الاعتراف
عاد المركيز روجر إلى نادي الحسان فوجد الإسباني ينتظره، فاتفقا على اللعب بالشطرنج، وتراهن أعضاء النادي، واقترح الإسباني أن لا يحضر لعبهما أحد، ثم دخل مع المركيز إلى غرفة، فأقفلا بابها وجلسا بجوار نافذة مقفلة تطل على مشرف يشبه الرواق.
وقد وضعا الشطرنج بينهما على مائدة، وقال له الإسباني: لقد تعودت أن أشرب كأسًا من الخمر خلال اللعب، فهل توافقني على ذلك؟
قال: دون شك، وملأ كأسين من زجاجة أمامهما فشرب كل منهما نصف كأسه وبدأ اللعب.
وكان الإسباني متختمًا بخاتم من الياقوت بخنصر يده اليمنى.
فبينما هو ينقل رقاع الشطرنج سقط خاتمه إلى الجهة التي كان فيها المركيز فانحنى المركيز ليلتقطه واغتنم الإسباني هذه الفرصة فألقى في كأس خصمه حبة سوداء لم تلبث أن امتزجت بالخمر حتى ذابت فيها.
ثم أخذ الخاتم شاكرًا، فقال له المركيز: أتعلم لماذا رضيت أن ألاعبك بالشطرنج؟
قال: دون شك؛ فإننا سنتحادث بشأن السير جيمس ابن عمك، فاعلم أن الأميركيين أنقذوه.
قال: لقد أخبرتني بذلك.
– وإني لقيته حين كنت بمعسكر الجنرال جاكسون فتعرفت به وعهد إليَّ بمهمة لديك.
– ما هي هذه المهمة؟
– إنه يريد أن يعود إلى إنكلترا.
– إنها جرأة نادرة من هذا الأفعى.
– ولكنه نادم أشد الندامة لإساءته إليك.
– وأنا آسف لأني لم أقتله كما يقتلون الذئاب.
فهمَّ أن يجيبه، وعند ذلك فتحت النافذة فجأة وهب هواء شديد أطفأ المصباح فقام الإسباني لينير المصباح من المستوقد ونهض المركيز يحاول إقفال النافذة فلم ينتبه أحد منهما إلى يد مدت من تلك النافذة فأبدلت موضعي الكأسين بحيث وضعت كأس المركيز أمام الإسباني وكأس الإسباني أمام المركيز.
ثم أضيء المصباح، وأقفلت النافذة وعادا إلى الحديث فقال المركيز: لقد قلت لي إن السير جيمس ندم على ذنوبه، وأنه يريد العودة إلى وطنه.
قال: نعم. وإني أكفل صدق توبته وندمه.
قال: لا أشير عليك أن تكفل شيئًا؛ فإنه إذا عاد إلى لندرا حاكمته فحكم عليه بالإعدام، وإني أشرب الآن نخب هذه الساعة.
ثم أخذ كأسه وشرب ما فيه جرعة واحدة، واقتدى به الإسباني فشرب كل كأسه جرعة واحدة، وعادا إلى اللعب.
وكان الإسباني ماهرًا في الشطرنج، فغلب المركيز وقام المركيز ففتح باب الغرفة وقال للذين راهنوا معه: يسوءني أن أخبركم بأنكم خسرتم معي.
فدفع الخاسرون وقبض الرابحون، وأعجب الحاضرون بمهارة الإسباني.
وعند ذلك دخل عضو جديد إلى النادي فقال واحد من الحضور: هو ذا الناباب عثمان عاد إلينا بعد الهجر الطويل. فحياهم عثمان وقال لهم: لقد علمت أنه جرت مراهنة عظيمة في الشطرنج.
فأشاروا إلى الإسباني وقالوا: نعم هذا هو الرابح.
فقال عثمان: أحق ما تقولون؟ أهو الدون بيدرو فقال له الإسباني: أتعرف اسمي؟
قال: لا يوجد في لندرا من لا يعرفك، فهل تريد أن تشرفني بملاعبتي بالشطرنج؟
وكان الإسباني يود الانصراف وهو ينظر من حين إلى حين نظرة الفاحص إلى المركيز؛ فأجاب عثمان قائلًا: لقد فات الأوان يا سييل فإننا في ساعة متأخرة من الليل.
