مع جمال الدين
كان لقاء السيد جمال الدين الأفغاني أهم حادث في تربية الفتى الناشئ محمد عبده؛ لأنه رده إلى سجيته وأقامه على جادة العلم والعمل التي استقام عليها بعد ذلك طول حياته، واستقل بها حسب استعداده وفطرته حتى استقل بها آخِر الأمر عن طريق أستاذه، بعد أن فرَّقتهما الحوادث اضطرارًا، ووجب أن يعمل كلٌّ منهما على جادته ومنهاجه.
كان الفتى الناشئ (محمد عبده) قبل لقاء جمال الدين أشبه شيء بالطائر المغمى عليه قبل امتحان المدرِّبين له في ضوء النهار، للتثبُّت من سلوك مطاره إلى غايته القصوى.
ويقال إن هذا الطائر لا يزال بعد خروجه من الظلام يتلمس طريقه ارتفاعًا وانحدارًا، ويستقبل الوجهة ثم ينحرف عنها حتى ينطلق من حيرته على ثقة، فيعتدل إلى الغاية التي ينويها، فلا حيرة بعد ذلك ولا إحجام عن تلك الغاية إلى أقصاها.
وكذلك كان محمد عبده بين الحيرة والإحجام قبل التقائه بجمال الدين؛ صدمته الحياة العامة كما يُصدَم بها كل شاب يخرج من معيشته في الأسرة على المودة والعطف إلى معيشة الكفاح بين الناس على سنتها من الرياء والأثرة وتنازع البقاء، وكان يشكو هذا الحال إلى شيخه القروي من أخوال أبيه كما قال في ترجمته: «فذكرت له اشمئزازي من الناس وزهادتي في معاشرتهم وثقلهم على نفسي إذا لقيتهم، وبعدهم عن الحق ونفرتهم منه إذا عُرِض عليهم، فقال لي: هذا من أقوى الدواعي إلى ما حثثتك عليه، فلو كانوا جميعًا هداة مَهْدِيِّين لما كانوا في حاجة إليك. ثم أخذ يستصحبني في مجالس العامة ويفتح الكلام في الشئون المختلفة ويوجِّه إليَّ الخطاب لأتكلم، فيتكلم الحاضرون فأجيبهم، وأنطلق في القول على وجل في الأمر، وما زال بي حتى وجد عندي شيئًا من الألفة مع الناس والاستئناس بمكالمتهم، وفي شوال من تلك السنة ودَّعني وبكى بكاء شديدًا ومات في السنة التالية.»
وفي هذه السنة — سنة ١٨٧١ — وفد السيد جمال الدين إلى القاهرة قادمًا من الآستانة، فوجد الفتى الناشئ حيث تركه شيخه القروي بين طريق العزلة وطريق العمل مع الناس، ولكنه حين مضى في هذا الطريق يخطو خطواته الأولى، فَقَدَ شيخه الصوفي ولم يجد لعقله هاديًا يعمل أمامه ويتجه ببصره المتطلع إلى غاية مداه؛ لأنه كان يدرِّس علوم العقل على أساتذةٍ يُحسِنون شرح النظريات، ويبسطون القول في الشكوك والموانع، ثم لا ينتهون منها إلى قِبْلة يستقيم عليها السالك على قدر جهده في طريقه المرسوم.
وكان جمال الدين قد مر بمثل هذا الدور في مثل سنه؛ كان قد زهد في صحبة الناس فاعتزلهم، وخرج من طريق العزلة إلى طريق العمل، وكان يفهم أن الفناء في الله اعتزال للعالم، فعاد يفهم أن الفناء في الله إنما هو فناء في خلقه، أو كما كان يقول لتلاميذه، في رواية الشيخ عبد القادر المغربي: «أنا لا أفهم معنى لقولهم الفناء في الله … وإنما الفناء يكون في خلق الله؛ تعليمهم وتنبيههم إلى وسائل سعادتهم وما فيه خيرهم.»
وقد كتب عنه تلميذه المسيحي أديب إسحاق، وهو في هذا الدور بين العزلة والعمل فقال: «إنه تبحَّر في المنقول والمعقول، وغلبت عليه مذاهب قدماء الحكماء، فداخله من ذلك بداءة بدء شيء من التصوف، فانقطع حينًا بمنزله يطلب الخلوة لكشف الطريقة وإدراك الحقيقة، حتى صار له في القوم كثير من الأتباع والمريدين، كل ذلك وهو دون العشرين.»
ولم يكن لجمال الدين أستاذ يجتذبه من حياة الخلوة والعزلة إلى حياة العمل والجهاد، ولكن الحوادث كانت لها صيحة في مسمعه أقوى من صيحة الإمام المرشد، فاقتحم معركة الحياة لينصر فريقًا على فريق من أولياء الأمر في وطنه، وانتصر جمال الدين للأمير محمد أعظم خان: «فشهد الحروب وحضر الوقائع، فازداد جرأة واستخفافًا بالموت، وأقام في ذلك تسعة أعوام لا يرى الراحة ولا يستقر بمكان، دارت الدائرة على محمد أعظم خان فانصرف الأولياء عنه إلا جمال الدين …»
حضر التلميذ على أستاذه دروسًا نافعة في كتب المنطق والحكمة والتصوف وأصول الدين، ولكن الدروس الروحية التي كانت تسري من أحاديث هذا المصلح العظيم كانت أعظم وقعًا وأعمق أثرًا من دروس الأوراق والأسفار، ولم تكن شروحه للأسفار التي كان يقرؤها على تلاميذه معاني «فكرية» تستخرج من ألفاظها «القاموسية» على عادة الشرَّاح الذين يقفون بالعبارات عند ألفاظها ومعانيها، ولكنه — كما سمعنا من مريديه الذين عرفناهم — كان يشرح العبارة ليستخرج منها قوة حية تسري إلى النفس فتحركها إلى العمل، وكأنما الكلمات المشروحة على لسانه تلك المفاتيح الصغيرة التي تدار فتنبعث منها قوى من الكهرباء لا يستقر عليها قرار.
