افتضاح السر
بعد ذلك بيومين، بينما كانت مس ألن جالسة في غرفتها دخلت إليها خادمة بعلبة متقنة الصنع ومفتاحها فيها، فسألتها قائلة من أتى بهذه العلبة؟
قالت: رجل لا أعرفه يا سيدتي، فقد أعطاني إياها وانصرف.
من أراد قدر.
فمزقت الورقة مغضبة وقالت: وأنا أيضًا أريد أن أعرف من هذا الفتى الوقح الذي أرسل إليَّ هذه الهدية.
وقد أخذت تفحص تلك العلبة الجميلة فصاحت صيحة فرح؛ إذ قرأت عليها اسم الجوهري الذي باعها وعنوانه، فأمرت بإعداد مركبتها، ثم أخذت العلبة وذهبت بها إلى الجوهري، فقالت له: ألم تخرج هذه العلبة من مخزنك؟
قال: نعم.
قالت: من الذي اشتراها منك؟
فنظر في دفتره وقال: لقد اشتراها مني الجوهري ناثائيل ومخزنه في استراند نمرة ١٠.
فارتعشت حين ذكرت هذا الاسم؛ إذ ذكرت به اسم أبيها، ولكنها قالت في نفسها: أية علاقة لأبي — وهو من اللصوص — بهذا الجوهري الغني الذي يقيم في أعظم شوارع لندرا، ثم ذهبت إليه ودخلت إلى مخزنه، فاستقبلها فتى فقالت له: هل أنت الموسيو ناثائيل؟
قال: كلا يا سيدتي، وسأدعوه لك.
وبعد هنيهة أقبل ناثائيل فارتعشت إذ عرفت به أباها، ولكنها أسرعت إلى ضبط نفسها؛ فإن النساء أشد من الرجال في هذه المواقف.
أما أبوها، فإنه انحنى أمامها وقال لها: ماذا تأمرين يا سيدتي؟ قالت: لا شيء، ولكني أريد أن أسألك عن هذه العلبة.
فبرقت عيناه؛ إذ عرف أنها بنته، وقد أدهشه جمالها حتى خيل له أنه يحلم، فقال: رباه ماذا أرى؟ أأنت هي توبسي؟ إنك غدوت أجمل من الملكات.
فقالت له بلهجة ملؤها العظمة: إنك واهم، فما أنا هي التي تدعوها بهذا الاسم.
وقالت له خادمتها التي كانت تصحبها: أتجسر أيها الوقح أن تخاطب ابنة السير روبرت فالدن بهذه اللهجة؟
قال: إنها بنتي. ومتى كان الأب يجامل بنته؟
ثم دنا منها، وحاول أن يعانقها؛ فتراجعت عنه بأنفة وقالت له: احذر أن تدنو مني.
قال: لقد قلت لك إنك بنتي، وسأثبت قولي بالبرهان.
وقد حاولت أن تخرج من ذلك المخزن، غير أن أباها تصدى لها عند العتبة، وجعل يتكلم بصوت مرتفع، حتى احتشد الناس عند باب مخزنه؛ فخاطبهم قائلًا: نعم نعم إنها بنتي. انظروا أيها الناس، ألا ترون هذه السيدة الحسناء؟! إنها بنتي وقد سرقوها مني.
فتقدمت خادمتها، وحاولت أن تشق الزحام كي تدع سيدتها تمر، فاعترضها أحد الحضور، فدفعها إلى داخل المخزن وقال لها: دعي هذا الرجل يتكلم.
وقال آخر: إنها بنته كما يقول، وقد سرقت منه.
فقال ناثائيل: نعم. إنها بنتي، وسأبرهن على ذلك.
فصاح الجميع قائلين: هلموا إلى البوليس.
فأشارت مس ألن إلى الحضور، وقالت: نعم سأذهب إلى البوليس وأثبت أن هذا الرجل منافق محتال.
قال: بل أنت تكذبين.
قالت: أيها الناس، إني أدعى مس ألن فالدن، وأنا ابنة أخي السير روبرت فالدن، وقد ولدت في لندرا.
وكانت تقول هذا القول بلهجة تدل على صدقها فانقسم الحضور إلى قسمين؛ قسم تشيع لها، وقسم تشيع لأبيها.
