الفصل العاشر
جذبت حقيبتي من أسفل السرير
وفتحتها. أخرجت محتوياتها وأعدت ترتيبها. فتحت الدولاب وأخرجت كل ما به
من أشياء ووضعتها في الحقيبة حتى امتلأت. أغلقتها بصعوبة، وتبقَّت بعض
الملابس والكتب بلا مكان لها. ذهبت إلى حجرة أخي وصعدت على مقعد وأنزلت
حقيبةً كبيرةً من فوق الدولاب وحملتها إلى غرفتي وأزلت الغبار عنها.
ملأتها بأشيائي وأغلقتها، وذهبت إلى الحمام فغسلت يديَّ وعدت فارتديت
سترتي. فتحت النافذة وناديت على البواب وتركت النافذة مفتوحةً لتدخل
أشعة الشمس. تطلَّعت حولي ووجدت أني كدت أنسى كتابًا عن حياة جوجان كان بجوار فراشي، فأخذته في يدي
وذهبت أفتح للبوَّاب. صحبته إلى حجرتي، فحمل إحدى الحقيبتَين وأنزلها
إلى الشارع، وعاد فحمل الحقيبة الثانية. تبعته بعد أن تركت ورقةً على
مكتب أخي قلت فيها إني اقترضت حقيبةً مؤقَّتًا وسأُعيدها إليه بعد أن
أشتري واحدة، وإني ذاهب لأقيم مع رمزي. أحضر لي البواب سيارة تاكسي وانطلقت إلى منزل
رمزي. عاونني بوَّابه الوقور على
حمل الحقيبتَين، وكان المفتاح معي فدخلت وأشرت للبوَّاب أن يضع
الحقيبتَين في الصالة. دخلت حجرة رمزي ففتحت النافذة وأشعلت سيجارةً ووقفت أتأمَّل
المنزل المقابل، وكان فيلا بيضاء صغيرة، لها سقف مائل من الآجر الأحمر
على الطراز الأوروبي، ونوافذ خضراء، وحولها حديقة صغيرة أنيقة تتصل
بحديقة منزل آخر، مُكوِّنةً مساحةً خضراء واسعةً من العشب المشذَّب
بعناية. عطست فجأةً وشعرت بالتهاب حلقي يزداد. أخرجت قرصَين من
الأسبرين من جيبي، وانطلقت إلى المطبخ فملأت كوبًا من الماء وابتلعت
القرصَين، ثم عُدت إلى الحجرة فأغلقت النافذة وأخذت وسادةً وبطانيةً من
فوق الفراش وخرجت إلى الصالة فوضعتهما على الأريكة، وتأمَّلت التليفون
الذي كان على المائدة المجاورة. أخرجت بيجامتي من الحقيبة فخلعت ملابسي
ووضعتها في عناية على مقعد. ارتديت البيجامة، ثم تناولت البلوفر
وارتديته فوقها، وعدت إلى الحقيبة فأخذت منها كُرَّاستي وحملتها مع
كتاب جوجان إلى الأريكة، فرقدت فوقها
وتغطَّيت بالبطانية ووضعت الكراسة بجواري وبدأت أقرأ. ازداد التهاب
حلقي فقُمت إلى المطبخ وأعددت كوبًا من الشاي، وبحثت عن ليمون فلم أجد.
شربت الشاي، ثم استأنفت القراءة. دقَّ جرس التليفون فلم أرد، وظلَّ يدق
مدةً طويلة، ثم توقف. مددت يدي فرفعت السمَّاعة ووضعتها بجوار الجهاز،
ثم وضعت الكتاب جانبًا. تكوَّمت على نفسي ورحت في النوم. استيقظت بعد
قليل فوجدت أنفي مسدودًا. تمخَّطت وأخذت قرصَين جديدَين من الأسبرين،
ثم استأنفت النوم. وعندما استيقظت كان المساء قد حل، وقمت فغسلت وجهي
وأسناني. أعددت كوبًا من الشاي ولم أشعر برغبة في الأكل، وعثرت على
قطعتَين من البسكويت في المطبخ فغمستهما في الشاي. بحثت عن راديو
فوجدته في غرفة النوم. حملته معي إلى الأريكة وأدرته على البرنامج
الموسيقي، وأشعلت سيجارةً أطفأتها بعد نفسَين فلم يكُن لها طعم.
