الفصل الحادي عشر
بقيت أمام النافذة أتأمَّل الفيلا
البيضاء تحت المطر، ثم فتحتها لأشم رائحته. مددت يدي ألتقط قطرات منه،
ولم أرفع عيني عن الفيلا. كان سقفها الأحمر المائل يلتمع وقد غسلَته
المياه وتساقطت على الممر المرصوف بالبلاط الملوَّن. وتبدَّت خضرة
الحديقة طازجةً لامعة. أشعلت سيجارةً وامتصصت دخانها في الهواء البارد.
ودقَّ جرس التليفون. أطاح الهواء ببضع قطرات من الماء داخل الحجرة
فوقعَت على الأرض، ووصل بعضها إلى الفراش. أغلقت المصراع الزجاجي، وكان
التليفون ما زال يدق. مضَيت إلى الصالة ورفعت السماعة. كانت إنصاف. قالت إنها عائدة لفورها من زيارة
الطبيب، وإنها فقدت الأمل في أن ينقص وزنها على يدَيه، وقالت إنها
ستجرِّب نوعًا جديدًا من الرجيم، وقالت إنها ستذهب إلى الأوبرا الليلة
مع حسنين. وسألتني إن كنت أحب أن
أذهب معهما، قلت إني وعدت أخي بأن أتعشَّى معه. وضعت السماعة، ثم أخرجت
كراستي من الحقيبة. ووضعتها على المائدة بجوار التليفون. جلست إليها
وفتحت الكراسة. كتبت قليلًا وشعرت بدفء جسمي، وفكَّرت في التلميذة التي
التصقتُ بها ظُهر أمس في الأوتوبيس، وتركتني مدة، وفجأةً استدارت إليَّ
متسائلةً متى سأكف. بدأت أعبث بجسمي الساخن، ثم قمت إلى الحمام، وعُدت
فجلست أمام المائدة. دقَّ جرس التليفون وقالت زوجة أخي إنها تدق لي منذ
ساعتَين، وقالت إنها تريد أن تزورني. قلت: الآن؟ قالت: أجل. قلت: ولكن
كيف ستخرجين تحت المطر؟ قالت: حالما يتوقَّف. قلت: لا أعرف موعد عودة
رمزي وسأبحث عنه وأتفق معه.
اتصلت برمزي في مكتبه واتفقت معه، واتصلت بسلوى في منزلها وقلت لها إني لن أستطيع المرور عليها
واتفقنا على اللقاء في الغد، وذهبت إلى المطبخ فوضعت كنكة القهوة على
النار، وظَلِلت أمامها حتى علت فورتها فصببتها في كوب حملته إلى الصالة
ووضعته على المائدة. أغلقت الكراسة وأعدتها إلى الحقيبة الموضوعة بجوار
الحائط، وأخذت الكوب وانطلقت إلى حجرة رمزي، وتقدَّمت من النافذة ووقفت أتأمَّل الفيلا
البيضاء وأنا أرتشف قهوتي. كانت حدة المطر قد خفَّت. وضعت كوب القهوة
على الأرض وأشعلت سيجارة، ثم تناولت الكوب من جديد وأفرغته حتى آخره،
وابتلعت آخرته المُرة في بطء، ثم أطفأت فيه السيجارة. لمحت سيارة تاكسي
تتوقَّف أمام المنزل وتهبط منها زوجة أخي. مضيت إلى باب المسكن وفتحته
لها. قالت وهي تدخل إن البواب لم يقف لها اليوم كعادته. قلت: ربما كان
متعبًا. ارتمت على الأريكة وجلستُ أنا على المقعد. قالت إنها أخذت
إجازةً اليوم لتذهب إلى مدرسة نهاد
لكنها أجَّلت الزيارة لتراني، وقالت إن نهاد عادت من المدرسة أمس باكيةً لأن المدرِّس فضَّل
عليها تلميذةً أخرى؛ ولهذا قرَّرَت أن تذهب للقائه. سألتني إن كان
بإمكاني أن أذهب معها في الغد. قلت: سنرى. قالت إن نهاد تحصل على درجات سيئة في معظم العلوم
فيما عدا الألعاب الرياضية، وقالت إنها تعتقد أن نهاد تصلح لأن تكون راقصة باليه، وربما تُلحقها بمعهد
الباليه في العام القادم. وقالت إن لها أذنًا موسيقيةً وتلتقط الأنغام
بسهولة وستصبح فنانة. وسكتت، ثم قالت إني لا أبدو متحمِّسًا لها اليوم.