وعند ذلك رأت أحد ضباط البحرية، فأشارت إليه أن يدنو منها وقالت له: أتريد يا سيدي أن أتأبط ذراعك وتصحبني إلى إدارة البوليس؛ فإني ضحية مكيدة لا محالة.
قال: بملء الارتياح. ثم أخذ بذراعها وسار وإياها فتبعهما أبوها وجمهور من المتفرجين.
وقد وصلوا إلى الإدارة، ودخلوا إلى مدير البوليس، فسمع قول الاثنين، ثم قال لناثائيل: كيف تستطيع أن تثبت أنها تُدعى توبسي وأنها بنتك؟ قال: بالبرهان.
قال: إني أتمنى لك أن تجد هذا البرهان؛ فإنك إذا أقنعتنا رُدَّتْ بنتك إليك. وأما إذا لم تقنعنا تكون أهنت سيدة من أشراف الإنكليز، فتعاقب حسب النظام بغرامة قدرها مائة جنيه، وتجلد خمسين جلدة في مكان عام.
فارتعد وجعل العرق يسيل من وجهه، فقال له المدير: ألا تزال مصرًّا على دعواك؟
فظهرت عليه علائم التردد، وقالت مس ألن: إذا أراد هذا الرجل أن يرجع عن دعواه فإني أغفر له وألتمس من المدير أن يعفو عنه.
فهاج ناثائيل لما سمعه وقال: كلا. لا أرجع عن دعواي.
فقال له المدير: إذن هات برهانك.
قال: إني نوريُّ الأصل، ومن عادة طائفتنا أنهم يَسِمُون أبناءهم حين يولدون بعلامة خاصة بهم.
قال: ما هي هذه العلامة؟
قال: إنها رسم زاوية نرسمه على الكتف الأيسر ثم نسمه فلا يزول أثره مدى الحياة.
فقالت مس ألن تخاطب المدير: إنك إذا وعدتني يا سيدي بأن هذا الرجل يعاقب بأشد ما يقضي به القانون رضيت أن أكشف عن كتفي.
قال: إن العقاب ينفَّذ فيه لا محالة إذا كان من الكاذبين.
فنادت إحدى النساء وأعطتها رداءها فجعلته شبه ستار بينها وبين الحاضرين، ثم كشفت عن صدرها وخلعت أعلى ثوبها، فظهر كتفها أمام المدير وناثائيل وشاهدين. أما أبوها فقد جمد الدم في عروقه؛ إذ لم ير على كتفها أثرًا من هذه العلامة، وعاد المدير إلى مجلسه وهو يقول: إن هذا الرجل منافق.
ثم أمر اثنين من رجاله فقبضا عليه وهو لا يكاد أن يعي من شدة خوفه.
وخرجت مس ألن، فلم تكد تتجاوز الباب حتى رأت رجلًا بملابس البحارة، فعرفت من عينيه أنه جان وقالت في نفسها: لقد عرفت الآن السبب في ما كان؛ فإنه أراد أن ينتقم لضربة السوط.
ثم مرت به وقد نظرت إليه نظرة المنتصر وعادت إلى منزلها.
•••
إن من عادة المحاكم الإنكيزية البطء في القضايا الكبرى والجنايات العظيمة، ولكنها لا تتمهل في القضايا الصغرى، ولا سيما قضايا البوليس، وقد جرت على هذه القاعدة في محاكمة والد مس ألن.
ثم إن السير روبرت راعه ذلك الخطر الذي كان محدقًا بربيبته، وكان قد أعد عدته لاتقائه من زمن بعيد فإنه حين اشترى توبسي من أبيها كان له بنت أخ يتيمة في الريف ماتت ولها عمر توبسي فأخذ أوراق ولادتها وكتم أمر موتها في لندرا، وأوهم الناس أن توبسي هي بنت أخيه، فكانت تلك الأوراق تثبت مدعاه.
ثم إنه كان يعرف رجلًا من النور صناعته الوشم، وكان له عليه فضل، فأخذ منه دواءً محا به أثر الوشم عن كتف توبسي.
فلما علم بما جرى لها مع أبيها ذهب إلى مجلس العموم — أي مجلس النواب — وهو عضو فيه، فبسط شكواه وقال: إن الأشراف بجملتهم قد أهينوا لإهانته، فكان ذلك باعثًا إلى التعجيل بمقاضاة ناثائيل فحاكموه، وحكم عليه القاضي بأقصى درجات العقوبة، وهي الغرامة والجلد في محل عام.
