الفصل الأول

علم الكلام

ملخَّص لنشأته وتطوُّره وعجزه وانسداده

(١) نشأةُ علم الكلام

تشكَّلتْ نواةُ علم الكلام الأولى في مناخاتٍ استفهاميةٍ اكتنفها جدلٌ وتأمُّل في مداليلِ آياتٍ قرآنيةٍ متشابهةٍ، تتناول مسائلَ حيوية كالإمامة، وحقيقة الإيمان، ومعنى القضاء والقدَر. ثم انفتحت، في إيقاعٍ متوتِّرٍ، على تساؤلاتٍ تتَّصل بإثبات وجود الله، وتفسير معاني التوحيد، والصفات الإلهية.

يتفق الدارسون على أنَّ علم الكلام نشأ في فترة مبكِّرة في العقل الإسلامي،١ وكانت مجموعة من العوامل المحلية في الحياة الإسلامية من البواعث الأساسية لانبثاق هذا العلم، وقد تصدَّرت مسألة الخلاف حول «الإمامة» تلك البواعث، فور التحاق النبي الكريم بالرفيق الأعلى، وما فتئت قضيةُ الإمامة تستأثر باهتمام العقل الإسلامي وقتئذٍ، حتى أضحت من أهم مسائل التفكير العقائدي في حياة المسلمين.

غذَّت الحروبُ الأهليةُ في مرحلةٍ لاحقة الجدلَ بين المسلمين، فظهرت استفهاماتٌ متنوعة في فضاء الصراع السياسي، وما انفكَّت هذه الاستفهاماتُ تترسَّخُ وتتشعَّب وتتوالدُ في صيغٍ جديدةٍ بمرور الأيام، وقد كان للحروب الداخلية في ذلك العصر أثرٌ مهمٌّ في تطوير النقاش في الموضوعات العقائدية، وتوالد أسئلة جديدة تتمحور حول حُكم مرتكب الكبيرة، وخلْق أفعال العباد، وحرية واختيار المكلَّف … وغيرها.

بعد تمدُّد الإسلامِ خارج الجزيرة العربية، واستيعابه لمجتمعات وإثنيات متنوِّعة في الشام والعراق وبلاد فارس وآسيا الوسطى حتى تخوم الصين، ومصر وشمال أفريقيا حتى الأندلس، واجهتْ المسلمين جملةٌ من الآراء والأفكار التي تنتمي إلى الذاكرة التاريخية للمِلَل والنِّحَل المعروفة في هذه البلدان، وما تمخَّض عن احتكاكها بعقيدة التوحيد ومواقف المسلمين، فأصغى المسلمون القادمون من الجزيرة العربية إلى أسئلةٍ وإشكالاتٍ لم يسمعوا بها من قبل، مثل: حقيقة الإيمان، ومنزلة صاحب الكبيرة، والقضاء والقدَر، وطبيعة الصفات الإلهية، وغير ذلك، فوُلِدَت في سياق الجدل العقائدي جملةُ مفاهيم تصوغ رؤًى مختلفة حيال تلك الاستفهامات والإشكالات. وكانت هذه الرُّؤى عبارةً عن اجتهادات متنوِّعة في المسائل الكلامية، تتلوَّن بشيء من رواسب البيئة المحلية والثقافات الخاصة لتلك الشعوب. بمرور الأيام تبلورتْ مواقفُ وآراءٌ، تشكَّلتْ كلُّ طائفة منها في منظومةٍ عقائدية، فأضحتْ تمثِّل اتجاهاتٍ عقائدية متعدِّدة، تعمل على التبشير بآرائها، وتسعى لاستقطاب الأتباع والمؤازرين.