قلت: هذا غير صحيح. وقمت وجلست بجوارها وقبَّلتها في فمها، وبعد لحظة
تمدَّدنا بملابسنا الداخلية تحت البطانية. كان جسمها دافئًا، وألصقت
خدي بخدها وفمي ناحية أذنها، ثم حرَّكت خدي ببطء وأدرته بحيث أصبح فمي
على فمها، وكرَّرت ذلك عدة مرات، وكان خدها ناعمًا دافئًا. مدَّت يدها
فتخلَّصت من بقية ثيابها، وعرَّت صدري وحرَّكت صدرها عليه. هبطتُ بوجهي
على صدرها، وأخذت ثديها في فمي حتى صرخت. أزاحت وجهي ثم وضعته على
الثدي الآخر. ارتفعت بوجهي حتى التقت شفتانا وأحطتها بذراعي في قوة.
قالت إني قيَّدتها ولم تعُد تستطع الحركة. ابتلَّ فمها وتحرَّكنا
سويًّا حتى غطانا العرق، ثم بدأنا نرتعش وتشبثَت أصابعي بكتفَيها.
هتفَت باسمي وهي تردِّد: قبِّلني، قبِّلني. قبَّلتها إلى أن دبَّت
البرودة إلى شفتَيها، فاسترحت فوقها وأسندت خدي إلى ثديها وأغمضت
عينَي. دقَّ جرس الباب فجأةً دقةً طويلة فدفعتني عنها وقفزت واقفة.
قالت: هل هو رمزي؟ قلت وأنا أقف: لا
أعرف. تكرَّر رنين الجرس. قالت إنه قد يكون أخي. جذبَت ملابسها وأسرعَت
إلى الحمام، ثم عادت وأخذَت حقيبتها وحذاءها. ارتديتُ بيجامتي ومضيت
إلى الباب وفتحته. كان الطارق محصِّل النور فأخذت منه الإيصال وقلت له
إننا سندفع في الهيئة. عُدت إلى الداخل فوجدتها ترتدي ملابسها وهي
ترتعش. قالت إنها لن تستطيع البقاء لحظةً واحدة. أخذتها بين ذراعَي
وأخذت أُربِّت عليها حتى هدأت واستكانت في حضني. قبَّلتها وقلت لها إني
أحب رائحتها، ضحكت وقالت إنها رائحتي أنا التي تغطِّيها، وقالت: يجب أن
أذهب. أكملَت ارتداء ثيابها وارتدَت المعطف. رافقتها حتى الباب، ثم
عُدت إلى الصالة. ساويت الأريكة وطويت البطانية ووضعتها فوق الوسادة.
جمعت أعقاب السجائر ووضعتها في المنفضة، ثم ارتديت ملابسي وكانت الشمس
قد عادت فلم آخذ المعطف. خرجت إلى الشارع وكان هادئًا نظيفًا. اتجهت
إلى الشارع الجانبي ومشيت بجوار سور الحديقة المهجورة. لمحت بها عجوزًا
بيضاء الشعر تجرُّ كلبًا ضخمًا وتتفقَّد أرجاءها. بلغت الواجهة
الزجاجية فوجدتها مكشوفة. وقفت أتأمَّل ما بداخلها، كانت تشبه حجرة
مكتب؛ فبها مكتب ومقعد أمامه ودواليب كتب، وكانت هناك قِطع مختلفة
الأحجام من العادِيات المصرية موزَّعةً على أنحاء الغرفة بينها تلك
التماثيل الفرعونية المألوفة وبعض الأواني ذات النقوش الإسلامية،
بالإضافة إلى قطع من النسج القبطي. واصلت السير نحو الشارع الرئيسي،
ولمحت عاملة الصندوق في الصيدلية مستندةً بخدها إلى ساعدها وهي تتطلَّع
إلى الطريق بنظرة شاردة، وكان رمزي
يغازلها من مدة. ركبت المترو وبقيت فيه إلى آخر محطة، وعندما غادرت
العربة التقيت ماهر وزوجته. كان معي
في الجامعة. لمحت بوادر كرش كبيرة عند بطنه، وكانت زوجته تجر عربةً بها
طفل قبيح الوجه. مالت على الطفل تداعبه في حنان وزهو. وعبرنا شارع
الكورنيش وسرنا بمحاذاة
النيل. سألني ماهر أين أعمل الآن، وقال إنه اتصل بي منذ
شهر عند أخي ولم يجدني. قلت إني تركته. قال: إلى أين؟ قلت: مصر الجديدة
أيضًا ولكن في الناحية الأخرى منها. مشينا نحو كوبري قصر النيل وتأمَّلت شابًّا وفتاةً قادمَين
في الاتجاه المقابل. كانا يسيران في بطء وصمت وقد تشابكت يداهما، وكانا
يتطلَّعان إلى النيل وعلى وجهَيهما
نظرة بلهاء غبية. عند الكوبري اتجه ماهر وزوجته وطفله إلى الجزيرة، ومشيت أنا إلى ميدان التحرير. درت حوله، ومررت من أمام مقهًى جلس به بعض
معارفي يتناقشون في حماس. ناداني أحدهم لأنضم إليهم، فأشرت إليه من
بعيد أن لدَي موعدًا. اتجهت إلى شارع سليمان. مشيت وسط زحام المشترين والواقفين أمام واجهات
الحوانيت، وكان هناك عجوز ضخم وقور بكرش بارزة ونظارة يتحدَّث مع امرأة
في مثل سنه عن الملابس المعروضة في إحدى الواجهات وهو يشير بأصبعه.
