان، وقد سُمِّيتا يومئذٍ بين طلاب العلوم الدينية بطريقة التقليد وطريقة التجديد.
وحسبنا من تلخيص وافٍ لصلابة المقلِّدين على جمودهم، أن نعلم أن رئيسهم عليشًا خرج يسعى بخنجره إلى مجلس الشيخ السنوسي ليقتله؛ لأنه كتب في مؤلَّف له أنه يجتهد بعلمه في فهم الشريعة من كتاب الله، غير متقيد بما كتبه الفقهاء من المتأخرين أو المتقدمين، ولولا سَفَرُ الشيخ السنوسي من القاهرة لما برح الشيخ يتعقبه حيث كان يقضي عليه.
وقد كانت لأنصار التجديد مدرسة مستقلة يقصدها مَن يريدها، وقلما يبحث عنها مَن كان يطلب العلم ممَّن يفتتحون كتاب النحو بإعراب البسملة، ويختمون الكتب كلها بخاتم الذاكرة. فبحَثَ الطالب الأزهري الغريب عن أساتذته المختارين من علماء التجديد، وحضر على عالِمين جليلين من أشهرهم وأقدرهم، هما حسن الطويل والشيخ محمد البسيوني، وكلاهما من تلاميذ الشيخ حسن رضوان الذي تفرَّغ لحكمة النصوص بعد أن استوفى حظه من العلوم العقلية والشرعية، ثم يئس من الدرس والتدريس في الجامع الكبير، فتركه ليلحق بأستاذه الذي كان يُلقِي دروسه في غير حلقاته، ونظم وهو يودع حلقاته أرجوزة يقول فيها عن جماعة المقلِّدين:
وعلم القلوب هذا هو العلم الذي ميَّزه الطالب الناشئ في قريته وجاء إلى العاصمة الكبرى ينشده، فيجده على تلك الحال؛ إمامه العارف بفضله يبحث عن تمامه بعيدًا من حلقات الجامع، وخليفتاه النابغتان بعده يقنعان من درسه وتدريسه بالجانب المأمون من خنجر الشيخ عليش!
… كان الشيخ حسن الطويل ممتازًا في الأزهر بعلم المنطق، وحضره عليه، ولم يكن يشفي ما في نفسه، بل كانت تتشوف دائمًا إلى علم غير موجود، فكان يبحث في خزائن الكتب الأزهرية عن طِلْبته المجهولة، فيظفر ببعض الشيء، ومما ظفر به كتاب القطب على الشمسية ناقصًا.
«وقرأ الشيخ حسن الطويل لهم شيئًا من الفلسفة، ولكن لم يكن يجزم بأن المعنى كذا، بل كان الدرس احتمالًا أو شبهات الحذر فيما بينهما، حتى جاء السيد جمال الدين، فسكنت إليه نفسه من اضطرابها، ووجدت عنده جميع طِلْبتها وأقصى أمنيتها …»
أهو مفترَق الطريق مرة أخرى؟
نعم، ولكنه في هذه المرة مفترَق طريق في مدرسة واحدة؛ مدرسة علم القلوب والعقول. وبديهة التلميذ الصادقة هي هاديه الأمين إلى أقوم الطريقين وأفضل الغايتين، بين تعليم الشيخ حسن الطويل وتعليم السيد جمال الدين.
وإنما افترق التعليمان هنا بين طريق النظريات وطريق العمليات.
وكلاهما يخاطب الذهن والوجدان، ولكن النظريات لا تذهب بعيدًا وراء الفهم والمناقشة، ولا تستريح النفوس المطبوعة على الحركة زمنًا طويلًا إلى بحث من بحوث الذهن قصاراه ترجيح نظرية على نظرية، وتوضيح شبهة واردة أو تصحيح غلطة خفية؛ لأنها تفهم كيف تعمل، وتهتدي لتسلك إلى الغاية التي تتحراها ولا تستريح إلى السكون دونها.
وغير هذه الطريق، طريق النظريات، كانت طريق جمال الدين إلى «العمليات» التي تعيش مع صاحبها في معترك الحياة، وتعقب لها أثرًا في نفسه وفيما يحيط به من أحوال قومه، وخلاصة الفارق بين الطريقتين هي خلاصة الفارق بين صاحب درس وصاحب رسالة، وقد يلتقيان ولكنهما لا يتساويان.