فلما كان يوم التنفيذ ازدحم الناس في ساحة العقاب، وذهبت مس ألن على جوادها إلى تلك الساحة قبل موعد التنفيذ بنصف ساعة.
وكانوا قد بسطوا النطع فوق دكة عالية، ووقف الجلاد عليها، فلما رأت هذا المنظر الرهيب اصفرَّ وجهها، ونسيت كل ما أساء إليها به أبوها في حداثتها.
ثم إن السير روبرت كان قد وعدها بأن يلتمس له العفو ولم يفِ بوعده، فجاءت إلى ساحة العقاب على رجاء أن تلتمس له العفو بنفسها حين يأتي به الجنود.
وكان الناس يتقاطرون من كل جهة، وقد غصت بهم الساحة على رحبها، واشتد جزع مس ألن، فأرادت أن تشغل نفسها، ورأت رجلًا هنديًّا يعزف بالناي وامرأة هندية ترقص على عزفه، فدنت منهما كي تتلهى بهذا المشهد، وسمعت المرأة تنشد أناشيد هندية وهي ترقص.
فكانت هذه المرأة بارعة في الجمال وهي ترقص رقصًا عجيبًا شغل مس ألن عما هي فيه.
أما الهندية فإنها ما زالت ترقص حتى أنهكها التعب، فجلست متربعة على الأرض على الطريقة الشرقية، وأخذ الناس يلقون لها البنسات وغيرها من النقود الصغيرة.
ولكنها لم تكن تعبأ بشيء من ذلك، بل جعلت تنظر إلى السماء وقد شخصت إليها بحيث باتت شبه المأخوذة، وجعلت تتحدث باللغة الإنكليزية كأنها تناجي نفسها فتقول: أنا دابي ناتا ابنة الكهنة وحارسة كنز الإله سيوا، وأنا التي حكموا عليَّ أن أعيش كل عمري في جوف الأرض لحراسة الكنز وإنارته بالنيران المقدسة، وأي كنز هو؟ فإن الذهب كان متكدسًا كحَبِّ الرمال واللآلئ، كأعشاب الحقول، فكنت أحرس هذا الكنز وأقول: أقدر لعيني أن لا ترى نور الشمس ولقلبي أن لا يعرف الحب. وفيما أنا على ذلك تجاسَرَ رجل من الجنس الأبيض على الدخول إليَّ ومحادثتي بكلمات الحب.
فوضع رفيقها الهندي يده على كتفها يحاول منعها عن الكلام، ولكن مس ألن أعطته جنيهين، وأمرته أن يدعها تتكلم، فمضت في حديثها فقالت: إنه كان جميلًا، وكنت أحبه، ولكن هذا الرجل كان خائنًا؛ فإنه لم يكن يريد حبي، بل كان يريد اختلاس كنز الإله سيوا.
فقالت لها مس ألن: وماذا فعل هذا الرجل؟ أسرق الكنز؟
قالت: نعم.
– كيف كان هذا الرجل؟
– إني حين عرفته كان لا يزال غلامًا؛ فإن هذه الحادثة جرَت منذ سبعة عشر عامًا.
– أحق ما تقولين؟
– نعم. فقد كانت عيناه تبرقان كالنجوم، وشفتاه كالقرمز، وأسنانه بيضاء كاللآلئ، وشعره أشد سوادًا من الفحم.
– أكنت تحبينه؟
– نعم بقدر ما أبغضه الآن؛ فإني ما اجتزت البحار وما برحت بلاد الشمس إلى بلاد الظلام إلا لعلمي أنه في أوربا، ولكن أوربا كبيرة؛ ولذلك فإني أبحث عنه منذ عشرة أعوام دون أن أراه.
وكانت مس ألن تسمع حديثها وقد خامرها ريب بسارق الكنز، وخطر لها خاطر بشأنه، فقالت لها: ماذا تصنعين إذا وجدته؟
فجرَّدَت الهندية خنجرًا وقالت: إني طليت رأس هذا الخنجر بالسم، فمن أصيب به لا يشفى.
– أين تقيمين في لندرا؟
فذهلت الهندية وقالت لها: لماذا تسألينني هذا السؤال؟
– لأني أظن بأني عرفت السارق.
فنهضت الهندية مسرعة، وأمسكت بلجام جواد مس ألن وقالت لها: بربك دليني عليه، ودعيني أراه لحظة واحدة أكن عبدة لك ما حييت، وإذا أردت قتلي بعد ذلك فقد وهبتك دمي.
