الفصل الثاني
كان الطريق قذرًا موحلًا وقد تلاشت
معالمه من ذاكرتي. وقلت لسعيد إني ما
كنت سأعرف المنزل لو جئت بمفردي. قال إن أمه منذ أسبوعَين تُلح على
رؤيتي. قلت: لعلها أحسن حالًا الآن. قال: ما زالت تعتقد أن أخي على قيد
الحياة، وأنه سيأتي ذات يوم. أردت أن أصدِّق ذلك للحظة، لكنى كنت أعرف
أنهم ضربوه حتى مات، ثم أخفَوا جثته. وجدنا أمه متربِّعةً على فراشها
ورأسها ملفوف بلفاعة بيضاء. وكان وجهها الأبيض صبوحًا. قالت إنها غاضبة
مني لأني لم أزُرها. قلت: لعلي أنتظر أنا أيضًا عودة ابنها. قالت إنه
أرسل لها منذ أسبوع أنه قادم لكنه لم يأتِ. نظرتُ إلى سعيد، ثم إليها وقلت: سيأتي بالتأكيد. قالت
إنها أعَدَّت لي كبدةً محمَّرةً كالعادة. قلت إني لن آكل لأن لديَّ
عملًا. ونظرتُ إلى ساعتي. كان أمامي ساعة على موعدي مع عفاف. قلت إني سآتي مرةً أخرى. ورافقني
سعيد إلى أول الشارع. أخذت
الأوتوبيس إلى منزل رمزي، وكان يُقيم
بمفرده في الناحية الأخرى من مصر
الجديدة. نزلت في الشارع الرئيسي وانطلقت إلى الشارع
الجانبي الذي يقع منزل رمزي على
ناصيته. كان الهواء باردًا لاسعًا كالعهد بشهر فبراير. مشيت بجوار سور طويل من الآجر الأحمر تبدو منه
حديقة مهجورة. وكان بالسور باب حديدي صغير عليه لافتة تحذِّر من
الكلاب، وبجواره واجهة زجاجية عريضة كواجهات الحوانيت لا يَبين شيء من
ورائها بسبب مصاريع خشبية مثبتة من الداخل، وفوق الحانوت الغريب كانت
هناك لافتة بالخط الكوفي تتألَّف من هذه الكلمات: كان يا ما كان. ولم
يحدث أن رأيت ما بداخل الحانوت من قبل؛ ففي المرات التي مررت فيها من
هنا كنت أجد المصاريع الخشبية مغلقة، وأنسى دائمًا أن أستفسر من
رمزي. بلغت المنزل الذي يسكن
طابقه الثالث، وكان البوَّاب مضطجعًا كعادته أمام المدخل في مقعد من
القش وقد بدت ذقنه البيضاء المشذَّبة أنيقة، وأمسك بالقرآن. صعِدت
السلَّم وكان المفتاح معي ففتحت ودخلت. خلعت سترتي وطفت بأرجاء الشقة،
عثرت على نصف زجاجة براندي فصببت منها في كوب زجاجي، وجلست في الصالة
أدخِّن أمام التليفون، ودقَّ جرس الباب فأسرعت أفتح لعفاف. كانت تلهث
وقالت إنها صعدت السلم جريًا، وإن البوَّاب رماها بنظرة نكراء. أخذتها
من يدها إلى الصالة وأجلستها على أريكة وجلست أمامها. قالت إنها وجدت
صعوبةً في العثور على المنزل، وإن وصفي له لم يكن دقيقًا. انتقلت إلى
جوارها واحتضنتها وقبَّلتها في فمها، ولم تكُن تعرف كيف ترد القبلة.
وتمدَّدنا على الأريكة، وبعد لحظة قامت وخلعت ملابسها، وقالت إن الدنيا
برد، فأحضرت غطاءً من حجرة النوم. خلعت ملابسي ورقدت إلى جوارها،
وعندما حاولت أن ألمس صدرها رفضت، لكنها تركتني أعبث بكل مكان آخر في
جسمها، وقالت إنها طوع أمري لو شئت أن أجعل منها امرأة. وكنت مشدودًا
لكني لم أتمكَّن منها. كانت رائحتها نفَّاذةً فحوَّلت أنفي بعيدًا.
