الفصل التاسع
أحسست أن وسطي سينكسر. كانت شفتاها
جافتَين، ورأيتها تدير وجهها بعيدًا وتبلِّل شفتَيها بلسانها خُفية،
وكنا نسبح في العرق، ولم أتمكَّن من الاستمرار فابتعدت عنها وتمدَّدت
على ظهري ألهث. قالت في عنف: فيمَ كنت تفكِّر؟! قلت: لا شيء. ثم قلت:
أنت أيضًا كنت تفكِّرين. بحثت عن علبة السجائر في الظلام وأشعلت
سيجارةً أخذت منها نفسَين، ثم أعطيتها لها وقلت: لقد تغيَّر شيء بعد
عودتك من المنصورة. قالت: لم يتغيَّر
شيء. وجذبتني نحوها. أخذت سيجارتها وأطفأتها، وعدنا من جديد، وفي هذه
المرة كانت تتألَّم. ابتعدت عنها، وشرعَت تبكي في سكون. قالت إن رحمها
تالف بسبب حادث قديم، وإنها كانت دائمًا تتألَّم. وقالت إن المنصورة كانت جحيمًا، وكانت أمها في شجار
مستمر مع أبيها، وقالت إنها شعرت بأخي يميل إلى قريبة لها، وقالت إنها
لا تريد أن تفقده ولا تحِب له أن يعرف واحدةً غيرها. غادرتُ الفراش
وارتديتُ ملابسي الداخلية وبنطلون البيجامة وأضأت النور. فتحت باب
حجرتي، ثم أغلقته بالمفتاح خلفي. ألقيت نظرةً على حجرة زوجة أخي حيث
كانت نهاد نائمة، ثم ذهبت إلى
المطبخ. تناولت برَّاد الشاي وحملته إلى الحوض وأفرغت ما به من شاي
قديم، ثم وضعت فيه قليلًا من الماء وهززته، ثم أفرغته ثانية. تطلَّعت
داخله وكانت ما تزال به آثار من تفل الشاي. ملأته بالماء مرةً أخرى
وهززته، ثم أفرغت الماء، لكن بعضًا من بقايا ورق الشاي ظلَّت عالقةً
به. ملأت كوبَين من الماء وضعتهما في البراد، ثم أضفت قيراطًا آخر.
وضعت البراد على النار، ووقفت أمامه حتى بدا يغلي فأطفأت الموقد ووضعت
ملعقتَين من الشاي في البرَّاد وأغلقته. انتظرت ثلاث دقائق، ثم أحضرت
فنجانَين ووضعت ثلاث ملاعق من السكر في كلٍّ منهما، ثم صببت الشاي.
وضعت الفنجانَين في صينية حملتها إلى حجرتي، ووضعتها على الأرض أمام
الباب، ثم أدرت المفتاح. فتحته وتناولت الصينية ودخلت الحجرة فوضعتها
بجوار الفراش على الأرض. عُدت إلى الباب فأغلقته بالمفتاح، وكانت زوجة
أخي ممدِّدةً فوق الفراش على ظهرها تتطلَّع إلى السقف وقد تغطَّت
بملاءة بيضاء حتى ذقنها. قدَّمت إليها فنجانًا فاعتدلت على جانبها
واعتمدت على مرفقها وتناولته مني. جلست بجوارها فوق حافة الفراش
محنيًّا أحتسي فنجاني. قالت إنها ضاقت بحياتها وتود لو تكف عن العمل،
وسألتني إن كنت ما أزال أحبها. قلت: بالطبع. وأملت فنجاني أمام فمي
وأفرغته حتى آخر نقطة ولم أترك به شيئًا. مدَّت يدها وتناولت ساعتي من
فوق المقعد. قالت إن أخي سيعود بعد قليل، وألقت الملاءة جانبًا وقفزت
من الفراش. وقفَت عاريةً أمام المرآة دون أن تعبأ بتغطية جسمها كما
تفعل عادة. قالت وهي تجذب ثنية لحم في وسطها: لم يكن لديَّ شيء من هذا
منذ سنوات. مالت برأسها أمام المرآة وتتبَّعت بأصبعها بوادر تجاعيد
خفيفة في جبهتها، ثم ساوت شعرها وجذبت مشد صدرها وثبَّتته. كان أسود
اللون وقد أوشكت حوافه أن تبلى، وجذبت قميص النوم فوق رأسها، وكانت
تساويه حول وسطها عندما نادت عليها نهاد. أسرعت إلى الباب، ثم عادت وتناولت سروالها
الأسود ودسَّته تحت مخدتي، وأشارت لي أن أُخفي غطاء الجراب الجلدي
الذهبي، وكنت قد ارتديت سترة البيجامة فقُمت إلى الباب وفتحته. كانت
نهاد تقف خلفه وأخذت تنقُل بصرها
بيننا. سألَتها زوجة أخي وهي تحتضنها: ماذا حدث؟ قالت إنها تريد أن
تشرب. انطلقَت زوجة أخي إلى المطبخ. اقتربتُ من نهاد ومدَّدت يدي أداعب خدَّها فنحَّته بعيدًا. تركتها
وذهبت إلى الحمام، وعندما عدت كانت قد ذهبت إلى حجرتها. خلعت بيجامتي
وارتديت القميص والبنطلون وبلوفر بلا أكمام، ولمحت علبة سجائري ملقاةً
أسفل الدولاب وقد تمزَّقت بمحتوياتها إلى قطع صغيرة. تأمَّلتها لحظة،
ثم حملتها وذهبت إلى المطبخ فألقيتها في صندوق الفضلات، ثم غادرت
المنزل واشتريت علبةً جديدة. ركبت المترو وجلست حتى محطة الإسعاف. نزلت وعبرت الشارع. سرت على
الرصيف إلى مقهى الأمريكين، وكان
الزحام شديدًا. درت حول حائط الطوب المقام أمام باب الأمريكين ودخلته. ابتعت طبقًا من الحلوى.