– قولي أين تقيمين؟
– في فندق القرن الذهبي في وينغ.
– حسنًا فسأراك.
وقد حاولت مس ألن أن تنصرف، ولكن الهندية حانت منها التفاتة إلى الناس المزدحمين فصاحت صيحة منكرة وقالت لمس ألن: انظري إلى هذا الرجل فإن له نظراته.
وقد دلتها على رجل كان يشق الزحام ويسير إلى مكان النطع، فرأت مس ألن رجلًا بملابس البحارة، وهو الرجل نفسه الذي رأته يوم خروجها من إدارة البوليس، فقالت في نفسها: إني لم أكن مخطئة بظنوني؛ فإنه جان دي فرانس.
ثم همست في أذن الهندية قائلة: هذا هو بعينه، وقد عرفته حق العرفان.
فتركتها وهجمت تريد الوصول إليه فمنعتها شدة الزحام عن أن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام، فجعلت تصيح قائلة: دعوني أمر؛ فهذا هو سارق الكنز.
ولم يكترث الناس لصياحها؛ إذ حسبوها مجنونة، ولبثوا شاخصين إلى النطع، فصاحت مس ألن صيحة رعب، وغطت وجهها بيديها، ولم تستطع أن تتقدم خطوة؛ فقد تلاصق الناس حتى باتوا كالبنيان المرصوص.
أما ناثائيل فقد جردوه من ملابسه العليا بحيث أصبح عاري الظهر، وربطوه إلى عمود، وأخذ الجلَّاد السوط، وانهال عليه بالجلد، فصاح في الجلدة الأولى، وأنَّ في الثانية، واهتز في الثالثة حتى أوشك أن يكسر العمود، وفي العاشر تمزَّق جلده وسالت منه الدماء، فكان يصيح صياحًا يقطع القلوب من الإشفاق.
وكانت كل ضربة تنفذ إلى قلب مس ألن نفاذ السهم؛ فقد نسيت كل شيء في تلك الساعة الرهيبة، ولم تعد تذكر إلا أن هذا الرجل الذي يتعذب إنما هو أبوها.
وفي الجلدة العشرين انقطع صياحه، وعاد إلى الأنين، وفي الثلاثين أغمي عليه، وانقلب رأسه إلى كتفه؛ فأمر المدير بالكف عن الجلد، ولم تعد مس ألن تستطيع الوقوف، فأقفلت بجوادها راجعة إلى جهة التيمس.
وقد نشقوا ناثائيل من المنبهات وعالجوا صدغيه بالخل حتى استفاق؛ فعاد الجلاد إلى ضربه فأغمي عليه مرة ثانية؛ فأمر المدير بمواصلة الضرب إذ لم يكن باقيًا غير عشر جلدات.
فلما جلد آخر جلدة استفاق من إغمائه، وحلوا وثاقه فضم قبضتيه، وهدد بها الناس كأنهم هم الذين جلدوه؛ فهاج ثائرهم ونقموا عليه؛ لأنه لم يكن من عامة الشعب، بل كان معدودًا من الأغنياء.
فلما أمره المدير أن يذهب إلى منزله ورأى ما كان من هياج الناس خاف منهم أكثر مما خاف من السياط، وخشي أن يجهزوا عليه على الطريقة الأميركية، فركع أمام المدير وقال له: أرجوك أن تأمر بإرجاعي إلى السجن.
قال: كلا. فإن ذلك غير ممكن.
وقد تركه الجلاد ونزل عن الدكة، وتجمهر الناس حوله كالذئاب ينتظرون الفريسة، وعند ذلك سمع صوت يقول: أفسحوا أفسحوا.
فصاح ناثائيل صيحة فرح؛ إذ رأى رجال قبيلته أقبلوا لنجدته وبينهم شمشون وجان.
فكان جان يحمل فأسًا طويلًا فكان يلوح به والناس يبتعدون عنه إلى أن حمل شمشون ناثائيل إلى مركبة كانت تنتظر، فوضعه فيها وصعد إليها مع جان، فسارت بهم، وقال جان لناثائيل: لا تجزع فسأنتقم لك.
