الفصل الرابع
كان باب غرفتي مواربًا كما تركته
طول الليل دون جدوى. وتابعتهم من فتحته الضيقة وهم يستعدُّون للخروج
ككل صباح. مرَّت زوجة أخي من أمام الباب في طريقها إلى حجرتها، وخُيِّل
إليَّ أنها تمهَّلت أمامه قليلًا، وأنها ستدفعه وتدخل أو تقول شيئًا
لي، لكنها واصلت السير إلى حجرتها، ثم عادت بعد أن ارتدت حذاءها.
سمعتها تقول شيئًا لأخي. وارتفع صوت بكاء نهاد. قالت لها زوجة أخي إن البرد لم يذهب بعد، ولا بد
أن ترتدي السترة الصوفية. انضمَّ أخي إلى ابنته وقال إن الناس لا
يلبسون الصوف في شهر أبريل. وسمعت
وقع أقدامه. كفَّت نهاد عن البكاء
بعد أن كسبت المعركة، وسمعت صوت حذاء زوجة أخي في الصالة، ثم صوت صفق
الباب الخارجي. وساد الصمت. ظَلِلت ممدَّدًا أتطلَّع إلى السقف، ثم
غادرت الفراش وفتحت النافذة، وكان الجو غائمًا يُنذر بمطر. انطلقت إلى
الحمَّام فحلقت ذقني واغتسلت، وعُدت إلى الحجرة فجفَّفت وجهي وساويت
فراشي. مضيت إلى المطبخ. وجدت إفطاري معدًّا على المائدة، لكنني لم
أشعر برغبة في الأكل. أعددت كوبًا من القهوة حملته إلى الصالة، وجلست
أحتسيها أمام التليفون. كانت الصحف ملقاةً بجواره فتناولتها، ثم أعدتها
مكانها، ووضعت كوب القهوة على الأرض. قمت إلى حجرة أخي فتفحَّصت فراشه
وملاءته بدقة، وفعلت المثل بفراش زوجته، ثم عدت إلى الصالة واستأنفت
احتساء قهوتي. أشعلت سيجارة، وتحرَّكت أمعائي، فذهبت إلى الحمَّام، ثم
عدت إلى الصالة. جلست أُكمل سيجارتي، ثم قمت فأخذت قرصَين من الأسبرين
وعدت فأمسكت بسمَّاعة التليفون. طلبتُ زوجة أخي في الشركة وقلت لها إني
أريد أن أراها الآن. قالت: تعالَ إلى الشركة. قلت: لا، تأتين أنت.
قالت: كيف؟ قلت: خذي إجازةً أو اعتذري أو أي شيء. قالت: مستحيل فالمدير
طلبني الآن والدنيا بدأت تُمطر. قلت لا بد أن أراكِ الآن. قالت: لكننا
سنلتقي على الغداء. قلت: سيكون أخي موجودًا. قالت: إذن بالليل. قلت:
سأذهب إلى الجريدة. سكتت، ثم قالت: الخادمة قد تأتي هذا الصباح. قلت:
كانت هنا بالأمس. قالت: أنت مجنون. وسمعتها تضع السمَّاعة في عنف.
