الفصل الأول
قال أخي إنه لن يشرب الليلة لأنه
سيعمل في الصباح. وقالت زوجته: كيف يعمل المرء في أول العام الجديد؟!
أفرغت كأسها كلها وقامت تُحضر واحدًا آخر. وقالت سُعاد إن زوجة أخي فظيعة. غادرت مقعدي وعبرت الصالة
حيث كانت إنصاف تجلس بمفردها بجفون
منتفخة وشعر غير مرتَّب يملؤه البياض. قالت إنها تتمنَّى لي عامًا
سعيدًا. وتأمَّلَت الحاضرين، ثم قالت: هو وحده الذي ينقصنا. وقالت: لا
بد أن نبني له قبرًا. كيف نتركه هكذا في قطعة أرض لا تحمل حتى اسمه؟
لماذا يحرمونه حتى من اسمه؟ ألَا يكفي أنهم قتلوه بعد تعذيبه؟ كانت
عيناها الآن حمراوين. قلت: لقد نسينا أن نزور قبره في ذكرى وفاته.
قالت: ذهبت أنا بمفردي. لم يَعُد أحدٌ يذكره الآن، والذين لم يكونوا
شيئًا أصبحوا كل شيء. وهو أحسنهم وأشجعهم. تأمَّلت رجلًا أنيقًا في
الخامسة والأربعين ذا وجه محتقن متعب قام يملأ كأسًا كبيرةً بالخمر.
سألتها إذا كانت تريد شيئًا من الشراب فقالت: لا. قلت: سأشرب أنا.
تقدَّمت من الطاولة التي صُفَّت عليها عدة زجاجات من النبيذ والبراندي
الرخيص، تحيط بزجاجتَين من الويسكي جاء بهما أحد الحاضرين، مع زجاجة
ثالثة أخفتها زوجة أخي. التقت عيناي بعينَي صادق وكان منهمكًا في الحديث إلى فتاة أجنبية جاءت
معه. لم تكُن ترفع عينَيها عنه أو يكف جسدها عن الحركة. أمَّا هو فلم
يكُن يرفع يده عن بين ساقَيه. أشار لي رمزي من بعيد أن أُحضر له كأسًا
فحملت له واحدة. وعبرت الصالة عائدًا فرأيت زوجة أخي ترحِّب بعجوز ملأت
وجهها بالأصباغ. قالت لي زوجة أخي إن العجوز كلَّمَتها في التليفون
وقالت إنها تريد أن تأتي لأن ابنها خرج مع زوجته، ولو ظلَّت هذه الليلة
بمفردها ستبكي. اتجهت العجوز إلى ركن وحملت إليها كأسًا. عُدت إلى
إنصاف فوجدتها تتحدَّث مع زوجة
عادل. قالت إنها ما زالت تدفع
إيجار شقتها في المحكمة لأن صاحب المنزل يرفض الاعتراف بالتخفيضات.
وكانت عينا زوجة عادل المتعبتان
شاردتَين كأنما تفكِّر في شيء ما، أو تصغي لحديث داخلي. سألتها عن
زوجها فهزَّت كتفها وقالت: ربما يأتي. قلت لإنصاف: لو جاءت ابنة أختها
الليلة سأطلب منها أن تتزوَّجني. نظرَت إنصاف إلى زوجة أخي وقالت إن لها ذراعَين جميلتَين.
وكانت زوجة أخي تتحدَّث في استغراق مع رجل لا أعرفه. كان ذراعاها
بيضاوَين ممتلئتَين بانسياب من حنية الكتف حتى راحة اليد، ومشدودتَين
مثل ساقَيها. ورأيت كأسها فارغةً فحملت كأسَين إليها وإلى رفيقها.
توقَّفا عن الحديث بمجَّرد اقترابي، وقدَّمته إليَّ على أنه صديق أخي.