وفي ذلك اليوم تنكرت مس ألن بزي صبيان البحارة، وذهبت إلى فندق القرن الذهبي، فجاءت بالهندية فأرشدتها إلى منزل جان، وقالت لها: هذا هو منزل سارق الكنز، وهو قوي شديد فلا تهاجميه مهاجمة؛ فإنك لا تقوين عليه، بل اكمني له كي تغتاليه اغتيالًا.
قالت: ذلك من شأني، وإني لا أرجع عما قيدت به نفسي، فسأكون لك عبدة متى ظفرت بهذا الأثيم.
فانصرفت مس ألن وهي واثقة من فوز الهندية؛ فقد علمت أنها مجنونة وأن جنونها مقصور على الانتقام من ذلك الذي عبث بقلبها وسرق كنز إلهها.
•••
كان الإنكليز في ذلك العهد أصحاب السيادة على قسم عظيم من البلاد الأمريكية قبل تحريرها واستقلالها.
وكان الأمريكيون قد كثر تمردهم واستفحل أمرهم، وثاروا على الإنكليز ثورتهم الكبرى، فلم يجدوا بدًّا من إرسال قوة إلى تلك البلاد لقمع ثورتهم.
وكان الملك قد انتدب المركيز روجر لهذه المهمة، فتأهب للرحيل، وأعدت الدولة السفن لنقل الجند، فسافر المركيز في طليعة جيش كثيف وصحبه ليونيل أخوه والسير جيمس ابن عمه.
وقد علم جان أن السير جيمس لم يتطوع في فرقة ابن عمه المركيز إلا على نية اغتياله؛ فإنه كان قد اعتزل الجندية لجبنه، فخاف جان على المركيز خوفًا شديدًا، وجمع أربعين من رجاله الأشداء، وأخبرهم بعزمه على اللحاق بالمركيز إلى أميركا، فوافقوه على رأيه، وأمرهم أن يذهبوا إلى باخرة كان قد استأجرها، فذهبوا إليها وبقي هو في المنزل مع شمشون لإعداد بعض المعدات.
حتى إذا فرغ من معداته خرج وفي أثره شمشون كي يذهبا إلى السفينة، ولكنه لم يتجاوز عتبة الباب حتى شعر بطعنة في بطنه، وسمع صوتًا يقول: هذه يد الإله سيوا التي طعنتك أيها الأثيم.
وقد سقط جان بين يدي شمشون وهو يقول: إني أخاف أن يكون الجرح قاتلًا فأسرع بي إلى السفينة؛ فإني أريد إصدار بعض الأوامر.
وكانت التي طعنته هذه الطعنة الهندية نفسها، ولم يتمكن شمشون من إدراكها لانشغاله بجان، فحمل سيده إلى السفينة، وأركنت الهندية إلى الفرار تصحبها مس ألن، وهي متنكرة بشكل غلام بحار.
وقد عادت مس ألن وهي تتنهد تنهُّد الارتياح لوثوقها من موت جان، ولكن الخنجر لم يكن مسمومًا كما توهمت، وقد عالج جرحه في السفينة فشفي قبل أن يصل إلى أميركا.
•••
ولا نصف هنا ما كان من تلك الحرب الهائلة التي نشبت بين الإنكليز والأميركان، ولكنا نقول على سبيل الإيجاز إنها دامت ستة أشهر، وإن السير جيمس كاد لابن عمه المركيز عشر مرات، وكان — في كل مرة يتوهم أنه فاز بقصده — يرد كيده إلى نحره؛ فإن عين جان لم تكن تغفل عن المركيز إلى أن افتضح أمر السير جيمس، وعرف المركيز ذلك العدو الذي يكيد له في الظلام، فاكتفى بتحقيره أمام الضباط أو بطرده من الجيش وبإرسال تقرير ضافٍ عنه إلى الوزارة.
غير أن كل ذلك لم يُرجع السير جيمس عن قصده الهائل، بل زاده حقدًا على ابن عمه؛ فانضمَّ إلى جيش العدو.
وكان يعرف منافذ القلعة التي كان المركيز يحاصر فيها، فاتفق مع أحد ضباط العدو على أن يدخلا إلى القلعة من ذلك المنفذ السري لينسفا بابها الأكبر من الداخل.
وقد اكتشف جان هذه المكيدة في آخر لحظة، ودخل السير جيمس إلى القلعة، وكاد يبلغ مراده من نسفها؛ فباغته مع المركيز وهو في ردهة مشرفة على البحر؛ فألقى بنفسه من فوق تلك الردهة من علو شاهق إلى البحر، وأطلق الاثنان عليه نارهما فلم يعلما إذا كانا قد أصاباه لشدة الظلام.
