القضية القومية
انتظم محمد عبده في سلك الحزب الوطني منذ نشأة هذا الحزب قبيل عزل الخديو إسماعيل.
وقد تؤدي تسمية تلك الهيئة السياسية بالحزب إلى لبسٍ كثيرٍ في أذهان المعاصرين الذين ألفوا نشوء الأحزاب على وضعها الحديث.
فإن الحزب الوطني الذي انتسب إليه معظم المشتركين في الثورة العرابية لم يكن حزبًا يقابل أحزابًا أخرى من أبناء البلاد تتعارض في المبادئ والبرامج على النحو الذي نعهده اليوم في الأحزاب السياسية، ولكنه كان في حقيقته هيئة واحدة شاملة للحركة الوطنية في جملتها، وإنما سُمِّي بالحزب ليقابل جماعة الشراكسة والترك والألبانيين والأرمن الذين كانوا يتبعون الدولة العثمانية، وينفردون بولاية الحكم في الوظائف الكبيرة وأكثر الوظائف الصغيرة.
فالحزب الوطني على هذا الاعتبار كان هو حزب المصريين الفلاحين أو حزب الأمة المصرية، ومن أجل هذا كان شعاره «مصر للمصريين» جامعًا لمبادئه المتعددة في كلمتين اثنتين، أو هو في الواقع كان مبدأ واحدًا يجري تطبيقه على مختلف المسائل التي كانت تدخل في نطاق القضية القومية بجميع جوانبها.
كان رفع المظالم عن أبناء البلاد ومحاربة الفساد والإسراف في دواوين الحكومة، هو مبدأ المبادئ في سياسة الحزب الوطني منذ تأليفه قبل نهاية حكم الخديو إسماعيل، وينطوي في هذا المبدأ أن يصير حكم البلاد إلى أيدي أبنائها الذين أصابهم الظلم من حكم «العثمانيين» غير المصريين، وينطوي في هذا المبدأ أيضًا منع التدخل الأجنبي الذي جرت إليه سياسة البذخ والإسراف وسياسة الديون في عهد إسماعيل على الخصوص، وينطوي فيه تنظيم إدارة الحكم والتوفيق بين مقاصد الحكَّام ومقاصد الرعية.
وكان محمد عبده فلاحًا بمولده وتربيته، ينتمي إلى قريةٍ نشأت في ظل عهد الإقطاع، وكان مصابه ومصاب أهله من ظلم الطبقة الحاكمة أشد وقعًا في نفوسهم من مصاب إخوانهم أبناء القرية؛ لأنهم كانوا بمنزلتهم الاجتماعية هدفًا لأنظار الحاكم المتسلط، وحائلًا في كثير من الأحيان بينه وبين أغراضه من عامة الرعية، فكان مصابهم بالظلم مضاعَفًا؛ لأنه مصاب في الرزق ومصاب في الكرامة، وكانت ثورته على «الراعي» الجائر ثورة مَن يشعر في قرارة نفسه بأنه أهل للمنازعة مع ذلك الراعي الجائر، وليس قصاراه أنه أهلٌ للخضوع أو يسخط في صمت واستسلام، واستفادت هذه الثورة من التعليم والرياضة الروحية أنها أصبحت عقيدة من عقائد الضمير، ولم ترتهن بحدود القرية أو الطبقة، ولا بحدود المصلحة الاجتماعية أو السياسية.
وكانت حماسة النخوة سليقة في الرجل كما أسلفنا، وهي شيء غير اندفاع التطرف الذي يساور بعض ذوي الآراء، وإن التبس أمرهما أحيانًا على مَن يحكم عليهما بالمظاهر والأشكال.
فإن تطرف الاندفاع قد يأتي من الخفة والعجلة، ولكن حماسة النخوة تأتي على الأكثر من شعورٍ عميقٍ وعقيدةٍ متأصِّلةٍ، وربما كانت حماسة النخوة عونًا لصاحبها على الصبر الطويل، ولكن خفة التطرف قد يستثيرها الغرض العاجل أو تموت.
