دهاء النَّوَرِيَّة
كان من نظام نادي الحسان الذي ذهب إليه جان أن لا يكون أعضاؤه إلا من صِباح الوجوه ومن أشراف الفتيان.
وكان المركيز روجر من أعضائه؛ فأعد له أعضاء النادي حفلة تكريم بمناسبة عودته وانتصاره.
غير أن المركيز كان منقبض الصدر لما علمه من مزاحمة ليونيل له في حبه، فذهب إلى النادي، وبعد انقضاء الحفلة قاموا إلى موائد اللعب، وعرض أحد أعضاء النادي على المركيز أن يلاعبه؛ فرضي بشرط أن يلعبا على مقادير كثيرة؛ فإنه أراد أن يشغل نفسه بالمقامرة عما هو فيه.
ولم يكن لديه في محفظته غير ألف جنيه أوراقًا مالية فخسرها بمدة وجيزة، ثم لاعبه مالدن فخسر كل ثروته، ثم لاعبه على قصر من قصوره فخسره أيضًا.
وهنا امتنعا عن اللعب وقد اسودت الدنيا في عيني المركيز؛ إذ خسر كل ثروته، وحاول أن يخرج من النادي، ولكن عثمان تصدى له فأدخله إلى قاعة معتزلة وقال له: انتظرني هنا إلى أن أعود إليك.
ثم ذهب إلى خصمه في المقامرة وقال له: إن المركيز يريد أن يتنازل لك عن القصر الذي كسبته منه، فتعال معي كي نكتب لك صك التنازل.
فدخل الرجل وهو لا يعلم ما يضمر له جان، فأقفل جان الباب من الداخل، وأشار إلى الرجل أن يجلس أمامه، ثم أخذ من جيبه دفتر حوالات فكتب حوالة بخمسين ألف جنيه على أحد المصارف الكبرى، وقال له: إني أريد أن آخذ بثأر صديقي المركيز، فهل لك أن تلاعبني على المبلغ الذي كسبته منه؟
قال: حبًّا وكرامة.
ثم أخرج من جيبه علبة سعوط، وأخذ منها شيئًا ووضعها أمامه، فمد جان يده فأخذها وأراها للمركيز فقال: انظر إلى هذه العلبة الجميلة فإن فيها سرًّا دقيقًا لا يعرفها إلا أنا وخصمك، وهو أنه كان يضعها بين يديه حين يعطيك الورق ويضغط على هذه اللؤلؤة الكائنة في وسط العلبة فتمثل محلها مرآة مسطحة ينظر إليها وهو يعطيك الورق فيرى ورقك إذ ينطبع رسمه عليها.
فاصفرَّ وجه الرجل وقال: إني لا أستخدمها ولا هي تستخدم لمثل هذا الغرض.
قال: ربما كنت مخطئًا، فهلمَّ نلعب.
وقد أخذ جان الورق فخلطه ثم أعطاه ورقًا، وأخذ لنفسه والعلبة بين يديه؛ فربح كل ما خسره المركيز.
وهنا غضب الرجل وقال: إنك تسرقني.
قال: نعم. إني سرقتك كما أنت سرقت المركيز، وكما كنت تسرق الناس منذ ثلاثة أعوام بهذه الحيلة الشائنة.
والآن. فإني آمرك بالخروج من النادي وأن لا تعود إليه إلا إذا كنت تؤثر أن تبيت في السجن.
وقد أخذ من أمامه الأوراق المالية التي كسبها من المركيز فاصفرَّ وجه الرجل حتى صار كالأموات، وقال له: ولكن رد لي علبتي على الأقل.
قال: كلا. بل أبقيها عندي تذكارًا منك، وخذ هذا الخاتم بدلًا منها فهو يساوي ضعف ثمنها.
فأخذه الرجل وانصرف مسرعًا خوف الفضيحة.
وكان الماركيز ينظر إليهما وهو شبه المأخوذ، فلما انصرف الرجل قال لجان: من أنت؟ فهل أرسلك الله إليَّ لتقيني مما يحدق بي من الأخطار؟
قال: إني أصدق الناس في خدمتك.
– بل إنك مثال الصداقة وآية الإخلاص.