وخير الأساتذة، على ما نعلم، هو الأستاذ الذي ينبه في التلميذ مَلَكَات ذهنه وضميره، ويستجيش في قرارة طبعه غاية وسعه من الاجتهاد والهمة على حسب فطرته واستعداده، فليس بخير الأساتذة مَن يجعل تلاميذه نُسَخًا منه تحكيه ولا تزيد من عندها شيئًا غير الاقتداء به والعمل على غراره، فهذه هي تربية التقليد والمحاكاة تصلح للذين خُلِقوا للاتباع، ولا تصلح للذين خُلِقوا على نصيبٍ من قدرة الاستقلال والاجتهاد.
وهكذا كانت تربية جمال الدين لمحمد عبده وهو يخطو خطواته الأولى على طريق العمل والإصلاح؛ إنه يخلق فيه مَلَكَة كانت ممدودة فيه، ولكنه رده إلى طبيعته العملية وعزز فيه تلك الثقة التي لا غنى عنها لمَن يتولَّى عظائم الأمور، وينهض إلى الغاية العصية والمطلب البعيد.
ولم تكن الطبيعة العملية طارئًا جديدًا على سليقة الفتى الذي شبَّ عن الطوق وهو يركب الخيل، ويحمل السلاح، ويتمرس برياضة الفروسية.
ولم تكن الثقة بالنفس طارئًا جديدًا على سليقة الطالب الناشئ الذي استقل برأيه في الحكم على تعليم زمنه بالعقم والجمود، ومن حوله ألوف المتعلمين والعلماء يتهمون أنفسهم ولا تهجس في قلوبهم هاجسة من الشك في صلاح ذلك التعليم ووجوب الصبر على مصاعبه وألغازه.
وقد لمح الأستاذ البصير ملامح تلك الثقة المكينة في نفس ذلك الطالب الصغير، وكان يعجب لتلك الثقة المطبوعة التي لا تكلُّف فيها، فيسأله مغتبِطًا راضيًا: قل لي بالله، أي أبناء الملوك أنت؟
ولكن تربية جمال الدين وزنت تلك الثقة بمقدار رسالتها الكبرى التي تهيَّأت لها بنزعاتها وآمالها، واقتدرت عليها بطموحها واستعدادها، لم تتهيبها ولم تنكص عنها حين علمت مداها، وعلمت أنه المدى الذي لا سبيل إلى الوفاء فيه قبل بلوغه، وهو نهضة العالم الإسلامي بين مشارق الأرض ومغاربها، نهضة العالم الإسلامي في وجه الدول العظمى، بل في وجه ملوكه وأمرائه المتألبين عليه، بل في وجه أبنائه الكارهين للإصلاح كراهة الطفل المريض لمذاق الدواء.
وكانت خطة جمال الدين للإصلاح أن يبدأ بتأسيس دولة واحدة على الأقل صالحة لقيادة العالم الإسلامي كله في معترك السياسة الدولية، وفي تنفيذ برامج النهضة والهداية العملية.
وكانت هذه الخطة تتمة معقولة للفاتحة التي افتتح بها جمال الدين حياته وهو في نحو العشرين؛ لأنه افتتحها بالجهاد في سبيل إمارة يقيمها للأمير الذي آمن بصلاحه وحسن الرجاء في ولايته، فإذا خطر له أنه قادر على أعباء هذه الخطة حيث كان — في وطنه أو غير وطنه — فهو خاطر ليس بالغريب على الرجل الذي بدأ بتلك الفاتحة في مطلع شبابه.
ولكن الفتى الفلَّاح لم يستهول الغاية التي طمح إليها ربيب بيت الوزارة، كيفما كانت الخطة التي تنتهي إليها.
ونرجع هنا إلى سليقة التصوف عند الرجلين، لنعرف منها سر هذا الإقدام في أمور تلك الممالك والعروش، فإن التصوف في لبابه كفء — بل أكبر من كفء — لمواجهة سلطان المالكين وأرباب التيجان المتحكمين.
وألزم خلائق الصوفي المطبوع أنه يستخف بعظمة الدنيا، وأنه تهون عليه رهبتها ورغبتها فلا يهابها ولا يتهالك عليها، وأزهد من الصوفي الذي لا يملك الدنيا ذلك الصوفي الذي لا تملكه الدنيا ولا يدخله الوجل ممَّن يملكونها.
وقد ثبت هذا الخُلُق من هذين الرجلين ثبات السليقة المتأصلة فيهما، فلم يكن من عمل عادة متبوعة ولا من عمل تربية مكسوبة، وكان جمال الدين يعبث بحبات سبحته في حضرة السلطان عبد الحميد، وينبهه رئيس الديوان إلى قواعد التشريفة، فيجيبه ساخرًا: «مه يا هذا … إن السلطان يلعب بحياة ثلاثين مليونًا من بني آدم، أفلا يلعب جمال الدين بثلاثين حبة من حبات الكهرمان.»
