مقدمة الطبعة الثانية

الكاتِبُ الجادُّ هو الكاتبُ الذي يعيشُ الكتابةَ بوصفها تجربةَ وجودٍ. كلُّ تجربةِ وجود شديدةٌ. كلُّ تجربة وجود يعيشها الإنسانُ تعطِّل كلَّ شيء سواها لحظةَ تتحقَّق. تجربةُ الوجودِ صيرورةٌ، تجربةُ الوجودِ ليست ميكانيكية، تجربةُ الوجودِ ليست تبشيرية. تفرض تجربةُ الكتابةِ على الكاتب الذي يعيشها ألَّا يصغي إلَّا إلى ندائها، ما خلا حضورها يغيبُ الكاتبُ عن كلِّ شيء ويغيبُ عنه كلُّ شيء. لحظةَ يبدأ الكاتبُ الكتابةَ تأخذه إليها، لا تدعه يفكِّر إلَّا في مداراتها، كلَّما حاول الهربَ قبضت عليه من جديد أنَّى كان، لا تتركه ما لم يمنحها كلَّ ما يمكنه. الكاتبُ الذي يعيشُ الكتابةَ بوصفها تجربةَ وجودٍ تمكث حياتُه الخاصة مؤجلةً على الدوام.

أعيشُ الكتابةَ بوصفها أُفقًا أتحقَّقُ فيه بطورٍ وجودي جديد. فشلتُ في أن أكونَ شخصيةً نمطية، أعرفُ أنِّي لا أنفردُ بذلك، كلُّ مَن تكونُ الكتابةُ تجربةَ وجودٍ في حياته لا يمكن أن يكونَ نمطيًّا.

تتكرَّرُ لديَّ تجاربُ الكتابةِ والتَّحرير، وعلى الدوام لا أصل للشعورِ باكتمال النص، ونقائه من الوهن والثغرات، وصفاء صوته، ونضج طاقة المعنى الذي يريد إبلاغَه للقارئ؛ لذلك كثيرًا ما أعود إليه لتقويمه وترميمه وإثرائه. أتردَّد في نشره، وأقلق لحظةَ أنشره، مثلما يقلقني إهمالُه ونسيانُه، ينتابي شعورٌ أحيانًا كأنِّي خنتُ ذلك النصَّ المؤجل، أو خنتُ القرَّاءَ الأصدقاءَ ممن يتطلعون أن يجدوا في كتابتي ما يبحثون عنه.

لا تكون الكتابةُ جادَّةً ما لم تتكشف فيها شجاعتُنا في البوح والاعتراف للقرَّاء بعجزنا البشري. لم أكن قادرًا على الاعتراف بالعجز قبل أربعين عامًا، لكني روَّضت نفسي بمشقة حتى صار البوحُ يشعرني بالشفاء من الخوف بالاعتراف بضعفي. أبادر لمراجعة كتاباتي وأعمل على تمحيصها، وأستبعد ما أكتشفه من هفواتٍ وأخطاء، بحدود إدراكي لها. يرشدني أيضًا التقويمُ والنقدُ الذي يصلني مشافهةً أو عبر الكتابة، من قرَّاء نابهين أذكياء، غير مأزومين نفسيًّا وأخلاقيًّا ولا شتَّامين. أضيف ما أراه ضروريًّا لترسيخ قناعة القرَّاء بصوابِ ما اهتديتُ إليه، وأحاول تعزيزَ الأدلة، وتوضيحَ ما هو ملتبسٌ أو غامضٌ أو مبهمٌ من المفاهيم.

أكتبُ لنفسي قبلَ الكتابة للقراء، أخاطب نفسي قبلَ مخاطبة القراء، وأُعلِّم نفسي قبل أن أكون معلِّمًا للقراء. أحاول البحثَ عن إجابات لأسئلتي الوجودية، وأسعى لاكتشاف حلول لمشكلاتي، عسى أن ينكشفَ النورُ الذي يُضيء خارطةَ النجاة. يهمُّني أن أكتشف نفسي قبل أن أكتشف العالَم، وأغيِّر نفسي قبل أن أغيِّر العالَم.

غرضُ كتاباتي سكينةُ الروح، وطمأنينةُ القلب، وإيقاظُ العقل. البُعد البياني والجمالي لم يكن غرضَ كتاباتي المباشر، هذه لغتي التي لا أعرفُ أن أكتبَ بغيرها ‏اليوم، وهي لغةٌ بذلت جهودًا مضنية حتى امتلكتها. ‏سعيدٌ بامتلاكي هذه اللغة بعد مطالعات متواصلة، كانت وما زالت تأكلُ كلَّ وقت فراغي خارج العمل، شرعتُ فيها منذ الصف الخامس الابتدائي، وسجنت نفسي فيها طوعيًّا حتى اليوم، مضافًا إلى تمارين كتابة متواصلة بدأتُ بها قبل نحو نصف قرن، ولم تكتمل لغتي ولم أصل إلى ما أنشده إلَّا قبل ثلاثين عامًا.