ولكنهما أتيا بمشعل وأطلَّا من الردهة فرأيا قاربًا يسير مسرعًا إلى جهة الأعداء، فلم يتبينا من فيه، فنزلا إلى البحر وبحثا فلم يجدا أثر الجثة.
وقد انقضت هذه الحرب بانتصار الإنكليز، وعاد المركيز بجيشه إلى لندرا، فجرى له استقبال حافل، وازدحم الناس يوم الاحتفال، وكان بين الجموع مركبة فيها سيدتان، وهما اللادي سيسل امرأة اللورد إسبرتهون وأم ليونيل — وهي تعتقد أيضًا أنها أم المركيز — والثانية مس ألن.
وكان اللادي قد أتت لترى ولديها، غير أن الزحام كان شديدًا بحيث لم تستطع المركبة أن تتقدم، فقالت اللادي لمس ألن: أرى أنه خير لنا أن نسير ماشيتين.
قالت: كلا يا سيدتي؛ فإني أخاف عليك من الزحام، وفوق ذلك فإن الموكب سيمر من هنا؛ فإذا وقفنا في المركبة رأينا من نريد أن نراهم.
وعند ذلك سمع صوت قرع الطبول مؤذنة بوصول الموكب، ودنت امرأة من المركبة فقالت لللادي: إنك إذا كنت أمًّا يا سيدتي فأشفقي عليَّ فإني أم، واسمحي لي أن أصعد إلى مركبتك عساي أن أرى ولدي بين القادمين.
فمدت اللادي يدها إليها فأعانتها على الصعود، وقالت لها: إنك لا بد أن تكوني بكيت كثيرًا، ولكنك سترين ولدك فإنه سيعود. أليس كذلك؟
فارتعدت المرأة وقالت: نعم أيتها اللادي.
فهمست اللادي في أذن مس ألن قائلة: إنها لا شك أم جندي بسيط.
ولكن مس ألن لم تجبها، بل جعلت تنظر إلى تلك المرأة محدقة ثم تاهت في مَهَامِهِ التفكير كأنها تريد إزالة النقاب عن تذكار بعيد.
وعادت اللادي فقالت للمرأة: إنك ستجدين من الهناء حين تضمينه إلى صدرك ما ينسيك ما لقيته من الشقاء أيام فراقه.
فلم تجبها المرأة، بل سالت دموعها، ثم جعلت تشهق بالبكاء.
وعند ذلك ضجَّ الناس وعلت أصواتهم قائلين: هو ذا الموكب.
فوقف النسوة الثلاث في المركبة ومرَّ بهنَّ الموكب؛ فمر في طليعته على قيد عشرين خطوة منه فارس يحمل راية جعلها الرصاص شبه منخل واسودَّت من الدخان.
ثم ظهر الكولونيل روجر؛ فسار أمام الجيش وهو يبتسم وقد جرد حسامه وجعل يحيي الناس فيهتفون له هتافًا يخرج من أفواههم كهزيم الرعود؛ فإن هذا القائد الجميل الذي قاد جيشًا برمته لم يتجاوز عشرين عامًا.
فلما رأته تلك المرأة المجهولة صاحت قائلة: يا لله ما أجملك.
ثم سقطت مغمًى عليها في المركبة.
وعند ذلك أسرع رجل فاختطف المرأة من المركبة وسار بها وهو يقول: لقد فضحت أمرك، فما هذا الذي فعلته؟
أما مس ألن فإنها رأت ذلك الرجل فاتسعت حدقتاها من الانذهال وقالت: إنه هو بعينه، وكنت أحسبه من الأموات.
ثم أمسكت بذراع اللادي وقالت لها: أتعلمين من هي هذه المرأة؟
قالت: كلا.
قالت: إنها أم المركيز روجر دي إسبرتهون؛ فقد وثقت الآن أتم الوثوق.
أما المركيز فقد كان يسير وإلى جانبه ليونيل؛ فلما وصلا إلى المركبة صاح ليونيل قائلًا: إنهما …
فقال المركيز: من هما؟
وقد التفت فرأى مس ألن، فقال له: ليونيل إنها أمي وخطيبتي.
فاضطرب المركيز اضطرابًا عنيفًا وقال: ماذا تقول؟ إن الفتاة التي تحبها هي …
قال: هي مس ألن.