كانت المجتمعاتُ المتنوِّعة التي دخلت الإسلام بالدعوة السلمية، أو أُدْخِلَت فيه بالفتوحات، قد لبثت مدَّة طويلة من تاريخها في أديان كتابية، أو غير كتابية، ولم تستطِع الدعوةُ العاجلةُ تحريرَ هؤلاء المسلمين الجُدُد من ترسُّبات أديانهم التاريخية ورسوخها في البنية اللاشعورية للفرد والمجتمع، وانتزاعهم من معتقداتهم السابقة بشكلٍ تامٍّ، ومحو آثار نصوصهم المقدَّسة محوًا تامًّا، وحذف سردياتهم الموروثة، ورؤيتهم للعالَم، وطقوسهم وشعائرهم الماضية، بصورة نهائيَّة. ونجم عن ذلك مناخٌ فكريٌّ يختلط برؤًى للعالَم ومفاهيم اعتقادية غريبة، وإن خلعت على نفسها جلبابًا إسلاميًّا، غير أنَّها لم تغادر ذاكرةَ المقدَّس الأول الناشئة والمتوطنة فيه، ولم تنحذف من ذاكرتها ثقافاتُها الأولى وبصمات بيئاتها كليًّا.

تغذَّى علمُ الكلام في فترةٍ لاحقة بالمنطق الأرسطي والفلسفة التي تدفَّقت من مراكز الترجمة في العصر العباسي خاصَّة،٢ بعد أن انفتح المسلمون على الميراث الثقافي للحضارة اليونانية، ومدرسة الإسكندرية، ومعارف الهند، وبلاد فارس، واستهواهم المنطق الأرسطي، والفلسفة اليونانية، وإلهيَّات أفلوطين ومدرسة الإسكندرية، فاخترقت مقولاتُها مباحثَ علم الكلام الذي تفاعل تدريجيًّا مع هذه المقولات، حتى باتتْ قواعدُ المنطق الأرسطي هي المعايير النهائيَّة للتفكير والبحث والجدل الكلامي، وما انفكَّ التفكيرُ الكلاميُّ حتى هذه اللحظة يتحرَّك في قنواتِ تلك القواعد، ويستند إليها بوصفها مرجعيَّةً حاسمة في أية محاولة للاستدلال والمناظرة والجدال مع المختلف.

كانت السياسة وراء ولادة الكثير من الأسئلة والمعتقدات والآراء الكلامية وتفاعلاتها في الحياة الإسلامية، مثل ولادة أسئلة الخوارج حول الحاكميَّة بعد معركة صفِّين، وولادة القول الجبر والقدَر في العصر الأموي. مضافًا إلى أنَّ العواملَ الاجتماعيَّة والثقافية والاقتصادية السائدة في المجتمعات الإسلامية آنذاك، تحكَّمتْ أيضًا في نشأة علم الكلام وتطوُّره، وأمدَّتْ عقلَ المتكلِّم بعناصرَ وأدواتٍ خاصَّة، هي تعبيرٌ عن تلك البيئات، ولذلك تجلَّت البيئةُ الخاصَّةُ للمتكلِّم ومسلَّماتها المعرفية وثقافتها ورؤيتها للعالَم في مؤلَّفات الكلام الإسلامي.

ظلَّتِ البنيةُ الأولى تموِّن التفكيرَ الكلاميَّ وتوجِّهه في إطارِ أنساقها المحدَّدة، فتكرَّرت في المؤلَّفات الكلامية منذ نضوج علم الكلام أكثر: أنماط الاستدلال، والموضوعات، والأفكار، والمقولات ذاتها. ودخل هذا العِلمُ في مرحلةٍ لاحقةٍ مسارًا مسدودًا، دأب فيه على العودة إلى الأسئلةِ والمشكلات والتحديات نفسها التي بحثها السلفُ، ومكث يتحرَّك في مداراتها، يبدأ دائمًا من حيث انتهى، وينتهي دائمًا من حيث بدأ، من دون أن يتقدَّم في حركته خطوةً إلى الأمام. ومع وفرةِ ما أُلِّف فيما بعد، غير أنَّه لم يكن سوى شروح وتعليقات وهوامش على المتون الكلاسيكية، من دون تحوُّلات عميقة وتطوُّر يواكب حياةَ المسلم، ومتطلباتها الاعتقادية المتجدِّدة بتجدُّد الأحوال والظروف والواقع.