فقال له عثمان: إن من كان من سلالة فرنند كورتس لا يخاف ملاعبة هندي مسكين مثلي.
فقال الجميع: نعم. هذا محال؛ فإن الدون بيدرو من أعظم اللاعبين.
وقد ألحُّوا عليه بالقبول فلم يجد بدًّا من الامتثال، وقال لعثمان: إني رهين أمرك يا سيدي.
فقال عثمان: إنك لاعبت خصمك منذ هنيهة دون شهود. قال: هو ذاك.
قال: أما أنا فأوثر أن يكون لكل منا شاهد فاختر شاهدك من بين الحضور.
فاختار الإسباني الصراف مكسويل، وهو الذي أدخله إلى النادي، واختار عثمان المركيز روجر، فتراهن الحاضرون، ودخل الأربعة إلى قاعة اللعب. فقال الإسباني في نفسه: يخال لي أن هذا النوري الذي خيب كل آمالي قد عرفني. وقد شعر بدوار خفيف حمله على محمل الاضطراب من مقابلة جان.
أما جان فإنه أقفل الباب بالمفتاح من الداخل، وجلس في المكان الذي كان المركيز جالسًا فيه وبدأ اللعب.
فقال جان مخاطبًا الصراف: إنه إذا رضي الدون بيدرو أن يلاعبني كل ليلة فلا يمضي زمن وجيز حتى ينفد ماله في مصرفكم من المال.
فابتسم الإسباني وقال: سوف نرى.
فقال جان: ولكن الوقت لا يتسع له لسوء الحظ.
فاضطرب الإسباني وقال: كيف ذلك؟
قال: ذلك أن المرء لا يعلم كم يفسح الله في أجله، وفوق ذلك فقد درست شيئًا من الطب.
فاشتد اضطرابه وقال: أتعني أني مريض؟
– بل أعني أنك في أشد حالات الخطر من مرضك.
– وأنا أرى أنك تلاعبني على الطريقة الهندية.
– كيف ذلك؟
– ذلك أنك تحاول إخافتي.
– كلا. فإني أراهن أنك تشعر الآن بحرارة شديدة في صدرك لا تعلم أسبابها.
– لنلعب يا سيدي.
– كما تريد. ولكني أخاف أن لا تستطيع إتمام اللعب؛ فقد بدأ وجهك يصفر، وهذا الاصفرار من تأثير الخمر التي شربتها، فهل هي جيدة؟
– إنها من أفضل الخمر.
– أتحسبها جيدة بالرغم عن تلك الحبة السوداء التي وضعتها في الكأس؟
– أرى أنك تشبه المجانين.
– ما أنا المجنون بل أنت، فإنك غلطت في الكأس أيها السيد العزيز.
ولم يكد جان يتم جملته حتى صاح الإسباني صيحة ألم فاصفرت شفتاه، وحاول أن ينهض فمنعه جان عن النهوض وقال: ابقَ في مكانك فإن الموت على هذا الكرسي خير لك من الموت في الطريق.
فصعق الإسباني، وجعل ينظر إلى جان نظرة المأخوذ، والصراف والمركيز ينظران إلى الاثنين منذهلين وهما لا يفهمان شيئًا من هذا الحديث.
وعند ذلك التفت جان إلى المركيز وقال له: اعلم يا سيدي أن هذا الرجل الذي تراه أراد تسميمك وهو يلاعبك، فوضع في كأسك سمًّا هنديًا يقتل شاربه بساعة.
قال: ماذا تقول؟
قال: أقول الحق، فانظر إلى هذا الإسباني الكاذب كيف أن أعضاءه تتشنَّج من الألم، ولكن اتفق لحسن الحظ أنه بينما كان ينير المصباح الذي أطفأه هواء النافذة مدت يد من وراء تلك النافذة فوضعت كأسك موضع كأسه بحيث شرب الدون بيدرو كأسك المسمومة.
فاصفر وجه روجر وقد رأى تأثير السم بدأ على وجه الإسباني، فقال: ولكن أية فائدة لهذا الرجل من قتلي وأنا لا أعرفه ولم أسئ إليه؟
فلم يجبه جان، بل التفت إلى الصراف وقال له: إن المال المودع في مصارفكم باسم الدون بيدرو قد دفعتموه لهذا الرجل. أليس كذلك؟
قال: نعم.