استأنفت القراءة في كتاب جوجان. جاء
رمزي بعد قليل وقال إنه ملَّ
الجري وراء النساء، وإنه يتمنَّى لو يستلقي على ظهره ولا يبذل أي مجهود
ويأتين هُنَّ لعنده ويَقُمن بكل شيء. وقال إن أمه مريضة، وإنها أرسلت
إليه خطابًا من البلد ليذهب إليها، وقال إنه لا يريد الذهاب، وقال إنه
ذهب اليوم إلى معرض كامل الجديد،
وإنه كان في سيناء أيام العدوان وعاد من هناك إلى مستشفًى للأمراض
العصبية، وإن لوحاته الجديدة مختلفة تمامًا وكلها عبارة عن خطوط لأشباح
عظمية تتلوَّى، وقال إنها من الناحية الفنية امتداد للخطوط التي ظهرت
في بعض لوحاته عن السد العالي. وذهب رمزي لينام. أطفأت النور ونمت على الفور، وعندما
استيقظت في الصباح وجدت أنفي ملتهبًا. أعد لي رمزي كوبًا من الشاي قبل أن يخرج، واغتسلت، ثم لجأت
إلى الأريكة وأحكمت الغطاء حولي. بسطت أطرافي كلها وأقمت الوسادة خلفي
وأسندت رأسي إليها. عُدت إلى كتاب جوجان، ودقَّ جرس التليفون عدة مرات فلم أرد. وعند
المغرب قمت فأعددت حساءً تناولته بعد أن عصرت فيه كميةً كبيرةً من
الليمون الذي أحضره رمزي معه، وشعرت
أن حِدة الزكام قد خفَّت. عُدت إلى الأريكة فاستغرقت في النوم واستيقظت
على جرس التليفون. رفعت السماعة ووضعتها على أذني. تبيَّنت صوت زوجة
أخي فدعكت عيني، ومددت يدي أبحث عن علبة السجائر، وكانت تسألني عن معنى
هذا، ولماذا لم أتصل بها، ولماذا ذهبت هكذا مرةً واحدةً دون أن أذكر
لها شيئًا، وأين كنت طوال اليوم والأمس. وقالت إنها ظلَّت تطلبني هنا
وفي الجريدة دون جدوى، وقالت إن أخي مدهوش من تصرُّفي. سكتَت لحظة، ثم
قالت: لماذا لا ترد؟ ظَلِلت صامتًا، ثم قلت فجأةً إني سئمت هذا كله
وأُريد أن أُنهي كل شيء. قالت بعد قليل: ماذا حدث؟ قلت: لم يحدث شيء.
قالت: هل تعني أنا وأنت؟ قلت: تمامًا. سكتت قليلًا، ثم قالت: كما تريد.
ووضعَت السماعة، وضعتُ السماعة من ناحيتي وقمت إلى الحمام، ثم عدت
واستلقيت على الأريكة. تناولت كتاب جوجان وقرأت فيه حتى أنهيته، فأطفأت النور ونمت.
استيقظت في الصباح على جرس التليفون. رفعت السماعة فوجدت زوجة أخي.
قالت إنها تريد أن تراني، قلت إني مريض وعندما أُشفى سأزورهم بالطبع.
