مقدمة الطبعة الأولى

كلُّ بداية للتجديد في عالَم الإسلام تتجاهلُ الدينَ تخطئ الطريق. الدينُ مكونٌ أنطولوجي للكينونة الوجودية للكائن البشري، وبنيةٌ لا شعوريةٌ عميقة غاطسة في شخصية الفرد والمجتمع. الدينُ حياةٌ في أُفُق المعنى، الدينُ نظامٌ لإنتاج معنًى روحي وأخلاقي وجمالي لوجود الإنسان في العالَم، تفرضه حاجةُ الكائن البشري الأبديةُ للمعنى في حياته الفردية والمجتمعية.

فهمُ الدِّين وكيفيةُ قراءة نصوصه يرسم الرؤيةَ للعالَم، وفي ضوء ذلك يتحقَّق نمطُ وجود الإنسان، ويتشكَّل نظامُ إنتاجه المعنى لحياته، ويتكوَّن فهمُه لذاته وتقديرُه لها، وتتحدَّد مكانتُه في الواقع الذي يعيش فيه، وتبتني صلاتُه بما حوله، وطريقةُ إدارة شئون حياته في المجتمع الذي يعيش فيه، وموقفُه من الآخر، وأسلوبُ تعاطيه مع المختلِف في المعتقَد والرأي والموقف، وقدرتُه على إدارة اختلافاته وتسوية مشكلاته بوسائلَ سلمية، خارج أدوات العنف الرمزي واللغوي والجسدي.

فهمُ الدِّين وكيفيةُ قراءة نصوصه من أهمِّ العوامل الفاعلة في تحولات السياسة والاقتصاد والثقافة والعلاقات في حياة المجتمعات. الدينُ هو الحبل السُّري الذي يتغذى منه تكوينُ الفرد، وتقاليدُ المجتمع وأعرافُه وقيمُه وهويتُه، لكن لم يهتمَّ أكثرُ مَن يكتبون عن الدين في بلادنا بالأثرِ المهم لاختلافِ طُرق فهم الدين وكيفيةِ قراءة نصوصه في تكوين الفرد والمجتمع، ولم يُسلَّط الضوءُ على دورِه في رفد اللاشعور الجمعي وترسيخه، وأثرِه في تشكيل شخصية الفرد في طفولته، وتوجيهِ سلوكه وبناء مواقفه في مختلف مراحل حياته.

سِحرُ الدِّين وتغلغلُه في أعماق النفس البشرية مدهش، لم أجد عاملًا شديدَ الفاعلية والحضور وذا سطوةٍ وتأثيرٍ لافت في حياة الناس أكثرَ من الدين في مجتمعنا، كان الدينُ وما زال أحدَ أعمق منابع ترسيخ البنى اللاشعوريَّة المكوِّنة لرؤية الفرد والمجتمع للعالَم.