قال له بصوت يتهدج: هل تحبني؟
فعانقه عناقًا طويلًا وقال له: إني أحبك كما يحب الأخ أخاه. أما وقد وثقت الآن من حبي فقل لي من أنت.
قال: لا تسألني كشف سر لا أريد الإباحة به، فثق بي واعلم أني ساهر عليك.
•••
في ذلك اليوم كان السير روبرت فالدن في منزله مع ربيبته مس ألن واللادي سيسل والدة ليونيل؛ فقد كانوا ينتظرونه.
وكان السير روبرت مطرقًا يفكر، ثم وقف فقال في نفسه: لا بد من النهاية. وقال لربيبته: تعالي معي يا ابنتي إلى غرفتي؛ فإني أريد مباحثتك في بعض الشئون.
وقد تبعته فأقفل باب الغرفة وبدأ معها الحديث فقال: إنك بلغت الحادية والعشرين من عمرك يا ابنتي، وشهد الله أني أحببتك ولا أزال أحبك كأنك ابنتي، ولذلك لا أجد الآن بدًّا من أن أطلعك على أسرار لا يجمل إخفاؤها عنك بعد أن بلغت سن الرشاد.
قالت: ثق إني سأحتفظ بهذه الأسرار.
قال: إنه منذ سبعة عشر عامًا جاءت المركيزة دي إسبرتهون، أي اللادي سيسل تسألني أن أسديها نصيحة، فإنها افترقت عن زوجها وهي في عنفوان شبابها فتعين زوجها حاكمًا للهند وذهبت هي إلى إيكوسيا، فاختبأت فيها هربًا من غيرة زوجها وعنفه.
وكان لها ولدان بقي الكبير عند أبيه والثاني عندها، فأوهمت زوجها وهي بعيدة عنه أن هذا الولد قد مات؛ إذ كانت تخشى أن يأخذه منها يومًا على سبيل الانتقام؛ لأنه مات منذ ثلاثة أعوام وهو يعتقد أن ذلك الولد لم يكن من دمه، والله يشهد أن امرأته كانت من أعف النساء وأشرف الزوجات.
فتكلفت مس ألن الدهشة وقالت: كيف ذلك أللمركيز روجر أخ؟
– نعم يا ابنتي.
– وهو يجهل ذلك؟
– نعم.
– أين هذا الأخ؟ ومن هو؟
– هو الذي سيزورنا بعد ساعة؛ فإن اللادي سيسل كتمت نسبه حتى عنه.
– رباه ماذا أسمع أهو ليونيل؟
– نعم. إنه ليونيل. هو أخو المركيز روجر.
– ولكن اللورد إسبرتهون مات منذ ثلاثة أعوام، ولم تعد اللادي سيسل تخاف عنفه، فلماذا لم تظهر أمرها، ولماذا لم تذهب إلى ولدها البكر؟
– أنا الذي أخبرتها بموت زوجها، وكنت أعتقد ساعتئذ أنها ستذهب من فورها إلى قصر إسبرتهون، ولكنني كنت واهمًا؛ فإنها قالت لي: إن شرائع أشراف الإنكليز شديدة العنف، فهي تمنح كل أموال العائلة وامتيازاتها للابن البكر وتحرم سائر إخوته من كل حق، وهذا هو السبب من تمكن الحقد من أبناء الأسرات الشريفة. ألا تذكر ما كان بين السير جاك وبين أخيه زوجي؟
أما ولدي ليونيل، فهو يعتقد أنه ابن ضابط لا ثروة له، ومع ذلك فهو سعيد. أتحسب أنه يكون سعيدًا حين يعلم حقيقة نسبه ويرى نفسه محرومًا من كل حق؟
فقلت لها: وابنك البكر الذي لم يعرف أمه؟
قالت: يكفيني أنه سعيد. وإني لا أضيف شيئًا إلى هنائه إذا عرَّفته بنفسي وبأخيه، وفوق ذلك فلا شك أن أباه علَّمه أن يحتقرني.
وقد رأيت أنها مصيبة فيما ارتأته؛ فإنها قد تبذر بذور العداء بين الأخوين، وهما سعيدان، فوافقتها على رأيها.
