الفصل السادس
استيقظت فجأةً على صوت دوي
بالخارج. رفعت يدي لأرى ساعتي، وكانت التاسعة والنصف. بقيت ممدِّدًا
أتطلَّع إلى ضوء الشمس من النافذة، وتكرَّر صوت الدوي، وكان أشبه بصوت
القنابل، فغادرت الفراش. سمعت جرس التليفون فانطلقت إلى الصالة ورفعت
السماعة. كانت زوجة أخي، قالت: ألم تسمع بعد؟ بدأت الحرب. وقالت إنها
تتكلَّم من الشركة وستغادرها بعد قليل عائدةً إلى المنزل. قلت إني
سأذهب إلى الجريدة وسأُكلِّمها من هناك. بحثت عن الراديو الترانزستور
ووجدته على فراش نهاد. أدرته فسمعت
المذيع يقول إننا نُسقط طائرات العدو، وأعقبَته موسيقى حماسية، ثم بيان
عن بدء العمليات الحربية ضدنا. أغلقت الراديو وعدت إلى الصالة وبحثت عن
صحف اليوم فوجدتها في المطبخ، وكانت العناوين الرئيسية تُعلن عن تدهور
الموقف واقتراب ساعة الصفر. ذهبت إلى الحمام فحلقت ذقني وغسلت وجهي
وأسناني، ثم عدت إلى المطبخ فشربت كوبًا من اللبن وأنا أقرأ الصحف،
وأخرجت بيضتَين من الثلاجة وضعتهما في إناء على النار. انتظرت حتى غلت
المياه جيدًا فحملت الإناء إلى الحوض وفتحت عليه الصنبور، ثم تناولت
البيضتَين وكسرتهما. وجلست إلى المائدة وأمسكت بالصحف وقلَّبتها، وجعلت
أقرأ أنباء الصفحات الأخيرة وأنا آكل البيض بعد أن أغمسه كل مرة
بالملح. ثم ذهبت إلى الحمام فغسلت يدَي وعدت فصنعت فنجانًا من القهوة
احتسيته مع السيجارة، وذهبت مرةً أخرى إلى الحمام. ثم دخلت حجرتي وأدرت
الترانزستور فسمعت بيانًا عن إسقاط المزيد من الطائرات. أغلقت
الترانزستور، وارتديت قميصًا وبنطلونًا وغادرت الشقة. كان هناك زحام
أمام البقال، وفي كل مكان كان الناس يتجمَّعون حول أجهزة الراديو وهم
يصفِّقون بحماس. مشيت طويلًا أبحث عن سيارة تاكسي؛ فلم تكُن هناك
سيارات أوتوبيس، وعربات المترو متوقفة وبها بعض الركَّاب ينتظرون، وكان
الجميع يسيرون. وجدت سيارةً حملتني إلى الجريدة، ووجدت أمامها كميات من
أكياس الرمال. صعدت إلى مكتبي، وجدته مكتظًّا وقد أحضر أحدهم راديو
وضعه وسط الصالة وأداره بأعلى صوت، وكان الجميع يسألون عن آخر الأخبار.
جلست أقرأ ما تقوله الوكالات الأجنبية. ودقَّ التليفون، سألتني زوجة
أخي عن آخر الأخبار، فقلت إني وصلت لتوي، وإني سأتصل بها عندما يجِد
جديد. أوشكَت أن تضع السماعة فسألتها عن موعد عودة أخي، قالت إنها لا
تعرف بالضبط، وإنه تكلَّم وقال إنه سيعود مبكِّرًا. عدت أقرأ الأخبار،
وكانت الوكالات تردِّد ما نذيعه عن إسقاط الطائرات الإسرائيلية. ودقَّ
جرس التليفون، سألتني إنصاف عن
الأخبار فطمأنتها، ثم اتصل بي أخي وسألته من أين يتكلَّم؟ قال: من
المنزل. سألني عن آخر الأخبار وهل صحيح ما نذيعه؟ قلت: أجل. وضعت
السمَّاعة فدق التليفون من جديد. وجدتها عفاف، قالت إنها لم ترَني من زمن، وإنه لا يوجد أحد
بمنزلها الآن وبوسعي أن أذهب إليها. قلت لها إن هذا مستحيل؛ لأني أعمل،
ولأن المواصلات مقطوعة. قالت: الأخبار جيدة أليس كذلك؟ قلت: أجل رائعة.