الدِّينُ يمكن أن يكون عاملًا أساسيًّا في البناء، كما يمكن أن يكون عاملًا أساسيًّا في الهدم، ويعود الاختلافُ في ذلك إلى الاختلاف في طريقةِ فهم الناس للدين، ونمطِ قراءتهم لنصوصه، وكيفيةِ تمثلهم له في حياتهم. مَن يريد أن يُعلِّم الناسَ الحياةَ يمكنه استثمارُ الدِّين، كما يمكن استغلالُ الدِّين ممن يريد أن يُعلِّم الناسَ الموت، وهو ما تفعله الجماعاتُ المتشدِّدة العنيفة في كلِّ الأديان. مَن يريد أن يُعلِّم الناسَ السلامَ يجد الدينَ منجمًا يمكنه استثمارُه فيه، كذلك يمكن استغلالُ الدِّين في الحروب، مثلما حدث في الماضي ويحدث في الحاضر. مَن يريد أن يُعلِّم الناسَ التراحمَ يجد الدينَ منهلًا غزيرًا يمكن استثمارُه في التراحم، كذلك يمكن استغلالُ الدين في التخاصم مثلما نراه ماثلًا في علاقات بعض المختلفين في المعتقَد في مجتمع واحد. مَن يريد أن يُعلِّم الناسَ المحبةَ يجد الدينَ منبعًا لا ينضب يمكن استثمارُه في تكريسها، كذلك يمكن استغلالُ الدين في إشاعة الكراهية، وهي من أسوأ أشكال توظيفه في الحياة. مَن يريد أن يدلَّ الناسَ على الطريق إلى الجنة لا يجده إلا في الدين، ومَن يريد أن يسوق الناسَ إلى النار يمكنه أن يزجَّهم في جحيمها عبر الدين. مَن يريد أن يهدي للناس طمأنينةَ القلب وسكينةَ الروح لا يجد رافدًا يلهمهما أغزر من الدين، وذلك ما نراه ماثلًا في حياة أصحاب التجارب الروحية، الذين ينظرون للدين بوصفه مُلهمًا للحقِّ والعدل والخير والمحبة والتراحم والأمل والسلام، يقرءون نصوصَه ببصيرة مضيئة، فيكتشفون ما يرمي إليه الدين من بناء مجتمعٍ يمكن أن تسوده الأُلفة والأمن الروحي والنفسي والأخلاقي، الذي يتحقَّق به الأمنُ الفرديُّ والعائليُّ والمجتمعيُّ، وتترسَّخ فيه قيمُ العيش المشترك. أصحابُ التجارب الروحية يتذوَّقون نكهةَ الدين وأخلاقياتِه السامية فتنعكس على مواقفهم وسلوكهم، يضيئون مصابيحَه ببصيرتهم، فينكشف لهم الدينُ كأنه مرآةٌ يرتسم فيها كلُّ ما هو رُؤيوي من تجليات الرحمة الإلهية وألوانها البهيجة. في نمط تَديُّنهم يتعلَّم الإنسانُ كيف يفرح بلقاء الله، وكيف تسقي قلبَه الطمأنينةُ، وروحَه السكينةُ، وينشرح داخلُه بسلام باطني.

في مقابل ذلك يمكن أن يكون التديُّن عنيفًا، حين لا يُفهم الدين إلا بوصفه رسالةً للموت، ولا تُقرأ نصوصُه إلا قراءةً مغلقة عنيفة، ويتمثَّله الأفرادُ والجماعاتُ على أنه إعلانٌ لحربٍ لا تنقضي على كلِّ مختلِف في المعتقد.

للدين في مجتمعنا سلطةٌ على الأرواح لا يضاهيها نفوذُ أيَّةِ سلطةٍ أخرى، لذلك يمكن أن تكون كيفيةُ فهم الدين وطريقةُ قراءة نصوصه فاعلةً في إحداثِ تحوُّل أساسي إيجابي أو سلبي في اقتصاد المجتمع وتنمية كافَّة مجالات حياته. الدينُ يمكن أن يكونَ حافزًا خلَّاقًا للعمل والإنتاج والتنمية الاقتصادية، وذلك ما كشف عنه ماكس فيبر، حين فسَّر كيفيةَ تأثير البروتستانتية والقراءة الكالفينية للكتاب المقدَّس١ في بناء فهمٍ يكتسي فيه العملُ والإنتاجُ معنًى دينيًّا، وكيف بعثت الكالفينية تَديُّنا ينشغل فيه المسيحيُّ بحياته الدنيا، لينال الخلاصَ ورضا الله في الآخرة. صنعت هذه القراءةُ الكالفينية نمطَ تَديُّن تبدأ النجاةُ فيه دنيويَّة، والمعنى الديني للخلاص ينتقل إلى العمل الذي يتركَّز على تسخيرِ الطبيعة، واستثمارِ مواردها لإنتاجِ ما يتطلبه معاشُ الناس. أعلى كالفن من قيمة العمل الروحية فجعله طقسًا دينيًّا؛ لذلك كانت الأخلاقُ البروتستانتية طاقةً ألهمت العمالَ الإخلاصَ والمثابرة. في ضوء هذه الرؤية أصبحت المصانعُ وورشُ العمل بمثابة كنيسة، وصار العملُ طقسًا يحقِّق الخلاصَ بمعناه الدينيِّ.

في سياق تفسير ماكس فيبر أضحتِ الرؤيةُ البروتستانتية الكالفينية للدين وإعادةُ قراءة الكتاب المقدَّس في ضوئها الدافعَ الأهمَّ لتكوين الرأسمالية. ففي كتابه: «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» يرى ماكس فيبر أن الرأسمالية، بوصفها نظامًا مجتمعيًّا، وُلدت في سياق الرؤية الدينية الكالفينية للبروتستانتية، وليس نتيجةَ تطور اقتصادي تاريخي.