وكان الخديو عباس الثاني يشكو من مسلك محمد عبده في حضرته ويقول: إنه يدخل عليَّ كأنه فرعون! … ويستمع محمد عبده إلى هذه الشكوى فلا يزيد على أن يقول: وأينا فرعون؟
وقد نزل جمال الدين بمصر وهي على حالٍ كتلك الحال التي أخرجته من عزلته لينصر أحد الأميرين على أخيه؛ إذ كان الغيورون على البلد يخشون العواقب عليه إذا طال فيه حكم إسماعيل، ويفكرون في خلعه بإغراء الدول أو إغراء السلطان، وإسناد العرش إلى خليفته محمد توفيق، ولم يلبث جمال الدين أن تقدَّم الدعاة إلى هذا الانقلاب، فجمع الأنصار من مريديه والمعجَبين به لمخاطبة وكلاء الدول باسم الأمة، وصارحهم بذلك، فاتخذوا من موافقته على خلع إسماعيل حجة عند حكوماتهم على موافقة الحزب المستنير في مصر لهذه السياسة التي كانت تتردد فيها بين الوعد والتنفيذ.
أما محمد عبده فقد كان عمله في هذه الحركة أوفق لسِنِّه وأقرب إلى مزاجه الرياضي في شبابه؛ كان على عزيمة صادقة أن يزيل إسماعيل بيده، إن لم ينزل عن العرش باختياره أو يصدر الأمر من السلطان بعزله.
وكانت خديعة الخديو توفيق — مع ضعفه عن إنجاز وعوده — أول خيبة مُنِي بها جمال الدين في خطته مع الأمراء والملوك، فإنه ظل يتودد إلى جمال الدين وأنصاره بعد ارتقائه العرش ويؤكد له كلما لقيه أنه يعتمد عليه، وأنه «كل أمله في مصر» لتحقيق برامج الإصلاح، ولكنه ضعف عن مقاومة الدول، وبلغ من مطاوعته لهم أنه كان يُطلِعهم على مطالب زعماء البلد منهم قبل النظر فيها … ومن كلام أخصائه الإنجليز — وبينهم المؤرخ المشهور ألفريد بتلر — أنه كان يحتفل بمجاملتهم بين كبار موظفيه، فيقضي الساعات يتكلم معهم باللغة الإنجليزية التي لا يعرفها أولئك الموظفون، ويذكر الأسماء بالحروف الهجائية في سياق أحاديثه ليخفي موضوع الكلام عن سامعيه الذين يعرفون أصحاب تلك الأسماء، ويفضي في هذه الأحاديث بأخبار من المعلومات الخاصة والأوراق المحفوظة تتعلق بالأسرة وعظماء البلاد.
وإذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه كما يقول أبو الطيب، فلا جرم يساوره الشك من جانب جمال الدين ويتوقع منه أن يأتمر به كما ائتمر بأبيه، ويغتنم الفرصة من حذر وكلاء الدول من دعوة جمال الدين إلى إعلان الحقوق الوطنية ورفع الرقابة الأجنبية، فيتفق على إقصائه والإعراض عن حزبه، ويمالئه على ذلك رجال الحاشية الخديوية على سُنَّة الحواشي في كل بلاط يكره النصحاء ويحب الاستئثار بمسمع الأمير وهواه، وينتهي الأمر بنفيه والتشهير به — تسويغًا لتلك الفعلة — في منشور بذيء لم يصب جمال الدين بمسبة، ولكنه ارتدَّ على توفيق وحاشيته بالمسبة التي لا تُمحى، وغيَّر عليهم قلوب المخلصين من طلاب الإصلاح، فداخلهم الشك الشديد في إمكان الإصلاح على عهده بغير الثورة عليه.
وهذا بعض ما جاء في ذلك المنشور البذيء: «إنه لما كان الأمن والأمان والراحة والاطمئنان يتوقف عليها تمام العمران في جميع الممالك والبلدان، ومن أنجح الأبواب وأصلح الأسباب التي بها نجاح الممالك، وسلوكها في أقوم المسالك، قَطْعُ دابر المفسدين الساعين فيما يضر بالدنيا والدين، ويكون ذريعة للطائشين المتظاهرين بين الناس، بمظهر الحرية بدون أساس.»
ويتلو هذا كلام عن جماعة جمال الدين السرية يقولون فيه إنها جماعة «رئيسها شخص يُدعَى جمال الدين الأفغاني، مطرود من بلاده ثم من الآستانة العلية، لما ارتكبه من أمثال هذه المَفْسَدة في ديارنا المصرية، وهذا من أكبر ما يغير الأفكار، ويجب أن يُعامَل مرتكبه بالتشديد والإنكار، فالتزمت هذه الحكومة الحازمة أن تتخذ الطرق اللازمة، وتستعمل السداد في قطع عرق هذا الفساد، فأبعدت ذلك الشخص المفسد من الديار المصرية بأمر ديوان الداخلية، ووجَّهته من طريق السويس إلى الأقطار الحجازية».
ولم يُذَعْ خبر هذا المنشور إلا بعد سفر جمال الدين على غير علمٍ من أكثر أصحابه ومريديه، وإنما علموا به بعد إعلانه في الوقائع المصرية (عدد الحادي والثلاثين من شهر أغسطس سنة ١٨٧٩).
