الفصل الثامن
حلمت أنها عادت وأنها امتلأت
قليلًا وأصبحت لها مؤخِّرة بارزة، ثم حلمت أني أهرب من شخص وأقتله،
وإذا بي أجده يبحث عني فأصطنع أني مت، وأن الدماء تسيل مني، ثم استيقظت
وتطلَّعت إلى ساعتي، وقمت إلى الحمام فتبوَّلت سائلًا شديد الاصفرار
شديد التركيز في اللون والكمية والرائحة. دقَّ جرس الباب فأسرعت إليه
وأنا أفتح عينَي في صعوبة. كانت الخادمة تحمل زجاجة اللبن والصحف.
تركتها وعدت إلى حجرتي فأغلقت بابها عليَّ. رحت في النوم، ثم استيقظت
على جرس المنبِّه الذي ضبطته على الحادية عشرة. ظَلِلت راقدًا أتطلَّع
إلى السقف، وفكَّرت في كيفية الحصول على نقود، ثم غادرت الفراش إلى
الحمام وسمعت الخادمة تدخل غرفتي. وضعت الصابون على ذقني وتناولت موسى
جديدة. تأمَّلتها في دقة. بدت غير مألوفة اللون وشكل الاسم وكلمة
مخصوص. وضعتها في المكنة وحلقت ببطء ورفق كما نصحني الطبيب. كان قد طلب
مني أن أحترم ذقني. غسلت أسناني، ثم ذهبت إلى الصالة فتهالكت بجوار
التليفون. تناولت الصحف. كان هناك بلاغ عسكري ليلة أمس لم أسمعه رغم
أني بقيت في الجريدة حتى ساعة متأخِّرة. حاول العدو تعزيز قوَّاته
وأُجبر على الانسحاب. تركت الصحف لأقرأها مع الإفطار، ووضعت اللبن فوق
النار وبجواره الشاي وأفطرت، ثم أخذت حمامًا وأنا أتطلَّع إلى رأس الدش
في حذر خوفًا من أن يسقط فوقي كما يفعل دائمًا، وعندما خرجت قالت لي
الخادمة إنها أزالت الغبار عن حقيبتي وسألتني أين أحب أن أضعها. طلبت
منها أن تتركها مكانها. وجدت حجرتي نظيفةً مرتبة، فأعددت فنجانًا من
القهوة. جلست إلى مكتبي وراجعت ما كتبته بالأمس. فكَّرت في المرأة التي
التصقتُ بها في أوتوبيس المساء، ومددت يدي أتحسَّس ساقي، ثم جذبت يدي
وقمت وارتديت ملابسي، وأحصيت ما معي من نقود. فكَّرت أن أتصل بعفاف وأذهب إليها، ثم عدلت عن ذلك وغادرت
المنزل. أخذت علبة سجائر على الحساب من البقَّال ذي الوجه الباكي،
وقرَّرت أن أركب المترو لأنه أرخص، وعندما بلغت الشارع الرئيسي أبصرت
سيارة أوتوبيس مزدحمة، فسرت إلى محطة الأوتوبيس وأخذت السيارة التالية،
وكانت هناك امرأة تقف مستندةً إلى العامود المجاور للسائق. وقفت خلفها
وظهري لها وراقبتها بزاوية عيني وأنا أدفعها بظهر ساقي. رأيتها تلتفت
منزعجةً متوقِّعةً أن تجد أحدًا خلفها بوجهه، فاطمأنت عندما رأت ظهري.
وبعد قليل عدت أدفعها بساقي في خفة فابتعدَت. بحثَت عيناي عن غيرها. لم
أجد غير سمراء متعبة كانت تتأمَّلني من مكانها بين الدرجتَين، ولم يكن
من السهل عليَّ أن أصل إليها في الزحام. شقَّ أحد الركاب طريقه إلى
الباب المجاور لي لينزل في المحطة القادمة، ووقف عنده ممسكًا بالعامود
الذي استندَت إليه المرأة المنزعجة، ودار بأصبعه حول العامود وحاول أن
يلمس ظهرها وهو يميل إلى الأمام متظاهرًا بأنه يتأكَّد من المحطة التي
سينزل فيها. نزلت أنا في محطتي وتجوَّلت قليلًا في الشوارع المزدحمة،
ثم ذهبت إلى الجريدة. وجدت على مكتبي تعليمات بألَّا ننشر شيئًا عن
إعادة ما اقتُطع من بدلات بعض الموظَّفين. صعدت إلى مكتب سلوى. كانت بمفردها وأمامها مجلة لبنانية
خليعة. مدَّت إليَّ يدها وتركتها في يدي حتى سحبتها أنا. جلست أمامها.