قال: إذن. فاعلم أن الدون بيدرو قتل منذ شهرين، وأن الذي قتله وانتحل اسمه إنما هو هذا الرجل.
فحاول الإسباني أن ينهض، ولكنه لم يستطع إذ كان قد دخل في دور النزع، فدنا جان منه فنزع الشعر المستعار عن رأسه ولحيته وقال للصراف: انظر.
فبهت الصراف وصاح المركيز قائلًا: السير جيمس؟
فقال له جان: إن الموت قد مر بك أيضًا أيها المركيز.
ثم فتح تلك النافذة التي مر منها الهواء فأطفأ المصباح ونادى قائلًا: تعال يا ويلس.
فدخل من النافذة ويلس خادم السير جيمس، ودنا من سيده وهو يحتضر فقال له بملء البساطة: يسوءني يا سيدي أن أراك تموت، ولكن الخمسمائة جنيه التي قبضتها من هذا الهندي الكريم أفضل منك؛ فإنها تضمن لي العيش بسلام، ولذلك بحت له بسرك.
غير أن السير جيمس لم يفقه كلمة من حديثه فقد كان يحتضر، وبعد هنيهة فاضت روحه وسقط إلى الأرض، فانحنى جان أمام الصراف والمركيز وحاول الانصراف، فقبض المركيز على ذراعه وقال له: أما هي يدك التي غيرت موضع الكأسين؟
قال: ربما.
– إذن لقد أنقذتني أيضًا من الموت.
فانحنى جان ولم يجب، فقال له المركيز: إنك ستجيبني إذن على أسئلتي.
قال: كلا.
– أريد أن أعلم على الأقل لمن أنا مدين بهذه الحماية السرية. إني أريد، أفهمت؟
– وإذا أبيت أن أقول؟
– إني أعرف عند ذلك كيف أكرهك على التصريح.
فابتسم جان ابتسام المطمئن وقال له: لقد كان ابن عمك السير جيمس يزاحمني في امرأة أهواها وقد اختطفها مني فانتقمت منه بإنقاذك.
ثم أفلت منه وخرج من النافذة مقتفيًا أثر الخادم فتوارى في الظلمات.
أما روجر فإنه وضع يده على جبينه وقال: إنه كذب. نعم إنه كاذب في ما قال.
•••
قبل ذلك بساعة كانت مس ألن قد استفاقت من إغمائها الكاذب، فجعلت تبتسم هازئة بمروءة المركيز الذي ضحى نفسه من أجل أخيه، وقد سمعت وقع خطوات كما تقدم ففتحت النافذة وأطلت منها، فلم تَرَ ما يحمل على الريبة، فعادت وهي تلوم نفسها وتقول: ترى ممن أخاف وقد مات جان دي فرانس؟
ولكنها لم تكد تتم جملتها حتى فتح الباب فذعرت ذعرًا عظيمًا؛ إذ رأت شمشون يصحبه نوري آخر وسينتيا أخت جان، وحاولت أن تأخذ غدارة معلقة بالجدار، ولكن شمشون كان أسرع إليها منها إلى الغدارة؛ فقبض عليها وكمم النوري الآخر فمها، وأوثقت سينتيا يديها، فحملها شمشون وخرج الجميع بها وهي شبه مغمى عليها لاضطرابها لا تدري إلى أين يذهبون بها.
وأما ليونيل فقد كان تأثره شديدًا من مروءة أخيه حين قال له: إنك تحب مس ألن وستتزوجها، وكان سروره عظيمًا حين عرف حقيقة نسبه، وأيقن أنه من عظماء الأشراف.
وفي اليوم التالي ذهب إلى أخيه فلم يجده، ولكنه كان قد ترك له رسالة يقول له فيها: إني مهتم بتحقيق سعادتك فلا تجزع وكن من الصابرين.
وقد عاد في الليل إلى أخيه فلم يجده، وفي صباح اليوم التالي ضاق صدره ولم يعد يطيق الصبر، فذهب إلى منزل السير روبرت فطرق الباب وجاءه خادم فقال له: سل مس ألن إذا كانت تريد أن تقابلني.
فقال له الخادم: إنها لو كانت هنا يا سيدي لما كانت استفاقت الآن.