في هذا الفضاء تشكَّل علمُ الكلام، وأصبح واحدًا من السِّمات المعرفيَّة الخاصة بالحضارة الإسلامية منذ النصف الثاني من القرن الهجري الأول، وانخرط في دراسته وتدريسه والتأليف فيه أئمةُ الفِرَق والمجتهدون في علم الكلام، وبلغ ذروةَ ازدهاره عموديًّا وأفقيًّا في القرن الرابع الهجري، وتنوَّعت الأقوالُ والآراءُ في علم الكلام حتى أصبحتْ أساسًا لتكوين الفِرق والاتِّجاهات المختلفة في الإسلام. وأضحى ميلادُ أية فرقة، وتطوُّرها، وتأثيرها في مسار الحياة الإسلامية، يتوقَّف على تبنِّيها لآراء ومقولات ومفاهيم مستدلَّة في علم الكلام.

عملت أكثرُ الفِرق التي ظهرت ببواعث سياسية على صياغة فهم عقائدي ورؤية للعالَم خاصة بها، وشدَّدَتْ على مقولات محدَّدة استندت إليها على أنَّها مرجعية في سلوكها السياسي، وتسويغ محاولاتها لاحتكار السلطة. أمَّا الجماعات التي أخفقت في تكوين مقولاتٍ كلاميَّة ورؤية خاصَّة للعالَم تتناغمُ ومطامحَها السياسيَّة، وتسوِّغ مواقفها السياسية، فإنها انطفأت باكرًا، حتى وإن خطف وهجُها الأبصارَ عند ظهورها.

(٢) تسمية علم الكلام

تداول المؤلِّفون مجموعةَ أسماء لدراسة العقيدة، اشتهر منها: «أصول الدين»، وهو العلم الذي يتمحور حول بيان أصول الدين الإسلامي والاستدلال عليها والدفاع عنها. وقد عَنْون بعضُ المؤلِّفين أعمالَهم بهذا الاسم، مثل ابن خلدون (٨٠٨ﻫ) في: «لباب المحصل في أصول الدين»، الذي هو تلخيصٌ لكتاب «محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين» لفخر الدين الرازي (٦٠٦ﻫ)، وقبله الجويني (٤٧٨ﻫ) في كتابه «الشامل في أصول الدين». وقبل ذلك وصف الفقيهُ أبو حنيفة (١٥٠ﻫ) علمَ الكلام ﺑ «الفقه الأكبر»؛ لأنَّ النظر في أحكام الدين وعقائده كان يُسمى فقهًا، ثمَّ خُصَّت الاعتقاداتُ باسم الفقه الأكبر، فيما خُصَّت العملياتُ بالفقه الأصغر.٣

كذلك أطلقوا اسمَ «التوحيد»، بمعنى العلم الذي يجعل قضيةَ التوحيد هي المحور ومنها تنبثق سائر المعتقدات، وهي تسمية للشيء بأشرف أجزائه، وقد جعل محمد عبده (١٣٢٣ﻫ) هذا الاسم عنوانًا لكتابه في العقيدة «رسالة التوحيد». وقبل ذلك أَلَّف المتكلم المعروف أبو منصور الماتريدي (٣٣٣ﻫ) كتابًا في الكلام سمَّاه «التوحيد».

وأطلق عليه آخرون «العقائد»، وهو يعني العلم الذي يتكفَّل بمعرفة العقائد الإسلامية، ويبرهن عليها. وهذا الاسم اتخذه عددٌ من المؤلفين عنوانًا لمؤلفاتهم الكلامية، فأطلق الجويني (٤٧٨ﻫ) على كتابه «العقيدة النظامية»، والنسفي (٦٤٢ﻫ) «العقائد النسفية»، وعضد الدين الإيجي (٧٥٦ﻫ) «العقائد العضدية»، وقبل هؤلاء، سمَّى الطحاوي (٣٢١ﻫ) كتابه الكلامي «العقيدة الطحاوية».