وكان السيد جمال الدين قد مكث بمصر في هذه الزيارة الثانية نحو ثماني سنوات، غرس فيها بذور نهضة مثمرة لم يشهد من ثمراتها الجنية ثمرة أنضج وأبقى من عزيمة تلميذه وخليفته «محمد عبده»، ففارق هذه الديار وهو يقول لمَن يسألونه عن وصيته عليها: «حسبكم محمد عبده، حسبكم محمد عبده من وَصِيٍّ أمين.» وطفق يذكره في رحلاته بعد ذلك، فيكتفي من الدلالة عليه بوصف الأخ الصديق، فيعلم المستمعون إليه مَن يعنيه.
ولم يتصل السيد بأحد من أصدقائه وأصحابه بمصر إلى ما بعد انتهاء الثورة العرابية، ومنهم خادمه الأمين العارف أبو تراب الذي كان يلازم السيد في حله وترحاله ملازَمَة ظله؛ لأن السيد قضى تلك الفترة في رقابة الحكومة الهندية تارة، وفي التنقل على غير قرار تارة أخرى، فلما رُفِعت عنه الرقابة شخص إلى أوروبا في شهر سبتمبر سنة ١٨٨٢، وكتب من بورت سعيد إلى الشيخ محمد عبده خطابًا يشكر له فيه رعايته لخادمه ويحمده «على البر والمعروف»، ويطلب إليه إبلاغ سلامه وشكره لتلميذَيْه إبراهيم اللقاني وسعد زغلول، ويذكر له عنوانه بالعاصمة الإنجليزية في إدارة جريدة الشرق والغرب، أو عند الشاعر المستشرق مستر «بلنت» صديق العُرَابيِّين.
وكان الشيخ محمد عبده يومئذٍ قد نُفِي إلى بيروت، فبادر بالجواب على السيد وكتب إليه كتابًا نستغربه، كما استغربه تلميذ الإمام السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار؛ لأنه لهج فيه بالتعظيم والتقديس لهجًا لم نعهده في أسلوبه منذ صباه إلى ختام حياته، وغلا في اتضاعه والارتفاع بأستاذه غلوًّا يخالف المعهود من عرفانه لأعظم الناس قدرًا عليه، وفيه كما قال السيد رشيد «من الإغراق والغلو في السيد ما يستغرب صدوره عنه، وإن كان من قبيل الشعريات، ويصف نفسه بالتبع لأستاذه من الدعوى التي لم تعهد منه البتة».
إلا أن الأسلوب هنا هو الأسلوب الذي لم يتكرر في خطاب أو مقال للأستاذ الإمام؛ لأنه أسلوب الساعة التي لم تتكرر في حياته، وليست هي مما يتكرر في حياة أحد؛ إذ كان كل ما يستوحيه في تلك الساعة شعورًا مشبوبًا يتوقد بحماسة الشباب وحماسة الثقة التي بقيت له في منفاه، بعد ضياع الثقة بأقرب الأقربين وأولى الأخصاء بالصدق والوفاء، ويذكيها من وجدانه الحي ذلك الشوق المتجدد إلى أستاذه بعد انقطاع العهد وجلاء الغمة، في أعقاب الثورة عن ذلك المصير الذي له ما بعده، وقد يكون ما بعده جهادًا آخَر يُرجَى له من الفلاح ما لم يُكتَب للأستاذ ولا لتلميذه في جهادهما الأول. فإن تكن في الأسلوب غرابة تلحظ في سائر الأحوال، فقد كان الأغرب أن يجري به القلم في تلك الحال مجرى المتكرر المألوف.
ومن عبارات الخطاب التي لم تتكرر ولم تؤلف في سواه، قوله عن نفسه وأستاذه: «… كنت أظن أن قدرتي غير محدودة، ومكنتي لا مبتوتة ولا مقدورة، فإذا أنا من الأيام كل يوم في شأن جديد؛ تناولت القلم لأقدِّم إليك من روحي ما أنت به أعلم، فلم أجد من نفسي سوى الأفكل والقلب الأشل، واليد المرتعشة والفرائص المرتعدة، والفكر الذاهب والعقل الغائب، كأنك يا مولاي مَنَحْتَني نوع القدرة للدلالة على قوة سلطانك، فاستثنيت منه ما يتعلق بالخطاب معك والتقدم إلى مقامك الجليل.»