•••
وبعد، فإننا في صفحات هذه السيرة لا نتوخى ترتيبًا يقيِّدنا بترتيب أرقام السنين في التقويم؛ لأننا نتكلم عن نفحة من نفحات الحياة العالية بأوصافها وملامحها، ولا نتكلم عن نبذة من الزمن بترتيب حوادثه وأرقامه، فمكان الحادث من هذه السيرة هو مكانه في موضع الدلالة على جوانب تلك الشخصية الحية، ولا سيما جوانبها البارزة التي تنتظم من مبدأ العمر إلى نهايته، وأولها وأهمها هذا الجانب الذي نراه على الدوام كأنه يوحِّد بين مسألة التعليم ومسألة العمر كله في سيرة هذا المصلح العظيم الذي سُمِّي بحق بالأستاذ الإمام.
ولهذا نتناول في بعض هذا الفصل جملة الحوادث التي تتابعت بعد لقاء الطالب محمد عبده بأستاذه جمال الدين، ومنه ما كان الخلاف فيه بين التلميذ والأستاذ بعد ملازمة السنوات الطوال.
•••
تولى التحرير في الصحف، فكان مدار مقالاته التي كتبها فيها جميعًا على الدعوة إلى التعليم، والتمييز بين التعليم النافع والتعليم العقيم الذي أدرك عقمه بالتجربة بعد التجربة من بواكير صباه.
ولم تَمْضِ سنوات بعد أول لقاء له بالسيد جمال الدين حتى جاشت البلاد بقلاقل الثورة الأولى، وكان الطالب الذي تخرَّج يومئذٍ من معهده للتدريس يُلقِي دروسه، ويكتب مقالاته، ويشارك زعماء الثورة، فيوافقهم على أمور ويخالفهم على غيرها، ومن أهم ما خالفهم عليه أن يهتموا بتعليم الأمة لتوكل إليها حقوقها وهي أمينة عليها، فإن ما يمنحه سلطان الحاكم بأمره يسلبه سلطان الحاكم بأمره، «وإنما علينا — كما قال للزعيم عرابي — أن نهتم الآن بالتربية والتعليم بعض سنين، وأن نحمل الحكومة على العدل بما نستطيع، وأن يُبدَأ بترغيبها في استشارة الأهالي في بعض مجالس خاصة بالمديريات والمحافظات، ويكون ذلك كله تمهيدًا لما يُراد من صد الحكومة، وليس من المصلحة أن نفاجئ البلاد بأمره قبل أن تستعد له، فيكون من قبيل تسليم المال للناشئ قبل بلوغ سن الرشد، فيفسد المال ويفضي إلى الهلكة.»
وانتهت الثورة العرابية بنفيه إلى بيروت، فكان عمله فيها التعليم بالمدرسة السلطانية، ومحاضرة الطلاب والمريدين في منزله وفي المساجد المشهورة، وكان الأستاذ الشرتوني صاحب المعجم الكبير المسمى بأقرب الموارد يقول عن دروسه هناك: إنه يتكلم فيخرج النور من فِيه.
وأُذِن له بالعودة إلى مصر، فلم يفارق بيروت إلا بعد أن أودع آراءه في إصلاح الأمة الإسلامية بالتعليم والتربية في رسالتين أو «لائحتين»، أرسل إحداهما إلى شيخ الإسلام بالآستانة، وأرسل الثانية إلى والي بيروت ليشرح فيها ما اهتدى إليه أثناء مقامه من وسائل إصلاح البلاد من طريق التعليم والتربية.
أرى أن نترك السياسة ونذهب إلى مجهل من مجاهل الأرض لا يعرفنا فيه أحد، نختار من أهله عشرة غلمان أو أكثر من الأذكياء السليمي الفطرة، فنربيهم على منهجنا ونوجِّه وجوههم إلى مقصدنا، فإذا أتيح لكل واحد منهم تربية عشرة آخرين، لا تمضي بضع سنين أخرى إلا ولَدَيْنَا مائة قائد من قوَّاد الجهاد في سبيل الإصلاح، ومن أمثال هؤلاء يُرجَى الفلاح.
قال السيد لتلميذه في رواية صاحب المنار: «إنما أنت مثبط، نحن قد شرعنا في العمل ولا بد من المضي فيه، ما دمنا نرى منفذًا.»
ولكنه اختلاف الفطرة والاستعداد بين هذين الإمامين العظيمين؛ أحدهما خُلِق للتعليم والتهذيب، والآخَر خُلِق للدعوة والحركة في مجال العمل السياسي والثورة «الأممية»، وظل المعلم المهذب على رأيه وعلى فطرته في انتظار الفرصة الملائمة لأداء رسالته على حسب استعداده.