فتوهجت عينا المركيز وغلى الدم النَّوَري في عروقه، ونسي أنه كان يحب ليونيل شبه أخيه، فقال له بلهجة ملؤها الحقد: أأنت تحب مس ألن … حسنًا وأنا أحبها أيضًا.
•••
ولنعد الآن إلى جان؛ فإنه اختطف أخته سينتيا وسار مسرعًا في مركبته إلى منزله.
وهناك عالجها حتى استفاقت فقال لها بصوت يتهدج من الحنو: ما هذا الذي فعلتِه يا أختي؟ أتريدين إهلاك ولدك ونحن قد سفكنا دمنا في سبيله؟! إننا ذهبنا أربعين رجلًا في خدمته فعدنا ونحن لا نتجاوز أربعة عشر.
قالت: أواه يا أخي! إن عذابي شديد لا يدركه غير الأمهات؛ فإني ألقى أشد العذاب منذ ثمانية عشر عامًا. أيكون لي ولد ولا يحق لي أن أراه وأقيم وإياه، بل لا يحق لي أن أقول له إنك ولدي. إنك لو أُصبت بمثل نكبتي لأشفقت عليَّ.
– ولكن تمعني يا أختي، فماذا كان مصير ولدك لو بقي بجانبك أما كان نوريًّا فقيرًا معدمًا مثلنا؛ فإني لولا طمعي بمرقاته لما تجاسرت على سرقة الكنز.
وهو بدلًا من أن يكون شقيًّا شريدًا أصبح غنيًّا شريفًا وقائدًا كبيرًا ولوردًا في مجلس الأعيان، وهو سيتزوج أشرف فتاة من الإنكليز، ويوقع الملك بخط يده على صك زواجه، وفي هذا المساء سيدعوه الملك إلى تقبيل يده ويتعشى وإياه على مائدة واحدة، فإلى أي مكان تريدين أن يرتقي بعد هذا الارتقاء؟!
فلم تجبه، واستمرت في بكائها، فقال لها: أتريدين الآن أن يقذفوا به من قمة المجد التي رفعناه إليها، فيسقط إلى حضيض الذل والهوان ويطردونه كما يطردون الخدم، فيقولون له: إنك لست المركيز روجر دي إسبرتهون، ولست ابن حاكم الهند الشرعي، بل أنت أميري النوري اللقيط الذي قضي على أهله أن يضربوا في الأرض أذلَّاء متشردين؟ ألا تعلمين أيتها المنكودة من هي هذه الفتاة التي كنت وإياها في المركبة؟
قالت: كلا.
قال: إنها ألد أعدائنا فهي مس ألن ربيبة السير روبرت، أي توبسي ابنة ناثائيل. أفهمت الآن؟
فأطرقت برأسها ولم تجب، فقال لها: لا أنكر أنك تتألمين لفراق ولدك، لكنك تتنعمين بفوزه الباهر واسمه الشريف، وإني أريد أن أزيد نعيمه فأزوجه بأشرف فتيات المملكة، ويكون له من السعادة ما لا ينال بالأماني والأحلام.
قالت: إني سأفعل ما تريده يا أخي. أتريد أن أبرح إنكلترا وأنفي نفسي في سبيل مجد ولدي؟
قال: كلا. إني لا أسألك هذه التضحية. وكل ما أريده منك هو أن لا تعرِّضي نفسك للافتضاح كما فعلت اليوم.
قالت: سيكون ما تريد.
قال: وإني أريد أيضًا أن تُقسمي لي أنهم إذا أكرهوك على الاعتراف بأن روجر دي إسبرتهون هو ولدك أن تتشجعي وتقولي كلا.
قالت: سأنكره إذا سألوني.
قال: إني أشعر بقلبي كأنه يكاد أن يخرج من صدري لسروره حين أفتكر بأن طائفتنا التي يحتقرها أولئك المتعجرفون منذ ستمائة عام أصبح لنا واحد منها يجلس في مجالسهم ويشاركهم في أحكامهم، ويأتي بأعقاب يفعلون فعله من بعده وأن كل هذا من صنعي.
وفيما هو يقول هذا القول خطرت له مس ألن، فبرقت عيناه بشعاع من الحقد وقال: إني سأسحق هذه الفتاة كما يسحقون إناء الزجاج.