كان شعرها يهبط على وجهها ويكاد يغطِّي عينَيها اليمنى، وكانت ترتدي
بلوزةً بيضاء خفيفةً على اللحم، ويبدو طرف مشدها الأسود بين الأزرار،
وبدا صدرها صغيرًا. تذكَّرت رمزي
الذي كان يقول في ثقةٍ إن الفتيات ذوات الصدر الصغير باردات. دقَّ جرس
التليفون أمامها. كانت أمها تطمئن عليها، وضحكتا سويًّا على شاب
يطاردها ويريد أن يتزوَّجها. وضعَت السماعة فقدَّمت لها سيجارة. قالت
إنها لم تُقِم علاقةً مع شاب من قبل رغم أنها تقترب من الثلاثين، وقالت
إنها كانت دائمًا مشغولةً بدراستها وعملها، ولم تكن لها سوى صديقة
واحدة عزيزة، وكانتا دائمًا سويًّا في المدرسة وفي الجامعة، ولم تكونا
تفترقان أبدًا، وترتديان دائمًا ملابس متماثلة. واختفت عينها اليمنى
تمامًا أسفل خصلة شعر فمدَّت يدها وأزاحتها، وقامت فأخذت حافظتها
الصغيرة من حقيبتها وغادرت الغرفة، وعندما عادت كانت قد أضافت طبقةً
جديدةً من الأصباغ إلى وجهها. وكانت الحجرة ضيقةً والجو خانقًا رغم أن
النافذة مفتوحة. عرضت عليها أن ننزل ونذهب إلى أي مكان فارتعش طرفا
أنفها، قالت إنها مضطرَّةٌ للانتظار لأن لديها موعدًا مع شخص غريب،
وقالت إنها بالأمس وهي تغادر الجريدة اعترضها شخص وناداها باسمها وقال
لها إنه يمشي خلفها من ثلاث سنوات ويحبها في صمت، ويريد الآن أن
يتزوَّجها بعد أن أصبح مهندسًا ناجحًا. وقالت إنه أصرَّ على أن يتحدَّث
معها فأعطته موعدًا اليوم. كنت أتأمَّل يديها وأظافرها الطويلة
الملوَّنة، وفكَّرت في أطراف الهياكل العظمية التي نراها في عيادات
الأطباء. وشعرت بصداع. وقفت قائلًا: إني سأذهب الآن لأني تذكَّرت
موعدًا هامًّا. قالت إنه ما زال أمامها ساعتان على موعدها مع المهندس
وليس لديها ما تفعله، قلت إني كنت أفضِّل أن أبقى معها لولا موعدي.
قالت: لماذا لا تعود بعد أن تنتهي من موعدك؟ قلت إني سأفعل. وغادرتها
إلى الشارع. اتجهتُ إلى شارع ٢٦
يوليو ووقفت أنتظر الأوتوبيس. كان الزحام شديدًا أمام
المحطة كالعادة، وفتيات الشركات المرهقات يتحاملن على أنفسهن من التعب،
ويفكِّرن في المحنة القادمة وحظ كلٍّ منهن منها وما ينتظرهن في المنازل
من واجبات متعدِّدة. راقبت واحدةً منهن كانت تجري في إعياءٍ نحو سيارة
أوشكت على الوقوف. وظهرت بقعة كبيرة من العرق على ظهر بلوزتها. وجعلَت
تُصارع لتركب بأي طريقة، حتى استقرَّت أخيرًا على السلم، وبرزت بلوزتها
من مكانها تحت الجونلة. فوجئت برمزي
يقترب من المحطة. سألني إن كنت عائدًا إلى مصر
الجديدة. فكَّرت بسرعة وقلت إني ذاهب إلى الدقي. جاءت سيارة مزدحمة تذهب إلى
مصر الجديدة، وبدت بلوزة خضراء
في زجاج واجهتها فقفز رمزي إليها. أخذت أنا سيارة مصر الجديدة التالية، ووقفت بجوار ساقَين
ممتلئتَين، ومؤخِّرة صغيرة كثيرة الحركة. حاولت أن أقف خلفها لكن
عجوزًا عصبيًّا تصدَّى لي، وكنت قد رأيته من قبل عدة مرات في الأوتوبيس
في هذا الموعد، ويبدو أنه تعرَّف عليَّ. أخذ يتطلَّع إلى ساقي وإلى
ظهرها وقد جعل كلَّ همه ألَّا يلمسها أحد، وكان يتمتم لنفسه غاضبًا.
يئستُ أخيرًا فغادرت الأوتوبيس بعد محطتَين، وفكَّرت في أن أركب إحدى
السيارات الذاهبة إلى شبرا فهي
دائمًا تكون مزدحمة. انتظرت حتى جاءت سيارة تسير مائلةً من الزحام.
