الفصل السابع
أعطاني الطبيب ورقةً وقال لي أن
أذهب بها إلى الأخصائي في المستشفى بعد أن أضع عليها ختم الجريدة. صعدت
إلى الإدارة ولم أجِد الموظَّف الذي يحتفظ بالختم، وقالوا إنه في حجرة
أخرى. ذهبت إليه فقال إن هذا ليس من اختصاصه. نزلت إلى الطبيب فأكَّد
أنه اختصاصه، وحدَّثه في التليفون، ثم طلب مني أن أصعد إليه مرةً أخرى.
صعدت إليه فأخرج الختم وضغطه على الورقة ونزلت إلى مكتبي. قال لي
زكي إن أخي اتصل بي ويريد مني أن
أكلِّمه. طلبته في عمله فقال إنه سيسافر بعد ساعة إلى المنصورة ليقضي الليلة والغد مع زوجته، ولن
يتعشَّى معي بالليل. غادرت الجريدة إلى المستشفى وكان الجو حارًّا
خانقًا. اخترت أوتوبيسًا مزدحمًا، وصعدت من باب الدرجة الأولى ولم تكُن
بها راكبات. شققت طريقي إلى الحاجز الفاصل بين الدرجتَين ووقفت عنده.
كانت رائحة العرق فظيعة. تابعت المحطات التي نمر بها، وصعدت واحدة في
إحداها، لكنها كانت كبيرة السن وتتحرَّك في إعياء. صعدَت واحدة أخرى
بملابس بلدية وكانت سمراء مفرودةً وممتلئة، وعبرَت زجاج الدرجة الأولى
متجهةً نحوي. أفسحت لها مكانًا بجواري. كان رداؤها مشجَّرًا تعلوه طرحة
سوداء، وبدت مؤخِّرتها بارزةً وممتلئة. حاولت أن أجعلها أمامي لكن
الزحام أجبرها على أن تعطي ظهرها لظهري. ألصقت ساقي بها، ثم شعرت بساقي
تستقر بين ساقيها، ولم تكُن تكفُّ عن تحريك قدمَيها والانحناء لتتأمَّل
الطريق. دقَّق أحد الجالسين أمامي النظر ليتبيَّن مدى اتصال جسدَينا
فابتعدت عنها قليلًا. أدار أحدهم جهاز ترانزستور فسمعنا أن عدوانًا
جديدًا حدث هذا الصباح على السويس.
حوَّلت بصري إلى الراكب الفضولي فوجدته ينظر من النافذة، فدفعت المرأة
بساقي وضغطت عليها. انتهزت فرصة مرور المحصِّل فاستدرت بحيث أصبحت
خلفها. كنت مشدودًا، واستقرَّ جسمي لحظةً بين ساقَيها. دفعني أحد
الواقفين جانبًا ونظر إلى ساقي وأراد أن يحتلَّ مكاني لكني تمسَّكت به،
وتوقَّفَت العربة فجأة. تطلَّع جميع الركاب من النوافذ. كان الطريق
مغلقًا. قالوا إن الموكب سيمر بعد قليل. ومالت المرأة إلى الأمام
لتتأمَّل الشارع. انحنيت فوقها وأنا أتظاهر بتتبُّع ما يجري في الخارج.
كان الشارع خاليًا تمامًا من المارَّة. كنا في تلك المنطقة بين
القبة ونفق العباسية حيث لا يوجد غير ثكنات عسكرية.
مرت عدة موتوسيكلات، ثم سيارةُ نَجْدة تُطلق صفَّارتها الحادة، ثم ظهر
الموكب ومرَّت السيارة المكشوفة التي تجمَّع فيها الملوك والرؤساء
العرب وقوفًا ليردوا تحية الجماهير. انحنت المرأة أكثر لتتمكَّن من
الرؤية جيدًا، وانحنيت فوقها بالمثل. شعرت بدفء ساقها الممتلئة
المشدودة. أخذت أتحرَّك فوقها متظاهرًا بالرغبة في الرؤية الدقيقة،
وكانت هي تتحرَّك بالمثل. تبلَّل وجهي بالعرق وأحسست برغبة في أن
ألمسها بيدي. مرت آخر سيارة في الموكب، وعاد الركَّاب إلى أماكنهم.