وتوالت الأعوام إلى أن شببت وشب ليونيل؛ فرعبت يومًا إذ رأيت أنه يحبك.
ورجائي يا ابنتي أن لا تؤاخذيني لقول ينكره قلبي وتفضي بقوله واجباتي، وهو أن الأشراف عندنا متضامنون متساوون لا فرق بين الشفاليه والدوق في هذا التضامن، وإني قد وهبتك قلبي وثروتي، ودعوتك ابنة أخي، ولكن ضميري كان يؤنبني ويقول: أيمكن أن تأذن لتوبسي النورية بالزواج من نبيل وأنت من النبلاء دون أن تكون من المذنبين؟
ولذلك ذهبت إلى اللادي سيسل فاعترفت لها بالحقيقة؛ فابتسمت إليَّ وقالت: إنك قد تكون مصيبًا لو كان ليونيل سيعرف يومًا أنه ابن اللورد إسبرتهون، ولكنه سيجهل سر مولده مدى حياته ويعتقد أنه ابن ضابط فقير؛ فإذا كان ذلك فلماذا نحول دون سعادته وهو يحبها؟
فأقنعتني حجتها، وبدأت أعود نفسي على أن أراك يومًا زوجة ليونيل.
إلى أن جاء يوم خيل لي فيه أني اكتشفت سر قلبك، وعلمت أنك لا تحبين ليونيل بل المركيز روجر.
فتنهدت مس ألن تنهدًا طويلًا، وأخذ يدها برفق فقال لها: أصغي إليَّ يا ابنتي؛ فإنك ما زلت لا تحبين ليونيل؛ فإن التضحية التي سألتك إياها ليست عظيمة، وهي أنه يجب عليك أن تبعدي عنك ليونيل وتعينيه على شقائه.
قالت: ولكنك دعوتني إلى أن أفتكر بأني سأكون امرأته.
– هو ذاك يا ابنتي، غير أن ذلك حدث حين كنت أتوهم أن ليونيل سيجهل سر مولده مدى حياته.
– ألعله علمه؟
فأجابها بلهجة تدل على أنه يكتم سرًّا، فقال: إنه قد يعلمه، وقد يجيء يوم يرد فيه المركيز ثروته وأتعابه إلى ليونيل، وذلك يسهل عقد زواجك بروجر الذي تحبينه.
قالت: إذا كان ذلك، فثق أنه لا يمضي شهر حتى يصبح ليونيل لا يفتكر بي.
إنك إذا كنت تحبني حقيقة أيها الحبيب وكان هذا الفراق لم ينسك من تحب فافعل ما أطلبه إليك.
إننا سنجتمع بحضور أمك وعمي، وستجد مني فتورًا في مقابلتك لم تتعوده، فلا تحزن فإني أحبك، ولكن هناك أسبابًا تقضي عليَّ أن أتكلف هذا الفتور حرصًا على هنائنا.
ورجائي أن تكون هذه الكلمة كافية لاطمئنانك؛ فإني أحبك بملء جوارحي، وستقف قريبًا على الحقيقة.
وقد أرسلت هذه الرسالة مع خادم إلى الثكنة التي يقيم فيها ليونيل، وعادت إلى غرفتها وهي تقول: لا بد لواحد منهما أن يكون زوجي، ولكني لا أتزوج إلا من كان منهما مركيزًا. مسكين عمي فقد توهم أني أحب …
ثم وضعت رأسها بين يديها، وخاضت في عباب التأملات، كأنها قائد يضع خطة معركة.
•••
بينما كانت هذه الحوادث تجري كان الملك قد فرغ من استعراض فرقة المركيز، فدنا ليونيل من المركيز وقال له: أتأذن لي أيها الكولونيل أن أذهب الآن فأرى أمي؟
فارتعش، ونظر إليه نظرة منكرة؛ فإن الغيرة كانت قد عضت قلبه ومحت بلحظة كل آثار الصداقة، حتى إنه ندم وحاول أن يمد يده إليه ليصافحه ويعتذر، ولكن مثال ألن مَرَّ بخاطره في تلك اللحظة، فشعر أن قلبه قد التهب وأدار وجهه كي يخفي غضبه، وأجابه قائلًا: اذهب.