أما أشهر الأسماء المعروفة لدراسة العقيدة ومسائلها فهو «علم الكلام». ويورد الدارسون آراءً شتَّى في تحليل مدلول هذه التسمية وتاريخ استعمالها.٤ تحدَّث بعضُهم٥ عن أسباب تسمية هذا الفنِّ بعلم الكلام، فذكرها على وفق التسلسل الآتي:
  • (١)

    لأنَّ عنوانَ مباحثه كان قولهم: الكلام في كذا وكذا.

  • (٢)

    ولأنَّ مسألة الكلام كانت أشهر مباحثه، وأكثر نزاعًا وجدالًا، حتى إن بعض المتغلِّبة قتل كثيرًا من أهل الحقِّ لعدم قولهم بخَلق القرآن.

  • (٣)

    ولأنه يُورِثُ قدرةً على الكلام من تحقيق الشرعيَّات وإلزام الخصوم، كالمنطق للفلسفة.

  • (٤)

    ولأنَّه أول ما يجب من العلوم التي تُعْلَم وتُتعَلَّم بالكلام، فأطلق عليه هذا الاسم لذلك، ثمَّ خُصَّ به ولم يُطلق على غيره تمييزًا له.

  • (٥)

    ولأنه إنما يتحقَّق بالمباحثة وإدارة الكلام بين الجانبين، وغيره قد يتحقَّق بالتأمُّل ومطالعة الكتب.

  • (٦)

    ولأنَّه أكثر العلوم خلافًا ونزاعًا، فيشتدُّ افتقارُه إلى الكلام مع المخالفين والردِّ عليهم.

  • (٧)

    ولأنَّه لقوَّة أدلَّته صار كأنَّه هو الكلامُ دون ما عداه من العلوم، كما يُقال للأقوى من الكلامَيْن: هذا هو الكلام.

  • (٨)

    ولابتنائه على الأدلَّة القطعيَّة المؤيد أكثرُها بالأدلة السمعية، أشدِّ العلوم تأثيرًا في القلب وتغلغلًا فيه، فسُمِّي بالكلام المشتقِّ من الكَلْم وهو الجرح.

  • (٩)
    لأنَّ حقائقَ هذا العلم تَنْبَنِي أساسًا على الأدلَّة العقلية، وقلَّمَا يُرْجَع فيها إلى النَّقْل من الوحي، اللهم إلا بعد تقرير الأصول الأُولَى تقريرًا عقليًّا كإثباتِ وجودِ اللهِ وكثيرٍ من صفاته. ولمَّا كان بناءُ هذا العِلم على الدليل العقلي يظهرُ في كلام الباحث فيه بقوَّة حجَّتِه سُمِّي علمَ الكلام.٦
أشار الإيجي إلى احتمال أنه إنما «سُمِّي بالكلام لأنه بإزاء المنطق للفلاسفة».٧ وأضاف مصطفى عبد الرازق احتمالَيْن إلى ما تقدَّم، استظهرهما من الأحاديث والآثار، فذهب في الاحتمال الأول إلى أن تسمية الكلام جاءت من كون «الكلام ضدُّ السكوت، والمتكلِّمون كانوا يقولون حيث ينبغي الصمت، اقتداءً بالصحابة والتابعين الذين سكتوا عن المسائل الاعتقادية لا يخوضون فيها».٨
أما الاحتمال الآخر، فيعود مَنْشَأُ التسمية فيه إلى أنَّ الكلام مقابل الفعل، «كما يُقال فلان قوَّال لا فعَّال، والمتكلمون قومٌ يقولون في أمورٍ ليس تحتها عمل … فكلامهم نظريٌّ لفظي لا يتعلَّق به فعل، بخلاف الفقهاء الباحثين في الأحكام الشرعيَّة العملية».٩

الاحتمالان الأخيران اللذان ذكرهما مصطفى عبد الرازق، أبعدُ التفسيرات إلى نشأة تسمية هذا العلم تأريخيًّا؛ لأنَّ قضايا علم الكلام اكتسبتْ طابَعًا نظريًّا تجريديًّا بعد مدة من ولادتها، فقد نشأ بعضُها في أُفُقِ أسئلةٍ أفرزتْها التجربةُ السياسية العملية، كمسألة القضاء والقدَر، وحُكم مرتكب الكبيرة. ولم تترسَّخ النَّزعة التجريدية في علم الكلام إلا بمرور الزمن، وصار التجريدُ النظريُّ إحدى الثغرات لعجزِ علم الكلام وقصورِه عن الالتحام بواقع المسلم.