كذلك ينبغي أن نفرِّق بين الاندفاع والإقدام؛ لأنهما قد يتلاقيان أحيانًا، وقد يكون الافتراق بينهما أكثر من اللقاء، فربما اندفع المندفع إلى الفرار كما اندفع إلى الإقدام، ولكن المُقدِم في غير اندفاع هو في الحقيقة ثابت حيث كان، وإن خُيِّلَ إلى أناس أنه مدفوع إلى غير ما أراد.
وتاريخ محمد عبده في خدمة القضية القومية هو تاريخ الإقدام إلى أقصى حدوده، ولكنه لم يكن قطُّ تاريخ الاندفاع مع الخفة والعجلة؛ لأن نظرته إلى الغرض القريب لم تعجله قطُّ عن النظر الطويل إلى الغرض البعيد، وهو الغرض الدائم وراء جميع الأغراض.
وقد أَقْدَم يومًا على الترصُّد للخديو إسماعيل عند قصر النيل للقضاء عليه — أولى من الانتظار به إلى أزمة بينه وبين الدولة تزيله عن عرشه — ولو أنه أخطأه في هذه المرة وسنحت الفرصة للتفاهم مع ولي عهده على تعديل سياسة أبيه بعد عزله، لزال إسماعيل عن العرش مقتولًا في أغلب الظن، ولم يَزَلْ معزولًا كما أراد جمال الدين وحزبه في الساعة الأخيرة، وقد كان التآمر على العزل خطرًا لا يقل عن خطر الإقدام على القتل، وليس لاندفاع التطرف مذهب وراء مذهب الإقدام على هذين الخطرين.
ولما نشبت الثورة العرابية كان حذره من السيطرة الأجنبية أشد من حذر العرابيين وحذر الخديو توفيق؛ لأنه لم يخالف العرابيين في أدوار الثورة الأولى إلَّا خشية الاحتلال الأجنبي الذي يجر على جالبه لعنة الأبد كما قال، ولم يؤيد الثورة كل التأييد في مرحلتها الأخيرة إلا لأن الخديو توفيق جنح إلى الدولة المحتلة وحارب جنوده بجنودها.
وفي كل أولئك كان محمد عبده أشد إقدامًا على الخطر من الجميع؛ كان أشد منهم إقدامًا في معارضة الثورة حين عارضها، وأشد إقدامًا في تأييدها حين أيَّدها، وكان أبعد منهم نظرًا وأصدق منهم غيرة في كلتا الحالتين.
ولما وقع المحظور ودخل الإنجليز مصر محتلين، وبارحها محمد عبده منفيًّا عن وطنه، كان هذا المنفِيُّ أسبق أبناء الوطن إلى عاصمة الدولة الإنجليزية، ليعلن الحرب على الاحتلال في عقر داره، وقال لهم في صحافتهم: «إننا نرى أن انتصاركم للحرية إنما هو انتصار لما فيه مصلحتكم، وإن عَطْفكم علينا كعطف الذئب على الحمل، ولقد قضيتم على عناصر الخير فينا لكي تكون لكم من ذلك حجة للبقاء في بلادنا.»
لِمَ لا تغادرون بلادنا في الحال؟ لقد علَّمَنا الإنجليز شيئًا واحدًا هو التضامن في مطالبتكم بالجلاء … شكونا من الأتراك؛ لأنهم أجانب عن وطننا وأردنا لبلادنا إصلاحًا وتقدُّمًا كتقدم الأوروبيين في طريق الحرية، لكننا الآن نعلم أن هنالك ما هو شر من استبداد الحكام، وشر من ظلم الأتراك، وليس في مصر مَن بلغ به الظلم حدًّا يرجو معه مساعدتكم. إنَّ لنا إليكم رجاءً واحدًا، وهو أن تغادروا بلادنا حالًا إلى غير رجعة.
ولما سأله محرر الصحيفة عن الخديو توفيق، كانت مشايعتهم هي الجريمة الكبرى التي نعاها عليه في وجوههم؛ إذ قال: «إن توفيقًا أساء إلينا أبلغ السوء؛ لأنه مهَّد لدخولكم بلادنا، وانضمَّ أيام الحرب إلى أعدائنا … ولا يمكننا أن نشعر إزاءه بأقل احترام.»
قال هذا وهو لا يُبالي أن يظل منفيًّا عن بلاده أبدًا؛ لأنه لن يعود على غير رضا الخديو صاحب السلطة الشرعية، ورضا المحتلين أصحاب السلطة الفعلية، وقد بقي فعلًا غير مأذون له بالعودة بعد انقضاء الموعد المحدود لنفيه، وهو ثلاث سنوات.