ثم التفت إلى شمشون وقال له: هل وجدت الطبيب بولتون؟
قال: نعم يا سيدي، ولكن بعد العناء الشديد، وسيزورك عند الظهر.
– هل عرفك؟
– كلا.
– هل عرف أني متنكر باسم الناباب عثمان؟
– كلا، ولكنه ذكر أنه رآك مرة خارجًا من قصر المركيز روجر.
– إذن؛ فهو لا يعرف لماذا دعوته إليَّ.
– إنه يتوهم بأنك مريض.
وعند ذلك سمع قرع الباب الخارجي فقال لأخته: إن الطارق هو الطبيب لا محالة، فدعيني أخلو به لأني أريد محادثته في شئون خطيرة.
فخرجت، وبعد هنيهة دخل الطبيب بولتون فقال له: إنك دعوتني إليك يا سيدي فممَّ تشكو؟
قال: لا أشكو شيئًا، ولكن أريد محادثتك فإنك أقمت مدة طويلة في الهند.
– اثني عشر عامًا.
– وكنت فيها طبيب اللورد إسبرتهون الخاص. وقد اتفق في ليلة أنك ذهبت إلى مضارب النور وأخذت منهم غلامًا.
– كلا. إن ذلك لم يكن. وأي شأن لي بالغلمان؟
فابتسم جان وقال: يسرني أن تكون كتومًا، ولكنك لا تستطيع كتمان هذا السر عني، فانظر إليَّ. ألم تعرفني؟! فنظر إليه محدقًا وقال: كلا.
قال: إذا كنت لا تذكر أنك أخذت ذلك الغلام، فإنك تذكر دون شك فتى جرحَه أحد النور في كتفه وعالجته.
وكان الطبيب لا يزال شاخصًا إلى جان، فلما سمع هذا القول الأخير قال له: ألعلك جان دي فرانس؟
قال: نعم. أنا هو.
قال: أنت … أنت.
فخلع جان ملابسه العليا وكشف عن كتفه فإن أثر الجرح كان لا يزال باقيًا.
فقال الطبيب: كفى كفى. فقد عرفتك حق العرفان.
قال: إني سأقص عليك في غير هذا المقام قصتي التي تشبه القصص الخرافية لغرابتها. وأما الآن فإني أريد أن أحدثك بشأنه.
– ألا تعلم أنه عاد إلى لندرا؟
– كيف لا أعلم وأنا لم أفارقه لحظة، فأنا الذي أنقذته من الدب، وأنا الذي أنقذته عشر مرات من كيد ابن عمه هنا وفي أمريكا.
– إذن فهو عارف بكل شيء.
– بل إنه لا يعرف شيئًا، وهو يعتقد أنه ابن اللورد إسبرتهون الشرعي، ولكن أعداءنا لم يموتوا كلهم، ولا يزال يوجد أثر هائل يفضح سرنا، وهو أن روجر موشوم بكتفه كسائر أبناء طائفتنا.
– ولكن هذا الوشم لا يزول.
– بل إنه يزول بدليل أن مس ألن قد أزالته، فاعلم أنه يوجد عندي سائل يعالجون به أثر الوشم أسبوعًا فيزول، وهو عندي من عهد قديم فأخاف أن يكون قد فسد.
– إني أمتحنه عندي فأعلم فساده من صلاحه، بقي أن تجد طريقة لمعالجة المركيز به، وكيف نعلل له وجود هذا الوشم على كتفه.
– إني سأقص عليك حكاية ترويها له، والآن فخذ هذا السائل وافحصه فمتى تبين لك أمره عد إليَّ أخبرْك بما يجب أن تفعل.
فأخذ الطبيب الزجاجة وانصرف، ونادى جان شمشون فقال له: هل استأجرت المنزل الذي كنت أوصيتك أن تستأجره لأختي؟
قال: نعم.
فدخل جان إلى أخته وقال لها: لا يجب أن تقيمي الآن هنا، فإني أخشى أن يكونوا عرفوك فيتخذونك سلاحًا ضد ولدك، وقد استأجرت لك منزلًا تقيمين فيه مع ابنة عمي اليبسي، فأزورك كل يوم متنكرًا ولا يعلم أحد أين تقيمين.
ثم نادى شمشون فأمره أن يذهب بأخته إلى ذلك المنزل، وبعد ساعة لبس خير ما عنده من الملابس وذهب إلى نادي الحسان.