أجلستها أمامي وحاولت مرةً أخرى لكني لم أكُن قويًّا بما فيه الكفاية،
وحاولت من جديد أن أنتهي بأي شكل ففشلت أيضًا. وتمدَّدت بجوارها
متعبًا. قالت إنها لا بد أن تذهب حتى لا يقلق والدها. وقامت إلى
الحمَّام فغسلت وجهها وسوَّت شعرها. وذهبت أنا إلى حجرة النوم ووقفت
أمام المرآة أتأمَّل نفسي عاريًا، كنتُ ما أزال مشدودًا. وعُدت إلى
الصالة فوجدتها ترتدي ثيابها، ارتديت ثيابي أنا الآخر وغادرنا الشقة،
وتركت المفتاح في مكان خفي بأعلى بابها. صحبتها إلى محطة الأوتوبيس
وسألتني متى سنلتقي، قلت إني سأتصل بها. وعدت أدراجي مشيًا إلى منزل
أخي، فاشتريت علبة سجائر من البقَّال المواجه، وتأمَّلت وجهه الذي يحمل
دائمًا تعبير من يوشك على البكاء، ولم يكُن هناك أحد في شقة أخي، فدخلت
غرفتي وأغلقت بابها خلفي. خلعت حذائي وتمدَّدت على الفراش بملابسي
وأشعلت سيجارة، وتطلَّعت إلى حقيبتي فوق خزانة الملابس، ثم رأيت
الكراسة التي كنت أكتب فيها بالأمس ملقاةً على المكتب. قمت وجلست إلى
المكتب. قرأت آخر ما كتبته، ثم جذبت أحد الأدراج ووضعت الكُراسة به
وأغلقته بالمفتاح ووضعت المفتاح في جيبي. رنَّ جرس التليفون فخرجت إلى
الصالة ورفعت السمَّاعة. كان أخي يسأل عن زوجته، قلت إني بمفردي في
المنزل. طلب مني أن أسأل جيراننا فربما تكون قد تركت نهاد تلعب مع أولادهم. وضعت السمَّاعة
بجوار الجهاز وغادرت المسكن وطرقت باب الشقة المجاورة. قالوا لي إنهم
لم يرَوا زوجة أخي أو ابنته اليوم. عدت إلى أخي فأبلغته بما قالوه،
وأعدت السمَّاعة مكانها فوق الجهاز. دقَّ التليفون مرةً أخرى وكانت
إنصاف هي التي تتحدَّث هذه
المرة، قالت إنها تريد أن تبكي. سألتها: ماذا حدث؟ قالت: لم يحدث شيء.
وطلبت مني أن أذهب إليها. أعدت السمَّاعة مكانها وذهبت إلى حجرتي
فارتديت حذائي ومعطفي وخرجت. ألفيتها منحرفة المزاج وقد برزت جفونها
المنتفخة. قالت إنها لا تعرف ماذا حدث لها، لكنها ضاقت فجأةً بكل شيء.