شققت طريقي بصعوبة إلى باب الدرجة الأولى، حاشرًا نفسي بين الصاعدين.
وكانت هناك فتاة صغيرة تحاول النزول، ورأيت الشاب الذي يتقدَّمني يمد
يده ويعتصر ثديها في وحشية. شرع الأوتوبيس يتحرَّك والفتاة تحاول
النزول بلا فائدة والشاب يعتصر صدرها، وبدا الرعب على وجهها وصرخت
قائلةً إنها تريد أن تنزل، ثم بكت. نجحَت أخيرًا في أن تمر من الشاب،
فاستدار خلفها ومدَّ يده إلى ظهرها، وكُنَّا جميعًا نتطلَّع إلى وجهه
الوادع وإلى وجه الفتاة المرعوب. ووقفت في الزحام الشديد أتصبَّب عرقًا
وقد تهدَّل قميصي. ولم تكُن هناك غير امرأة واحدة على مبعدة لكنها كانت
محاصرة، وكان الجميع يتبادلون النظرات. ازداد الزحام وأشعل أحدهم
سيجارة. شعرت بالاختناق فقرَّرت النزول، وشققت طريقي بصعوبة إلى الباب،
وشعرت بيد تلمس ساقي من الخلف، وأردت أن أمد يدي لأطمئن على حافظة
نقودي الفارغة إلا من بعض الأوراق فلم أستطع من الزحام. بلغت الباب
أخيرًا ونزلت بعد أن خرج قميصي تمامًا من البنطلون وطار أحد أزراره.
وجدت أن حافظة نقودي قد ضاعت. تأكَّدت من القروش القليلة في جيب
بنطلوني، ثم ساويت ملابسي وعبرت الطريق. أخذت الأوتوبيس القادم من
الناحية الأخرى لأعود من حيث أتيت، ووجدت مقعدًا فارغًا فارتميت فوقه.
نزلت في شارع رمسيس وعُدت أدراجي إلى
المترو فركبته. لم يكُن هناك مقعد فارغ وكنت أتمنَّى أن أجلس. وقفت في
الفراغ الذي يفصل بين صفوف المقاعد واستندت بظهري إلى نافذة. كان سقف
العربة واطئًا والنافذة المقابلة تحت مستوى عيني، ولم أكُن أرى من
مكاني سوى الشقوق الصغيرة في فتحة التهوية المثبتة فوق الباب المغلق،
ولم يكُن بوسعي أن أرى شيئًا ممَّا في الخارج. وفيما مضى كنت أُحب أن
أجلس بجوار النافذة في اتجاه انطلاق المترو وأترك وجهي للهواء العنيف،
وأتابع الشوارع والناس ونحن نمر بها بسرعة خاطفة تفصلنا عنهما قضبان
الحاجز الذي يمتد بطول شارع رمسيس،
ثم نختفي في النفق، وتمر لحظات من الظلام الدامس يكون فيها جدار النفق
قريبًا للغاية من النافذة، ويكون بوسعي أن أمد يدي وألمسه، ثم ينتهي
النفق وتبدأ الأرض في الصعود تدريجيًّا ويبطئ المترو سيره حتى محطة
منشية البكري، ثم بعد ذلك
المحطات المتقاربة بين أشجار شوارع مصر
الجديدة. توقَّف المترو في محطتي ونزلت. اخترقت الشارع
الذي تقع به السينما لأرى ما تعرضه في المساء، ثم انطلقت إلى المنزل.
أخذت من البقَّال زجاجة بيرة على الحساب، ووجدت أخي في حجرته نائمًا.
وضعت الزجاجة في الفريزر، ثم وضعت قطعة لحم على النار وعدت إلى الحمام.
استحممت وشممت رائحة احتراق اللحم. أسرعت إلى المطبخ وأنزلت المقلاة.
كانت قطعة اللحم قد أوشكت على الاحتراق واسودَّت تمامًا. أعددت
السلاطة، ثم أخرجت زجاجة البيرة وشربتها. كانت قطعة اللحم صلبةً
كالخشب. أشعلت سيجارة، ثم دخلت حجرتي وأغلقت الباب خلفي بالمفتاح. جذبت
حقيبتي من تحت السرير. فتحتها وبحثت في أرجائها تحت الكتب والملابس.
أخرجت بعض الصور العارية ووضعتها على الفراش، ثم أغلقت الحقيبة وأعدتها
إلى مكانها. نزعت ملابسي كلها حتى أصبحت عاريًا تمامًا واستلقيت على
الفراش.