وانقضت فترة من هذه السنين في الحملة السياسية على الاحتلال بين لندن وباريس، وكان محمد عبده في صحبة جمال الدين قد اختار هذه المدينة مركزًا لنشاطهما السياسي؛ لأنها عاصمة الدولة الفرنسية التي كانت تنافس الدولة البريطانية وتساومها على مشاكل القضية المصرية، فكان من أملهما أثناء الحملة على الاحتلال البريطاني أن تثار القضية كلها في ميدان السياسة الدولية لمطالبة الإنجليز بالجلاء عن مصر، وأن يكون مثار الحملة من باريس بعد مضي السنوات الأولى على دخول الجنود الإنجليزية إلى قلاع القاهرة والإسكندرية، وبعد صدور الوعود الأولى من وزراء لندن باقتراب موعد الجلاء، ثم انقضت السنوات في التجارب التي ابتُلِي بها الحكيمان من معاملة الساسة الغربيين والساسة الشرقيين، وكان أثرها جميعًا شعورًا عميقًا بخيبة الأمل وضياع الجهد في هذا السبيل. فأما ساسة الغرب فقد كانت قضايا الأمم عندهم صفقات للمساومة وتبادل الغنائم، والاتفاق على توزيع المستعمرات الجديدة بعد المستعمرات التي يثيرون قضاياها … وأما ساسة الشرق فقد كانت مخاوفهم من تحرُّر شعوبهم كمخاوف الأجنبي من تحرير مستعمراته المغلوبة، وكان الأجنبي يستعين بهم على توطيد حكمه بين التهديد بالخلع والترغيب في فضلات السلطة من يديه، فخلفت خيبة الأمل فيهم جميعًا مرارتها التي تعصف بالأمل، لولا قوة اليقين وانصراف العزيمة إلى العمل في غير هذه السبيل. وقد ندرك قسوة أذاها في نفس الأستاذ الإمام من كلماته عن السياسة وسوء أثرها في نهضات التقدم، بعد أكثر من عشر سنوات قضاها في تجارب شتى لما أصابه منها، فقال في كتابه عن الإسلام والنصرانية: «إن شئت أن تقول إن السياسة تضطهد الفكر أو العلم أو الدين، فأنا معك من الشاهدين، أعوذ بالله من السياسة ومن لفظ السياسة … ومِن ساسَ ويسوسُ وسائِس ومَسُوس!»
لقد كان للعزيمة الصادقة عملها أمام هذه الخيبة القاسية.
وكانت هي العزيمة التي لا يشغلها الغرض القريب عن الغرض البعيد، ولا ييئسها الأمل الضائع أن تصمد للأمل الذي لا يضيع.
ونفس أخرى كانت هذه الخيبة خليقة أن تضربها بضربة الوهن والقنوط، فتهجر السياسة وتهجر القضية معها.
ولكنها كانت عزيمة تصدق نفسها إذا كذبتها السياسة الخادعة، فاستحالت بكل ما فيها من قوة إصرار على ترك السياسة والإقبال على العمل في الطريق الذي لا عوج فيه، إلى الغاية التي لا ريب فيها، وقضت على السياسة عندها بهذا الإصرار قبل أن تقضي السياسة عليها.
لا تعويل بعد اليوم على السياسة ولا على الساسة، وإنما التعويل كله على الأمم، ولا معول لأمم في جهادها أنفع لها وأصدق في المضي بها إلى غايتها من العلم الحي والتربية القويمة.
ولقد كان يقول للمقرَّبين إليه من مريديه: لو كان في هذه الأمة مائة رجل لما استطاع الإنجليز أن يحكموها، ولما أدركوا منها أربًا في حكمهم إياها، وإنما الرجل عنده صاحب الفكر البصير والخلق المكين، صاحب الكفاءة الذي إنْ وُجِد في الأمة قادها لا محالة، ولم يتمكن أجنبي ذو سطوة أو ثروة أن ينازعه على قيادها.