استأنفَت السيارة سيرها، واعتدلت المرأة واقفة. ابتعدت عنها قليلًا،
وانتهز منافسي السابق الفرصة فدفعني جانبًا واحتلَّ مكاني. استندت إلى
الحاجز وأشعلت سيجارة، وخلا مقعد بجواري فجلست وغادرت السيارة عند
المستشفى. بحثت عن الأخصائي الذي سيراني. وجدت أنه لا يأتي قبل
ساعتَين. جلست أدخِّن أمام بابه حتى جاء. وقفت في الطابور، ثم أدخلوني
عليه. تطلَّع في ورقتي وقال إنه لا يوجد أي إمضاء من شخص مسئول في
الجريدة وإن الختم لا يكفي، ورفض أن يفحصني. انصرفت وأخذت الأوتوبيس
عائدًا. لم يكُن مزدحمًا بما فيه الكفاية فغادرته في العباسية. أخذت أوتوبيسًا آخر. وقفت بجوار
سيدة عجوز. بعد قليل اقترب مني رجل بجبة وطربوش وقرَّب يده من ساقي.
لمحته يطبق يده في قبضة غير كاملة ثم يخفيها تحت كم سترته الفضفاض
ويزحف بها فوق ساقي. تراجعت بعيدًا عنه فلاحقني، فتركت المكان كله
وراقبته من بعيد يكرِّر نفس الحركات مع الراكب الواقف بجواره. تابعت
يده الممسكة بمسند المقعد المعدِني وهي تنزلق فوقه إلى الحافة القريبة
من ساق الراكب الآخر، ثم تترك الحافة وتتدلَّى مُتكوِّرةً في نصف قبضة
أسفل الكم الفضفاض، وكان رأسه لا يكف عن الحركة في مختلِف الاتجاهات
ليطمئن أن أحدًا لا يراه. التقت نظراتنا فحوَّلت بصري بعيدًا، ونزلت في
محطة الجريدة. وجدت الطبيب قد انصرف. بحثت عن رئيس التحرير ليوقِّع
بإمضائه فلم أجِده، وقال مصطفى إنه
سيرفض التوقيع لأنه يخاف من وضع اسمه على أية ورقة مهما كانت. وقال
زكي إنه مفلس، وماذا سيفعل الآن
بعد أن رفعوا الأسعار وخصموا منا التبرُّعات؟ وقال إنه تبرَّع بدمه هذا
الصباح، وروى لنا آخر نكتة، وقال مصطفى إنه ذهب هذا الصباح إلى شقة أحد أصدقائه، وكانت
هناك فتاتان وقد صوَّرهما عاريتَين، وأصرَّت واحدة على أن تأخذ خمسين
قرشًا إذا أراد أن يصوِّرها من الخلف. وبعد أن صوَّرها اكتشف أنه نسي
أن يدير أحد الأزرار وأن الفيلم لم يسجِّل شيئًا. وقال سالم إنه بدأ يتدرَّب على السلاح مع
المتطوِّعين، وإن زوجته ستتطوَّع أيضًا. وجاء فتحي وقال إنه كتب كتابًا عن معركة بورسعيد لأن هذا هو المطلوب الآن. ووقفنا
في النافذة نُطل على الطريق، وكانت ظهور السيارات تتتابع تحتنا وقد
طُلي بعضها باللون الأزرق، وظلَّ البعض الآخر أبيض من غير طلاء. نزلت
مع فتحي إلى الشارع وعبرنا شارع
٢٦ يوليو إلى شارع سليمان. كانت أكياس الرمل وحوائط الطوب في
كل مكان. عبرنا الشارع خلف شقراء محروقة البشرة من الشمس، يكشف فستانها
الأزرق عن كتفَيها وفخذَيها. ولمحنا صادق يجلس على رصيف مقهًى وقد وضع نظارته الشمسية
السوداء على عينَيه، فجلسنا بجواره نتابع العابرات. قال فتحي إنه يريد أن يذهب إلى سينما من ٣ إلى
٦. قلت إني سآكل شيئًا وأعود إلى الجريدة. أخذت المصعد إلى طابق
سلوى. لم أجدها في مكتبها، ورآني
أحد السُّعاة فسألني إن كنت أبحث عنها، وقال إنه يظن أنه رآها منذ
قليل، وأراد أن يبحث عنها فوضعت يدي على ذراعه وقلت إني سآتي مرةً
أخرى. هبطت إلى مكتبي، ووجدت أنباءً بأن الطائرات الإسرائيلية تضرب
السويس مرةً أخرى. سألني
مصطفى عمَّا إذا كنت قد قرأت
للشاعرة التي تكتب بالفرنسية. قال إنها كانت تحب واحدًا ثم أصيب في
قضيبه بالسرطان فأصرَّت أن تتزوَّجه، لكنه سرعان ما مات؛ فكتبَت
ديوانًا رائعًا باسم «صرخات» وسافرَت إلى أوروبا. شعرت بالتعب، واقترح مصطفى أن نذهب لنشرب بيرة، فرفضت، قلت إني أريد أن
أنام. خرجت ومشيت إلى محطة المترو، وكان زحام الشراء قد بدأ. ركبتُ خلف
فتاة سمراء، ولم أستطِع الوقوف بجوارها إذ فصلني الزحام عنها. وجدت
نفسي بجوار واحدة بيضاء أنيقة لها رائحة مختلفة ومثيرة شممت مثلها مرةً
منذ سنوات طويلة. كانت تتلفَّت حولها بصورة هستيرية خوفًا من أن يلمسها
أحد. اكتفيت بأن أشم رائحتها بعمق. هبطَت الفتاة في محطة الدمرداش، ووجدت مكانًا فجلست حتى محطتي.