– ماذا تقول؟ أما هي هنا؟
– كلا يا سيدي.
– إذن أين هي؟
– لقد وردت إليها رسالة مساء أمس فركبت مركبة وذهبت بها.
– من أين أتت هذه الرسالة؟
– لا أدري. ولكن الذي جاء بها كان أحد خدم المركيز دي إسبرتهون؛ فقطَّب ليونيل حاجبيه وقال: إلى أين ذهبت؟
– أظن أنها ذهبت إلى منزلها الصيفي.
فاضطرب ليونيل، حتى إنه لم يعد يدري ما يصنع، وقبض على ذراع الخادم فقال له: إنك ستذهب بي إلى هذا المنزل؛ فإني لا أعرف مكانه.
فلم يسع الخادم مخالفته؛ إذ كان يعلم أن له منزلة سامية عند السير روبرت، وذهب وإياه إلى ذلك المنزل، فأخبرته الخادمة أن رجلين وامرأة قد اختطفوها في الليل، فهاج ليونيل هياج المجانين؛ إذ أيقن أن أخاه قد اختطفها بدليل الرسالة التي أرسلها إليها، وعاد مسرعًا إلى أخيه، فقال له وهو يتوهج من الغضب: إنك خدعتني شر خداع.
فتراجع المركيز منذهلًا وقال له ليونيل: نعم إنك اختطفت مس ألن لتجعلها خليلتك.
فصاح المركيز وقد بلغ منه الانذهال أشده قائلًا: مس ألن … هل اختطفوا مس ألن؟
قال: إنك تعلم من ذلك فوق ما أعلم فأنت الذي …
فقبض المركيز على ذراعه وقال له: إنك تتكلم من غير عقل، وأنا أمنعك عن أن تتهمني هذه التهمات الشائنة.
وكانت لهجة المركيز تدل دلالة واضحة على صدقه، فقال له: ولكن من الذي اختطفها؟
قال: أوضح لي أيها المنكود ما جرى بدلًا من أن تتهمني.
قل … ماذا جرى؟
قال: جرى أنهم في الليلة الماضية اختطفوا مس ألن من منزلها الصيفي.
– من الذي اختطفها؟
– رجلان وامرأة، وسمعت الخادمة ذينك الرجلين يدعوان المرأة باسم سينتيا.
فارتعش المركيز حين سماعه هذا الاسم وقال لأخيه: اذهب فسأجدها.
وكان الخادم الذي دلَّ ليونيل على منزل ألن الصيفي قد دخل معه إلى غرفة المركيز، فارتعش أيضًا حين سمع اسم سينتيا وقال: إذا كانت هي تلك المرأة التي عرفتها؛ فإني أعرف أين توجد.
– أتعرف أين هي سينتيا؟
– نعم. بشرط أن تكون تلك النورية التي عرفتها.
فلبس المركيز قبعته وتقلد حسامه، وحاول ليونيل أن يتبعه فأوقفه وقال له: إني أقسم لك يا أخي بتذكار أبينا إني رجعت عن حب مس ألن، ولم أعد أحبها إلا كأخت، وسأفرغ كل مجهودي لتكون امرأتك.
قال: لقد وثقت بك، فدعني أذهب معك.
قال: إني لا أجدها إلا إذا كنت وحدي؛ فثق بي، وإني أتوسل إليك أن لا تتبعني.
فتردد ليونيل وقال له المركيز: أستحلفك بالله أن لا تتبعني. فأطرق برأسه وقال: ليكن ما تريد.
وسار المركيز يصحبه الخادم، وكان يسير مستعجلًا والخادم في أثره لا ينبس بحرف، حتى إذا وصلا إلى زقاق ضيق كثرت فيه الوحول قال الخادم: يخال لي أن الليلة التي اختطفنا فيها سينتيا.
فقاطعه المركيز قائلًا: أأنت اختطفتها؟
فاحمرَّ وجه الخادم ولم يجب فقال له المركيز بلهجة المتوعد: قل.
قال: إني أخاف يا مولاي أن تطردني مس ألن إذا تكلمت.
– لا خوف عليك فإني أستخدمك.
– إذا كان ذلك، فاعلم يا مولاي أني اختطفت سينتيا النورية بمشاركة زميلي نوح وامرأة هندية تبيع السموم.