فلما عاد إلى مصر كان في مَرْجُوِّه أن يُسنَد إليه عمل من أعمال التدريس في معاهده العليا التي لا يعوقه فيها عائق من التقاليد الموروثة عن الانتفاع ببرامج الثقافة العصرية، وأقرب هذه المعاهد إليه وأشبهها بعمله وبالرسالة التي أجمع العزم على أدائها هو معهد دار العلوم، يجمع بين ثقافة الأزهر وثقافة العصر الحديث.
غير أن ولاة الأمر أوجسوا — على ما يظهر — من إسناد وظيفة التدريس في دار العلوم إلى رجل مثله في إيمانه بقوة التعليم، واقتداره على بث هذه القوة في نفوس الناشئة من معلِّمي المستقبل، ومنهم مئات يتولَّون تعليم أبناء القُطْر كله بعد سنوات، وينشرون في أنحائه بذور نهضة متشعِّبة الأطراف، هي أخطر على ولاة الأمر من الثورة العرابية التي أخمدوها وخُيِّلَ إليهم أنهم استراحوا منها.
فأبعدوه عن وظائف التعليم واختاروا له وظيفة القضاء، وهي وظيفة لُوحِظ فيها علمه بالشريعة ونزاهته في الحكم، وكفايته لتوجيه المحاكم الجديدة إلى وجهتها الصالحة في أوائل نشأتها، ولكن لم تُلاحَظ فيها رغبته ولا كفايته للإصلاح من طريقة التربية والتعليم، وكان خليقًا أن يقبلها لو أنه نظر إلى مستقبله ولم ينظر إلى مستقبل رسالته في الإصلاح؛ لأن درجات الارتقاء فيها ممهدة إلى أرفعها وأعلاها في مناصب الدولة، ولم يكن للمعلم في ذلك الحين مستقبل أرفع من مستقبل النظارة على مدرسة من المدارس الصغيرة؛ لأن نظارة المدارس الثانوية والمدارس العليا كانت موقوفة يومئذٍ على الإنجليز والأجانب، ولم يكن ناظر المدرسة الابتدائية يرتقي إلى درجته إلا وهو على باب الإحالة إلى المعاش. فلما حيل بينه وبين معاهد التعليم، أَسِفَ لذلك وأوشك أن يستعفي ولاة الأمور من وظيفته القضائية؛ لأنه — كما قال — جرَّب عمله في التعليم، وعلم أنه خُلِق له ولم يُخلَق «ليقول حكمت على هذا وحكمت لذاك …»
•••
إن الذي خُلِق للتعليم يعلِّم حيث شاء، ويتعلم ما استطاع، وقد كان القاضي «محمد عبده» معلِّمًا في أحكامه، كما روى عنه الذين شهدوا جلساته وسمعوا كلماته التي كان يلقيها على المتهمين وعلى الحاضرين في الجلسة قبل النطق بحكم الإدانة، وكانت له لازمة اشتهرت عنه بين زوار المحاكم قبل تلاوة الحكم، وزعم بعضهم يومئذٍ أنها كانت خاصة بالأحكام المشدَّدة، وتروى فيما نظن أنها من لوازم التأمل ومراجعة الفكر عند كثير من المعمَّمين أو المطربَشين، وهي زحزحة العمامة أو الطربوش إلى الأمام بحركة لدنية تنمُّ على الاستغراق في التفكير، وكانت تلازم القاضي محمد عبده ثم ظلت ملازمة له بعد الانتقال من وظائف القضاء، كما سمعت من أصحابه وعشرائه، ولا نظنها كانت خاصة بالأحكام المشددة دون غيرها، إلا أن يكون تشديد الحكم مستدعيًا للأناة والتأمل قبل النطق به مراجَعَةً للفكر وإبراءً للذمة، ولا نخالها — على أية حال — إلا علامة من علامات التفكير وإعادة النظر فيما يلقيه من النصائح ويمليه من الأحكام.