مضيت إلى منزل أخي فأخذت حمامًا ووضعت قطعة كبدة على النار، وأعددت
طبقًا من السلاطة، ثم أكلت الكبدة وأنا أقرأ في صحف الصباح تفاصيل
ضحايا عدوان الأمس على الإسماعيلية،
وكانت هناك صور للقتلى، وغرفة النوم التي اقتحمتها قنبلة في حجم
الشمَّامة الكبيرة. انتهيت من الأكل فوضعت الصحون في الحوض وغسلت يدي،
ثم أشعلت سيجارةً وتمدَّدت فوق الفراش. غفوت قليلًا، ثم أيقظني جرس
التليفون. تطلَّعت إلى ساعتي وكانت ما تزال هناك عدة ساعات على موعد
مكالمتي مع زوجة أخي. قمت إلى التليفون فوجدت فؤاد، قال إنه يريد أن يذهب إلى السينما، قلت إني لن
أخرج الليلة، قال إنه يقضي الوقت كله بمفرده في شقة المقطم المُطلة على القاهرة، وإنه يحدِّث نفسه أمام جهاز التسجيل وقد مَلأ
للآن عدة شرائط. اتفقنا على أن نلتقي في الغد ليُسمعني الشرائط. ودقَّ
جرس التليفون مرةً أخرى؛ قالت إنصاف
إنها مريضة، قلت إنها كانت في أحسن حال بالأمس، قالت إنها ذهبت إلى
الطبيب في الصباح، قلت إني قادم. ارتديت ملابسي وذهبت، وكانت زوجة
عادل هناك، وقالت لي إنها انزعجت
عندما أخبرتها إنصاف بمرضها، وجاءت
على الفور فوجدَتها في أحسن حال. كانت إنصاف تحتسي القهوة، وعندما نظرتُ إليها قالت إنها
أحسن حالًا الآن، وقالت إنها ستُجن من النسوة اللاتي يحِطن بها، وقالت
إن أختها لا تريد أن تشارك في نفقات المنزل، وإن صاحب المنزل واثق من
كسب قضية الإيجار، وقال لها اليوم إن التخفيضات ستُلغى، وقالت إنه يكاد
يطير من الفرح لأن الحراسة رُفعت عن أراضي البعض. تطلَّعت إلى ساعتي
فقالت إن حسنين ذكي، وإنه تغدَّى
عندها اليوم، وقالت إنه يناسبها تمامًا فهو في الخمسين وبلا زوجة أو
أولاد، وقالت إنه يأتي كل يوم الآن ويجلس صامتًا لا يتكلَّم، ويحمرُّ
وجهه عندما تتحدَّث إليه، وإنها لا تعرف ماذا تفعل معه. تطلَّعت إلى
ساعتي مرةً أخرى فسألتني عن أخي وزوجته. قالت إنها لا تطيق زوجة أخي،
وإنها على أية حال تكره جميع النساء. قلت إني أريد أن أذهب الآن لعملي.