– متى؟
– منذ ثلاثة عشر يومًا. قد اختطفناها بينما كانت تسير في هذا الزقاق.
– لماذا اختطفتموها؟
– لا أعلم، فقد كان ذلك بأمر السير روبرت ومس ألن.
– مس ألن … أهي التي أمرتكم باختطافها؟
– نعم يا مولاي.
– إلى أين ذهبتم بها؟
– إلى منزل السير روبرت الصيفي، وحين قبضنا عليها كانت خارجة من منزل الطبيب بولتون.
فقال المركيز في نفسه: بولتون … مس ألن. ما هذه الأسرار؟ ثم قال للخادم: امض في حديثك، وأخبرني بكل ما تعلم.
قال: إننا حبسنا سينتيا في منزل مس ألن مدة يومين، وفي المساء جاءت مس ألن وقالت لها: تعالي فإن حياة ابنك في خطر.
فجعل العرق يسيل من جبين المركيز وقال له: هل تبعتها؟ قال: نعم، فقد ركبت وإياها مركبة، ولم أدر إلى أين ذهبنا، فإن زميلي نوح كان يقود المركبة.
– والآن كيف ترجو أن تجد سينتيا؟
– لظني أنها عادت إلى منزلها.
– هذا المنزل؟
– يجب أن يكون هنا في زاوية هذا الزقاق، نعم لقد عرفته؛ فهذا فهو. وقد سار به حتى أوصله إلى المنزل، فقال له المركيز: اذهب الآن فلم يعد لي بك شأن.
ثم طرق الباب؛ ففتحت له فتاة حسناء تبلغ السادسة عشرة من العمر، فحياها المركيز وسألها قائلًا: هل سينتيا هنا؟
فنظرت الفتاة نظرة حذر إلى الشارع وأجابته قائلة: إنك واهم يا سيدي، فلست أعرف سينتيا.
وكان المركيز قد رأى ما كان من حذرها، فقال لها وهو يبتسم: لا تخافي يا ابنتي؛ فإني صديق، وإن عثمان أرسلني.
ففتحت الباب وقالت: ادخل يا سيدي؛ فإن سينتيا في الغرفة العليا مع أختي.
قال: يجب أن أقابلها وحدها.
قالت: إذن تفضل بالانتظار إلى أن أخبرها.
وبعد هنيهة جاءته سينتيا؛ فخفق قلبها حين رأت ولدها، وبادرها المركيز بقوله: هل أنت التي تدعين سينتيا؟
قالت: نعم.
قال: أأنت التي تقولين إنك أمي؟
فاصفر وجهها، ولكنها تمكنت من ضبط نفسها فقالت له: ألتمس من فخامتك معذرتي؛ إذ يظهر أني كنت مجنونة، فقد كنت في الطريق حين رأيتك عائدًا من أميركا، فذكرت حين رأيتك ولدًا فقدته كان يشبهك أتمَّ الشبه، فاشتد بي الحزن حتى أصبت بذلك الجنون.
وكانت تكلمه بلهجة المتوسل، ويرى المركيز من اضطرابها أن عوامل خفية تتنازع في قلبها، فقال لها: أقسمي لي بإلهك وبأرواح آبائك إنك تقولين الحق وإنك لست أمي.
فتراجعت منذعرة كأنها رأت هُوَّةً قد فتحت أمامها، فقال لها: أقسمي.
فرفعت يدها إلى السماء وفتحت فمها كي تقسم، ولكن يدها سقطت على ركبتها وأطبق فمها دون أن تستطيع الكلام.
فصاح روجر قائلًا: نعم إنك أمي. أتنكرينني وأنا ولدك؟
فنسيت المنكودة عند ذلك أيمانها، ونسيت عهودها لأخيها، ولم تعد تذكر غير أمر واحد، وهو أن هذا الفتى الجميل الذي يملأ العين قرة، وهذا القائد الباسل الذي لا يتحدثون إلا ببسالته إنما هو ثمرة أحشائها؛ فصاحت صيحة حب لا تدركها غير الأمهات، وألقت نفسها بين يديه وهي تقول: ولدي ولدي!