وجاء زكي يسأل عن آخر الأخبار فقلت:
لا جديد. قال: ماذا تتوقَّع؟ قلت: لا أعرف. قال: سنعطيهم علقةً ساخنة.
وقال صادق إنه سيكتب مقاله القادم من
تل أبيب. وكان الراديو ما زال
دائرًا بأعلى صوت. وشعرت بصداع، وشرعوا يُلصقون أوراقًا سوداء
بالنوافذ. تناولت قهوةً وأكلت سندويتشًا، وتابعت فم مايسة الممتلئ وهي تأكل هي الأخرى. وعندما
حلَّ المساء شعرت بتعب شديد، فدخلت غرفةً جانبية، واستلقيت على مقعد،
ثم عدت إلى مكتبي. واتصلت بي زوجة أخي، قلت إني لا أعرف متى سأعود،
وأخيرًا أعلنوا أن هناك سيارةً ذاهبةً إلى مصر
الجديدة، فركبتها. انطلقنا في شوارع مظلمة تمامًا،
وأنزلوني أمام المنزل، فصعدت السلم في الظلام. فتحت باب الشقة فوجدتها
مظلمة، ولم يكن بها صوت. تحسَّست الجدران إلى حجرتي. خلعت حذائي، ثم
دخلت الحمام وأشعلت النور، فصاح بي شخص من الشارع فأطفأته. استحممت في
الظلام وعدت إلى حجرتي فنمت على الفور. واستيقظت متأخِّرًا في اليوم
التالي، وكان أخي وزوجته قد ذهبا إلى عملهما، فقرأت الصحف وأفطرت وشربت
القهوة وأخذت تاكسيًا إلى الجريدة، وجاء أحمد منفعلًا يسألني عن الأخبار. قال: ألم ندخل
تل أبيب بعد؟ ظَلِلت أمام مكتبي
طول اليوم، وغادرت الجريدة عند المغرب. وكانت بعض الأوتوبيسات تسير على
مهل وقد أظلمت أنوارها، وغطَّت مصابيحها الأمامية بطلاء أزرق. لحظت
أنها كانت خاليةً من النساء. وركبت سيارةً بها كثير من المقاعد
الخالية. وجدت أخي وزوجته في الصالة وقد أغلقا النوافذ بعد أن غطَّياها
بالورق الأزرق، وكانت أمامهما شمعة صغيرة. سألاني عن الأخبار فقلت: لا
جديد. دوَّت صفارة الإنذار وحدث هرج في الشارع وفي المنزل، وارتفعت
صيحات تطالب بإطفاء الأنوار. أطفأَت زوجة أخي الشمعة وجلسنا في الظلام.
وبعد قليل دوَّت أصوات انفجارات بعيدة. تساءل أخي: أهي قنابل أم مدافع
مضادة للطائرات؟ وطُرِق الباب. كان جارنا الذي ينتظر زوجة أخي كل صباح
على السلم، وكانت معه زوجته وأولادهما. قال إن زوجته تشعر بالخوف، وطلب
أن يبقوا معنا قليلًا. قالت زوجته إنه هو الذي يخاف. أحضرَت زوجة أخي
مقعدَين من الداخل. حاولت أن أتبيَّن في الظلام مكان الرجل من زوجة أخي
فلم أتمكَّن. بكت نهاد، وقال أخي إنه
يحسن بنا أن ننزل إلى المخبأ. قلت: لن يكون هناك فرق. وقال جارنا إننا
نسكن لسوء حظنا قرب المطار. قالت زوجة أخي إن الجميع يهبطون إلى
المخبأ. وقلت لأخي إن أبي لم يكُن يُحب المخابئ. قال إنه لا يتذكَّر؛
فقد كان في الميدان في حرب فلسطين
الأولى. قلت إن أبي كان يقول إن الطوابق العليا تسقط فوق المخابئ
فتُدمِّر من بها وينجو من بالأُولى. قالت زوجة أخي إن القنابل يمكن أن
تدخل من النوافذ وتنسف الطابق. وازداد بكاء الأولاد، وتتابع الدوي. قال
أخي: لننزل. وغادرنا الشقة ونحن نتخبَّط في الظلام. هبطنا السلم في
صعوبة. وكانت زوجة أخي تهبط بجواري. مدَّت يدها في الظلام، فأمسكَت
بيدي وقبضت عليها بقوة، ثم رفعتها إلى شفتَيها. ووقفنا متجاورَين في
المخبأ، وكانت يدها الأخرى تمسك بيد نهاد. ونادى أخي على نهاد فتبيَّنت أنه بعيد عنا. أحطت زوجته بساعدي،
وقرَّبت وجهي من وجهها وقبَّلتها في فمها. كانت شفتاها ناعمتَين
دافئتَين، ورائحة أنفها حلوة. وانطلقَت صفارة الأمان فخرجنا إلى النور
وعُدنا إلى شقتنا. أضأنا نور الصالة فارتفعَت صيحات تطالب بإطفائه.