أخلاقُ العمل الكالفينية التي تحثُّ على الانضباط والإخلاص والعمل الشاقِّ كانت سببًا أساسيًّا في ظهورِ العقليَّة الرأسماليَّة في أوروبا، وولادةِ الثورة الصناعية. تشدِّد الكالفينية على قيم: الثقة، والادِّخار، والتواضع، والصدق، والمثابرة، والتسامح، وترى النجاحَ على الصعيد المادي دلالةَ نعمةٍ إلهية واختيار سابق للخلاص.٢ على وفق القراءة الكالفينية للبروتستانتية، لا يتحقَّق خلاصُ الإنسان من خطيئته إلا بالتقوى، والتقوى ورضا الربِّ لا يتحقَّقان إلا بالعمل والإنتاج واستثمار الأرض، وليس بالقدَّاس في الكنيسة.٣

رؤيةُ الدين للعالَم وكيفيةُ قراءة نصوصه فرضَها في الإسلامِ علمُ الكلام التقليدي، وصنعتْها الأنساقُ الرَّاسخةُ لمقولات الأشعري الاعتقاديَّة، ومختلفُ معتقدات متكلِّمي الفِرق. كان لهذه الرؤية الكلامية تأثيرٌ بالغٌ في تعطيلِ الاجتهاد والتجديد في الدين، والانحطاطِ الذي حدث في مجتمعاتٍ إسلامية. جاءت الدعوةُ للانتقال من علم الكلام القديم إلى علم الكلام الجديد استجابةً لما فرضتْه الأسئلةُ الحائرة للإنسان، وقلقُه الوجودي، وشحةُ المعنى في حياته، وشعورُه بعدم الأمان، في عالَم يتسارع فيه ويشتدُّ إيقاعُ تراكم المعرفة واتساعُ آفاقها، ولا يتوقف العلمُ والتكنولوجيا عند نهاياتٍ مسدودة، فكما أنَّ الأسئلةَ لا تنتهي كذلك الأجوبةُ لا تنتهي، والمعرفةُ والعلوم والاكتشافات والاختراعات لا تنتهي؛ إذ تتوالد على الدوام في سياق الأجوبة أسئلةٌ جديدة، وفي سياق هذه الأسئلة تتوالد أجوبةٌ جديدة، وهكذا.

أولُ كتاب نُشِر يحمل عنوان: «علم الكلام الجديد» كان لشبلي النعماني، صدر في الهند سنة ١٩٠٣م. أوضحتُ، في سياق بيان مفهومي للكلام الجديد في الفصل الثاني من هذا الكتاب، أنَّ كتابَ شبلي النعماني لا يحملُ من الكلام الجديد إلا اسمَه.

لم يصل البحثُ حول مشروعية فتح باب الاجتهاد في علم الكلام إلى غايته، لرسوخِ التراث وتصلُّبِه وتجذُّرِه في البنى اللاشعوريَّة، وممانعتِه وإجهاضِه لأية محاولةٍ لعبوره، وانحيازِ أكثر الباحثين والدارسين لمقولات المتكلمين القدماء، وتلقِّيها كما هي بلا مراجعة وتدبُّر وفحص وغربلة وتمحيص. أكثرُهم يرتاب من الحديث عن الاجتهاد في علم الكلام، لظنِّه بأنه محاولةٌ للخروج من الدين، فيلتمس مختلِفَ الذرائع لرفضه، ويشدِّد على الانصياع للمسلَّمات والمقولات الكلامية الموروثة، ينظر إليها بوصفها مسلَّماتٍ لا تقبل النقاش، ولا يتعامل معها على أنَّها اجتهاداتٌ بشريَّة قالها أئمةُ الفِرق والمجتهدون الأوائل في علم الكلام، وكلُّ اجتهاد يفترض أنه قابلٌ للصواب والخطأ.