فحيَّاه ليونيل التحية العسكرية وانصرف، ولكنه لم يسر خطوتين حتى رجع فنظر إليه المركيز نظرة استكبار وقال له: ماذا تريد؟
قال: ألتمس أن تأذن لي بمقابلة وجيزة.
قال: لا فائدة من ذلك.
ثم أعرض عنه وبقي ليونيل وحده وهو يحدث نفسه فيقول: ترى هل أسأت إلى المركيز وأنا لا أعلم؟
وعند ذلك دنا منه أحد الجنود وقال له: لقد وردتك هذه الرسالة يا سيدي حين كنت مشتغلًا بالاستعراض.
فأخذ الرسالة وتلاها فزادت هواجسه وقال: رباه ماذا حدث؟ إن المركيز يكرهني الآن بقدر ما كان يحبني، وقال لي اليوم إنه يحب ألن، فلو تخير عمها بيني وبين المركيز لما فضلني عليه لا محالة.
وقد ذهب واليأس ملء قلبه إلى منزل السير روبرت، حيث لقي أمه وألن، فاستقبلته ألن استقبالًا فاترًا كاد يذهب بعقله لو لم تنظر إليه نظرة مفادها تذكر ما كتبته لك فاطمأنَّ.
وقد قام بينهم إلى الساعة العاشرة، فقام يريد العودة إلى الثكنة، وأوصلته إلى الباب فوضعت في جيبه مفتاحًا وقالت له: عد حالًا من باب الحديقة فلي ما أقوله لك.
فذهب وقلبه موعب بالفرح والرجاء.
وبعد انصرافه قال السير روبرت لربيبته: لقد أحسنت يا ابنتي، وإني راضٍ عنك.
قالت: مسكين ليونيل؛ إنه يتعذب كثيرًا.
فتنهد وقال: هو ذاك، ولكنه سيتعزى يومًا حين يغدو في مصاف اللوردية.
وكانت اللادي قد دخلت إلى مخدعها وخلا المكان لروبرت وربيبته، فقالت له: أتأذن لي يا عماه أن أسألك سؤالًا؟
– سلي.
– كيف تفترض أن المركيز روجر يتنازل بالرضى؟ أم يكون ذلك بالاغتصاب؟
– بل بإرجاع الشيء لصاحبه.
فتكلفت البساطة كأنها غير عالمة بشيء وقالت: إني لا أرى سببًا يحمل ابن اللورد إسبرتهون البكر على إرجاع أمواله لأخيه الأصغر.
– سأوضح لك هذا الإبهام بعد ثلاثة أيام.
ثم قبَّل جبينها، ودخل إلى مخدعه بعد أن أوصاها أن تدخل إلى مخدعها، فأوهمته أنها امتثلت فدخلت إلى غرفتها وخرجت من باب آخر إلى الحديقة، فوجدت ليونيل ينتظرها هناك.
وقد ركع حين رآها؛ فأنهضته بيدها وقالت له: تعال نجلس تحت هذه الخيمة.
قال: يا لله كم أنت مضطربة أيتها الحبيبة.
ولكن اضطرابه كان أشد، حتى إنها كانت تسمع خفوق قلبه، فأجلسته بجانبها وأخذت يده بين يديها فقالت: أيها الحبيب يجب أن تثق بي.
قال: ماذا تعنين؟
– أريد قبل كل شيء أن تقسم لي يمينًا.
– على ماذا؟
– على أن تكتم ما سأقوله لك عن أمك.
– إني أعاهدك على الكتمان وأقسم لك.
– إذن؛ فاعلم أن عمي يريد تزويجي.
– رباه ماذا أسمع؟
– اطمئن يا ليونيل؛ فإنه طامع أن يزوجني رجلًا من كبار النبلاء، ولا بد لي اتقاءً لغضبه أن أتظاهر بالموافقة على مشروعه.
– وإذا وافقت إلى النهاية، فما يكون مصيري؟
– أيها الناكر الجميل! ألم أقل لك إني أحبك. إني أقسم لك بأن لا أتزوج سواك.