أشعلت سيجارة، وعند منحنى الميدان التقيت بفكري ولم أكُن قد رأيته منذ سنوات. مشى معي وقال إنه
يريد أن يضم السنوات التي ضاعت عليه في السجن إلى مدة خدمته ليحصل على
الدرجة، وقال إنه خطب زميلةً له في المؤسَّسة وسوف يتزوَّجان بعد سنة،
وسألني عن درجتي فقلت إني لا أعرفها. سألته عن لمعي فقال إنه عاد من الخارج لكنه لم يجد مكانًا، وإنه
ترك منزله في القاهرة وأقام في حجرة
بجوار مصنع في الإسكندرية ولا
يغادرها أبدًا. افترقنا أمام الجريدة وصعدت إلى مكتبي. التقيت
بلبيبة على باب الصالة ووقفنا
نتحدَّث وأنا أستعرض المكاتب المصفوفة على الجانبَين من فوق كتفها. كان
معظمها خاليًا. لمحت فايزة معتمدةً
برأسها على ساعدَيها وقد استغرقت في النوم. قالت لبيبة بصوت منخفض إن فايزة أبلغت رئيس التحرير بأننا لا نأتي في مواعيدنا،
وقالت إن فايزة عصبية هذه الأيام لأن
شعرها بدأ يتساقط. مشيت بين المكاتب إلى مكتبي. رأيت سامي منحنيًا على مكتبه يرسم خطوطه الطولية
والعرضية المتقاطعة. وجلست إلى مكتبي، وتركت فاطمة مكتبها واقتربت مني. كانت ترتدي نظارةً خضراء
ضخمةً عريضة الإطار. طلبَت مني صحيفة اليوم. سألتها عمَّا تنوي أن تفعل
بها. قالت إنها تبحث عن نبأ، وكان مصطفى بجواري منهمكًا في حلِّ الكلمات المتقاطعة. قال
إن هناك اجتماعًا اليوم في الطابق الأعلى وسألني إذا كنت سأحضر. أجبت
بالنفي. قال إن الاجتماع الماضي كان حافلًا، وإنهم تبادلوا الاتهامات.
أعادت فاطمة الصحيفة إليَّ وأرتني
النبأ الذي قطعته منها. كان عن انتحار شاب من أعلى المجمع. وقالت إنها
تقطع أمثال هذه الأخبار وتحتفظ بها. ابتعدت فقلت لمصطفى إنه كان هناك خبر بالأمس عن زوجها السابق. قال
إنها تذهب إلى الكوافير كل يوم لأن شعرها فظيع. جذبتُ التليفون ناحيتي
واتصلت بزوجة أخي. قلت لها إنه كان يومًا رائعًا، وأكَّدت لها أني قادم
في المساء. جاء زكي وسألني عن نتائج
العدوان الإسرائيلي الأخير. قلت: قتلى هنا وقتلى هناك. قال إنه يريد أن
يعرف الأرقام بالضبط. قلت إني لم أهتمَّ بملاحظة ذلك. سألني إذا كنت
أعتقد أن إسرائيل ستنسحب. قلت: لا
أعرف. قال إن جريدةً فرنسيةً تؤكِّد أن يارنج فشل في مهمته. قلت: ربما. قال: هل تعتقد أن
أمامه فرصةً للنجاح؟ قلت: من يعرف؟ أشار إلى نبأ في صحيفة الصباح عن
تطبيق الإعفاءات الجمركية على العاملين في القطاع العام. قال: هل معنى
هذا أن الواحد منا عندما يسافر ويعود يمكنه أن يجلب معه شيئًا؟ قلت:
وإذا لم يعُد؟ واتصل بي فؤاد وقال
إنه انتهى من شريط جديد مُدَّته ثلاث ساعات. اتفقنا على يوم أذهب
لسماعه، وعاتبني إسماعيل على أن صورة
ابنه لم تظهر في المجلة رغم أني أعده بذلك كل أسبوع. وقال: الأحد
القادم إن شاء الله؟ قلت: إن شاء الله. وعادت لبيبة من الخارج تحمل بعض المشتريات، وتفرَّجت
فايزة وفاطمة على الجوارب التي اشترتها، وقامت فايزة وغادرت الصالة. وقال زكي إن الناس بدأت تتكلَّم في السياسة ولم
تعُد تخاف، وقال إن فكرة الانتخابات ممتازة، وسألني عن رأيي. قلت:
تمامًا. وقال إن هناك حديثًا عن علاوات جديدة لنا، وسألني إذا كنت