انشغلتُ سنواتٍ طويلة في علم الكلام الجديد، وقرأتُ وسمِعت البلبلةَ والغموضَ والتشويشَ والالتباسَ في تعريفه، وتحديد مفهومه وموضوعه وأركانه ومرتكزاته، فأدركتُ الحاجةَ الماسة لتأليف مقدِّمة تحدِّد الإطارَ العام لهذا العلم، وتضع المعيارَ الذي يمكن اعتمادُه في تصنيف هوية المتكلم والكلام الجديد، وتوفِّر للباحثين والدارسين في علم الكلام وفلسفة الدين خارطةَ طريقٍ ترسم المعالمَ الأساسية للكلام الجديد.

ينطلق هذا الكتابُ من رؤيةٍ تبتني على أنه ما دام هناك إنسانٌ فهناك أسئلةٌ ميتافيزيقية كبرى، وهذا النوعُ من الأسئلة لا جوابَ نهائيًّا له، وهو ما يقوله لنا تعدُّدُ وتنوُّعُ إجابات الفلاسفة واللاهوتيين والمتكلمين المتواصلة لهذه الأسئلة، وتجدُّدُها في مختلف مراحل تطوُّر الوعي البشري، وفي منعطفات الفكر الفلسفي واللاهوتي والكلامي.

تطمح الأسئلةُ والآراءُ الواردة في صفحات هذا الكتاب أن تثري النقاشَ في علم الكلام الجديد، عبر محاورةِ مقولات اعتقاد يعتقد مَن يعتنقها أنها نهائية، وزحزحةِ آراء جزميَّة، وإعادةِ النظر في قناعاتٍ جاهزة، ومساءلةِ مواقفَ متصلبة، ترتكز على التَّعاطي مع اجتهادات الأوائل في علم الكلام كمقولاتِ اعتقادٍ أبديَّة، تراها صالحةً في كلِّ زمان ومكان، وترفض إعادةَ النظر فيها مهما تغيَّر نمطُ عيش الإنسان، ومهما اتَّسعت آفاقُ معارفه، ومهما تطوَّرَت علومُه، ومهما تقدَّمت التقنياتُ المستخدَمة في حياته.

يبدأ علمُ الكلام الجديد بإعادة تعريف الوحي بنحوٍ لا يكرِّر تعريفَه في علم الكلام القديم كما هو. اقترحتُ في هذا الكتاب معيارًا يمكن على أساسه أن نصنِّف مفكرًا بأنه «متكلم جديد»، ويتمثَّل هذا المعيارُ في كيفية تعريف المتكلم للوحي، فإن كان التعريفُ خارجَ سياق مفهوم الوحي في علم الكلام القديم، يمكن تصنيفُ قوله كلامًا جديدًا؛ لأن طريقةَ فهم الوحي هي المفهوم المحوري الذي تتفرَّعُ عنه مختلفُ المسائلِ الكلامية، ومن أبرزها مسألةُ «الكلام الإلهي» وغيرُها من مقولاتٍ كانت موضوعًا أساسيًّا لعلم الكلام القديم. إن كيفيةَ تعريف الوحي والنبوة والقرآن يتفرع عنها ويعود إليها كلُّ شيء في الدين، لا يبدأ تجديدُ فهم الدين إلا بإعادة تعريف هذه المفاهيم المحورية الثلاثة، في سياق متطلبات الإنسان اليوم للمعنى الديني، واحتياجه لما يثري حياتَه الروحية والأخلاقية والجمالية. في حدود تعريف الوحي يتحدَّد مفهومُ النبوة، ويتحدَّد حضورُ الإلهي في القرآن في حدود فهم النبوة. «الوحي والقرآن والنُّبوة هي أصل كلِّ شيء، وبقيت العمودَ الفقريَّ للحضارة الإسلامية على طول الزمن التاريخي»،٤ كما يقول هشام جعيط.

إن كلَّ من يقدِّم تفسيرًا جديدًا للوحي، بشرط أن يكون مؤمنًا بمصدره الميتافيزيقي الغيبي، يمكن أن يُصنَّف تفسيرُه على أنه علم كلام جديد. أما مَن يقدِّم تفسيرًا جديدًا للوحي، لكنه لا يؤمن بالله، أو يؤمن بالله لكنه لا يؤمن بمصدرٍ إلهي للوحي والنبوة والقرآن، فهو ليس متكلمًا جديدًا، يمكن أن يكون فيلسوفَ دينٍ لأن المتكلمَ غيرُ فيلسوف الدين، فيلسوفُ الدين يُفكِّر خارجَ إطار الدين، أما المتكلمُ فيُفكِّر في إطار الإسلام، كاللاهوتي في كلِّ دين وحياني الذي يُفكِّر في إطار ذلك الدين، وإن كان يستعير مناهجَ بحثه ممَّا أنجزته العلومُ والمعارفُ البشرية.