لم يكن كتاب: «مقدمة في علم الكلام الجديد» يحظى بهذه العناية لولا الإدمان على القراءة والكتابة، ولم يكن مؤلِّفُه يتوقَّع مثلَ هذه الثقة بكتابه بعد نشره مباشرة، حين بادر قرَّاء متخصِّصون ومهتمون بعلم الكلام للاحتفاء بالكتاب مشكورين. أستاذٌ في جامعة جزائرية لحظةَ قراءته الكتابَ قرَّر تبنِّيه لتلامذته في الدكتوراه، ورئيسُ لجنةٍ علمية في جامعةٍ عراقية أصدر قرارًا بتبنِّيه لتلامذة جامعته في الدراسات العليا، وهكذا بادرت أستاذاتٌ وأساتذةٌ كرام، في أكثر من جامعة في البلاد العربية لتبنِّي الكتاب. وقرَّرتْ بعضُ أقسام الدراسات الإسلامية والفلسفيَّة اعتمادَ الكتابَ في مقرَّر «علم الكلام الجديد» ابتداءً من العام الدراسي الجديد.

كلُّ ذلك دعا المؤلفَ لإعادة النظر في الكتاب، وكعادته بنقدِ كتاباته قبل أن ينقدها غيرُه، وعملِه الدءوب على اكتشافِ ما فيها من وهنٍ وأخطاء وقصور في التعبير أو التفكير، أعاد العملَ على هذا الكتاب مجدَّدًا، وأمضى مدةَ شهر تقريبًا يعيد تحريرَه وتدقيقَه وتهذيبَه، محاولًا أن يشرح مفاهيمَ محورية اختزل الكلامَ فيها في الطبعة الأولى مثل مفهوم الوحي، وعزَّز أسسَ أركان علم الكلام الجديد، إذ اكتملت هذه الأركانُ في سبعة بعد أن كانت ناقصة، وشرحَ مواردَ أخرى كان مقتصِدًا في التعبير عنها، أعاد صياغتَها بوضوحٍ بكلماتٍ أصرحَ وأوضح، وعالج الوهنَ والخللَ في بعض الجمل والفقرات، وأصلح أخطاءً إملائيَّة ونحوية ومطبعيَّة غفل عنها فيما مضى.

ازداد حجمُ الكتاب في هذه الطبعة أكثرَ من خمسين صفحة. لا شكَّ في أن هذه النسخةَ أجودُ وأغنى وأدق وأوسع وأوضح، إلا أنَّ المؤلِّفَ لا يَعِدُ القرَّاءَ بأنَّ هذه الطبعةَ نهائية، فلو راجع الكتابَ بعد سنة أو أكثر من صدوره لكرَّر ما فعله في الطبعة الأولى. وهذه عادةٌ منهِكةٌ يعترف أنه لا يستطيعُ الخلاصَ منها. طالما أزعج المؤلفُ أصدقاءَ ناشرين، فبعد أن يُرسل لهم كتابًا جاهزًا للإخراج والطباعة، يعودُ بعد أيامٍ لإرسالٍ إضافات أو استبعاد كلمات أو جمل أو فقرات، ويواصل هذه العمليةَ إلى أن يصدرَ الكتاب، وأحيانًا يضطرُّ الناشرُ لتأخير الكتاب في المطبعة وقتًا إضافيًّا.

يعترف المؤلفُ بأنَّ كلَّ نصٍّ يكتبُه لا يراه نهائيًّا، يكتبُه كمسوَّدة، وبعد تحريرٍ وتنقيحٍ ومراجعاتٍ متعدِّدة يبعثه لدار النشر، وعند نشره تتحوَّل هذه الطبعةُ إلى مسوَّدة لطبعةٍ لاحقة، وهكذا تلبث كتاباتُه مسوَّداتٍ غير مكتملة، كلُّ طبعة جديدة مسوَّدةٌ لطبعة لاحقة، وكأنه يحلُم بالكمال الذي يعرفُ أنه لن يدركَه في كلِّ ما يكتبُه.

كلُّ كتابٍ نكتبُه يكتبُ تاريخَه الخاصَّ بعد نشره، يبدأ تاريخُه منذ قراءة القارئ الأول له، يمتلك القُرَّاءُ مصائرَ الكتب بعد قراءتها. للكتب الجادَّة حياةٌ يتحكمُ في مآلاتها القرَّاءُ والنقَّادُ، وتحدِّد أعمارَها ومصائرَها مواقفُهم وانطباعاتُهم، ونوعُ تلقيهم لمضمونها، وكيفيةُ قراءتهم لنصوصِها. ربما تدخلُ بعضُ الكتب كهوفَ النسيان بعد صدورها مباشرةً على الرغم من أهميتها، ثم يأتي مَن يُخرِجها من الظلام ويسلِّط الضوءَ عليها بعدَ مدة، وربما يتلقى القراءُ كتبًا أخرى لحظةَ صدورها بثقةٍ واهتمام.

عبد الجبار الرفاعي
بغداد ٢٢ / ٩ / ٢٠٢١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