قالت: ابقَ قليلًا حتى موعد العشاء. قلت إني أكلت منذ قليل، قالت إنها
تخشى أن تموت في أي لحظة. غادرَت مقعدها بصعوبة وقالت إنها سترى ماذا
أعدُّوا للعشاء. مضت إلى المطبخ. أدرت التليفزيون. كان هناك بيان عن
اجتماعات الملوك والرؤساء، وإنها انتهت، وإنهم اتفقوا على الإجراءات
اللازمة. قمت واقفًا عندما عادت إنصاف، وقلت إنهم لا بد سيحتاجون إليَّ في الجريدة
الآن. انصرفت إلى منزل أخي وخلعت ملابسي. كان الجو حارًّا والعرق يسيل
على وجهي وذراعي فأخذت حمامًا، ثم جذبت حقيبتي من أسفل السرير وأخرجت
منها كراستي، وأغلقت الحقيبة وأعدتها مكانها. جلست إلى المكتب بملابسي
الداخلية وقرأت ما كتبته من قبل، وكان العرق ما زال يسيل على وجهي
وذراعي، وسقطت نقطة منه على الورق. تحسَّست ذراعي بخدي وشممت رائحة
عرقي، وأغلقت الكراسة ووضعتها في الدرج. قمتُ فأخذت رواية إريك ماريا ريماك، وجلست أقرؤها بجوار
التليفون. وجدتها بلا طعم، وقد فقد روحه المرحة في روايته الأولى
المشهورة، وأخذ يكرِّر نفسه. فتحت الراديو ثم أغلقته. دقَّ جرس
التليفون فرفعت السماعة وإذا بها سلوى. قالت إنها تتحدَّث من منزلها، وإنها مريضة منذ
كانت معي أول أمس، وقالت إنها غاضبة لأني لم أسأل عنها أمس أو اليوم،
وقالت إنها تفكِّر فيَّ طول الوقت. قلت إني سأكلِّمها غدًا لأني خارجٌ
الآن إلى موعد ضروري. وضعت السماعة وذهبت إلى حجرتي، ثم دخلت الحمام
وأضأت نوره وغسلت فمي بالماء، ثم أطفأت النور ودخلت حجرة أخي فأضأت
نورها ووقفت أتأمَّل محتوياتها. كانت هناك مجلة مصوَّرة ملقاة على
الفراش ومفتوحة على صورة فتاة عارية، وبجوار المجلة ملابس داخلية
مستعملة، وكان الفراش غير مرتب. أطفأت النور وذهبت إلى حجرة زوجة أخي،
وجدتها مرتبةً بعناية. جذبت مقبض دولابها لكنه كان مغلقًا بالمفتاح،
وبالمثل كانت أدراج المرآة. أطفأت النور ومضيت إلى المطبخ. وقفت
أتأمَّل محتوياته. كان هناك صف من الزجاجات والعلب الفارغة في الركن،
ولم تكُن زوجة أخي تتخلَّص من أي شيء فارغ. تناولت كنكة القهوة، ثم
أعدتها مكانها، وأخذت إبريق الشاي فوضعت فيه كوبًا من الماء ووضعته على
النار. وقفت في نافذة المطبخ أتأمَّل الشرفة المواجهة، ثم عُدت إلى
إبريق الشاي وكانت المياه قد غلت فأطفأت الموقد. أضفت ملعقةً من الشاي
إلى الإبريق وتركته قليلًا، وأعددت كوبًا من ثلاث ملاعق من السكر.
أفرغت الشاي في الكوب وحملته إلى الصالة وجلست أشربه أمام التليفون، ثم
أشعلت سيجارةً وأطفأت النور. مضيت إلى حجرتي فتمدَّدت على الفراش في
الظلام أدخِّن، وتمنَّيت في لحظة ألَّا تأتي المكالمة على الإطلاق، ثم
دقَّ جرس التليفون دَقةً طويلةً متصلة. قفزت إلى الصالة ورفعت السماعة.
سألني عامل الترنك عمَّا إذا كنت هو أنا، ثم جاءني صوتها بعيدًا
ملهوفًا. قالت إنها تأخَّرت لأن أخي وصل منذ ساعتَين ولم تتمكَّن من
مغادرة المنزل إلا الآن، وقالت إنها متعبة وتريد أن تعود، وإن
نهاد تشكو من إسهال شديد، وقالت
إنها تفتقدني. قلت إني أفتقدها بالمثل. قالت إنها ستكلِّمني الأسبوع
القادم في نفس الموعد، وتدخَّل صوت عامل الترنك الحاسم ليُعلن انتهاء
المكالمة. أعدت السماعة مكانها وأشعلت سيجارةً جديدة وأنا أتطلَّع إلى
الجهاز الأسود.