المتكلمُ كاللاهوتي في كلِّ الأديان الوحيانية يؤمنُ بالمصدر الإلهي للوحي، مهما كان فهمُه للوحي، ومهما كان رأيُه في حقيقته، ومهما كان رسمُه لحدوده، ومهما كانت طريقةُ بيانه في التعبير عنه. كما يؤمن المتكلمُ بمصدرٍ إلهي للقرآن الكريم. وفي ضوء ذلك لا يصحُّ لمن يُنكِر الوحيَ والنبوةَ أن يسمَّى متكلمًا.

لا يقطع علمُ الكلام الجديد كليًّا مع التراث، بل يحاولُ أن يستوعبَ ما هو حيٌّ في عقلانيته، ويستخلص ما أشرق به العرفانُ من رؤًى واستبصارات تفتقر إليها حقولُ التراث الأخرى. العرفانُ كنزُ الأديان، وعصارةُ معناها الروحي والأخلاقي والجمالي؛ لذلك يحرصُ الكلامُ الجديد على توظيف رؤية العرفاء لنمط الصلة بالله، المؤسَّسة على المحبَّة المُتبادَلة بين الله وعباده، ويستأنفُ مقولاتِهم في النجاة والخلاص، ليكسر احتكارَ الرحمة الإلهية، والادعاء باختصاص النجاة والخلاص بديانة أو فِرقة أو طائفة دون سواها.

تناول الفصلُ الأول في هذا الكتاب بإيجاز: نشأةَ علم الكلام وتسميتَه، وتطورَه، وحضورَ الرؤية الكلامية وتغلغلَها في علوم الدين، ومناهضتَه، وأعمقَ ثغرات ومظاهر عجزه، وإحياءَ علم الكلام، والدعوةَ لتجديده في هذا العصر.

الفصلُ الثاني تناولَ الإحياءَ والإصلاح، وأوضحَ الاختلافَ في مفهومِهما وغاياتِهما ومسارهما عن غاياتِ ومسار التجديد، وكشفَ عن الأركانِ الأساسية للتجديد وما يرمي إليه. التجديدُ يذهبُ مباشرةً للبنية التحتية للتراث ولا يتوقَّف عند البنى الفوقية، ويعملُ على إعادةِ بناء مناهج بحثٍ تواكب المكاسبَ الحديثة للعقل البشري وتوظِّف ما هو صالح من منجزاته، وحدَّدَ هذا الفصلُ مفهومَ التجديد الذي ينشدُه علمُ الكلامِ الجديد.

ورسمَ الفصلُ الثالث خارطةً لعلمِ الكلامِ الجديد بوصفه الفهمَ الجديدَ للوحي، وخلص البحثُ في هذا الفصل إلى أنَّ أيةَ بدايةٍ لتجديد التفكير الديني في الإسلام لا تبدأ بعلمِ الكلام ومسلَّماتِه ومقدِّماتِه المنطقية والفلسفية فإنها تقفز إلى النتائج من دون المرور بالمقدِّمات؛ لأن علم الكلام يمثل نظريةَ المعرفة في الإسلام، وهو الذي ينتِج منطق التفكير الديني، ومنطق كل عملية تفكير هو الذي يُحدِّد طريقةَ التفكير ونوعَ مقدِّماته ونتائجه.

وحاولَ الفصلُ الرابعُ أن يكشفَ عن بوادرِ الدعوة لتجديد علم الكلام، وولادة الفهم الجديد للوحي لدى مفكِّري الإسلام في الهند، فواكبَ الإرهاصاتِ الأولى لعلم الكلام الجديد في الإشاراتِ الخاطفة لولي الله الدِّهْلوي، وخروجِ آراء أحمد خان على التراث الكلامي، وروحِ محمد إقبال الحرة، وفكرِ فضل الرحمن الذي لم يبتعد كثيرًا عن الروح الحرَّة لمحمد إقبال، وإن كان لم يقلِّده أو يحاكي تفكيرَه، أو يمسي صدًى له، بل تكرَّست واغتنت آراءُ إقبال من خلال فكر فضل الرحمن.