عبد الرحمن بدوي يميلُ إلى أنَّ سببَ التسمية نشأ «لأنَّ مسألة الكلام كانت أشهرَ مباحثه وأكثر نزاعًا وجدلًا»، وأمَّا سائر الاحتمالات المذكورة فلا تخرج عن كونها «مماحكات لفظيَّة لا معنَى لها».١٠ وإن كان هذا القولُ يبدو وجيهًا؛ لأنَّ مسألة الكلام الإلهي هي أهم مسائل هذا العلم التي تباينت المواقفُ الكلامية فيها، لكنَّ مصطلحَ الكلام والمتكلمين قد وَرَدَ في بعض الآثار قبل احتدام الجدل حول كلام الله، ومن ثَمَّ تطوَّرت هذه المسألة إلى ما عُرف بخَلق القرآن فيما بعد. فقد أشارت نصوصٌ تنتمي إلى ما يناهز منتصفَ القرن الثاني الهجري إلى تسمية المتكلم، منها ما ورد في قصةِ تردُّد ابنِ أبي العوجاء عن مناظرة الإمام جعفر الصادق، عندما جاء لمناظرته، فقال له الإمام: لماذا لا تتكلَّم؟ فأجاب بقوله: «إني شاهدتُ العلماء، وناظرتُ المتكلمين، فما تداخلني هيبةٌ قطُّ مثلما تداخلني من هيبتك».١١ ولولا استقرارُ مصطلح الكلام وتداوله، لما استعمل الجاحظ مثلًا هذه التسمية عنوانًا لبعض رسائله.١٢
وهذا يدعونا لاستبعاد ما ذكره أحمد أمين أيضًا،١٣ تبعًا لصاحب «المِلَل والنِّحَل»؛١٤ من أنَّ تسمية الكلام تأخرتْ عن نقل التُّراث الفلسفي اليوناني إلى العربيَّة أيامَ المأمون؛ لأنَّ هذه التسمية ظهرتْ في الحياة الفكريَّة لدى المُسلمين، وأصبح يوصف بها بعضُ الأعلام المُهْتَمِّين بالشأن العقائدي، مثلما يحكي لنا النصُّ المتقدِّم وغيره من النصوص، قبل أن تُترجَمَ الفلسفةُ اليونانية.

نخلص من كل ذلك إلى ترجيح تعليل التسمية بغلبة مسألة الكلام الإلهي بوصفها أهمَّ مسائل هذا العلم، وإطلاقها على هذا العلم الذي انبثق في فضاء التفكير الديني في الإسلام مبكرًا قبل التعرُّف على الفلسفة اليونانية وثقافات الشعوب الأخرى، والتفاعل معها والإفادة منها بشكلٍ واسع.