فصاح صيحة فزع. فقالت له: اسكت؛ فإن عمي لم ينم بعد؛ فإذا انتبه لنا قضى على آمالنا وذهبت أدراجَ الرياح.
– ولكن ما هو هذا الخطر الذي يتهددنا؟
– لا أستطيع أن أقول لك شيئًا الآن.
– وأنا أعرف أن هذا الرجل الذي يريدون أن يزوجوك به هو المركيز روجر. أليس كذلك؟
– نعم هذا هو. ولكن كيف عرفت ذلك؟
فحكى لها ما كان بينه وبين المركيز، فابتسمت ابتسام واثقة من فوزها القريب وقالت: أصغ إليَّ فإني أقسم لك أني سأكون امرأتك قبل ثلاثة أشهر، ولكن بشرط.
– ما هو هذا الشرط؟
– أن تطيعني.
– مري أطع.
– إن أمك قد استأجرت منزلًا بجوار منزلنا فستقيم وإياها فيه ولا تزورنا إلا في النادر، وأبق هذا المفتاح عندك، فتعال كل يوم عند انتصاف الليل فنجتمع في هذه الحديقة، واحذر أن تخاصم المركيز.
– وا أسفاه! إني كنت أحبه كأخي.
وقد أقاما نحو ساعتين يجددان العهود ثم افترقا بعد أن تواعدا على اللقاء في الغد.
وعادت إلى غرفتها وهي تقول في نفسها: إن السير روبرت عمي العزيز سيكون له مني خير مساعد على كشف سر المركيز، ولكنه يريد أن يستقل بالعمل.
وعند ذلك خطر لها الناباب عثمان، فاضطربت وقالت: إن هذا الرجل وحده يستطيع إحباط آمالي فلا أخشى السير روبرت ولا المركيز روجر لأكون يومًا مركيزة، ولكني أخاف جان دي فرانس.
•••
وفي اليوم التالي كان المركيز روجر جالسًا في غرفته وهو في أشد حالات الاضطراب؛ فقد كان مفتونًا بحب ألن مع أنه لم يَبُحْ لها بغرامه إلى الآن.
وكانت تتمثل له في كل سبيل، حتى إنه كان يذكرها وهو يقاتل الأعداء، فلما علم أنها خطيبة ليونيل شعر أن قلبه قد انسحق، فكان يجول في غرفته كما يجول الأسد السجين في قفصه.
وكان يهيج في عروقه الدم النوري حتى يتغلب أحيانًا على تربيته الإنكليزية، فيتهم نفسه بالجبن لأنه لم يخاصم ليونيل فيبارزه ويقتله.
ثم يعود إليه هداه وتهيج في صدره عوامل الكرم التي فطر عليها، فيفتكر أن ليونيل كان صديقه، وأنه كان يحبه كأخ، فيلعن ذلك الحب الذي ابتلي به، ويعاهد نفسه على إخماد لهيبه بالصبر وتضحية هنائه في سبيل صديقه.
ثم يعود إلى الهياج فينسى كل هذه العواطف الكريمة، ويعجب كيف أن ليونيل لم يأت إليه ويسأله الإيضاح عن مقابلته الجافية، وأين له أن يعلم أن ألن منعته عن مخاصمته؟
إن المركيز دي إسبرتهون يتشرف بأن يطلب إلى السير روبرت فالدن مقابلته، ويرجوه أن ينوب عنه بتقديم احترامه لابنة أخيه.
إن السير روبرت فالدن يقدم للورد إسبرتهون تحياته واحترامه، ويأسف أنه لا يستطيع استقباله لاعتلال طرأ على صحته.
فمزق المركيز الرسالة وهو يتميز من الغيظ، وأطلق سراح الخادم.
وعند ذلك سمع صوت مطرقة على الباب الخارجي، فأطلَّ من النافذة كي يرى الطارق وهو يرجو أن يكون السير روبرت أرسل إليه رسالة أخرى.
ولكنه رأى امرأة مقنعة دخلت من الباب إلى الردهة، وبعد هنيهة دخل إليه خادمه برقعة زيارة هذه المرأة التي لم يكن مكتوبًا عليها غير الحرف الأول من اسمها وهو أ.