•••
بهذه العزيمة عاد من منفاه وهو ينيف على الأربعين، ولا بديل له من استكانة اليأس إلا أن يُقبِل بكل ما أوتي من الثبات والأمل على العمل الذي آمن بأنه رسالته الباقية في الحياة، ووثق من جدوى الاعتماد عليه طول الزمن؛ إذ لا جدوى للاعتماد على السياسة والساسة غير خداع السراب.
ولو أننا ألقينا على لسانه كلامًا يقوله في هداية التعليم كالذي قاله في ضلال السياسة، لخلناه قائمًا قاعدًا يقول: «بارك الله في العلم والتعليم، وفي علَّم وتعلَّم، وفي عالِم وعَلِيم ومعلوم، وفي كل حرف من حروف العين واللام والميم!»
تقرَّب من الخديو فلم يكن تقرُّبه إليه ليخدم سياسته؛ ولكنه أراد أن يقود الخديو إلى إحياء النهضة العلمية في أقدم الجامعات الشرقية، وأن يجري على يديه تطهير الدواوين حيث يتصل الديوان بأعمال الخير والإحسان، أو يتصل بتربية البيت وصيانة الأسرة وحسن الوصاية على الأزواج والأبناء.
وبعد بضع عشرة سنة لمع في أفق السياسة آخِر بروقها الخلابة في فضاء القضية القومية، وعرضت الدولة الفرنسية سرابها الأخير على الذين استنجدوا بها لإنقاذ مصر من مهاوي الاستعمار، ثم أسفرت مساعي الخفاء عن العلن المكشوف، فإذا هو اتفاقٌ بين الدولتين — بريطانيا وفرنسا — على تبادل التصرف المطلَق في مصر ومراكش، تفعل كلٌّ منهما ما تشاء بالبلد الذي استولت عليه، وتتفقان معًا ذلك الاتفاق الذي سَمَّوه بالودِّيِّ لإقناع الدولة الأخرى بمثل هذا التفاهم على صفقات الاستعمار.
واطمأنت بريطانيا العظمى إلى مكانها بوادي النيل، وبدا لها أنها إذا نزلت للمصريين عن سلطانها على الحكومة لم يتأولوا ذلك بالاضطرار إليه خوفًا من إثارة قضية مصر في محيط السياسة الدولية، ولكنهم يتقبلون منه ما يرضيهم باختيارهم ويرضي الدولة المحتلة باختيارها؛ فأرسلت صديق العرابيِّين القديم — سكوين بلنت — يسأل مفتي الديار رأيه في أُسُس الدستور التي يقام عليها بناء الحكومة ونظام الإدارة، فكانت خلاصة جوابه على ما يُفهَم من بين سطور الصحف التي حرَّفت هذا الجواب: أن يكون الدستور مقيِّدًا لسلطة الاحتلال وسلطة الخديو، وأن يكون إعلانه ضمانًا من السلطتين باحترامه ومنع المساس بحقوقه، وأن يكون للرئيس المصري حق جدي في ديوانه، فلا يكون عمله فيه عالة على الرؤساء الإنجليز، وأن يكون نظام التعليم إجبارًا في جميع أنحاء البلاد، وأن تكون للمجلس النيابي حقوق الإشراف على السلطة التنفيذية أو سلطة الوزارة، فإذا اختلف مجلس النواب ومجلس الوزراء عُرِض الخلاف على هيئةٍ مشترَكةٍ من النواب وقضاة محكمة الاستئناف، وتلتزم الوزارة بحكم هذه الهيئة، فلا يكون لولي الأمر من سلطان على الحكم، إلا ما يتقبله الوزراء ويحتملون تبعته في حدود الدستور والقانون.
كان هذا قُبَيْل وفاة المفتي بسنة واحدة (سنة ١٩٠٤)، وكان للاحتلال أَجَل في علم الغيب لم ينتهِ قبل نيِّف وخمسين سنة، ولم يكن له في علم الإنسان أَجَل محدود، ولكنه لم يكن أمل الغد القريب بعد بضع سنوات على كل حال، ولو أنه كان — من التفاؤل الطامح — أمل سنوات عشر أو عشرين لما كان في الوسع أن تدار الحكومة خلال هذه المدة بالدعوة إلى الإضراب وترك الحكم كله بين أيدي المحتلين، ولو بدأت الدعوة إلى الإضراب في تلك السنة لما نفذت ولا تم الاتفاق عليها قبل انقضاء تلك السنين، فليس تقدير وقوع الجلاء فعلًا في تلك السنة إلا تسجيلًا بعبارة أخرى لانفراد المحتلين بالولاية على الدولة بمعزل عن أبناء البلاد في جميع الدواوين.