وقد نظر فيما يتعلمه لوظيفته، فعُلِم أنه بحاجة إلى التوسع في مبادئ القانون الجنائي الذي تعمل به المحاكم؛ لأن القانون المدني يجري على أحكام الشريعة في مسائل المواريث وحقوق المال والمعاملة، وعلم أن المراجع العربية لهذه القوانين لا تعطيه كفايته من الإحاطة الواجبة بتلك المبادئ في أصولها المأثورة عند فلاسفة التشريع الغربيين، فشرع في تعلُّم اللغة الفرنسية وثابر على تعلُّمها بعد انتقاله من وظائف القصاء، ولم يسبق له درس هذه اللغة في غير كتب الهجاء التي ألَمَّ بها وهو في الرابعة والأربعين من عمره، ثم شغلته عنها شواغل الثورة العرابية، فلما عاد إلى تعلُّمها لم يقنع بما وعاه منها للقراءة والفهم، ولم تقعده صعوبة الكلام بلفظها الصحيح عن متابعة الدرس في القاهرة وفي رحلاته إلى البلاد الأوروبية، فحرص على حضور دروس العطلة الصيفية بجامعة جنيف أثناء رحلته إلى سويسرا، وكان يُعنَى على الخصوص باستماع محاضرات العلماء في الآداب الأوروبية وفلسفة التاريخ، ولم يَزَلْ يقرأ ويستمع حتى جاوز في اللغة مرتبة الفهم والمطالعة إلى مرتبة الإفهام والكتابة.
قال الدكتور عثمان أمين في كتابه عن الأستاذ الإمام من سلسلة أعلام الإسلام: «لقد أجمع أصحاب الأستاذ الإمام وخاصته على أنه أتقن اللغة الفرنساوية تحدُّثًا وقراءةً وفهمًا، على الرغم من قرب عهده بتعلُّمها، وهذا ما شهد به أخيرًا الأستاذ لطفي السيد (باشا) حين ذكر أن الشيخ محمد عبده هو الذي كان يجلو لإخوانه المصريين ما غمض من عبارات الفيلسوف الفرنساوي «تين» في كتابه المشهور عن الذهن، ونحن نعلم من جهة أخرى أن الأستاذ الإمام قد أملى في مرض موته فصلًا بالفرنساوية نشره المسيو دي جرفيل في كتابه عن مصر الحديثة بعنوان «وصية سياسية للمرحوم المفتي الشيخ محمد عبده»، كما نعلم أن الشيخ قد ترجم عن الفرنساوية كتاب التربية للفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر ترجمةً تدل على تمكُّنه من تلك اللغة …»
•••
وتأبى مَلَكَة التعليم إذا تمكَّنت من صاحبها أن تتوارى، ولها مندوحة للبروز في حركة من حركات ذهنه أو شواغل حياته؛ فقد كان القاضي التلميذ يتلقى دروسه الأولى في اللغة الفرنسية وكأنه يعلِّم أستاذه كيف يعلِّمه تلك الدروس، وكيف يختار له أوجزها وأنفعها لمثله، وهداه إلهام البديهة إلى منهج في تعليم اللغات للكبار على الخصوص لم يكن معلومًا في ذلك الحين، ولم ينتشر قطُّ في البلاد الغربية أو الشرقية قبل وفاته، ونعني به منهج التعليم الذي أطلقوا عليه بعد ذلك اسم المنهج الكلي، أو منهج الابتداء بالكلام المُجْمَل والانتهاء إلى التفاصيل المتفرعة عليه، ويؤثر المعلِّمون على هذا المنهج أن يبدأ قارئ اللغة بقراءة الجملة، ثم يتعلم تفسيرها بفهم مفرداتها على حدة، ثم يلمُّ بقواعدها الضرورية، أو بآجروميتها ونحوها وصرفها وبلاغتها، من توضيح موقع الكلمة بالنسبة إلى الكلمات الأخرى وإلى التراكيب التي تحتويها.
جاءه المعلم وفي يده كتاب من كتب الآجرومية الأولية، فقال للمعلم: لا وقت عندي للابتداء من البداية، فَلْنبدأ من حيث ننتهي، وتناول قصة من قصص إسكندر دوماس ليقرأ عبارتها ويستمع تصحيح المعلم لنطقه وتفسيره لمعانيها … قال: أما ما عدا ذلك فهو عملي، والنحو يأتي في أثناء العمل، وعلى هذا المنهج أتمَّ الكتاب وأتبعه بكتابين آخَرين، وتعوَّد بعد الدرس أن يطالع ما قرأه على المعلم منفردًا بصوت مرتفع، ليسمع نطقه ويتذكر مواضع خطئه وتصحيح معلِّمه، واختبر في نفسه نجاح هذا المنهج، فأوصى به مَن كان يعرفهم من طلاب اللغة الفرنسية، ومنه استفاد الشاعر حافظ إبراهيم فوائد حسنة في هذا الباب، كما سمعت منه وهو يحدثنا عن محاولته الاولى لترجمة كتاب «البؤساء».