أطفأناه وأشعلنا شمعةً صغيرة، واقتادت زوجة أخي نهاد إلى حجرتها لتنام، ووضعت الشمعة بجوارها. خرجتُ
مع أخي إلى الشرفة، وكانت هناك أنوار في بعض المنازل، وصاح شخص في
الشارع يطالب بإطفائها. وبدت السماء صافيةً تمامًا. قلت: يبدو أنهم لم
يعودوا يستخدمون الكشافات التي كنا نراها في السماء تبحث عن طائرات
العدو سنة ١٩٤٨م. قال إنه لا يريد أن يتذكَّر تلك الأيام؛ فقد كانت
المدافع تنفجر فينا قبل أن نتمكَّن من إطلاقها، وقال إنه يحسن بنا أن
ننتقل إلى منزل أحد أقاربنا في وسط البلد. وجاءت زوجته فأفسحتُ لها
مكانًا بيننا. وكانت الشرفة ضيقة، فوقفنا متلاصقين، ومددت يدي في
الظلام وتحسَّست ساقها فوق الفستان، ثم رفعت ذيله، وتحسَّست ساقها
العارية، وكانت دافئة. وعندما ارتفعت يدي إلى أعلى أصبح ملمس أصابعي
خشنًا فجأة؛ اكتشفت أنها لا ترتدي شيئًا من الملابس الداخلية. سحبت يدي
فمالت في الظلام وهمست: ماذا حدث؟ لم أُجب. وقال أخي شيئًا وهو ينحني
فوق سياج الشرفة، وردَّت عليه زوجته، ثم همسَت لي: لم تكُن لديَّ ملابس
نظيفة. قلت إني سأدخِّن سيجارة. عدت إلى الداخل فأشعلت سيجارةً وجلست
في الظلام، وما لبث أخي أن جاء تتبعه زوجته فأشعل شمعة، وقال إنه يرى
أن تذهب مع نهاد إلى والدَيها في
المنصورة حتى تهدأ الأمور. نظرَت
إليَّ وقالت إنها تفضِّل أن تذهب إلى خالتها في الجيزة حتى تكون قريبةً
منا. وقال أخي إنه متعب وسيدخل لينام. قلت: سأدخِّن سيجارتي ثم أنام
أنا الآخر. قالت زوجته إنها لا تريد أن تنام الآن وستبقى معي. ودخل أخي
غرفة نومه وأغلق بابها خلفه، وجلست زوجته على مقعد أمامي. تأمَّلت
ساقَيها، ثم رفعتُ بصري إلى وجهها وكانت تتطلَّع إليَّ في حدة. قالت:
لماذا غضبت؟ قلت: لا شيء. طلبت مني سيجارةً فأعطيتها واحدةً وأشعلتها
لها. ظَلِلنا صامتَين نتبادل النظرات. قلت إني متعب وسأقوم الآن لأنام.
قالت: لا، انتظر. وقفت وقالت: سأطمئن على نهاد. مضت إلى غرفتها وغابت قليلًا، ثم جاءت وبدلًا من
أن تجلس على المقعد المواجه لي تمدَّدت على أريكة مجاورة، وأسندت رأسها
إلى ساعدها. انحسر ثوبها عن ساقها. مددت يدي فتحسَّستها، ثم سحبتُ يدي
وقلت: سأذهب الآن. قالت: لا. ومدَّت يدها فجذبتني نحوها. قلت وأنا مائل
فوقها: أخي. قالت: غارق في النوم. أنصَتُّ فسمعت صوت شخيره يتردَّد في
هدأة الشقة. مالت وأطفأت الشمعة، وتمدَّدت فوقها. كان فمها ساخنًا
مبتلًّا، وبالمثل كان جسدها، وفي ثانية كنت في أعمق أعماقها. احتضنتني
في عنف، وما لبث جسدها أن تقلَّص، وعندما فقدت نفسي كانت قد وضعت يدها
على فمها لتكتم صوتها. قلت وأنا أعتدل جالسًا: سأدخل لأنام الآن. قالت
وهي تُسوِّي ملابسها: أشعل لي سيجارة. وكانت تبتسم وتنظر في عينَي.