ظَلِلت أنظر إلى السمَّاعة في يدي، ثم وضعتها فوق جهاز التليفون، وبعد
لحظة دقَّ الجهاز ورفعت السمَّاعة فقالت إنها ستأتي بعد عشر دقائق،
وليس معها نقود للتاكسي. قلت إني سأنتظرها في الشارع لأدفع له. ارتديت
ملابسي بسرعة ونزلت إلى الشارع، وكان خاليًا بسبب المطر الذي شرع
يتساقط. وقفت تحت شجرة وأنا أُزيل قطرات المطر التي وقعت على ملابسي،
ولمحت تاكسيًا يقترب وهي بداخله. توقَّف التاكسي، فاقتربت منه وفتحت
الباب. وجدتها تدفع أجرته للسائق، وقالت إنها عثرت على بعض النقود في
حقيبتها. وغادرت السيارة. وكانت عيناها محتقنتَين. قالت إني ما زلت
صغيرًا. صعِدنا إلى المسكن ودخلَت تتفقَّد الغسيل المعلَّق في شرفة
المطبخ، بينما وقفت أنتظرها على بابه. ثم جلسنا في مقعدَين متقابلَين
في الصالة. قلت لها إني ظَلِلت مستيقظًا طول الليل أنتظرها، قالت إنها
بالأمس كانت متعبة، وإنها أصبحت تخشى المجيء إلى حجرتي بالليل فقد يبحث
عنها أخي ولا يجدها في حجرتها. قلت إنها تغيَّرت في الأيام الأخيرة،
وإذا كانت تُريد أن ننتهي فلْننتهِ بهدوء ودون كل هذا. قالت إنني عبيط،
وإنها لو أرادت ذلك لفعلته على الفور بالطبع. ظَلِلنا صامتين ونحن
نتبادل النظرات، ثم بدا أنها شردت في شيء آخر. قامت فجأةً وانحنت عليَّ
وقبَّلتني في فمي بشفتَين باردتَين. قالت إنها لم تقبل المجيء الآن إلا
لأنها شعرت أني في حاجة مُلِحَّة إليها. وانطلقت إلى الداخل. قمت إلى
باب الشقة وأغلقته بالمزلاج، وعندما عدت إلى حجرتي وجدتها في فراشي وقد
التفَّت بالأغطية، وكان جسمها باردًا ولم تدبَّ فيه الحرارة إلا بعد
فترة. ورقدت ساكنةً على ظهرها بلا حراك، وجسدها مبسوط حتى نهايته كما
تفعل دائمًا. انتهيت بسرعة وتمدَّدت بجوارها. وبعد قليل ضحكت وقالت إن
المدير اليوم تعمَّد أن يلمس ذراعَيها وقال لها إنهما جميلتان. وقالت
إنه يغازلها من زمن. دقَّ جرس التليفون فسألتني ما إذا كنت سأرى من
المتحدِّث. كنت أتطلَّع إلى السقف. وقلت: لا. قالت إنه ربما كان أخي
وقد كلَّمها في الشركة ولم يجدها. قلت: ربما كان فهمي. قالت: ماذا تعني؟ قلت: إنه يزورنا كثيرًا هذه
الأيام دون زوجته. قالت إنه لم يعُد بينها وبينه شيء. قلت: لم تذكري لي
من قبلُ أنه كان هناك بينكما شيء. قالت: كيف؟ ألَا تعرف؟ الجميع كانوا
يعرفون، وقد أوشك أن ينتحر مرة. وقالت إن أخي يحبُّني كثيرًا. قلت:
وأنا أيضًا أحبُّه. قالت: بودي لو نذهب نحن الثلاثة إلى مكان ما
سويًّا. استدرت بوجهي ناحيتها فضحكت. قلت: ماذا يحدث لو جاء الآن
ووجدنا هكذا؟ هزَّت كتفَيها وقالت لا أعرف. ومدَّت يدها وتحسَّستني
ولكني كنت هادئًا. سألتها: من الذي كان يكلِّمك أمس في التليفون؟ قالت:
هذا شاب كان يحبُّني وأنا صغيرة جدًّا، ثم تزوَّج وفوجئت به يسأل عني.
لا أدري كيف وجد طريقي ونمرة التليفون. وقالت إنها غضبت مني أمس لأني
رفضت أن أذهب معها لتشتري حذاءً. قلت: كان أخي معك. قالت: وماذا في
هذا؟ قلت: أنتِ تريدين أن تسحبينا جميعًا خلفك أينما ذهبت. سألتني عن
الساعة. وكان موعد عودة نهاد من
المدرسة يقترب، فقالت إنها لا بد وأن تقوم. وقالت: الذي يسمعك في
الصباح يتصوَّر أنك كنت ستفعل الأعاجيب. وقامت إلى الحمَّام. ارتديت
ملابسي وساويت شعري، ثم غادرت المسكن. عبرت الشارع إلى البقال وأخذت
منه علبة سجائر، وتأمَّلت وجهه المشرع بالبكاء. سِرت في الشارع وكان
المطر قد توقَّف. مرَّت بي سيارة مُسرعة نثرت رذاذًا من ماء الطريق على
ملابسي فلم أعبأ، وانطلقت إلى محطة الأوتوبيس فركبت إلى وسط البلد.