ناولتهما الكأسَين وعدت إلى طاولة الشراب فحملت كأسًا أخرى وبحثت عن
أخي فوجدته في غرفته مع الرجل الأنيق ذي الوجه المحتقن المتعب وامرأة
تبدو زوجته. قدَّمه لي أخي على أنه رئيس مجلس إدارة الشركة التي يعمل
بها. وعاملته باحترام فانتفخ. عُدت إلى الصالة فوجدت سالم وزوجته قد وصلا، وكان حاجباها
مرفوعَين إلى أعلى في تحَدٍّ كعادتها، وبالمثل كان صدرها. أزحنا
المقاعد جانبًا، وبدأ البعض يرقص في خجل. جلست بجوار فؤاد، سألته لماذا لا يرقص مع سعاد؟ قال إنه لا يشعر بالرغبة في ذلك،
وقال إنه أصبح في الأربعين. قلت: آن لك أن تتزوَّج. اقتربت سعاد منا وهي تحرِّك قدمَيها وتدعوه إلى أن
يشاركها، ثم ابتعدت غاضبة. قال إنه يخشى هذا اليوم دائمًا ويشعر فيه
بانقباض. وقال إنه سمع باعتقال البعض منذ أسبوع. قلت: لماذا؟ قال: لا
أحد يعرف. انضمَّ إلينا صادق وسألني
إن كنت قرأت مقاله الأخير. قلت: إني لا أقرأ المقالات أبدًا. قال إن
عادل كفَّ عن الكتابة من مدة
وبدأ يعمل في الإعلانات. قال فؤاد:
لا أراه هنا الليلة رغم وجود زوجته. قال صادق إن له علاقةً بواحدة أخرى صغيرة. لمحتُ رمزي واقفًا بمفرده فذهبت إليه. في الطريق
قذفَتني العجوز ذات الأصباغ بكُرات ملوَّنة وهي تضحك ببلاهة. قال
رمزي وهو يُشير إلى الفتاة التي
أحضرها صادق معه: لا أدري من أين يقع
عليهن. وقال إنها تبدو مغرمةً به، ولكن الأمر لن يتجاوز هذا الحد؛
فسيهرب في الوقت المناسب. سألته عن عواطف فقال إنه قضى معها وقتًا سيئًا بالأمس. وقال
إنها مشكلته الأزلية في الفراش، فإمَّا أن يصل قبل الوقت المناسب أو لا
يصل مطلقًا. وقال إنَّ صادق شيء لا
يصدَّق؛ فهو يعبث بجسمه طوال الوقت، وعندما يجلس لا يكف عن الحركة إلى
أعلى وأمام. وقال إنه لم يكُن يتصوَّر زوجة أخي فاتنةً هكذا. كانت كأسي
قد فرغت فغادرته، ودقَّ جرس الباب فاتجهت نحوه، لكن القادمين كانوا
رجلًا عجوزًا وزوجته وابنته. ورحَّبَت بهم زوجة أخي وقالت لي إنهم
جيران قُدامى. وكانت البنت في الأغلب صغيرةً وتضع قناعًا تنكُّريًّا
على وجهها. وألفيت نفسي بجوار زوجة رئيس أخي فدعوتها إلى الرقص. قالت:
لا أعرف ما إذا كنت سأتذكَّر. كانت سمراء طويلةً في الأربعين. وضعت يدي
حولها وألصقت جسمي بجسمها وبدأنا نتحرَّك. قالت: لنتحرَّك ببطء حتى لا
نصطدم بأحد. كان هذا مناسبًا لي فلم أكُن خبيرًا بالرقص. تحرَّكنا ببطء
وقد التصقتُ بها تمامًا دون أن تعترض. وتوقَّفنا عن الرقص بعد قليل
بسبب ضيق المكان. وكان صادق ما زال
مع فؤاد وقد انضمَّ رمزي وسالم إليهما. ألفيتهم يتحدَّثون في السياسة. وقال
فؤاد إن القائد القديم يقضي
الوقت كله في تربية البط ويصُفُّه في طابور صباحًا ومساءً، ويستعرضه
بلا موسيقى. تركتهم وبحثت عن زوجة أخي فوجدتها تجلس بجواره. سألتهما:
لماذا لا ترقصان؟ قال أخي إنه لا يعرف. وقفَت زوجة أخي قائلة: سأرقص
معك. أحطتها بذراعَي وأرحت أصابعي على ظهرها العاري. قالت إن غرامي
فيما يبدو لم تأتِ. حرَّكت أصابعي على ظهرها ولمست العِقد الثمين الذي
أهداه لها أخي بمناسبة العام الجديد. قلت: لو عرفتك قبل أن تتزوَّجي
أخي لتزوَّجتك أنا. قالت: ما كنت سأنظر إليك وقتها لأنك كنت صغيرًا.
ضممتها إليَّ حتى التصق جسدانا وأسندت خدِّي إلى خدها. قلت: ليس الفارق
في السن بيننا كبيرًا. سنتان فقط. خلال شهور قليلة سأتم الثلاثين.