أشعلت لها سيجارة، فأخذَت مني عود الكبريت وأشعلت به الشمعة وحملتها
وانحنت فوق الأريكة تبحث عن أي آثار نكون قد تركناها. وقفت قائلًا إني
داخل، وذهبت إلى غرفتي فخلعت ملابسي وأويت إلى فراشي ونمت على الفور.
وعندما استيقظت كنت غارقًا في عرقي وبدا اليوم شديد الحرارة. وجدت زوجة
أخي تُعِد حقيبتها، وقالت إنها أخذت إجازةً وستذهب مع نهاد إلى خالتها في الجيزة، وستكلِّمني
بمجرَّد وصولها. أدرت الترانزستور ولم تكُن به غير أناشيد حماسية
وموسيقى. دخلت الحمام ووقفت تحت الدش، أدرت الصنبور وأغلقت عيني تحت
الماء، وفجأةً سقط شيء ثقيل على قدمي فصرخت من الألم. فتحت عينَي فوجدت
رأس الدش قد انفصلت عن عاموده. أعدتها إلى مكانها ودعكت قدمي. استأنفت
الاستحمام ورأسي إلى أعلى وعيناي مفتوحتان على رأس الدش خوفًا من
سقوطه، ثم جفَّفت جسمي وأرض الحمام. ارتديت قميصي وبنطلوني وتناولت
إفطاري وخرجت. وكان الشارع هادئًا وقد تجمع ثلاثة بوَّابين أمام البقال
يُنصتون إلى الراديو في صمت، وكانت الشمس قوية. وعندما وصلت الجريدة
وجدتهم قد أطفئوا الراديو. وجاء زكي
يسألني عن آخر الأخبار. قال إن له جارًا فلسطينيًّا لم يغادر فراشه من
ظهر الأمس لأن اليهود اجتاحوا قريته حيث توجد أمه وعائلته. لمحت
صادق وكانت عيناه حمراوَين.
وكانت أخبار الوكالات الأجنبية تتحدَّث عن تطويق قواتنا في صحراء
سيناء. وشعرت بعطش فناديت الساعي
ليحضر لي شيئًا مُثلَّجًا فلم يأتِ. وغادرت الجريدة إلى الشارع، وكانت
الشمس حامية. مشيت بجوار الجدران بحثًا عن الظل. وشربت عصيرًا في أحد
المحلات، ثم جلست في مقهًى، ولمحت سيارةً عسكريةً تخرج مسرعةً من مبنًى
تجمَّع فيه بعض الجنود، وكان رُكَّابها يدخِّنون جميعًا وقد أمسكوا
بعلب السجائر في أيديهم ولا بد أنهم تسلَّموها لتوِّهم. وبجوار السائق
جلس ضابط ممتلئ يضع على عينَيه نظارةً شمسيةً خضراء كبيرةً أخفت وجهه،
ولم يكُن يبتسم. تطلَّع الناس إلى السيارة ورُكَّابها. وتوقَّف البعض
يتابعونها بنظراتهم في صمت حتى اختفت. جفَّ حلقي مرةً أخرى فشربت زجاجة
كوكاكولا، ثم فنجان قهوة. ودوَّت صفارة الإنذار. انتظرت مدةً لأسمع
صفارة الأمان دون جدوى. عُدت إلى الجريدة، وقال مصطفى إن زوجة أخي اتصلت بي مرتَين. وقفت في النافذة
أتأمَّل الطريق، وكانوا قد بدءوا يطلون ظهور سيارات الأوتوبيس باللون
الأزرق. وعدت إلى مكتبي فجلست أمامه حتى خيَّم الظلام، وشعرت بإعياءٍ
شديد، فغادرت الجريدة وفكَّرت أن أدخل سينما، ثم غيَّرت رأيي وأخذت
تاكسيًا إلى المنزل، ولم يكُن أخي هناك. بحثت عن شمعة الأمس فلم أجدها،
فأضأت النور كله، ولم أعبأ بصياح الناس في الشارع حتى خلعت ملابسي
وغسلت قدمَي ووجهي. طرق الباب شخص غاضب على إشعال النور، فأطفأته بعد
أن وجدت الشمعة. وذهبت إلى المطبخ وفتحت الثلاجة ولكني لم أجد رغبةً في