•••
ومثل هذا التمكُّن في مَلَكَة التعليم خليق أن يزيدنا بصرًا بطبيعة هذه المَلَكَة، حيثما برزت لنا في أعمال ذوي الاستعداد الفطري لتعليم الناس أفرادًا كانوا أو جماعات، فضلًا عن نفعها لنا في التبصير بترجمة الأستاذ الإمام، أو بما سميناه محور حياته وأردنا به ذلك المرجع النفساني الذي نرجع إليه لنهتدي به إلى بواعث نفسه ومقاصد سعيه واجتهاده، ويبدو من بروز هذه المَلَكَة وإلحاحها على خواطر المستعدين لها وبوادر نفوسهم وأذهانهم أنها عبقرية خاصة من تلك العبقريات الروحية، التي تُخلَق في الإنسان ومعها حافز لا يستريح من حوافز الغيرة على إنجاز عملها والحماسة لتحقيق مقاصدها، وشأنها في ذلك شأن كل عبقرية موهوبة تُطبَع على أداء رسالتها في عالم العقيدة والإيمان، أو في عالم الفن والجمال، فلا يهدأ صاحب هذه العبقرية أو يبلغ رسالته، ولو صدت الأسماع عنه أو حالت الحوائل القاسرة بينه وبين مَن يستمع إليه، ومَن كان مطبوعًا على عبقرية التعليم فليس قصاراه من الإفضاء بعلمه أن ينقل طائفة من المعلومات المحفوظة من رأسه إلى رءوس غيره؛ تلك رسالة لا نفخة فيها من الروح، ولا مدد لها من السليقة، وهي أشبه بنقل الصفحات من نسخة إلى نسخة تمر بالسمع أو تمر بالفكر على الأكثر، ولا تسري منه إلى سرائر النفس ولا تتخطاه إلى بواعث الحياة، وهو عمل كعمل المأجور المسخَّر لإرادة غيره، ولا إرادة له ولا غيرة عنده ولا إخلاص في تفهيم ما يلقيه في آذان مستمعيه، وسواء عنده عملوا بما يعلمون، أو لم يكن لهم عمل قطُّ بعد فراغه من إلقاء تلك المعلومات وتقاضيه الأجر الذي سخَّروه له، كأنه مُجبَر عليه.
وعلى غير هذا من النقيض إلى النقيض يعمل صاحب العبقرية المطبوعة على التعليم، فإنه يعلِّم ليدفع المتعلمين إلى عمل ويستنيرهم إلى غاية، ويبث في نفوسهم من الحماسة مثل ما انطوى عليه في أعماق ضميره من الحماسة لعمله وغايته، ولا مطمع له في أجر يناله منهم أو من سواهم، بل هو يعطي الأجر ويجزله لو استطاع، وليس بالسائغ في طبعه أن يتحمَّل العِلَل لإعفاء نفسه من عناء عمله إذا توانى المتعلمون على يديه ولم يستجيبوا لدعوته بمثل حميته وإخلاصه؛ لأنه يحسب استجابتهم غاية له تعنيه قبل أن تعنيهم، وإن كان فيها غاية النفع لأولئك المتعلمين عليه.
وأكثر ما يكون هذا الباعث الوجداني في نفوس المعلِّمين المطبوعين خصلة من خصال النخوة الإنسانية في كل ما تمثَّلت فيه من غوث الضعيف، والرثاء للذليل، وكراهية الجهل المذل للمُبْتَلِين به من ضحايا الغفلة والغباء وصرعى الظلم والخديعة، ولا يثير هذه النخوة شيء كما تثيرها عزة الظالم الخادع واستكانة الجاهل الغافل، ولكنها نخوة ترتفع مع ارتفاع الهمم وتقوى مع قوة الطباع، فلا تقنع بمحاربة الجهل في واحد وآحاد وهي قادرة على محاربته في جماعات وأقوام، ولا تقصر الغوث على الدرس وهي قادرة على غوث للضعيف المفتقِر إليه كيفما كان.
وأعمق ما تكون النخوة إذا كانت سجية موروثة تنتقل من الأجداد إلى الآباء والأبناء، كما رأيناها في أسرة أستاذنا الإمام منذ عُرِفت لهم أعمال ورُوِيت عنهم أخبار.