شققت طريقي وسط الزحام، ووقفت إلى جوار امرأة، وكان هناك رجل قصير
خلفها، وكان كثير الحركة. وبدأ الواقفون ينظرون إليه وإلى ما بين
جسدَيهما. أعطيتها ظهري فأخفيتها بذلك عن أعين الواقفين بجواري، وبعد
قليل استدار الرجل وأعطاها ظهره. لمحتُها تتطلَّع بطرف عينها تحاول أن
تفهم ما حدث. وخلا مقعد أمامها فلم تجلس، وأشرفنا على محطتي لكني لم
أنزل وظَلِلت واقفًا بجوارها، وشعرت أنها ستهبط في المحطة التالية
فتحرَّكت لأهبط وراءها. وعندما أصبحت خلفها شعرت بها تُبرز مؤخِّرتها
في محاولةٍ للمسي فالتصقت بها. حاول شخص خلفي أن يحتل مكاني لكني
تمسَّكت بموقفي وسُقتها دفعًا في الزحام نحو الباب. غادرنا السيارة
فعبرت الطريق، وأخذت سيارةً أخرى عادت بي إلى محطتي. صعدت إلى مكتبي
وكان سامي جالسًا إلى مكتبه وقد نشر
أمامه ورقةً كبيرةً وأخذ يرسم بعناية خطوطًا متوازيةً بالعرض، تقطعها
خطوط متوازية بالطول. أرسلت في طلب طعام. اقتربت مني مايسة وقالت إنها متعبة، وإنها تذهب إلى
فراشها مبكِّرةً دائمًا، وتظل تبكي حتى تنام. تأمَّلت شفتَيها
المكتنزتَين. قالت إن الزواج هو الحل، ولكن لم يعُد هناك من يبغي
الزواج. نادتها صديقة لها ذات عِظام عريضة وقد بدت غاضبة. جاءني الطعام
فأكلت. ودقَّ جرس التليفون. كان فؤاد
وسألني لماذا لم أذهب إليه كما وعدته، وقال إنه يريد أن يريني عدة
تماثيل لقطط وأرانب انتهى منها بالأمس. اتفقنا على أن نلتقي بعد
يومَين. ودقَّ الجرس مرةً أخرى. وجدتها سلوى، قالت: إنها تتكلَّم بالطابق الأعلى من مكتبها،
وقالت إنها تُريد أن تسألني في شيء، قلت إني سأصعد إليها بعد قليل.
أنهيت طعامي ووضعت أوراقي في الدرج وصعدت إليها، وكانت بمفردها وقد
ارتدت ثوبًا أزرق ولفَّت عنقها بوشاح من نفس اللون. قالت إنها أُصيبت
بالبرد لأنها تجاهلت نصائح أمها وارتدت أمس فستانًا بلا أكمام، وقالت
إنها لا تطيق الفستان إلا مرةً واحدةً أو مرتَين على الأكثر. وقالت إن
صديقةً لها قد خُطبت وتريد أن تنشر صورتها مع خطيبها في الجريدة،
وتريدني أن أقوم بهذه العملية لأنها لا تتحدَّث مع فوزي، وقالت إن فوزي هذا غريب، ولأنها كانت تعامله برِقة كعادتها ظنَّ
أنها مغرمة به، وأصبح يحاسبها على كل تحرُّكاتها ومقابلاتها، بل اكتشفت
أنه تعقَّبها اليوم في الطريق، وقالت إنها تعاني دائمًا من الرجال
الذين يلاحقونها ولا تعرف ماذا تفعل معهم؛ فهي تحرص على ألَّا تَمَس
مشاعرهم. وقالت إنني الوحيد الذي تشعر معه بالاطمئنان، وإن كاتبًا
مشهورًا كتب عنها رواية. أزاحت خصلةً من شعرها غطَّت عينها اليمنى،
وتناولت حافظةً صغيرةً من درجها وغادرتني لحظة، وعندما عادت لاحظت أنها
أضافت طبقةً جديدةً من الماكياج إلى وجهها، وضاعفت الكحل في عينَيها