•••
ولنعد الآن إلى مس ألن فإنهم بعد أن قيدوها وكمموها خرجوا بها إلى قارب كان راسيًا عند الشاطئ، فمخر في المياه إلى سفينة كبيرة، وهناك أصعدوا الأسيرة إليها، ونزعوا الكمامة عن فمها، فقالت لها سينتيا: لقد دنت ساعة عتابك يا مس ألن، وأنت التي ستتولين الحكم على نفسك.
قالت: إن هذا الكلام مبهم لا أفهمه.
قالت: سوف تفهمينه؛ فإنك أنت هنا الآن في سفينة ستسافر بعد غد صباحًا، فاختاري بين أن تسافري فيها وبين أن تعودي إلى لندرا.
قالت: إني لا أجد الاختيار صعبًا.
– أتحسبين؟
– دون شك، فإني لا أريد السفر الآن.
– إنك إذا بقيت في هذه السفينة تسافر بك إلى أميركا، وهناك يضمنون لك عيشًا رخيًّا شريفًا.
فأجابتها بلهجة الساخر قائلة: هذا هو اقتراحك الأول قد عرفناه، فلننظر في اقتراحك الثاني.
قالت: وإذا أبيت أن تسافري نعود بك إلى لندرا.
– وبعد ذلك؟
– يحاكمونك أمام محكمتنا الخاصة، وينفَّذ فيك العقاب الذي يحكمون به، فتمعَّني.
– لا حاجة إلى التمعن.
– إذن تسافرين؟
– كلا.
– أتؤثرين المحاكمة؟
– والعقاب.
فتنهدت سينتيا، وأشارت إلى ربان السفينة فدنا من ألن وقال لها: إنك أسيرتي أيتها السيدة إلى مساء غد فتفضَّلي واتبعيني.
قالت: سر أتبعك. ثم قالت في نفسها: إني لا أعدم وسيلة لإلقاء نفسي في النهر؛ فإني أجيد السباحة.
وقد سجنوها في غرفة لا نافذة فيها إلى البحر، فلم تيأس وقالت: سنرى في الغد ما يكون.
ونامت ليلتها، وعند الصباح دخل إليها غلام بحري بالطعام فطمعت بإغوائه لما رأته من ظواهر بساطته، وقالت له: هل تريد أن تكون من الأغنياء؟
فابتسم وقال: دون شك، فماذا يجب أن أصنع؟
قالت: لا شيء سوى أن تساعدني على الخروج من هذه السفينة.
فضحك الغلام وقال: إن الربان يشنقني في صاري السفينة. بالسلام عليك أيتها اللادي.
ثم وضع صينية الطعام أمامها وخرج فأقفل الباب، فلم تجزع ولم تقنط، وكان مثلها مثل المريض لا يزال يرجو الشفاء ويعد معدات المستقبل ولو رأى الموت ماثلًا لدى عينيه، ولذلك فإنها أكلت بملء الشهية، ثم وجدت كتابًا في تلك الغرفة، فجعلت تتلهى بالقراءة فيه كأنها آمنة مطمئنة في منزلها.
ولبثت على ذلك إلى أن حان وقت العَشاء، فجاءها البحار بالطعام ولكنه لم يكن وحده هذه المرة، فارتعشت ألن حين رأته وقالت له: لا شك أنك قادم إليَّ بنبأ جديد، فأجابها بلهجة الحزين قائلًا: إني قادم لأرى رأيك الأخير، فقد كنت عازمًا على الرحيل صباح غد، ولكني وجدت الرياح موافقة للسفر، وستقلع السفينة بعد نصف ساعة.
فاصفرَّ وجهها وقالت: إنك ستنزلني إلى البر فيما أظن؟
قال: ذلك منوط بك؛ فقد تركوا لك الخيار.
قالت: وأنا اخترت البقاء في لندرا.
– إنك مخطئة؛ فإني نَوَري مثل شمشون وجان دي فرانس الذي قتلته ومثلك. أريد أني عارف بتاريخك؛ فإنك عدوتنا اللدودة، ولكن مجلس طائفتنا أشفق على شبابك، فإذا شئت ذهبت بك إلى الأنتيل أو إلى لويزيانا.
– كلا كلا. لا أريد الذهاب.
– يظهر أنك لا تعلمين ما ستلاقينه من العقاب إذا بقيتِ.