(٣) مناهضة علم الكلام

منذ الأيام الأولى لولادة التفكير الكلامي، انبرت لمناهضته مجموعةٌ من رجال الحديث الذين قاوموا أيَّة محاولة لتدبُّر النصوص المتشابهة وتأويلها، وأسرفوا في إلصاق شتَّى التُّهم بمن يحاول ممارسة هذا اللون من التفكير، بقطع النظر عن النتائج التي ينتهي إليها، حتى أمسى شعارُهم «فرَّ من الكلام، في أي صورة يكون، كما تفرُّ من الأسد».١٥ بل نُقِل عن الإمام مالك بن أنس ١٧٩ﻫ، حظرُ السؤال في بعض المسائل، وعدَّ مثل هذا السؤال بدعة، فحين سُئِل عن كيفية الاستواء على العرش؟ أجاب: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.»١٦ ولهذا وسم مالكُ بن أنس جميعَ الذين يتعاطون التفكير والحديث في ذات الباري وصفاته بالمبتدعين، وكان يحذِّر من هذه البدع ويقول: «إياكم والبدع. قيل: يا أبا عبد الله وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلَّمون في أسماء الله وصفاتِه، ولا يسكتون عمَّا سكت عنه الصحابةُ والتَّابعون لهم بإحسان. وكان يقول: مَن طلب الدِّين بالكلام فقد تزندق.»١٧
وعقيب مالك، ناهضَ الإمامُ الشافعيُّ (٢٠٤ﻫ) أيضًا المنحى الكلاميَّ في التفكير، فشنَّ حملةً عنيفةً على المتكلِّمين، وبالغ في التشنيع على هذا اللون من التفكير، فنُقِل عنه قولُه بعد مناظرته مع أحد هؤلاء: «لقد اطَّلعتُ من أهل الكلام على شيءٍ ما توهمتُه قطُّ، ولأن يُبتلى المرء بجميعِ ما نهى الله عنه، سوى الشرك، خيرٌ من أن يُبتلى بالكلام.»١٨ كما نُقِلَ عنه قوله: «ولو يعلم الناس ما في علم الكلام من الأهواء، لفرُّوا منه فرارهم من الأسد»، وقوله أيضا: «حُكْمِي في أهل الكلام، أن يُضربوا بالجريد، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويُقال: هذا جزاء مَن ترك السنة وأخذ في الكلام.»١٩ ويُنسَبُ للشافعي قولٌ حانق يحذِّر فيه أبا إبراهيم المزني لما سأله بمسائل نهج فيها منهجَ أهل الكلام، فقال له الشافعي: «يا بني! هذا علمٌ إن أنت أصبتَ فيه لم تُؤجر، وإن أنت أخطأتَ فيه كفرت.»٢٠
ثم جاء من بعده الإمام أحمد بن حنبل (٢٤١ﻫ) فاقتفى السبيلَ نفسَه، وأسرف في مقارعة التفكير الكلامي، حتى زجَّ نفسَه بجدالاتٍ ومماحكاتٍ صاخبة مع المتكلِّمين، قادتْه في خاتمة المطاف إلى أن يُضْرَب بالسوط في مناظرته مع ابن أبي دؤاد حول مسألة خَلق القرآن.٢١ ونُقِلَتْ عن ابن حنبل أقوالٌ تكفيرية قاسية في ذم الكلام والمتكلمين، منها قوله: «لا يفلح صاحب كلام أبدًا، ولا ترى أحدًا ينظر في الكلام إلا وفي قلبه مرض.»٢٢ وقوله: «علماء الكلام زنادقة.»٢٣

وواصلَ الحنابلةُ من بعده مناهضةَ علمِ الكلام تبعًا لنهجِ إمامِهم، فخاضُوا صِراعات جادَّة مع أصحاب الكلام، واعتمدوا سلاحَ التكفير في هذا الصِّراع، وبات تراثُهم، بعد أن رسَّخه عقليًّا ابنُ تيمية، رافدًا تُسْتَقَى منه فتاوى تكفير فِرق المسلمين؛ تلك الفتاوى التي عمِلتْ على تعميق انقسامات الأمة، وظلَّت إلى الآن تُجْهِض مساعي الحوار والتفاهم بين المذاهب الإسلامية.

تغلغلت أفكارُ التيار المناهض للكلام في وعي عامة المسلمين، فبدأ كثيرٌ منهم ينظر بارتياب للفكر الكلامي، بل تنامت هذه الحالةُ، وصارت العلومُ العقليَّةُ برُمَّتها يُنظر إليها بتوجُّس وريبة، وأُشيع مناخ مُشبَع بالتهمة حول هذه العلوم، حتى اضطر ذلك بعض المهتمين بها للتمسُّك بالتَّقيَّة والتكتم على معارفه، خشيةَ إثارة سخط العامة، خاصة أن بعض خصوم الكلام عمدوا إلى صياغة خطاب تحريضي ضد علم الكلام ومَن يتعاطاه، وهذا ما ظهر في أسماء كتبهم، فمثلًا كتب أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السُّلمي النيسابوري (٤١٢ﻫ) كتابًا بعنوان: «أحاديث في ذمِّ الكلام وأهله»، انتخبها أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الرازي المقرئ (٤٥٤ﻫ). وكتب أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي (٤٨١ﻫ) كتابًا بعنوان «ذم الكلام وأهله»، وكتب الغزالي (٥٠٥ﻫ) «إلجام العوام عن علم الكلام»، وكتب موفق الدين بن قدامة المقدسي (٦٢٠ﻫ) «تحريم النظر في كتب أهل الكلام».