فأمر بإدخال الزائرة إليه، وكان قناعها كثيفًا فلم يتبين وجهها، ولكنه علم من خفوق قلبه أنها مس ألن.
وقد أصاب حديث قلبه؛ فقد أيقن أنها هي نفسها حين سألته بصوتها الرخيم قائلة: أتأذن لي يا سيدي المركيز بمقابلة وجيزة؟
فأخذ بيدها وهو يرتجف من الفرح وأجلسها على كرسي جانب المستوقد، فكشفت القناع عن وجهها وقال لها كأنه كان خائفًا أن يكون حالمًا: أهذا أنت؟
وكان وجهها مصفرًّا وأثر الدموع لا يزال ظاهرًا في عينيها، فأجابته قائلة: نعم أنا هي. فقد أتيت دون أن يراني أحد لألجأ إليك.
– أأنتِ تلجئين إليَّ؟
– لا تتسرع يا سيدي المركيز قبل أن تسمع حديثي بالحكم عليَّ.
– أأنا أحكم عليك؟ إنك شديدة القسوة يا مس ألن.
فأطرقت برأسها ووضعت يدها على عينيها وقالت بصوت ضعيف كأنها تصلي: إني أتيت إليك يا سيدي المركيز متوسلة؛ فعاملني بالرحمة وأشفق على أتعس امرأة في الوجود.
– أأنت تاعسة؟ أأنت تتوسلين؟ إني أخاف أن يكون الحزن دخل صوابي فلا أفهم ما تقولين.
فنظرت إليه بعينين تبرقان كالماس الأسود وقالت له بصوت يتهدج: إن السير روبرت يريد تزويجي.
– بليونيل؟
– نعم. وقد وعده عمي بالزواج فجاء أمس يطالبه بتحقيق الوعد.
– أواه. لقد علمت الآن السبب بقدومك إليَّ فإنك أتيت تتوسلين أن لا أبارزه وأنت خائفة على حياة من تحبين.
فرفعت عينيها إلى السماء وقالت: حياة من أحبه؟
– نعم حياة الذي سيكون زوجك.
– ولكن إن هذا الزواج لا يطول؛ فإن الله سيشفق علي ويدعوني إليه.
– رباه ماذا أسمع ألا تحبين ليونيل؟
– إني أحبه حب أخ، وهذا كل حبي.
فركع المركيز أمامها، وقد شعر أن السماء فتحت له أبواب النعيم وقال لها: أقسمي لي أنك لا تحاولين خديعتي.
– أقسم.
– إذن أنت لا تحبين ليونيل؟
– أكنت هنا لو كنت أحبه؟
– إذن. لقد أتيت تسأليني أن أسعى لنقض هذا الزواج. أليس كذلك؟
– لا فائدة من مسعاك، فقل لي أتثق بي؟
– كما أثق بأمي لو كان لي أم.
– إذا كان ذلك، فإني أسألك أن تقسم لي يمينًا كما سألتني.
– ماذا تريدين أن أقسم؟
– أقسم لي أن تثق بإخلاصي ثقة لا حدَّ لها، وأنك تفعل كل ما أطلبه إليك.
– إن قلبي لكِ.
فمدت له يدها، وابتسمت ابتسامة فتنت عقله، ثم قالت: أما وقد وثقت الآن أنك تحبني فسأعرف كيف أدافع عن هنائنا ومستقبلنا.
وقد نهضت تحاول الانصراف، فسمعت من خارج الغرفة صوتًا يقول: لا حاجة إلى الاستئذان فإني أدخل دونه.
فأسرع المركيز فأقفل الباب من الداخل وهو يقول: هو ذا الطبيب بولتون.
فذعرت ألن وقالت: بولتون … إنه سيفضح أمري إذا وجدني هنا، فأزاح المركيز ستارة عن باب آخر في الغرفة وقال لها: إن هذا الباب يؤدي إلى الحديقة فاذهبي أيتها الحبيبة؛ فقد رددت الحياة إليَّ.
وكان الطبيب لا يزال يناضل الخدم عند الباب ففتح المركيز الباب ودخل الطبيب وهو يقول: لقد كنت أحسب أني أحاصر حصنًا؛ فقد أصبحت غرفتك شبه قلعة.