وفي هذا الخطاب تحدَّث التلميذ إلى أستاذه عن مصير الجماعة التي تركها بمصر واستخلفه عليها في غيابه، وأفاض في بيان ما يعنيه من أمر أصحابه ومريديه، ولم يتحدث عن أمر نفسه؛ لأنه اكتفى فيه بما كتبه زميله إبراهيم اللقاني إلى السيد كما علم منه. قال: «إني يا مولاي لا أحدثك عن شيء مما أصابنا بعد فراقك، فقد تكفَّل ببيانه أخي العزيز إبراهيم أفندي اللقاني سوى ما تركه في كتابه من انقلاب بعض القلوب من خاصتك، وتحوُّل أحوالهم بعد نزول ما نزل بك، فقد تغلَّب أعوان الشر وأنصار السوء بقوة جاههم وشدة بأسهم، وأرغموا العقول على اعتقاد بالمحال، وألجئوها إلى التصديق بما لا يُقال، حتى إنهم غيَّروا قلب دولتلو رياض باشا عليك وعلى تلامذتك الصادقين أيامًا معدودة، ركن فيها للعمل بالشدة والأخذ ببادرة الحدة، ولكن لم يلبث أن وصلنا إليه وجلوت الأمر عليك، وكشفت له ما أغمض من الحقيقة حتى زال ما لبس المُبطِلون … وهكذا ضممت إلى كل مَن كان ينتسب إليك صادقًا في الانتساب أو كاذبًا، حتى إني لم أتأخر عن مساعدة أولئك الأشقياء الأدنياء … وأمثالهم من اللئام، تحسينًا للظن وإيثارًا لجانب العفو، فأصلحت لهم القلوب، وفسحت لهم من الصدور، وفتحت لهم أبواب التقدم إلى المنافع الغزيرة، لكنهم لم يرعوا ودًّا ولم يحفظوا عهدًا، ولا حاجة الآن إلى إيضاح ما يصدر عنهم خيانة ولؤمًا، وألفت لحبك ممَّن حُرِم التشرُّف بلقائك قبيلًا ليس بالقليل، يجلون قدرك ويعرفون لك فضلك، وكنا وإخواننا كما شرح لك إبراهيم أفندي اللقاني … ولسيرنا في تلك الحوادث نبأ طويل إذا أردت يا مولاي أن أقدِّم إليك به تاريخًا ربما يكون مفيدًا، فإنا رهين الإشارة، ونحن الآن في مدينة بيروت نقضي بها مدى ثلاث سنوات، لا لذنب جنيناه ولا جُرْم اقترفناه … فها نحن سالكون في سنتك وعلى سنتك، ولا نزال إلى انقضاء الآجال، ولولا أطفال لنا رُضَّع، ونساء لنا طوع، أبينا لهم الذل، وأنفنا لهم الضيم، فأتينا بهم هنا إلى حيث أقمنا، لكُنْتُ أول مَن تلقَّاك في مدينة باريس، لأسعد بالإقامة في خدمتك … ولا أتكدر مما أشرت إليه في كتابك إلى أبي تراب، حيث طعنت في ثقتك بالناس أجمعين، وبالغت حتى سحبت الطعن إليَّ وإلى إبراهيم أفندي … أما اختلال ثقتك بالدواهي والبلايا فقد صادف محلًّا لمَنْ نقضوا عهدك وحالفوا عدوك، فاستبقوه للوجود وأنت موجود …»
ولا نزيد في الاقتباس من هذا الخطاب على ما أوردناه من هذه الفقرات الضرورية لجلاء الموقف كله، وجلاء الموقف خاصةً بين هذين الرجلين في أعقاب الثورة العرابية، فجملة ما يقال في هذا الموقف أنه موقف فتنة عمياء تلتبس خفاياها على المقيم بين ظهرانيها، فضلًا عن المغترب البعيد عن ظواهرها وبواطنها، محجوبًا بحجاب الرقابة الكثيف عن المباح والمحظور من أخبارها، ولولا ذلك لما التبست الحقائق على قلب ذلك المصلح العظيم، فأوشك أن ييأس من الناس كافة، على غير المعود من شيمته وشيم الدعاة المصلحين أجمعين.
ونحن لا نعرف الآن بيانًا وافيًا عن أسماء أولئك الأصحاب والأنصار الذين تركهم جمال الدين بعده في الديار المصرية، فإنه كان — أثناء مقامه بها — قد برئ من طائفة منهم دخلوا معه في المحفل الماسوني الذي انضوى إليه السيد على أمل في مناصرة الشرقيين والأوربيين على دعوته العامة، تصديقًا لما شاع عن مزاعم الماسون أنهم ينتصرون للحرية الإنسانية، ولا ينقادون لدولهم وحكوماتهم في سياستها الشرقية، فلما تبيَّن بطلان هذه المزاعم نفض يديه من المحافل عامة وممَّن بقي على الولاء لها في ذلك المحفل وفي غيره، ولم يَزَلْ يحتفظ بأسماء زملائه الباقين على ولائه، وهم الذين سمَّاهم ولاة الأمر بجماعته السرية في منشور نفيه، ونحسبه لم يكتم أسماءهم إلا حمايةً لهم من كيد وكلاء الدول وجواسيس الحكومة، وتمكينًا لهم من العمل مع إخوانهم بمأمن من أَعْيُن الرقابة وحبائل الإغراء والدسيسة، فقد بقيت مع هؤلاء الأولياء المخلصين بقية لم تُعْلَن أسماؤهم لذلك السبب، ولكنهم على الأرجح هم الفئة التي تألَّف منها فرع جماعة «العروة الوثقى» بالديار المصرية، وهي الجماعة التي أصدرت صحيفتها في باريس بعد انتقال الشيخ محمد عبده إليها.
فإن الشيخ قد عوَّل على اللحاق بأستاذه في باريس بعد أن أقام بمدينة بيروت عامًا أو أكثر من عام، ولحق بأستاذه لإصدار صحيفة سياسية تشن الحملة على الاستعمار، وتعمل لإثارة الشعوب المغلوبة عليه، وكانت مجازَفَة من الشيخ لم يكترث لعواقبها الوبيلة عليه وعلى ذويه، ومنها فراق أطفاله الصغار، وإطالة أَجَل النفي عن بلاده من ثلاث سنوات كادت تنقضي إلى غير نهاية موقوتة، مع المعيشة بغوائل الفاقة والمكيدة في ديار الغربة التي تجمعها عصبية المنفعة على كل مَن يكافح الاستعمار، ولو في بلاد غير بلاده.