وتحدَّثَ الفصلُ الأخير عن إيقاظ المعنى الروحي والأخلاقي للدين في علمِ الكلام الجديد، فعرَّفَ الدينَ والمقدَّس، وأوضحَ ما ترمي إليه المهمةُ الأساسيةُ للدين، المتمثلةُ في الجواب عن معنى وجود الإنسان في العالَم. وكشفَ هذا الفصلُ عن أن التجديدَ ينبثقُ من الاستيعاب النقدي للتراث، وأشارَ إلى أن علمَ الكلام الجديد لاهوتٌ عابرٌ للهويات الاعتقادية الفرعية للفِرق الكلامية. وجاء هذا الفصلُ ثمرةً لحوارٍ أجراه الدكتور عباس بويا وتلميذه الدكتور محمد أبو شعير مع المؤلِّف، في إطار برنامج التعريف ﺑ «علم الكلام الجديد»، الذي ينهضُ به: «قسم الدراسات الإسلامية بجامعة إرلنغن نورنبيرغ في ألمانيا».

نتطلعُ أن نتعرَّفَ في عملٍ قادم على آراء المتكلمين الجدد في إيران والعالَم العربي. بدأت الدعوةُ لتجديد علم الكلام في إيران منذ أكثرَ من نصف قرن، وسرعان ما تبلورت بوضوح في آثار مجموعة من المفكرين، ممَّن بلغ الكلامُ الجديد بجهودهم مرحلةً متقدمة، وكانوا الأكثر خبرةً بتوظيف رؤى العرفاء واستبصاراتهم في بنائه، والأسبقَ في الانتباه إلى ولادة الكلام الجديد في آثار مفكري الإسلام في الهند وباكستان.

وفي العقود الثلاثة الأخيرة تنامى واتسع الحديثُ عن علم الكلام الجديد في العالم العربي، وتميَّزت آثارُ المتكلمين الجُدد بمهارتها في توظيف الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة، وإن ظلت تفتقرُ لرؤى العرفاء واستبصاراتِهم الحاذقة لبناء الكلام الجديد.

لم نقرأ في المكتبة العربية ترجماتٍ حديثة لكتابات تتناول علمَ الكلام الجديد تنقل ما هو مكتوبٌ بلغات الملايو والإندونيسية والتركية والأردية وغيرها من اللغات المتداولة لدى المسلمين، على الرغم من العدد الكبير للناطقين فيها. نأملُ أن تبادرَ مراكزُ الأبحاث والجامعات في بلادنا والبلدان الناطقة بهذه اللغات بنقلِ ما كُتِب فيها عن الكلام الجديد للعربية. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلتُ وإليه أُنيب.

عبد الجبار الرفاعي
بغداد ١ / ١ / ٢٠٢١م
١  جون كالفين John Calvin (١٥٠٩–١٥٦٤م)، مصلح لاهوتي فرنسي تنسب إليه الكالفينيَّة، هاجر إلى مدينة بازل في سويسرا، بعد تعرُّض البروتستانت إلى عداء عنيف في فرنسا. اشتُهر عنه مبدأ «النداء»، أي إن لكلِّ إنسان نداءً في هذه الدنيا إذا لبَّاه فسيقوده إلى تحقيق هدفه في بلوغ مكانةٍ تُرضي الرب في الآخرة.
٢  تحدَّث ماكس فيبر عن ذلك في كتابه الشهير: «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، ترجمة: محمد علي مقلد، مراجعة: جورج أبي صالح، ١٩٩٠م، مركز الإنماء القومي، بيروت.
٣  للتفصيل راجع شرح نظرية ماكس فيبر وكيفية تأثير البروتستانتية الكالفينيَّة في نشوء الرأسمالية، في مقدمة محمد حسين الرفاعي لكتاب «حسن الضيقة: موضوعات في السوسيولوجيا الألمانية؛ نموذج ماكس فيبر»، ٢٠١٩م، مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ودار التنوير ببيروت.
٤  جعيط، هشام: «في السِّيرة النَّبوية: (١) الوحي والقرآن والنُّبوة»، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠٨م، ص٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