– بل إني عالمة؛ فإن النور يريدون حبسي في أحد السجون المظلمة.
– ربما.
– ولكن يوجد رجلان يحبانني، وكلاهما غني باسل، وسيعرفان كيف يخرجانني من سجني.
فهز الربان رأسه وقال: إذن لا تريدين السفر؟
– كلا.
– لم يبقَ لك غير ربع ساعة للتمعن؛ فإن رجالنا قادمون إلى السفينة.
– ليعودوا بي إلى لندرا. أليس كذلك؟
– أظن.
– إذن سأستفيد من هذه المهلة لأتعشى.
فخرج الربان، وهو يقول في نفسه: إني لم أجد أجرأ من هذه الفتاة. وجلست وهي تأكل وتقول: إن روجر وليونيل يبحثان عني، وجان دي فرانس قد مات، فلا أقنط ولو أجلسوني على النطع.
وبعد أن فرغت من طعامها عاد إليها الربان فقال لها: ماذا ارتأيت، فقد دنا وقت السفر؟
قالت: لم أرجع عن عزمي، وإني أدعو لكَ بالسفر السعيد.
قال: إنك مخطئة يا توبسي، فاعلمي أني لك من الناصحين.
فألقت وشاحها على كتفيها وقالت: لقد حضر الجلادون دون شك فسر بي إليهم.
فأصعدها الربان من جوف العنبر إلى سطح السفينة.
فرأت رجلين بملابس السواد وهما مقنعان، فضحكت ضحك الساخر وقالت: أية فائدة من التقنع؟ ألعلي لا أعرفكم فأين القارب؟ هلموا بنا إليه.
فدنا منها الربان وقال لها: إني أتوسل إليك يا توبسي أن تسافري، فذلك خير لك.
قالت: كلا. فإني أريد العودة إلى لندرا.
فتنهد وقال: لقد فعلت ما عليَّ، فليفعل الله ما يشاء.
وعند ذلك عصبوا عينيها وأنزلوها إلى القارب، فساروا بها نحو نصف ساعة، ثم نزعوا العصابة عن عينيها ونظرت إلى البر فلم تجد أثر المنازل، ولكنها رأت على الشاطئ رجلًا يمسك أعنَّة أربعة جياد، فقالت في نفسها: يظهر أننا سنركب الجياد، فإلى أين يريدون أن يذهبوا بي؟
وقد أخرجوها من القارب إلى الشاطئ حيث كانت الجياد، فناداه أحد الرجال المقنعين وقال له: هل لك ما تقوله لي؟
قال: نعم. فستجد إخوانًا لنا في الطريق.
فاضطربت ألن وقالت: ألا نعود إلى لندرا؟
قال: إننا ثلاثة رجال سنصحبك، وقد تلقينا الأمر بقتلك إذا حاولت الفرار، وقد كان بوسعنا أن نقيدك فوق ظهر الجواد ونربطك إلى السرج كالأكياس، ولكننا نؤثر أن تركبي مثلنا فاركبي.
فلم تجد بدًّا من الامتثال، فركبت الجواد، وركب الثلاثة يخفرونها، فلم يسيروا بضع خطوات حتى يئست ألن من الفرار؛ إذ وجدت جوادها يشبه البغال.
وبعد ساعة من سيرهم وصلوا إلى غابة، وهناك صفر أحد الثلاثة، فأجيب بصفير مثله ثم أقبل ثلاثة فرسان من الغابة فانضمُّوا إليهم واستأنفوا السير، فساروا ساعة ثم التقوا بثلاثة فرسان آخرين فانضموا إليهم، وكانوا كلَّما التقوا بكوكبة من أولئك الفرسان يتبادلون أقوالًا مبهمة لم تكن ألن تفهم شيئًا من معانيها؛ فاشتد خوفها — على بسالتها — حتى إنها ندمت لمغادرتها السفينة.
وما زالوا يسيرون إلى أن صاح الذي كان يتقدمهم قائلًا: قفوا وترجلوا عن الجياد، ودنا اثنان من ألن، فأمسك كل منهما بإحدى يديها فسارا بها في زقاق ضيق والرفاق في أثرهم ربع ساعة، حتى انتهوا إلى مكان رأوا فيه نورًا يضيء، فقال زعيمهم: لقد دخلنا.