ويتلخص برنامج العروة الوثقى في مبدأ عام ينطوي على مبادئ كثيرة، وهو حرب الاستعمار بكل وسيلة مستطاعة، ومن تلك الوسائل تحريض المحكومين على حكوماتهم الأجنبية، وإزالة أسباب الخلاف بين الدول الإسلامية لسد الثغرات التي يتسلل منها المستعمِر بين تلك الدول لتأليب بعضها على بعض، وتسخيرها جميعًا كما حدث غير مرة في طريق الهند على علمٍ من جمال الدين بدخائل هذه السياسة التقليدية، ومنها ضم الصفوف الوطنية حيث يعيش المسلمون مع غير المسلمين، وهو مبدأ تأسست عليه دعوة جمال الدين قبل نفيه، ومن أجله أنشأ المحفل الماسوني الذي نشأ بمصر للاشتراك بين أتباع الديانات جميعًا في قضية الحرية، ولم يَزَلْ لسان حاله في الصحافة قبل النفي وبعده أديبًا مسيحيًّا كاثوليكيَّ المذهب هو أديب إسحاق، الذي ثبت على هذا المبدأ إلى يوم وفاته.
وقد كانت صحيفة «العروة الوثقى» إحدى وسائل الجماعة، ولم تكن هي وسيلتها الوحيدة ولا وسيلتها الكبرى؛ لأن الحكيمَيْن لم ينقطعا أثناء مقامهما بباريس عن الاتصال سرًّا وجهرًا بأنحاء العالم الإسلامي، ولا بمراجع السياسة الفعالة في عواصمها المشهورة، ومن ذلك أن الجماعة أوفدت الشيخ محمد عبده إلى لندن لإثارة المسألة بحذافيرها أثناء قيام المهدي بثورته في السودان، وكان زبانية الاستعمار — كعادتهم — يخيفون المصريين من مقاصد المهدي، ويشيعون عن «مخابراتهم السرية» أنه ينوي غزو وادي النيل كله، وأن الحكومة المصرية لا تقوى على صده بغير المعونة البريطانية، فلما سأل الشيخ محمد عبده في حديثٍ جرى بينه وبين مندوب صحيفة البال مال غازيت عن هذا الخطر المزعوم، قال: «لا خطر على مصر من حركة المهدي، إنما الخطر على مصر من وجودكم أنتم فيها، وإنكم إذا غادرتم مصر فالمهدي لن يرغب في الهجوم عليها، ولن يكون في هجومه أدنى خطر، وهو الآن محبوب من الشعب؛ لأنهم يَرَون فيه المخلص لهم من الاعتداء الأوروبي، وسينضمون إليه عند قدومه.»
وقد نجحت دعاية الشيخ في العاصمة الإنجليزية ورجحت هناك جانب الحزب الذي كان يدعو إلى إخلاء السودان، وتقرر هذا الإخلاء، بل أعدت المعاهدة التي يتفق عليها الطرفان لتسوية هذه القضية، وأوشكت أن تُبرَم وتُوضَع موضع التنفيذ لولا ورود الأنباء بموت المهدي واستعداد خلفائه للهجوم على الحدود المصرية.
ولقد جرى هذا الحديث في خريف سنة ١٨٨٤، ولم يَبْقَ من المدة الموقوتة لنفيه غير شهور، ولكنه سُئِل عن الخديو توفيق في مطلع الحديث، فلم يُبَالِ أن ينحي عليه وأن يصرِّح برأي الوطنيين فيه، وقال في غير مواربة: «إن توفيق باشا أساء إلينا أبلغ إساءة؛ لأنه مهَّد لدخولكم بلادنا، ورجل مثله انضم إلى أعدائنا في قتالنا لا نشعر إزاءه بأقل احترام، لكنه إذا ندم على ما فرط منه وعمل على الخلاص منكم، فربما غفرنا له سيئاته … إننا لا نريد خونة وجوههم مصرية وقلوبهم إنجليزية.»
وتبدو من هذا التصريح القاطع نية البقاء حيث كان خارج القُطْر لمواصلة الجهاد مع أستاذه؛ لأنه قطع بيده كل أمل له عند صاحب السلطة الشرعية وهو الخديو، وأصحاب السلطة الفعلية وهم المحتلُّون.
•••
على أن الحكيمَيْن قد بقيا معًا في القارة الأوروبية زمنًا يسيرًا، يعملان بين باريس ولندن في مراقبة المسائل الشرقية عند نظرها في دوائر العاصمتين أو الكتابة عنها في الصحف السياسية، وكانا قد اضطرا إلى تعطيل صحيفة العروة الوثقى ولما ينقضِ على صدورها أكثر من ثمانية شهور خلال سنة (١٣٠١ هجرية و١٨٨٤ ميلادية)، ظهر في أثنائها ثمانية عشر عددًا، ثم احتجبت على كُرْه من الأستاذين؛ لأنها صُودرت في جميع البلاد الإسلامية، واتفقت على مصادرتها حكومات الدول الأجنبية وحكومات الملوك والأمراء الشرقيين؛ لأنها كانت تُحارب الحكم الأجنبي بجميع مساوئه، كما كانت تحارب استبداد الحاكم الوطني وفساد أعوانه ورجاله، وكانت تبدئ القول وتعيد في الإنحاء على رؤساء الأمم المستعبدة من أبنائها؛ لأن استبعاد هذه الأمم إنما يكون بقوة رؤسائها، وربما كان من أسباب تعطيل الصحيفة أنها كانت تتخذ في البلاد التي تصل إليها دليلًا على أعضاء الجمعية الذين يتلقون أعدادها ويتولون توزيعها، فحيثما وصلت الأعداد مجموعة إلى جهة من الجهات، فهناك الشبهة فيمَن تصل إليه، ومن وراء الشبهة مصادرة الدولة ومتابعة التضييق والإرهاق، حيث لا عاصم من القانون ولا حماية من سلطان الرأي العام المكبوت، إن لم يكن محجوبًا عن الأخبار العامة بالكتمان والسكوت.