الأكل، فعدت إلى حجرتي وأغلقت بابها خلفي. استلقيت على فراشي وأشعلت
سيجارة، وتناولت الترانزستور، ثم وضعته جانبًا. دقَّ جرس التليفون
فظَلِلت ممدِّدًا أُنصت إليه حتى كفَّ عن الرنين. انتهت سيجارتي فأشعلت
واحدةً جديدة، وسمعت صوت مفتاح يعبث بقفل الباب الخارجي، ثم انفتح
الباب وسمعت صوت أقدام أخي في الصالة. ناداني فقلت: أنا هنا. تردَّد
بين المطبخ والحمام، ثم أوى إلى غرفته. لم أتحرَّك من مكاني وأشعلت
سيجارةً ثالثة، وشعرت بشيء يخزني في ذراعي فحككته بأصبعي، لكن الوخز
ازداد، وظننته برغوثًا فنفضت يدي بعيدًا، وانتظرت في رعب أن يعلن عن
نفسه في مكان آخر من جسدي كما يحدث دائمًا. شعرت بوخزة في ساقي. لم
أتحرَّك فربما كنت أتوهَّم. تكرَّرت الوخزة فلم يعُد هناك شك. فبلَّلت
أصبعي ومددته في بطء داخل سروالي مقتربًا في حذر من مكان الوخزة، ثم
ضغطت عليه بأصبعي فلم أُمسك بشيء. شعرت بوخزة جديدة في صدري فقمت في
بطء وفتحت باب الغرفة، وسرت متصلِّبًا إلى الصالة حيث كانت الشمعة.
وقفت أمامها ورفعت قميصي في حذر آملًا ألَّا يكون البرغوث قد تحرَّك من
مكانه، وأخذت أبحث عنه في ثنايا القميص. تطلَّعت إلى صدري العاري فوجدت
بقعًا حمراء كبيرةً مثل تلك التي يصنعها البرغوث بلدغته ولكن أكبر،
وأحسست أيضًا أن كل مكان في جسدي يحكني. دعكت ساقي وصدري، لكن الإحساس
بالحك زاد وانتقل إلى وجهي ورأسي وكل جسمي. حملت الشمعة إلى حجرتي
ووقفت أمام المرآة. رفعت الشمعة وتأمَّلت وجهي في دقة، فوجدت البقع
الحمراء البارزة منتشرةً على سطحه. حاولت أن أتجاهل الأمر، لكن جسدي
كله كان مشتعلًا. مضيت إلى حجرة أخي حاملًا الشمعة وطرقت الباب، دخلت
ونزعت قميصي دون أن أتكلَّم، ثم رفعت الشمعة أمامه. نهض أخي من فراشه
وفحص البقع الحمراء على ضوء الشمعة، ثم طلب مني أن أجلس وأهدأ، وقال
إنها لا شيء. ارتدى ملابسه وقال إنه سيأتي لي بدواء من صيدلية قريبة.
ظَلِلت جالسًا كما أنا عاري الصدر أمام الشمعة. وعاد أخي بعد قليل يحمل
زجاجة دواء. انتقلت إلى حجرتي وتمدَّدت على الفراش بعد أن خلعت كل
ملابسي، ونثر أخي محتويات الزجاجة على جسدي، ثم بسطها بيده، وظلَّ
بجواري حتى بدأ الالتهاب يخف، ورحت في النوم. واستيقظت متأخِّرًا في
اليوم التالي بإحساس شديد بالإرهاق. أفطرت وغادرت المنزل ولم أذهب إلى
الجريدة. جلست في مقهًى بميدان التحرير، وكان الراديو ما زال يذيع الأناشيد والموسيقى
الحماسية. وبعد مدة قمت وجلست في مقهًى آخر، ثم ذهبت إلى الجريدة،
وقالوا إن عدة تليفونات سألت عني. واتصلت بنا قيادة الجيش تسأل عن
الأخبار، لكن كل شيء كان مشوَّشًا. وغادرت الجريدة ومشيت في الشوارع،
ثم أخذت تاكسيًا إلى منزل إنصاف
وكانت تجلس في الصالة بجوار أختها وقريبة لها، وكان الراديو يُذيع
أغنية «بلادي بلادي». قلنا إن هناك شيئًا ما. وبعد قليل اتصلتُ
بالجريدة فرد عليَّ صادق وكان يبكي.