قالت إنها تريد أن تراني الآن، وإنها تحترم رغبتي وتريد مني أن أساعدها
على اتخاذ نفس الموقف، وقالت إنها لن تأخذ مني غير خمس دقائق. وافقت
أخيرًا فسألتني عن رمزي، قلت لها إني
سأتفق معه، قالت إنها ستأتي بعد ساعة. أعدت السماعة إلى مكانها وظَلِلت
ممدِّدًا على الأريكة، ثم قمت إلى الحمام فاغتسلت وحلقت ذقني. أيقظت
رمزي وأفطرنا سويًّا، وأخذت
قرصَين من الأسبرين. كان التهاب أنفي وحلقي قد زال. وخرج رمزي بعد أن اتفقنا على موعد عودته. خلعت
بيجامتي وارتديت قميصًا وبنطلونًا، وشعرت بالبرد فلبست البلوفر الذي
حاكته لي زوجة أخي، وفتحت النافذة وطويت البطانية وأزلت أعقاب السجائر
ورمادها عن الأرض. تقدَّمت من النافذة فأغلقت المصراع الخشبي، ثم أغلقت
المصراع الزجاجي. جلست على الأريكة، ثم قمت إلى النافذة وفتحت
المصراعَين وأغلقت المصراع الزجاجي فقط. جاءت زوجة أخي بعد قليل، وكانت
ترتدي فستانًا جديدًا في لون التركواز، ونظرَت إلى النافذة، ثم جلسَت
على المقعد، وجلست أنا على الأريكة وكان وجهها شاحبًا. قالت إنها لم
تنَم لحظةً واحدةً بالأمس، وقالت إن فتاةً اسمها سلوى اتصلت بي عدة مرات، أمس وأوَّل أمس. وسألتني:
أهذه هي التي ستتزوَّجها؟ قلت: لا. قالت: إذن لماذا؟ قلت: لا أعرف.
قامت وجلست بجواري ومالت عليَّ وبكت، فوضعت يدي على كتفها. مدَّت يدها
إلى ساقي ولمستني، وعندما وجدَتني مشدودًا احتضنَتني وقبَّلتني
وقبَّلتها بدَوري. طلبت مني أن أُغلق النافذة فقُمت وفتحت المصراع
الزجاجي، ثم أغلقت المصراعَين. تحوَّلت إليها وقامت واقفةً وأخذت تخلع
رداءها وهي تنظر إلى وجهي. خلعت ساعتي ووضعتها بجوار التليفون، ورقدنا
فوق الأريكة. تحسَّست جسدها بوجهي وكان ناعمًا طازجًا، وبكت وهي
تتشبَّث بي في قوة. تشمَّمتها وقلت إني أُحب رائحتها، فابتسمَت منتصرة.
بعد قليل قامت وقالت إنها لا بد أن تذهب لأن أخي ينتظرها عند بعض
أقاربنا. نظرَت إلى حقيبتي وقالت: ستعود الليلة؟ قلت: كلا سأبقى هنا.
قالت: إلى متى؟ قلت: لا أعرف. أوصلتها إلى الباب. قلت إني لن أستطيع
النزول معها لأننا بالنهار. سألتني إذا كنت سأخرج فقلت إني لا أعرف.
قالت: ستكلِّمني؟ قلت: أجل. قبَّلتها، ثم أغلقت الباب خلفها. عُدت إلى
الصالة. تقدَّمت من النافذة فدفعت مصراعها الخشبي حتى ارتطم بالجدار
وتركتها مفتوحةً وذهبت إلى المطبخ. أعددت طعامًا، وجاء رمزي بعد ساعة
فأكلنا، وقال إنه ذهب إلى الأهرام خلف سائحة هندية، وعندما عادا إلى
البلد سويًّا ضاعت منه في الزحام قبل أن يتفقا على شيء، ودخل حجرته.