ولبث جمال الدين قليلًا يحاول في عواصم الغرب محاولاته السياسة على خطته المعهودة بغير كبير جدوى، ثم بدا له أن يجرب هذه المحاولات من غير هذه الناحية، فأجمع الرحلة إلى عاصمة القياصرة وهو ينوي أن يستخدم مقامه فيها لأغراض ثلاثة: أولها رفع المظالم عن الرعايا المسلمين وتمكينهم من حريتهم الدينية على قدر المستطاع، والغرض الثاني أن يكفَّ من عداوة الدولة الروسية التقليدية لدولة الخلافة، ويرجو ألا يقع منها عدوان جديد في أثناء مقامه بعاصمته، والغرض الثالث هو الانتفاع بالمنافسة القديمة بين الروس والإنجليز في تحريك المسائل الشرقية بجملتها، ولا سيما مسائل الأمم التي على طريق الهند من مصر إلى فارس إلى بلاده الأفغانية.
أما الشيخ محمد عبده، فقد عاد إلى بيروت وهو يزداد إيمانًا بعقم المحاولات السياسية، وضعف الأمل في الملوك والأمراء، ووجوب التعويل بعد هذه المحاولات العقيمة على الأمم دون غيرها، وحصر الأمل كله في إعداد هذه الأمم للنهضة والمقاومة بعدة العلم الصحيح والتربية الاجتماعية الصالحة، وقد أبرأ ذمته وأعطى سياسة أستاذه كل حقها من الرعاية والإخلاص، ولكنه اتخذ من الأرزاء التي ابتُلي بها أستاذه على أيدي الأمراء والملوك حجة جديدة على ضعف الأمل فيهم، ووجوب التحول بالجهود إلى أممهم، فقد شهَّر به خديو مصر ونفاه، وعذَّبه شاه إيران وأهانه وطرده من بلاده على شر حال، وخيَّب راجوات الهند رجاءه وأعرضوا عنه مجاملة للسادة المستعمرين، واعتقله السلطان العثماني في قفص من الذهب كما قال بعض المعجَبين به من المستشرقين، ولم يَبْقَ أمامهما أحد غير هؤلاء ينوطان به الرجاء ويشدان إليه الرحال، فمن صيانة الجهد عن الضياع أن يتوقف هذا الجهد من هذا الجانب وينصرف إلى ما هو أصلح وأجدى.
وظل الشيخ محمد عبده على هذا الرأي يزداد إيمانًا به يومًا بعد يوم، ويضيف إليه من تجاربه مع الأمراء والرؤساء كل يوم ما يعززه تعزيزًا لا سبيل فيه إلى الشك عنده، وقد كان يقول لتلاميذه الفقهاء والأدباء من أمثال العالم الديني السيد رشيد رضا، والشاعر الوطني حافظ إبراهيم: إن السياسة ضيَّعت علينا أضعاف ما أفادتنا، و«إن السيد جمال الدين كان صاحب اقتدار عجيب لو صرفه ووجَّهه للتعليم والتربية لأفاد الإسلام أكبر فائدة، وقد عرضت عليه حين كنا في باريس أن نترك السياسة ونذهب إلى مكان بعيد عن مراقبة الحكومات، ونعلِّم ونربي مَن نختار من التلاميذ على مَشْرَبنا، فلا تمضي عشر سنين إلا ويكون عندنا عدد من التلاميذ الذين يتبعونا في ترك أوطانهم، والسير في الأرض لنشر الإصلاح المطلوب، فينتشر أحسن الانتشار، فقال: إنما أنت مثبط».
•••
وأراد التلميذ الوفي بعد عودته إلى القاهرة واستقرار أستاذه بالآستانة أن يعاود الكَرَّة، ويتلطف في الإشارة إلى السيد بما تقضي به الحيطة في مقره المضطرب بين دسائس الحاشية المتربصين، ومكائد الحسَّاد المنافسين، وغدرات الوزراء والسلاطين … فجاءه الرد عنيفًا غاية العنف من السيد يقول فيه: إنك «تكتب لي ولا تمضي، وتعقد الألغاز … من أعدائي؟ وما الكلاب كثرت أو قلت؟ … فكن فيلسوفًا يرى العالَم ألعوبةً، ولا تَكُنْ صبيًّا هلوعًا».
ثم يقول عن رسالة أخرى: «إن الرسالة ما وصلت، ولا بيَّنت لنا موضعها وجلًا منك، قوَّى الله قلبك.»