قال: انتهى كل شيء. قلت: ماذا تعني؟ لم يردَّ وواصل البكاء. وضعت
السماعة ونظرت إلى إنصاف، ثم رفعت
بصري إلى صورة زوجها المعلَّقة على الجدار. جلسنا صامتين ننتظر، ثم
أعلن المذيع أننا قبلنا قرار وقف إطلاق النار. قلت: سيُحمِّلوننا
المسئولية عمَّا حدث. غادرت المنزل وسرت إلى منزل أخي، وكانت بعض
المنازل مضاءةً والبعض الآخر مظلمة، ولم يكُن أخي بالمنزل، أو ربما كان
في حجرته. دخلت حجرتي ونمت بملابسي، وظَلِلت نائمًا حتى ظهر اليوم
التالي، وأخيرًا قمت فاستحممت، وسقط رأس الدش مرةً أخرى فأعدته مكانه،
وأعددت إفطارًا من البيض، وشربت كوبًا من الشاي، ثم فنجانًا من القهوة،
وبحثت عن قميص نظيف فلم أجد. غسلت واحدًا وأرسلته إلى الكَوَّاء مع
البواب، وكانت الشقة متربة، وطلبتني زوجة أخي وقالت إنها تحاول الاتصال
بي منذ الصباح، وقالت إنها ربما تعود اليوم وربما تذهب مع نهاد إلى والدتها في المنصورة. وقالت: لماذا لا تأتي عندنا في الجيزة لتسمع خطاب المساء. قلت: سأسمعه في
الجريدة. وغادرت المنزل. كانت الشوارع خالية، ومرَّت بي فتاة أجنبية
تطلَّعَت إليَّ في سخرية. وذهبت إلى الجريدة. وجاء زكي يسأل: ماذا سنفعل بالصفحة الأخيرة؟
قلت: سنعود مرةً أخرى إلى قصص المقاومة وحروب التحرير … إلخ. وجلسنا
ننتظر. وفي السابعة تجمَّعنا أمام جهاز تليفزيون، وعندما أعلن الرئيس
قراره بالتنحِّي انفجرت سلوى باكية،
وتشنَّجت مايسة، وانهار زكي على مكتبه باسطًا ذراعه أمامه، دافنًا
وجهه فيها وهو ينشج. وغادرت الجريدة إلى الشارع، وكان الظلام ينتشر
بسرعة والناس تجري في كل اتجاه وهم يصيحون ويهتفون، ثم أخذوا يُشكِّلون
اتجاهًا واحدًا إلى مصر الجديدة وهم
يُردِّدون في جنون اسم «ناصر». وظهرت
بعض الأنوار في المحلات والمنازل، ثم دوَّت أصوات مدافع فوق رءوسنا،
فساد الظلام من جديد، لكن الجماهير واصلت اندفاعها، وسِرت معهم قليلًا،
ثم انفصلت عنهم وانحرفت في شارع جانبي. وعند مفترق طريقَين التمع ضوء
سريع ظهرت فيه كتلة من الشعر الأبيض ووجه مليء بالتجاعيد. وكان الرجل
يسير نحوي. كنت أعرفه، وكان يتردَّد على السجون باستمرار منذ سنة ٤٦.
وساد الظلام مرةً أخرى. فمر بجانبي دون أن يراني. لم أحاول إيقافه،
وأخذت أبحث عن تاكسي. وجدت واحدًا بصعوبة رضي أن يحملني إلى منزل أخي،
وقال السائق إنه لا يستطيع الذهاب من شارع رمسيس لأن الجماهير تسد الطريق، فذهبنا من العباسية ولم نستطِع المرور من النفق فقمنا
بدورة واسعة، وأخيرًا وصلت المنزل. وعندما دخلت أضأت النور دون أن
أعبأ، وانطلقت إلى غرفتي فجذبت حقيبتي من فوق الدولاب. وضعت بها بعض
الملابس والكتب، وفتحت درج مكتبي وأخذت كراستي وألقيت بها في الحقيبة،
ثم أغلقتها وجلست على حافة الفراش. أشعلت سيجارةً وفكرت: إني لا أعرف
مكانًا أذهب إليه، وفي وسعهم أن يصلوا إليَّ في أي مكان. أطفأت سيجارتي
في المنفضة، ودفعت الحقيبة بقدمي حتى استقرَّت أسفل السرير.