تمدَّدت على الأريكة ونمت ساعتَين، ثم خرجت. ركبت المترو وغادرته في
محطة الإسعاف. اتجهت إلى شارع
سليمان. دخلت الأمريكين من باب شارع ٢٦ يوليو وخرجت من الباب الآخر. مشيت إلى
البن البرازيلي. شربت قهوةً ودهنت حذائي وأنا واقف، ثم أشعلت سيجارةً
وواصلت السير نحو الميدان. سمعت صوتًا يناديني. التفتُّ فرأيت
يحيى يُشير إليَّ أن أصعد إلى
سيارته، وحاول أن يخرج بسيارته من طابور السيارات المندفعة ليقف
بجواري، لكنه لم يتمكَّن من الوقوف بجوار الرصيف إلا بعد مسافة. أسرعتُ
خطاي لألحق به، وركبت بجواره فانطلق نحو الميدان، ثم دار به وانحرف في
شارع قصر النيل. سألني ماذا أفعل
الآن. قلت: لا شيء. قال إنه يشعر بالمرض، وإن الجميع ضده. ودار
بالسيارة حول ميدان التحرير، ثم عاد
إلى شارع سليمان مرةً أخرى. توقَّفنا
أمام مقهًى ونزلنا فجلسنا إلى مائدة خارجه. قال إنه يريدني أن أذهب معه
الآن وقمنا وغادرنا المقهى. عُدنا إلى السيارة. اتجه إلى ميدان
سليمان ودار حوله، ثم انحرف في
شارع قصر النيل حتى ميدان التحرير، وفي هذه المرة اتجه إلى بيته
وتركنا السيارة في الجراج وأخذنا المصعد إلى مسكنه. قادني إلى غرفة
مكتبه. وجدته قد أقام جدارًا وسطها زوَّده بباب سميك من الخشب، وقال
إنه يريد أن يُسمعني آخر ما كتبه. أحضر جهاز تسجيل صغير الحجم وأداره.
جلست أسمع وأنا أتأمَّل وجهه الشاحب وشعره الذي امتلأ بالبياض. أتاني
صوته مجهدًا ينطلق بصعوبة ويتعثَّر مرات حتى يوشك أن يتوقَّف، ثم يُشحن
بالقوة بضع لحظات قبل أن يتعثَّر من جديد. أشعلت سيجارةً عندما انتهى،
وقال إنه يبلغ الأربعين في الشهر القادم، وقال إنه استطاع أن يُفلت من
أخطار السنوات الماضية وهذه هي النتيجة. قلت إني سأتركه الآن ليستريح
فهو يبدو متعبًا، وقبَّلته في جبهته ونزلت إلى الشارع، وأخذت التروللي
باس إلى وسط البلد. ذهبت إلى مكتب سالم، ووجدته في طريقه للانصراف. قال إنه اكتشف أن
أعزَّ أصدقائه كان يسرقه طول الوقت. مشَينا سويًّا إلى منزله ودعاني
إلى الصعود معه. اشتريت حلوى لابنه وفتح لنا الصبي الباب. أعطيته
الحلوى وأنا أتأمَّل تعبير الاضطراب الذي لا يغادر وجهه أبدًا. جلسنا
في الصالة، وكانت زوجة سالم منحنيةً
أمام مجلة موضة على المائدة وأمامها مقص كبير وعدة أفرخ من الورق. قالت
إنها تريد أن تصنع فساتينها بنفسها، وكانت ترتدي بيجامةً مزركشة،
وعندما اعتدلت واقفةً بدا صدرها مترهِّلًا، وقالت إنها توَد أن تذهب
إلى السينما. دخلَت ترتدي ملابسها، وعاد صدرها يقف متحديًا. ذهبنا إلى
سينما أوبرا وكان بها فيلم اسمه
«بيلي الكاذب». كان بيلي يريد أن يكتب سيناريو ويسافر إلى
لندن، لكنه قفز من القطار في
اللحظة الأخيرة ولم يقم برحلته. وعندما غادرنا السينما قالت إنها كانت
تتمنَّى أن يقوم بيلي برحلته. مشيت
معهما حتى منزلهما، ثم ودَّعتهما وانصرفت.