وقفَت بجواري سائحة أجنبية ترتدي قميصًا وبنطلونًا. كان وجهها هادئًا
جميلًا، وقدماها متسختَين في صندل. تابعتها ببصري عندما انصرفت. وغادرت
المقهى وسرت قليلًا في شارع سليمان،
ثم عُدت أدراجي إلى الجريدة. التقيت سلوى في الطريق. سألتني: أين اختفيت طوال الأيام
الماضية؟ صعدنا سويًّا إلى مكتبها وكان خاليًا. مدَّدت يدي وأمسكت
بيدها فسحبَتها بسرعة وارتعشت فتحتا أنفها. بدت كأرنب مذعور. قلت إني
سأنزل إلى مكتبي. قالت: ابقَ قليلًا. قلت إنهم لا بد يبحثون عني الآن،
وسأمر عليها فيما بعد. وقابلني إسماعيل على السلَّم وسألني إذا كنت أعرف أحدًا في
مجلة مصوَّرة، وقال إنه يريد أن ينشر صورة ابنه الصغير بمناسبة نجاحه،
وأعطاني الصورة. عبرت الصالة الطويلة إلى مكتبي فجلست أمامه ورتَّبت
الأوراق المبعثرة فوقه، وبدأت أقرأ أخبار الصباح. وقام زكي من مكتبه واقترب مني وقال إنهم
سيعطوننا مكافأة نصف شهر، وقال إنه ضجَّ بحياة العزوبية ويريد أن
يتزوَّج. سألني عن رأيي فقلت إني لا أعرف. قال: هل الزواج المبكِّر
أفضل أم المتأخِّر؟ قلت: لا أعرف. وتظاهرت بأني أكتب. وجاء علي يبحث عن صحيفة، قلت إن صحف اليوم ليست
لديَّ، قال إنه يريد أي صحيفة ليستخدمها في دورة المياه. أعطيته واحدةً
قديمةً فمزَّقها إلى شرائح، وقال إنها أسرع مفعولًا في التنظيف من ورق
التواليت العادي. دقَّ جرس التليفون وكانت زوجة أخي. قالت إنها كانت
تنتظر أن أتصل بها عقب وصولي كما أفعل دائمًا، وقالت إنها مكتئبة وتريد
أن تذهب إلى سينما، قلت إن أمامي عملًا كثيرًا وربما بقيت إلى آخر
الليل، وسأتصل بها فيما بعد. وجاءت مايسة وجلسَت بجوار مكتبي. تأمَّلت شفتَيها
الممتلئتَين. وقالت إن واحدًا عرض عليها الزواج أمس وإنها وافقت، وقالت
إن الرجال يتصرَّفون بقذارة في سيارات الأوتوبيس، وإن واحدًا أراد أن
يلتصق بها اليوم فدفعته بمرفقها فلكزها بيده وطلب منها بصوت مرتفع أن
تقف معتدلة، وعندما أرادت أن تجادل سخرت منها السيارة كلها. وتساءل أحد
الجالسين عمَّا يُجبر البنات على الوقوف في الزحام، ولماذا لا يبقَين
في بيوتهن. وقال مصطفى إنه ذاهب،
وعرض عليَّ أن أذهب معه. قلت إني لا أستطيع قبل ساعتَين. قال: إذن
تعالَ امشِ قليلًا. نزلت معه إلى الشارع وأمسك بذراعي. كنت قد طويت
كمَّي قميصي فوق المرفقَين. مدَّ أصابعه وجعل يتحسَّس أعلى ذراعي. جذبت
ذراعي وقلت إن الجو بدأ يميل إلى البرودة، وبسطت الكمَّين حتى معصمي.
توقَّفنا أمام بقال يوناني، واشترى زجاجة نبيذ. عرض عليَّ أن آتي عنده
بعد أن أنتهي لنشربها سويًّا، قلت إني متعب وسأعود إلى منزل
أخي.