فقال له المركيز: إني كنت نائمًا على الكرسي فلم أسمع صوتك؛ فاعذرني أيها الصديق.
ثم مدَّ له يده وصافحه، فجلس الطبيب بجانبه، وجعل يتفرس بوجهه بإعجاب ويقول: لقد صدق من قال إن الأسفار تحيي نضارة الشباب؛ فإني أرى إله الجمال ممثلًا في المركيز روجر.
قال: ولكني عاتب عليك؛ فقد كنت أرجو أن أراك ساعة عودتي.
قال: لم يشغلني عن زيارتك شاغل، ولكني صبرت إلى أن تنتهي الحفلات الرسمية.
وقد طالما خطر لي أن أتبعك إلى أميركا، ولكن الشياطين ملأت كل جيوبي فلم تتسع لسواها.
إذا كان قد أعوزك المال فلماذا لم تطلبه من وكيلي؟ فحك أذنه وقال وهو يبتسم: لقد فعلت فأعطاني، ولكن النقود التي أعطاني إياها كانت أسرع مني في السير، فلما جاء موعد السفر وجدت أنها سبقتني.
– إلى أين؟
– إلى الخمارة.
فضحك المركيز وقال: إنكم معشر الأطباء تنهون عن الخمر وتشربونها.
قال: إن الطبيب يصف الدواء، ولكنه لا يشربه.
ثم أخرج من جيبه زجاجة صغيرة فوضعها على المستوقد وقال: لنبدأ بالترتيب.
قال: ما هذا؟
– دواء عجيب.
– لا أظن أنه لي فإني في أتم عافية.
– هو ذاك. فإنك في عافية أتمنى لك دوامها ومع ذلك فإني أحضرت هذا العلاج خصيصًا لك.
– كيف ذلك؟
فتكلف الطبيب هيئة الجد وقال له: إني أتيت إليك أيها المركيز لمباحثتك في شئون خطيرة؛ فابتسم المركيز وقال له ممازحًا: إنه إذا كانت حكاياتك خفية كدوائك فإني سأرتعد من الرعب.
– إن الحكاية تبدأ منذ سبعة عشر عامًا.
– إذن إنها من حكايات العهد القديم.
– كلا أيها المركيز، فإنك أخص رجال حوادثها.
– إذن قُصَّهَا عليَّ فقد بدأت أهتم لها.
– إن حوادثها جرت في كلكوتا عاصمة الهند في عهد اللورد أبيك، فقد دخل رجلان في ليلة حالكة الأديم إلى سراي أبيك وسرقا منها غلامًا.
– من هما؟
– من طائفة النور.
– من كان الغلام؟
– أنت.
– يظهر أنهما لم ينجحا فإني أمامك.
– بل إنهما نجحا؛ فإنه حين أشرقت الشمس كنت في مضارب النور على قيد ست مراحل من قصر أبيك.
– إنها حكاية غريبة.
– ولكنها أكيدة.
– غير أنه لم يذكرها لي أحد قبلك.
– لأنه لم يكن يعرف هذا السر غير ثلاثة، وهم العبد الذي كان ساهرًا عليك حين رقادك وأبوك وأنا، وقد مات أبوك والعبد فلم يبق غير أنا من الواقفين على هذا السر.
– لكن أي غرض للنور من اختطافي؟
– إنهم كانوا يريدون إبقاءك عندهم رهينة كي يساوموا بك على افتدائك بمبلغ عظيم.
– أفعلوه لمجرد الكسب؟
– بل للانتقام أيضًا؛ فإن أباك كان قد طردهم من كلكوتا، وفي الليلة التالية دخل اثنان إلى الخيمة التي كنت مسجونًا فيها وهما مسلحان فتمكنا من إنقاذك، وكان هذان الرجلان أباك وأنا، ولكن النور كانوا قد وشموا كتفك الأيسر بعلامة طائفتهم.
– أهي هذه العلامة الزرقاء التي أراها على كتفي ولا أعلم كيف أتت؟
– نعم هي هذه العلامة التي طالما اضطرب لها أبوك؛ إذ كان يخشى أن يجيء يوم يحسبون فيه أن المركيز روجر دي إسبرتهون نوري.