حتى صارتا في حجم الفنجان، عرضت عليها أن نذهب إلى أي مكان، فقالت إنها
اتفقت مع صديقة لها على الذهاب إلى فيلم جيمس
بوند الجديد. قلت إني شاهدته مرَّتَين. أخذتُ صورة
صديقتها وخطيبها، وقلت كان يجب أن يبتسما قليلًا. هبطتُ إلى مكتبي،
وجدت سالم جالسًا إليه، قال إنه جاء
إلى الجريدة لأنه لم يجد مكانًا آخر يذهب إليه، وقال إن البيت أصبح
مورستان، وإن زوجته دائمة الشكوى. وجاء مصطفى وقال إنهم يحتفلون الليلة بجلال، وسيقدِّمون إليه كأس الأدب. وقال إن الشاعر
سيكون هناك. لم أكُن قد رأيته منذ عشر سنوات، وكنت ألقاه دائمًا
بالصدفة في أماكن متفرِّقة من القاهرة؛ فقد كان دائم التجوال في
الشوارع. ذهبت مع مصطفى إلى النادي،
وتعرَّفت على الشاعر بصعوبة؛ فقد امتلأ جسده كثيرًا، وأصبح له كرش
بارز، وحمل في أصبعه خاتم زواج. وتلقَّى جلال كأسًا فضيةً كبيرةً ككئوس كرة القدم. وقال
مصطفى إنه يريد أن يشرب شيئًا.
وبحثت عن الشاعر فوجدته قد انتحى رُكنًا واستغرق في النوم. شبَّك
مصطفى ذراعه في ذراعي وغادرنا
المكان. جلسنا في بار مزدحم بشارع سليمان. قال إنه ضجر ولا يريد العودة مبكِّرًا إلى
البيت، وقال إن زوجته تنتظره وقد وضعت زجاجتَي بيرة في الثلاجة، وقال
إنه يتوق إلى مايسة وشفتَيها
الممتلئتَين، وقال إنه أجدر الناس بأن يكون مسئولًا عن الصفحة، وإن هذا
أوشك أن يتحقَّق في الشهر الماضي لولا أنهم غيَّروا رئيس التحرير، وقال
إن الرئيس الجديد لا يفهم، وقال إنه بدأ أخيرًا يهتم بالسياسة بعد أن
نجح في أن يبقى بعيدًا عنها وعن أخطارها طوال السنوات الماضية. وشعرنا
فجأةً بهدوء غريب يسود البار. تطلَّعت حولي فوجدت عدة رجال يقفون في
المدخل وفي مقدِّمتهم رجل أنيق يضع يدَيه في جيبَي بنطلونه. وكانت
الأنظار قد بدأت تتجه إليهم. ودفع أحد الجالسين حسابه بسرعة واتجه إلى
الباب فأعاده الرجل الأنيق إلى الداخل. وقال مصطفى إنهم يبحثون عن شيء. واقترب الرجل الأنيق من أحد
الجالسين وطلب منه بطاقته. بحث مصطفى
عن بطاقته في جيبه وهو يقول إنها تكون كارثةً لو كان قد نسيها. قلت إن
بطاقتي لا تحمل غير اسمي فقط وعنوان قديم. عثر مصطفى على بطاقته فوضعها أمامه قائلًا: ماذا سنفعل
الآن؟ قلت إنهم يبحثون عن شخص محدَّد بالذات. حاول بوَّاب نُوبي أن
يجادل فنال عدة صفعات ولكمات. قال مصطفى إنه كان يجدر به أن يذهب إلى زوجته المنتظرة
وزجاجتَي البيرة، وقال ربما لن أذهب على الإطلاق. أشعلت سيجارة، وكانت
أصابعي ترتعش. واحتفظ الرجل الأنيق ببطاقة أحد السكارى وطلب منه أن
يذهب معه. وغادروا البار بعد أن هدَّدوا صاحبه بالإغلاق لأنه تأخَّر عن
الموعد القانوني. وشرع هذا بجمع الأكواب والزجاجات بسرعة، فدفعنا
حسابنا وانصرفنا.