فهم في قريتهم الصغيرة كرام يجودون بما عندهم، ويأبون الضيم لأنفسهم ولمن يلوذ بهم من جيرتهم، وقد كان أكبر ذنوبهم عند الأقوياء أنهم يأوون إليهم طرداءهم المطلوبين، ويشدون أزرهم بمعونة رجالهم وبقوة السلاح إذا وجدوا السلاح الذي ينفعهم في مقاومتهم، ومَن لم يستطع منهم أن يقاوم القوة بالقوة لم يصبر على الضيم في بلده، وآثر أن ينجو منه بكرامته وإن ضيَّع بعده كل تراثه من آبائه، غير هذا التراث المضنون به على الضياع.
قيل إن العبقري يستنزف من أسرته صفوة اللباب من خلائقها الحيوية أو مَلَكَاتها الذهنية، وقيل إنه من أجل ذلك قلما ينجب الذرية من العباقرة أمثاله، وإن ذريته لا تزال عرضة لنقص العمر أو نقص التكوين، وكل ما قيل من هذا القبيل هو تشبيه على المجاز لا يخلو من المبالغة التي تعرض لكل تشبيه، ولكنه كذلك لا يخلو من الصحة التي تؤيدها مشاهدات الواقع. ومن هذه المشاهدات أن طابع الأسرة المأثور عنها كثيرًا ما يتجلى في عبقريتها مكبرًا مهيمنًا منبعثًا على جادته في غير هوادة، وأنه في انبعاثه عَصِيٌّ على الكبح والتوقف دون قِبْلته التي ينساق إليها، وكأنما هو غريزة من الغرائز النوعية يخلق للفرد إرادة نوع كامل، يوشك ألا يملك معه إرادته الفردية في سبيل بقاء النوع وارتقائه.
وأحرى الخصال أن تورث في أسرة صاحب الترجمة هي تلك النخوة الإنسانية في كل ما تمثَّلت فيه — كما أسلفنا — من غوث الضعيف والرثاء للذليل وكراهة الجهل المذل للمُبْتَلِين به من ضحايا الغفلة والغباء؛ ورثها نخوة إنسان وأصبحت فيه نخوة معلم مطبوع على التعليم، لأنه لم يملك سلاحًا للنخوة أقوى من تعليم المغلوبين المستضعَفين، ولكنه لم يكن بالبداهة معطل النخوة فيما يملكه من أسبابها غير هذا السلاح الذي كان أنفذ سلاح في يديه؛ لأن أعماله في إغاثة الملهوفين وإنصاف المظلومين كادت أن تكون وحدها وظيفة حياة عامرة بالمآثر حافلة بالحسنات، وسيأتي من بيان هذه المآثر والحسنات ما يتسع له موضعه من هذا الكتاب، ولكننا نوجزه إذا قلنا إنه لم تُسمَع في حياته دعوة إلى الغوث والإحسان تنفيسًا عن المكروبين في فواجع هذا البلد أو إعانة للمعوزين من ضعفائه، إلا كان هو صاحب الدعوة، أو كان في مقدمة الملبِّين لها والعاملين على نجاحها ودوام أثرها.
وكاتب هذه السطور قد سمع بمحمد عبده نصير المظلوم قبل أن يسمع بمحمد عبده المُصلِح العظيم.
سمعت في بلدتي بأقصى الصعيد، وفي باكورة صباي، بمأثرة من مآثر هذا القلب الكبير، لم تكن إلا مثلًا واحدًا من مئات المآثر التي سمعنا بها بعد ذلك حيث نزلنا من أقاليم هذا البلد، ولا يزال الكثير منه معروفًا مرويًّا في إقليمه، وإن لم يصل نبأه إلى غير أهله.
شغلت بلدتي — أسوان — قضية كبيرة تقلبت بين محاكم الصعيد والعاصمة أكثر من عشر سنوات، وأوشك الخصم القوي فيها أن يظفر بالحكم الأخير وأن يجرد خصمه الضعيف من حقه، مستعرًا عليه بقوة المال والجاه وسعة الحول والحيلة، وقد شاعت الإشاعات التي تحقَّقت بعد ذلك عن الرشوة المبذولة بألوف الجنيهات، ثمنًا لذلك الحكم الأخير الذي ينقضي به الأمر ولا يقبل المراجعة والاستئناف.
وقبل صدور الحكم بأيام، يلتقي الخصم الضعيف بنائب بلدته في مجلس الشورى، فيستمع منه لإشاعة الرشوة ويرجحها له بما علمه من توكيد أنصار الخصم القوي ومن قسم مغلظ أقسمه أمامه أقربهم إليه: ليصدرنَّ الحكم كما أملاه صاحبهم عليَّ — فلان باشا — وَلْيسمعن نبأه بعد أيام!