وقد أمسك الشيخ محمد عبده بعد ذلك عن الكتابة إلى السيد في الآستانة؛ لأن الرسائل لا تصل أحيانًا، وما يصل منها في القليل من الأحايين تراقبه الشرطة وترفع خبره إلى المراجع العليا، ولا حيلة في صراحة القول مع ضررها المحقَّق بالمرسَل إليه دون المرسِل، ولا حيلة كذلك في التورية؛ لأن السيد على عادته من الجرأة البالغة يحسبها هلعًا صبيانيًّا، ويؤنب الكاتب عليها ذلك التأنيب الحكيم.
ونقطة الضعف في شخصيته — أي شخصية الأستاذ الإمام — هي تخلُّفه عن الكفاح السياسي، واختلافه في هذه الناحية مع أستاذه جمال الدين الأفغاني، وقد بدأ انقطاعه عنه منذ عودته إلى مصر سنة ١٨٨٩، فترك أستاذه يعاني متاعب الكفاح السياسي وآلامه ومرارته، وكان من قبلُ عضده وساعده الأيمن، وإنك لتلمح تراخي الصلات بينهما حتى الصلات الشخصية منذ أن عاد إلى مصر حتى وفاة السيد جمال الدين. من قراءة منتخبات الأستاذ الإمام، فإنك لا تجد فيها رسالة واحدة كتبها إلى السيد في محنته ومنفاه، بل إن جمال الدين توفي سنة ١٨٩٧، فلا تجد للأستاذ الإمام كلمة في رثاء أستاذه الروحي والفلسفي وزميل جهاده في العروة الوثقى، وهذه الناحية هي أثر من آثار الاحتلال في أخلاق الأمة ونفسيتها.
ولا حاجة إلى القول — بعد البيان المتقدم — بأن هذا النقد أثر من آثار الإسراع في المؤاخذة لغير سبب يوجبها ولا حجة تسندها، فما كان في الأمر من شيء يُوصَف بالضعف على معنى من معانيه؛ لأن الضعف إنما يكون حذرًا من ضياع منفعة أو خوفًا من وقوع ضرر، ولم يكن في الكتابة إلى السيد محذور على الكاتب يتقيه، وإنما المحذور كله على السيد أن يصيبه من القوم ما هو في غنى عن احتماله، ويأبى هو أن يسميه خطرًا يتوقاه. ولا نظن المؤرخ الفاضل كان يريد من الأستاذ الإمام أن يتلقى بعد كل مراسلة تقريعًا كذلك التقريع يُرمَى فيه بالوجل والهلع، ويُنهَى فيه عن تصوير الخطر ولو بالتلميح إليه. وقد كان جمال الدين — رضوان الله عليه في دار خلوده — يأبى أن يحسب نفسه سجينًا مرغَمًا على البقاء حيث كان بضيافة السلطان، فإنه بقي هناك بعد أن سُدَّت في وجهه مسالك البلاد، وسَدَّ هو أمام نفسه ما كان مفتوحًا بين يديه، ولو أنه شاء الترحل عن الآستانة لما تعذَّر عليه ذلك، بل حدث مرة أنه هَمَّ بالترحل منها وانتقل إلى مكان تحميه السيطرة الأجنبية، ثم لم يلبث أن غادره وعاد إلى داره، تلبية لرجاء السلطان وأنفة له أن يُذَلَّ أمام أعدائه في عاصمة ملكه.
ويستطيع المؤرخ الفاضل أن يعلم — لو شاء — أن الأستاذ الإمام قد أفاض في ترجمة السيد جمال الدين في تصديره لترجمة الرد على الدهريين، ولكن الأستاذ الإمام شُغِل عن كتابة سيرته هو — أيْ سيرة محمد عبده بقلمه — مع الحاجة إليها لدفع مفتريات الخصوم عليه، وما أكثر تلك المفتريات عليه في حياته وبعد مماته! وإن في بعض ما كتبه منها لتنويهًا — أشرف التنويه — بفضل جمال الدين عليه، ولا يُطلَب من تلميذ بلغ أوجه من المكانة في العالم أن يعترف لأستاذ له اعترافًا أكرم وأرفع من قول محمد عبده عن جمال الدين: إن ميراثه منه أقدس من ميراثه الأبوي؛ لأنه ميراث في الروح بصفوة الرسل والقديسين.
•••
وبعد هذا الاستطراد العارض في موضعه، نعود فنقول إنه لم يقاطع جمال الدين يوم كانت صحبته له تنفيه نفي الأبد عن أهله ووطنه، وقد عاد إلى بيروت وهو في حكم المنفي من مصر مدى الحياة، ولكنه خرج منها بأعجوبة من أعاجيب السياسة تصدق عندنا تجارب الشيخ الحكيم للفضل السياسي الذي يحسن فيه صاحبه وهو ينوي أن يسيء؛ فقد توسط له في العودة إلى مصر اثنان هما: الغازي أحمد متار باشا وكيل السلطان بالقاهرة، والأميرة نازلي فاضل وريثة البيت المنافس لبيت إسماعيل من فرع الأسرة الخديوية، ومركزه الآستانة.
ذلك فضل باطنه الذي لا خفاء به أن الرجل أُقصِي من بيروت بطلب خفي من السلطان العثماني، ليأمن عاقبة دعوته إلى الإصلاح والحرية في إحدى عواصم الدولة العثمانية والبلاد العربية، ولولا ذلك ما جاءت الوساطة — من كلا طرفيها — من هذا الطريق.