نظرَت إلى عينَي وابتسمت وقالت: ضمني أكثر. رفعت يدي عن ظهرها حتى
استقرَّت على ساعدها الممتلئ المشدود عند الكتف، وقربت أنفي من إبْطها.
لم تكن لها رائحة. قذفتنا عجوز الأصباغ بالكرات الملوَّنة وهي تضحك.
وضغطَت زوجة أخي يدي فجأةً محذِّرةً قائلةً إن أخي ينظر إلينا. تركتها
وابتعدت قائلًا إني سأدخِّن. أشعلت سيجارة، ثم اتجهت إلى أخي الذي
يكبرني بعشر سنوات وكان قد بدأ يشرب. قلت: أقرَّرت ألَّا تعمل غدًا؟
قال: شيء من هذا القبيل. وأمامنا كان رئيس أخي قد استند إلى الجدار
وفكَّ رباط رقبته، وبدا وجهه شديد الاحتقان وهو يحاول احتضان زوجة
عادل. قال أخي إن رئيسه كان ضابطًا فقيرًا، وإنه الآن يلعب بالآلاف،
وقال إنه الْتقى به لأول مرة في فلسطين. تركته إلى جهاز الأسطوانات فأوقفته وبحثت عن
أسطوانة زوربا فوضعتها فوقه وأدرته
من جديد. اقتربَ مني رمزي وقال إن
الكلمات اليونانية تبدو حزينةً للغاية. قلت: سمعت أنها كُتبت في السجن.
انضمَّ إلينا فؤاد. سأله رمزي عمَّا إذا كان ما يزال في نفس المكتب.
قال إنهم نقلوه إلى فرع آخر من الشركة بعد التلاعب الذي اكتشفه.
تطلَّعت حولي ورأيت زوجة أخي ترقص مع صادق وقد أمالت رأسها على كتفه، وكان أخي يرقبهما من
مكانه. وكانت عجوز الكرات الملوَّنة تضحك وهي تجمع الكرات من كل مكان
في الصالة وتقذف بها صادق وزوجة أخي.
مشيت إلى المائدة التي وضعنا عليها بعض الطعام. وجدت الحلوى التي
يحبُّها أخي قد قاربت على الانتهاء. حملت إليه ما تبقَّى منها، وذهبت
أملأ كأسي. كانت الساعة قد أوشكت على الثانية عشرة. بحثت عن زوجة أخي
ووجدتها تقف إلى جواره. مشيت في بطء كي لا أهتز. طلبت من الفتاة
الصغيرة ذات القناع أن تراقصني، وكانت أمها ما زالت في مقعدها لم
تبارحه، أمَّا أبوها فكان قد بدأ يضحك، وخلع سترته كاشفًا عن كرشه
الكبير. قالت الفتاة إنها رأتني من قبلُ وأنا لا أذكر. قالت إن اسمها
عفاف، وإنها في أول سنة
بالجامعة. طلبت منها أن أُقابلها فأعطتني رقم تليفونها. وعندما أطفئوا
النور حاولت أن أنزع قناعها لأُقبِّلها، فتعثَّرت أصابعي في خيوطه ولم
أتمكَّن من خلعه. أُضيء النور من جديد. كان الجميع يضحكون فيما عدا أخي
الذي بدا غاضبًا لأمر ما. وذهب يملأ كأسه. وتقدَّمت مني زوجته. قلت لها
إني رأيت أن صادق يُجيد الرقص، ضحكت
وقالت إنه خجول جدًّا، وفي العام الماضي ذهب معهم إلى الشاطئ وخجل أن
يخلع ملابسه وينزل إلى الماء، لكن الطفلة أجبرته على ارتداء المايوه
وطاردته في الماء، فبقي به عدة ساعات وكان سعيدًا كالأطفال. وقالت إن
زوجته تقول إنه لا يقربها إلا مرةً واحدةً في العام. وقالت إنه طيب
للغاية. إنسان حقيقي، والوحيد الذي تجده بجوارك في محنتك. ناداها أخي
فذهبت إليه. اقترب مني فؤاد وقال إنه
يريد الانصراف لأن أمامه مشوارًا طويلًا إلى المقطم. وقال: لا بد أن تأتي وترى شقتي الجديدة فهي
تُطل على القاهرة كلها. وسألني: أمَا
زلت تقيم هنا؟ قلت: لم أجِد بعدُ مكانًا آخر. انصرف فؤاد ورافقته حتى الباب، وعندما عُدت رأيت
أخي يُحاول احتضان زوجته من الخلف، فنحَّته عنها غاضبة. مشى مترنِّحًا
إلى ركن فارتمى على مقعد ثم انحنى إلى الأمام وأفرغ كل ما في جوفه.