سأنضم للنقابة، وقال إن المطلوب هو ٤ صور شمسية وصورة من شهادة الميلاد
وصورة من شهادة أداء الخدمة العسكرية أو الإعفاء منها، وشهادة بأني
أعمل في الجريدة، وشهادة بأني مصري يوقِّع عليها اثنان من الموظَّفين،
وشهادة بحسن السير والسلوك وشهادة تخرج. قلت إن الحصول على كل هذه
الأوراق عملية مجهدة وإني لن أنضم. وعادت فايزة من الخارج تحمل كيسًا في يدها. اتجهت مباشرةً
إلى لبيبة وانضمَّت إليهما فاطمة. نادتني لبيبة فذهبت إليهن. أرتني زوجًا من الجوارب وقالت إن
فايزة اشترته الآن وتزعم أنه من
نفس النوع الذي أحضرته لبيبة، وقالت
إنها تريد مني أن أحكم بينهن، وكان وجهي قد صار قريبًا من وجوههن وقد
انحنينا جميعًا فوق الجورب نتأمَّله. شممت رائحة أفواههن وكانت
متشابهة. قلت إني لا أفهم في الملابس، وتذكَّرت أن اليوم عيد ميلاد
يحيى فطلبته في المنزل، قالت لي
زوجته إنه دخل مصحةً للأمراض العصبية. وأشار مصطفى إلى عبد
العليم الذي انتحى مكتبًا بعيدًا وكان منهمكًا في
الكتابة. قال إنه يكسب ذهبًا، وإنه يترجم ويؤلِّف طول الوقت ويتعامل مع
كل دُور النشر. اقترب مني زكي وكان
يحمل خطابًا في يده. قال إنه تلقَّاه الآن من قريبته وإنه سعيد. وسألني
عمَّا إذا كنت أُحب أن أتلقَّى الخطابات أم أكتبها. قلت: لا بد أن
أنصرف الآن. غادرت الجريدة ولمحت صادق يعبر الشارع وكان يرتدي قميصًا ملوَّنًا أسفل
معطفه وقد وضع قبعة على رأسه. أخذت المترو إلى منزل أخي. كانت هناك
إحدى قريباتنا وزوجها وأولادها. تعشَّينا وجلسنا أمام التليفزيون،
واستغرقت زوجة أخي في متابعة أحد المسلسلات. وقال أخي إن صديقًا له
أحضر من الخارج أسطوانةً جديدةً لموسيقى فيلم «الخروج» الذي مُنع عرضه
في مصر. وضعنا الأسطوانة فوق جهاز
الأسطوانات وأدرناه، وعاد أخي إلى مجلسه أمام التليفزيون، وسمعته يضحك
بصوت عالٍ، وطلبَت قريبتنا من زوجة أخي أن ترفع من صوت التليفزيون لأن
سمعها ثقيل. أوقفت الأسطوانة وأغلقت الجهاز وجلست معهم بعض الوقت، ثم
ودَّعتهم وخرجت. مشيت إلى منزل رمزي،
وجدته يقرأ في حجرته وسألني عن الأخبار. قلت: لا جديد. مضيت إلى الصالة
وخلعت ثيابي. أطفأت النور واستلقيت على الأريكة. تغطَّيت جيدًا ونمت.
حلمت أني في الشارع وأن امرأةً شقراء بأصباغ كثيرة تتجه نحوي في تصميم
وتُمسك بذراعي، حاولت أن أعض يدَيها الرقيقتَين الصغيرتَين، وقالت لي
إنهم سلخوا فخذَيها، ثم وجدتني أمام دولاب صغير وفوقه عنكبوت أسود.
حاولت أن أضربه بالشبشب ووجدت أني أصبت حذاءً نسائيًّا أسود، ولمحت
العنكبوت يقفز في الهواء وتحوَّل إلى فرقع لوز، ثم ضربناه وسقط في ركن
يتلوَّى، وأردت أن أرى وسطه وهل هو مستدير، وإذا به يقفز عدة مرات وهو
يصرخ وبجواره جزء منفصل منه عبارة
عن أفخاذ مسلوخة، وأدركت أن ما قالته السيدة حقيقي. ثم وجدتني في ممر
وشعرت بشيء في ظهري، وفكَّرت أنه لا بد أن يكون عنكبوتًا كبيرًا وهو
على وشك أن يلدغني. حاولت أن أتذكَّر أين يكمن خطره، وكنت عاجزًا عن
خلع سترتي، ودرت بها أمام الجالسين، وأنا أتمنَّى أن يساعدني أحد لكن
أحدًا لم يفعل.