وكان نائب البلدة في مجلس الشورى يعرف الأستاذ الإمام من زمالته له في المجلس، فاصطحب المسكين إلى عين شمس، وترك صاحب القضية يبسطها للأستاذ الإمام بسذاجته التي تنمُّ على الصدق الأليم والحسرة البالغة، فلم يَكَدْ هذا الرجل المثقل بشواغل وطنه الكبار يستمع إلى كلمة المظلمة والرشوة، حتى اعتذر لضيوفه جميعًا وأفرغ من وقته زهاء ساعتين للإصغاء إلى قصة هذه القضية منذ نشأت قبل عشرة أعوام، وترك الرجل يقول ويعيد كما يشاء على ديدن المظلوم الملهوف في سذاجته وابتهاله واضطراب نفسه بين خوفه وأمله، فلم يتعجله ولم يقتضب عليه لجاجة شرحه وتكراره، ولم يَدَعْه تلك الليلة إلا على وعد بأن يلقاه عند باب وزارة العدل، في موعد افتتاح الدواوين.
وفي اليوم التالي لم يذهب المفتي إلى دار الإفتاء، بل توجَّه توًّا إلى دار وزارة العدل، وكلَّف الرئيس المسئول أن يبعث في طلب «ملف القضية» من المحكمة، فقضى اليوم يراجع أوراق الملف مراجعة القاضي الخبير بأصالة الأسانيد، وأساليب المراوغة، وعلامات الغرض والتمحل في التأجيل والتعجيل، وأيقن بصدق الدعوى وخطر الحكم المنتظَر فيها، فصنع ما لا ترتقي الشبهة إلى ذمته وعلمه، وصدر الحكم الأخير بالحق الذي يعرفه أهل البلدة جميعًا، فظل أبناؤها يتحدثون بهذه القضية كما يتحدث المؤمنون بكرامة القديسين، وكان يوم وفاته — رحمه الله — مأتمًا في البلدة تبادل فيه الناس العزاء في المساجد، ونودي بنعيه على المآذن، وتقرَّب فيه المحسنون بالذبائح والصدقات على جوانب الطرقات.
بلغت فيه طيبة النفس إلى درجة تكاد تكون غير محدودة، كان يجذبه الخير كما يجذب المغناطيس الحديد، فيندفع إليه ويسعى إلى كل نفع للغير عام أو خاص. كان ملجأ الفقراء واليتامى والمظلومين، والمرفوتين والمصابين بأي مصيبة كانت، وأهل الأزهر الذين هم أكثر الناس احتياجًا إلى المساعدة؛ لأنهم في وسط المدينة الحاضرة المتأخرون العاجزون عن الدفاع عن أنفسهم في ميدان حياتنا الجديدة، يبذل إليهم ماله ويسعى لهم عند ولاة الأمور بهمة لا تعرف الملل، كأنما كان يسعى لأعز إنسان لديه؛ يسعى مرة ومرتين وثلاثًا إلى أن يقضي حاجتهم، وهم جميعهم في نظره مستحقون، سواء كانوا كذلك في الحقيقة أم لا، بل كان يسعى إلى صاحب الحاجة وهو يعلم أنه أساء إليه وقدح فيه وتحالف مع خصومه في ترويج عبارات القذف والنميمة التي لم تنقطع عنه مدة حياته، ولا يصل الإنسان إلى هذا الخُلُق العظيم إلا إذا ربَّى نفسه على أن تتغلب على الغرائز القبيحة الملازمة للطبيعة البشرية، وصار حاكمًا عليها يحاسبها على كل عمل أو نزعة أو فكرة أو خاطر مما يَرِدُ عليها. كان الأستاذ يرى أن الشر لا فائدة له مطلقًا، وأن التسامح والعفو عن كل شيء وعن كل شخص هما أحسن ما يُعالَج به السوء ويفيد في إصلاح فاعله …
مَن يرى أن الحياة لهو، وزُيِّنَ له أن يعيش ليأكل ويشرب ويسافر وينتقد أفكار الباحثين وعمل العاملين، أولئك لا يعلمون أن إمام مصر كان محركًا بقوة فوق الاعتيادية، وأن عقله كان ملآنًا بالفكر إلى حد أنه كان لا يسعه كله، إلى حد أنه كان يفيض منه بالرغم، وأن قلبه كان ملتهبًا بحب وطنه فلا يستريح إلا وهو مشغول به وبسعادته وبمستقبله، وأنه كان مثل جميع نوابغ الرجال لا يبالي بالألم الذي يأتيه بسبب أمنيته التي كان يعزها، بل كان يجد الألم فيها لذيذًا كما يلتذُّ العاشق بما يقاسيه من العذاب في هذا القبيل، ثم رأيته في الغد منغمسًا فيه أكثر مما كان؛ ذلك لأنه كان بعكس ما يراه عموم المصريين في أنفسهم، عنده أمل لا يزعزعه شيء في إصلاح أمته …
يقول قاسم هذا، وربما كان هو — رحمه الله — أحد أصدقائه المشفقين الذين كانوا يكفكفونه أحيانًا عن إرهاق نفسه بالجهد والمجاهدة، كلما شعروا بحاجته إلى الراحة والدعة وأوجسوا خيفة على صحته، بل على حياته، من عنت خصومه ومصاعب الإصلاح في بيئته، مع فساد الزمن وغلبة الجهل والهوى على نفوس الغافلين المتهاونين، فضلًا عن المغرضين المتعمدين للإحباط والإيذاء، وهم في ذلك الزمن وفي تلك البيئة كثيرون.