فوجف قلب ألن وقالت: هنا؟
قال: نعم. فإننا فقراء كما تعلمين، وليس لنا قصور نجعل فيها محاكمنا.
فاشتد رعبها وقالت: محكمة؟
قال: دون شك. أتحسبين أننا نعاقبك دون محاكمة؟! ثم جرَّها بعنف إلى مكان ذلك النور، فرأت نارًا مشبوبة عند باب مغارة، ودخلوا بها إلى هذه المغارة، فرأت كثيرًا من الرجال متربعين على الأرض وكلهم مقنَّعون، ثم رأت رجلًا وقف وقال: لقد تكامل عددنا الآن.
فارتعدت ألن حين سمعت هذا الصوت كأنها عرفته، واستأنف الرجل حديثه فقال مخاطبًا الفتاة: إن صبر الذين خنتِهم يا مس ألن قد نفد، وانتزعت الرحمة من قلوبهم. ومع ذلك فقد عرضنا عليك الحرية، ولو رضيتِ أن تسافري إلى أميركا لأعطيناك ثروة، ولكنك لم تقبلي.
فصاحت بصوت ملؤه اليأس قائلة: رباه! أنشر مَنْ في القبور؟
وعند ذلك كشف الرجل قناعه، وسقطت ألن على ركبتيها؛ إذ رأت جان دي فرانس، فقال لها: لا حاجة إلى تعداد جرائمك يا توبسي فإنك تعرفينها، وقد أتت ساعة عقابك؛ فإننا اخترنا أربعة وعشرين رجلًا منا لمحاكمتك، وسينفذ حكمهم لا محالة؛ فلا تطمعي بالعفو.
ثم نظر إلى أعضاء المحكمة، وسأل رجلًا كان واقفًا على يمينه فقال: أي عقاب تستحقه هذه المرأة؟
فأجابه الرجل دون تردد قائلًا: إنها تستحق الموت.
فصاحت ألن قائلة: أأموت وأنا في العشرين من عمري؟
فقال لها جان: أترضين أن نشوه وجهك وتعيشين؟
قالت: كلا فاقتلوني … اقتلوني.
وعند ذلك سمع صوت عند باب المغارة يقول بلهجة ملؤها السيادة: بل إنك تعيشين ويبقى جمالك عقابًا لك.
فالتفت الجميع إلى هذا الرجل فلم يعرفوه إذ كان مقنعًا، وصاح جان قائلًا: ألعلهم خانونا، فمن هذا الرجل؟
فمشى الرجل إليه فوضع يده على كتفه وقال له بصوت منخفض: إني أدعى أميري، ويحق لي أن أحكم عليكم؛ فإني ملككم.
ثم كشف قناعه ورده إلى وجهه مسرعًا بحيث لم يره غير جان فانحنى أمامه بملء الاحترام وقال: مر أطع فقال له: مر رجالك أن يبتعدوا.
قال: كلهم؟
قال: ما خلاك وهذا الرجل الضخم مشيرًا إلى شمشون.
فنظر جان إليهم وقال لهم: أيها الإخوان إن أميرنا الأكبر يأمركم أن تخرجوا.
فخرج الجميع ممتثلين، ولم يبق في المغارة غير جان وشمشون وألن وهذا الرجل.
وعند ذلك كشف الرجل قناعه، فصاحت ألن قائلة: روجر؟
وقال شمشون: المركيز دي إسبرتهون.
فقال المركيز: كلا. بل أميري النوري ابن سينتيا وزعيم الطائفة الأكبر.
ثم التفت إلى ألن وقال لها: إن هؤلاء الرجال أرادوا قتلك، وأنا عفوت عنك، ولكني ما عفوت إلا بشرط أن تبرحي لندرا في هذه الليلة، وأن تذهبي إلى السير روبرت في إيكوسيا، وأن ترجعي عن فكرة الزواج بليونيل.
فأطرقت رأسها دون أن تجيب، والتفت روجر إلى شمشون فقال له: وأنت فاذهب بهذه الفتاة ولا تفارقها إلا عند باب منزل السير روبرت، والويل لك إذا أصيبت بسوء.
فأخذ شمشون بيد ألن وخرج بها من المغارة، ونظر روجر إلى جان بفتور وقال له: لنتحدث الآن.