وكانت أختها تجلس على مقربة، وهي عجوز جافة لا تخلع السواد أبدًا،
وتدقِّق النظر من خلف عُوينات قديمة في قماش تحيكه. قالت إنصاف إنها تريد أن تذهب إلى السينما،
فأخذتها إلى فيلم «هيروشيما حبيبي»، وكانت زوجة عادل هناك بمفردها. وجلست إنصاف بجوارها وجلست أنا خلفهما. وعندما انتهى الفيلم
وأُضيئت الأنوار وقفَت زوجة عادل
بعينَين مغرورقتَين وقالت إنها لا بد أن تذهب على الفور وانصرفت. قالت
إنصاف ونحن في التاكسي الذي
حمَلنا إلى منزلها: كيف يمكن أن ينسى الإنسان أو لا ينسى؟ وأمام باب
شقتها دعتني إلى الدخول، فقلت إني لم أذهب بعدُ إلى الجريدة، ونزلت إلى
الشارع. سرت إلى محطة المترو ثم غيَّرت رأيي واتجهت إلى الشارع الذي
يمر به الأوتوبيس. لمحت شابًّا وفتاةً يسيران على مهل وقد أحاطها
بذراعه. تابعتهما ببصري، ولمحت التليفون في كشك سجائر قريب، فذهبت إليه
واتصلت بمنزل أخي. ردَّت عليَّ نهاد
ذات الخمسة أعوام وقالت إن أمها كانت تبحث عني، وجاءت زوجة أخي على
التليفون وقالت إنها كانت تريد أن تراني، قلت إني كنت بالمنزل ولم يكُن
به أحد. قالت إنها ضاقت بالمنزل فجأةً فأخذت نهاد وذهبتا إلى الكازينو المجاور. قلت إني ذاهب إلى
الجريدة وربما أكلِّمها من هناك. صعدت إلى الأوتوبيس ووقفت بجوار فتاة
ممتلئة الجسم، ولم يكُن الزحام شديدًا. فككت أزرار معطفي، وانتهزت فرصة
مرور المحصِّل فالتصقت بها، ثم ابتعدت وتطلُّعت حولي. لم يكُن أحد ينظر
إليَّ، وكانت هي الأخرى تتطلَّع حولها دون أن تنظر ناحيتي. وتوقَّف
الأوتوبيس فجأةً في إشارة مرور فطوَّح بنا جميعًا، وانتهزتها فرصةً
لأعاود الالتصاق بها. استدارت هي قليلًا حتى أصبح جسمها كله على ساقي،
وبقينا هكذا فترة، ثم خلا المقعد المقابل فجلسنا متلاصقَين وقد تلامست
ركبتانا. وبعد لحظة أبعدَت ساقَيها في هدوء، وانصرفت إلى تأمُّل الطريق
من النافذة. أشعلت سيجارةً وأنا أنظر أمامي في لوح الزجاج المظلم
المثبت خلف السائق، ونزلت أمام الأمريكين. دخلت الحانوت وأكلت قطعتَين من الحلوى،
ولمحتُ سلوى تشتري صندوقًا من
الشوكولاتة. مشينا سويًّا إلى الجريدة، وكان المارة يتمهَّلون
ليحدِّقوا فيها. كانت بيضاء ممتلئة، جعل الكحل عينَيها في سعة الفنجان،
وأوشك شعرها الأسود الفاحم أن يغطِّي إحداهما. وكانت تتابع من ينظرون
إليها ببصرها، ورأيتها تتطلَّع باهتمامٍ إلى شاب مفتول العضلات توقَّف
في منتصف الطريق ينظر إلينا، ثم تأمَّلَت بفضول شابًّا وفتاةً يسيران
متلاصقَين. كانت تكلِّمني وهي تتابع يد الشاب تمتد لتحيط بكتف الفتاة.
وأخذنا المصعد سويًّا. دعتني إلى الصعود معها إلى مكتبها فقلت إني
سأفعل بعد قليل، وغادرتها في الطابق الذي يقع به مكتبي. مررت بغرفة
الرسامين وتطلَّعت داخلها بحثًا عن امرأة لا أعرفها ذات عينَين
سوداوَين لامعتَين كانت قد ابتسمت لي من يومَين فلم أنم ليلةً بكاملها.
لم أجِدها، فولجت الصالة التي يقع مكتبي في نهايتها. جلست بمفردي أمام
أربعة مكاتب خالية، وأتاني ضجيج المطبعة من أسفل، وخلفي أدار أحدهم
جهاز راديو، وكان عبد الحليم حافظ
يغنِّي بحماس: مشغول وحياتك مشغول.