وسمعت من زعيمين عاصراه وعاشراه كلامًا كالذي قاله قاسم في تأبينه، وذكر فيه وعده بالكف عن الجهد فيما يحاول من السعي العقيم والكفاح المقعد المقيم، ثم عودته بعد قليل إلى مثل ما كان فيه، بل أشد مما كان فيه … وأحد الزعيمين كانت له عليه جرأة الصديق الند وهو الزعيم سعد زغلول، والآخَر كان منه بمثابة الأخ الصغير في بعض أعمال الإصلاح وأعمال الخير والإحسان، وكان أولهما يصرف صرفًا عن بعض محاولاته التي كانت ديدنه الشاغل له في أخريات عمله بوظيفة الإفتاء، فقال له من حوار مطوَّل لا نثبته هنا بتفصيلاته: «أخشى أن يُفسِدك هؤلاء القوم قبل أن تصلحهم …» وكان الآخَر — محمد محمود رحمه الله — يعيد عليه قوله مشيرًا إلى الخديو عباس الثاني: «إن هذا «القولي» يريد أن يقتلك، فلا تمكنه من بغيته.» ويريد بالقولي نسبة الخديو عباس إلى «قولة» موطن جده محمد علي الكبير.
وموضع النظر في كلام قاسم وصاحبَيْه أن الإصلاح لم يكن في حياة هذا المُصلِح الغيور عملًا من أعمال الإرادة، يدبره لنفسه كتدبير المرء لما ينفعه ويريحه أو يعفيه من التعب والمشقة، ولكنه كان باعثًا نفسانيًّا مستحكمًا في ذلك القلب الكبير، يغلبه على إرادته ويخلق له إرادة نوع كامل في بنية إنسان واحد، وإن يكن من أعظم بني الإنسان … وذلك ما عناه قاسم بشغف العاشق بما يؤلمه ويضنيه، وعنيناه بالعبقرية المطبوعة التي تلخصها كلمة «النخوة»، وتدل سيرته وسيرة أهله على أنها خليقة موروثة فيه، وأنها أقوى بواعثه إلى رسالة حياته، وهي رسالة التعليم.
ولنا أن نقول: إن النخوة الإنسانية في نطاقها الواسع هي محور هذه الحياة في نواحيها الكثيرة، وإن رسالة التعليم عنده إنما كانت في صميمها رسالة خلقية قبل أن تتجه إلى وجهتها الفكرية، فلم يكن يعنيه أن يعلِّم لينقل إلى الناس «معلومات» يجهلونها وكفى، ولكنه كان يعلِّم ليحفز الناس إلى عمل يتوانون عنه، ويحملهم على خُلُق يُحبِّب إليهم ذلك العمل ويساعدهم عليه.
ولعلنا لم نخطئ إذ بدأنا السِّير كلها بهذا التمهيد عن هذه العبقرية من ناحيتيها الخلقية والفكرية، فإنها بمثابة الأساس الذي تقوم عليه حوادث الترجمة منذ بدأ الأستاذ الإمام حياته العاملة في نحو العشرين، إلى أن فارق الحياة في نحو السادسة والخمسين، فأيما حادث تردَّد فيه رأي المؤرخ وحكم الناقد، فإنما تقوم أصالته في هذه الحياة بمقدار ثبوته على ذلك الأساس.