مقدمة الطبعة الثالثة

الطبعةُ الأولى لكتاب «مقدمة في علم الكلام الجديد» صدرت بداية سنة ٢٠٢١م عن دار التنوير ببيروت ومركز دراسات فلسفة الدِّين ببغداد، وفي منتصف ذلك العام صدرت طبعتُه الثانية عن دار الشئون الثقافية في وزارة الثقافة ببغداد. تميَّزت الطبعةُ الثانية بإضافاتٍ لا تقلُّ عن خمسين صفحة، وفي هذه الطبعة أضفتُ الفصلَ الثاني بعنوان: «تجديد علم الكلام»، فأصبح الكتابُ خمسةَ فصول. اعتمدَ الفصلُ الثاني في مادته على شيءٍ مما ورد في الفصل الأول، مع شروحٍ وتوضيحات إضافية رأيتُها ضروريةً للكشف عن التباس مفهوم التجديد وتداخُله بمفهومَي الإحياء والإصلاح في اللغة العربية، والخلطِ بين هذه المصطلحات الثلاثة، وكيف تتعدَّد معانيها بتعدُّد أساليبِ توظيفِها وسياقاتِها في الاستعمال.

عدمُ التحديد الدقيق للمعنى، والفوضى في استعمال الكلمات والمصطلحات، يتسبَّبان في جدلٍ مضجِر ونزاعاتٍ قد تنتهي بمعارك. التعريفُ الواضح يكشفُ عن المضمون بدقةٍ ويرسمُ خارطةً لحدود المعنى المقصود، ويخلِّص الكلماتِ والمصطلحات من الاضطراب والتشويش والغموض والإبهام. لغةُ علم الكلام القديم ليست محايدة، هذه اللغةُ تعكس الأفقَ التاريخي للعصر الذي توالدت فيه مقولاتُ مؤسِّسي ومجتهدي الفِرق، ومختلف الأحوال والظروف والوقائع السائدة في عصرهم. اللغةُ مرآةُ الواقع مثلما أن الواقعَ مرآةُ اللغة، تصوِّرُ اللغةُ ما يسودُ حياةَ المجتمع من عقيدة ورؤية للعالَم واقتصاد وسياسية وثقافة، كما ينعكسُ أثرُ اللغة على الواقع المجتمعي فيعيدُ تكوينَه. «إنَّ حدودَ لغتي حدودُ عالمي» يقول لودفيغ فيتغنشتاين.

يبتني هذا الكتابُ وغيرُه من مؤلَّفاتي على محاولةِ فهم الإنسان في ضوء مكاسب الفلسفة والعلوم والمعارف الحديثة. أحاول في ضوءِ هذا الفهمِ التعرُّفَ على احتياجات الإنسان غير المادية، ومنها حاجتُه الأساسية للدينِ، وفهمَ نوعِ الدين ونمطِ التديُّن الذي يؤمِّن له هذه الحاجة. ما يؤمِّن هذه الحاجةَ هو الدينُ بوصفه حياةً في أفق المعنى، تفرضه حاجةُ الإنسان الأبديةُ لمعنًى روحي وأخلاقي في حياته الفردية والمجتمعية. إعادةُ تعريف الدِّين هو ما يفرضُ بناءَ علمِ كلامٍ جديد يرفدُ المسلمَ بالمعنى المطلوب لحياته اليوم.

علمُ الكلام الجديد معناه تجديدُ علم الكلام في ضوء إعادة تعريف الدِّين. وجهةُ التجديد ومنطلقاتُه وأسسُه وأركانُه تختلِف عن الإحياء والإصلاح اللذين يلتبسان بمفهومه. التجديدُ يعني إعادةَ فهمِ الدِّين وتحديدِ وظيفته المحورية في الحياة، وبناءَ مناهج تفسير القرآن الكريم والنصوص الدينية، وبناءَ علومِ الدين ومعارفِه، في ضوء الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع ومختلِف المعارف الحديثة.

مؤلَّفاتُ الفِرق الكلامية ومقولاتُها تفتقرُ لتلبية أكثرِ ما يبحثُ عنه الإنسانُ من معنًى في الدين. مقولاتُ الكلام القديم الاعتقادية لا تورثُ الروحَ سكينتَها، ولا القلبَ طمأنينَته، ولا تكرِّسُ التراحمَ والمحبَّة، ولا ترى الإنسانَ المختلِف في معتقده مساويًا لغيره. لا ينظرُ الكلامُ القديم إلى الإنسانِ بما هو إنسان، بل ينظرُ إليه بما هو معتنقٌ لمقولات الفرقة الكلامية، ومَن لا يعتنقُها لا تصحُّ محبتُه، ولا يجوز الولاءُ له، بل تجبُ البراءةُ منه.

علمُ الكلام الجديد يدرك أن الحقيقةَ واحدةٌ في ذاتها، إلا أنَّها نسبيَّةٌ في معرفتها. نسبيةٌ بمعنى تنوُّعِ وجوهها، وتعدُّدِ الطُّرق إليها، واختلافِ تصوُّرِها باختلاف الطُّرق الموصِلة إليها، وكثرةِ وجوهها بتنوُّعِ زوايا النظر إليها. المقولاتُ الاعتقادية في علم الكلام القديم لا ترى للحقيقة الدينية إلا وجهًا واحدًا، وتختزل كلَّ الطرق إلى معرفة الله بطريقٍ واحد، ولا تقبل إلا زاويةَ نظرِ الفرقة الكلامية القائلةِ بها، وترى لغةَ تعبيرها عن مقولاتها هي اللغة المشروعة، ولا تتقبل بالضرورة أسلوبَ تعبير وكلمات فرقةٍ غيرها. هذا النوعُ من احتكارِ الحقيقة الدينية واحتكارِ معنى الخلاص كان وما زال حاكمًا على الضمير الديني، وهو الذي تسببَ في خصوماتٍ وصداماتٍ عنيفة للفِرق والمذاهب في التاريخ. عبَّرت هذه المقولاتُ عن الواقع المرير الذي عاشه المسلمون في ماضيهم، وذلك يؤكد على أنها ليست صالحةً للواقعِ الذي يعيشه المسلمُ اليوم.

يحتاجُ المسلمُ اليومَ لعلم الكلام الجديد كي يُشبعَ حاجته للمعنى الروحي والأخلاقي والجمالي الذي يمنحه الدينُ للحياة، ويتحرَّرَ من الشعور بالتفوق على المختلِف، ويقبلَ المساواةَ في المجتمع الواحد على أساسِ إنسانية الإنسان، ويحترمَ التكافؤَ في الحقوق والحريات في وطنٍ واحد على أساس المواطنة.

عبد الجبار الرفاعي
بغداد ٦ / ٦ / ٢٠٢٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