وقالت لي إنصاف إنها تود الانصراف،
فقلت لها إني سأذهب بها إلى منزلها. ذهبت إلى حجرتي فأخذت معطفي،
وعندما عدت إلى الصالة وجدت زوجة أخي تزيل الآثار التي خلَّفها أخي.
صحبت إنصاف إلى الخارج وأمسكت بيدها
أساعدها على هبوط السلم. هبطَت بصعوبة شديدة كعادتها. ووقفنا في الطريق
ننتظر تاكسيًا. كان منزلها قريبًا لكن المشي كان عسيرًا عليها. ووجدنا
تاكسيًا أخيرًا حملنا إلى منزلها. صرفت التاكسي ورافقتها إلى باب
شقتها. انتظرت حتى دخلت وأضاءت النور. ورأيت الصورة الكبيرة المعلَّقة
في الصالة والتي يبدو زوجها فيها بقامته الطويلة. ودَّعتها وانصرفت.
وكان الهواء باردًا في الطريق لكنني رغبت في السير. ارتديت معطفي
وأحكمت إغلاقه حول عنقي، ووضعت يدَي في جيوبي ومشيت. كانت شوارع
مصر الجديدة هادئةً كالعادة،
وضجة الاحتفال بالعام الجديد تنبعث من بعض المنازل. مشيت طويلًا وأنا
أستنشق الهواء النقي، ثم اتجهت إلى المنزل. ووجدت الأنوار كلها مطفأة.
فتحت الباب وأضأت النور، وذهبت إلى المطبخ وأضأت نوره، وعُدت إلى
الصالة فأضأت نورها. كانت زوجة أخي قد أزالت بقايا الطعام والشراب
وأعادت شيئًا من النظام إلى الأثاث. وكانت غرفة نومها مفتوحةً ومظلمة،
وكانت غرفة أخي مظلمةً أيضًا وبابها مغلقًا. دخلت غرفتي وأضأت نورها.
خلعت ملابسي ثم دخلت الحمَّام وأشعلت السخان. غسلت قدمَي، ولمحت بعض
الملابس الملوَّنة في إناء الغسيل البلاستيكي. مددت أصبعي في الماء
ورفعت منه قطعةً صغيرةً من ملابس زوجة أخي الداخلية. تأمَّلتها في
الضوء، ثم أعدتها إلى مكانها. وذهبت إلى المطبخ فشربت كوبًا من الماء
وأطفأت نوره وأغلقت بابه. أطفأت نور الصالة وتوقَّفت أُنصت، كانت هناك
همهمة خافتة تنبعث من غرفة أخي. ولجت حجرتي وأطفأت نورها وتمدَّدت فوق
الفراش. أشعلت سيجارة، ثم أطفأتها بعد نفَسَين. التففت جيدًا بالأغطية
واستدرت على جانبي، ونمت على الفور، ثم وجدتني أُحدِّث إنصاف في التليفون وكانت تسألني عن شيء ما
حدث في الماضي. انتهى الحديث ودخلت أنام في زنزانة وكان بابها محطَّمًا
وقضبانه كقضبان الأقفاص. حاولت إصلاحها لأُحكم إغلاقها عليَّ خوفًا من
شخص ما. ونمت واستيقظت فجأةً على رائحة أبي. شممتها من رذاذ فمه
المتناثر على وجهي مثلما كان يحدث عندما كان يرقيني وأنا صغير؛ فقد كان
يقرأ بعض الآيات ويده على رأسي، ثم يُتوِّج ذلك بالبصق في وجهي. ورأيت
جسمًا أسود في فُرجة الباب، ثم تبيَّنت عينَين مرعبتَين. صرخت،
وفكَّرت. إنه ليس كابوسًا لأن صوتي كان واضحًا وفي الكابوس لا يخرج
الصوت مطلقًا. وبدأ أبي يرقص في فُرجة الباب، ثم اتخذ صورة الشيطان.
ظَلِلت أصرخ حتى استيقظت. قُمت وأضأت النور، وجلست فوق حافة الفراش
وأشعلت سيجارة. وعندما انتهت السيجارة أطفأت النور وعدت إلى
النوم.