وقد كان المفتي موظفًا يتولى عمله في خدمة بلاده مع مئات من خيرة أبناء الوطن في مناصب الوزارة والقضاء والتعليم والبناء والتعمير، فإذا كان العاملون في السياسة قادرين على تبليغ أمانتهم بالكتابة في الصحف والخطابة على المنابر، فأمانة الموظف الذي يخدم بلاده لا تُؤدَّى في غير الديوان، ولا يزال لقاء المستشار والمفتش والعميد عملًا من أعماله المتكررة إن لم تكن من أعماله اليومية، وبخاصة مستشار وزارة التشريع، ولا تُؤدَّى وظيفة واحدة بغير الرجوع إلى هاتين الوزارتين.
ولا موجب هنا للموازنة بين مَن يعدون الأمم للاستقلال بالدعوة السياسية ومَن يعدونها للاستقلال بالتربية والتعليم، فإن الأمم تستطيع على الدوام أن تعتمد على كلتا الخطتين، وأن ترشِّح لكلٍّ منهما مَن هو أصلح لها وأقدر عليها وأرغب فيها، وليس ثمة من ضرورة توجب عليها أن تختار هذه وحدها أو تلك وحدها، منفصلتين غير مجتمعتين.
وإنما المسألة هي مسألة هذا المُصلِح القدير على الإصلاح، أي الخطتين يختار، وأيتهما تُرجَى منه منفعتها، ويؤمن فيها على وقته وجهده من الضياع والفوات.
إن هذا المُصلِح الذي تمَّت له عدة الإصلاح وقيادة الأمة في طريق التقدم والحرية قد جرَّب السياسة فلم تثمر له ثمرة يرضاها.
إنه آمن بأن عمل السنين في السياسة والاعتماد على الساسة قد يضيع ولا يبقى من أثره ما ينفع، بل قد يبقى من أثره ما يضر ولا تمحو ضيره الأيام والسنون، ولكن عمل السنين في تربية الأمة وتعليمها لن يضيع ولن يذهب سدى، ولن يندم عليه العامل ولا الأمة التي يعمل لها، قصرت بها الطريق أو طالت إلى غايتها من التقدم والحرية.
إنه ابتُلِي من السياسة والساسة بتلك الخيبة التي بغضتها إليه وأورثته تلك المرارة «النفسية»، التي جعلت كل عمل فيها غصة لا تطاق وأذى لا يُحتمَل، ونفرته منها ذلك النفور الذي يصد العزيمة عنها ويدحض الرجاء فيها، وليس من طبيعة الغيرة الصادقة أن تمضي إلى وجهة تصد عنها أو تخدع النفس من السعي الذي لا رجاء فيه، فليس له ولا لأحد أن يصرفه عن العمل الذي يرجو جدواه، ليكرهه على العمل الذي لا يجدي عنده، وإن أجدى كثيرًا أو قليلًا عند غيره.
وأيًّا كان رأي التاريخ في جدوى الخطتين على قضية مصر، فلا خلاف في رجحان كفته على كفة خصومه بميزان الصدق والإخلاص والمروءة الجديرة بأمثاله من دعاة الإصلاح؛ لأنه آمَن بخطته ولم يعطل على أحد خطة يؤثرها ويطمئن إلى عقباها، ولكن خصومه قد سوغوا أسوأ ظنونه في السياسة يوم صدوه عن طريقه ونصروا عليه أعداءه وأعداء رسالته الباقية، وكان أسوأ ما صنعوه أن يحسبوا عليه حماية القانون لمنصبه إخلالًا بالوطنية، وهم يحمدون لولي الأمر أن يطأطئ رأسه لراية الاحتلال كي يغنم من المحتلين إغضاءهم عن عبثه بوظائف الحكومة، وهو لا يرمي بذلك العبث إلى شيء غير محاربة العلم واتهام الدين بما هو بريء منه؛ إذ يجعله حائلًا بين المسلم وبين علوم الحضارة في القرن العشرين.