فوقف المركيز منذعرًا وقد نظر إلى الباب الذي خرجت منه مس ألن فلم تخف هذه النظرة على الطبيب، ولكنه كان قد اندفع في الحديث ولم يجد بدًّا من إتمامه، فقال: نعم إن هذا الخاطر كان يعذب أباك، حتى إنه جرب جميع أدوية الهند لإزالة هذا الوشم فلم يتمكن من إزالته.
– ما هذا الخاطر الغريب؟ ومن الذي يجسر على الشك بنسبي؟
– ألا تعلم أن من كان له نبلك وثروتك يكثر حاسدوه؟
– ربما، ولكن ما العمل وهذا الوشم لا يزول؟
فقال له بصوت منخفض: إني أبحث منذ عشرين عامًا عن دواء يزيله فلم أهتد إليه إلا منذ يومين.
– إذا كان ذلك أيها الصديق فهلمَّ وجربه بي فإن الهزء والفضيحة لا يجب أن ينالا أمثالي.
– إذن سأزورك في كل ليلة ساعة رقادك وأستعمل هذا الدواء، ورجائي أن يزول الوشم في مدة أسبوع فلا يبقى له أثر.
– على الرحب، فتعال للعشاء معي في كل مساء، وسنبدأ من هذه الليلة.
والآن أرجوك أن تدعني وحدي هنيهة في هذه القاعة؛ فإن لدي أوامر مستعجلة أريد إصدارها.
فوضع الطبيب الزجاجة في جبيه وقال له: وأنا أيضًا مضطر إلى الانصراف لعيادة مريض في هذا الشارع.
– اذهب أيها الصديق وعد بعد ساعة؛ فإني أنتظرك. فخرج بولتون حتى إذا وصل إلى ردهة القصر أخرج من جيبه قفازًا كان قد لقيه على الكرسي الذي كان جالسًا عليه ونظر فيه فوجده قفاز امرأة فضرب الأرض برجليه مغضبًا وقال: لقد عرفت الآن ما هي هذه الأوامر التي يريد إصدارها.
وقد خرج من القصر فلم يسر بضع خطوات حتى وقف إذ وجد مركبة تنتظر على بعد عشرين خطوة من باب القصر.
وكأنما قد رابه أمرها فالتفَّ بوشاحه ووقف وراء أحد الأبواب دون أن يراه أحد.
وبعد هنيهة رأى امرأة مقنعة خرجت من باب الحديقة؛ فصعدت إلى المركبة وأمرت السائق بالمسير.
فأسرع في أثرها وهو يقول في نفسه: ليتعشى روجر هذه الليلة وحده فإني أريد أن أعرف من هي هذه المرأة التي سمعت الحديث الذي قصصته على المركيز.
أما المركيز فإنه لم يكد يخرج الطبيب من عنده حتى أسرع إلى الباب الذي خرجت منه ألن فرآها تجتاز الحديقة.
وأما ألن فإنها حين باتت في مركبتها جعلت تبتسم ابتسام الظافر وتقول في نفسها: لقد أصاب من قال إن للنور إلهًا يرعاهم؛ فإن هذا الطبيب قد خدمني خدمة جليلة سأكافئه عليها متى جاء وقت المكافآت.
أما الآن فسأخير جان دي فرانس بين الحرب والسلم فإذا خدمني سالمتُه، وإذا اعترضني فيما أريده أشهرت عليه حربًا عوانًا أكون الظافرة فيها؛ فقد تسلحت الآن بأمضى سلاح.
وبعد نصف ساعة وقفت مركبة مس ألن عند باب منزل السير روبرت، وكان الطبيب في أثرها فعرف من هي هذه المرأة التي كانت محنة المركيز.
إن توبسي تريد أن ترى جان دي فرانس، وقد عينت له موعد المقابلة الساعة العاشرة من هذه الليلة في دليتفورد.
ثم أسندت كوعها إلى المنضدة وجعلت تبتسم وتقول: أليس من المضحكات أن يكون اثنان من النور في مقدمة أشراف الإنكليز؟