من الآفات التي تعرَّض لها علم الكلام في وقتٍ مبكر كثرةُ المتطفلين عليه، مع أنهم ليسوا من الخبراء المختصين، وهم الذين وصفهم الجاحظ (٢٥٥ﻫ) بقوله: «وصناعةُ الكلام كثيرةُ الدخلاء والأدعياء، قليلة الخُلَّص والأصفياء، والنَّجابةُ فيها غريبة، والشروط التي تَستحكم بها الصناعةُ بعيدةٌ سحيقة، ولِدعيِّ القوم من العجز ما ليس لصحيحهم، ولِرديِّ الطبع في صناعة الكلام من ادِّعاء المعرفةِ ما ليس للمطبوع عليها منهم، بل لا تكاد تجده إلا مغمورًا بالحُشوة مقصودًا بمخاتل السفلة.»٢٤

تبلور في ذلك العصر كثيرٌ من الاجتهادات الكلامية، وتباينت مواقفُها، وتحدَّثت في شتَّى المسائل، مما يرتبط بالذَّات والصفات والأفعال، والخير والشر، والجبر والاختيار، واختلفت الآراءُ في كل واحدةٍ من هذه المسائل بنحوٍ سادَت معه الحياةَ الفكريةَ تعدُّديةٌ وحيويةٌ في النقاش والمناظرة، وأسهم قطاعٌ واسع من المتكلمين وتلامذتهم بوجهات نظرهم في مختلف المسائل، ولم يَعُد التفكير الكلاميُّ حكرًا على طبقةٍ خاصةٍ تمنح نفسها حرياتٍ شاملة فيما تسلب سواها حقَّ التفكير، بل كان ينخرط في حلقات المتكلمين كلُّ مَن ينشد التأهيل والخبرة في علم الكلام.

كان المعتزلةُ يبجِّلون صناعة الكلام، ويرون لها أهميةً فائقة؛ إذ كتب الجاحظُ يصف هذه الصناعةَ: «إن صناعة الكلام عِلْق نفيس، وجوهرٌ ثمين، وهو الكَنز الذي لا يَفنى ولا يَبلى، والصاحب الذي لا يُمَلُّ ولا يُغِلُّ، وهو العِيار على كل صناعة، والزِّمام على كل عبارة، والقِسطاس الذي به يُستبان نُقصان كل شيء ورُجحانه، والرَّاوُوق الذي به يُعرف صفاءُ كل شيء وكدَرُه، والذي كلُّ أهل علم عليه عيال، وهو لكل تحصيل آلة ومثال … وأيُّ شيء أعظم من شيء لولا مكانُه لم يثبت للرب ربوبية، ولا لنبي حُجة، ولم يُفصَل بين حُجة وشُبهة، وبين الدليل وما يُتخيَّل في صورة الدليل. وبه يُعرف الجماعةُ من الفُرقة، والسُّنة من البِدعة، والشذوذ من الاستفاضة.»٢٥

وكان لتوفُّر هامش حرية للتفكير أثرٌ بالغ في نمو وازدهار مدارس كلامية عديدة، من أبرزها الشيعة والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية، وتضمُّ كلُّ مدرسة أجيالًا متتالية من المجتهدين في علم الكلام الذين اشتغلوا بترسيخ وتطوير مدارسهم الكلامية، وغالبًا ما تجاوزوا الرؤى، وأحيانًا بعض الأسس التي صاغها أسلافهم، حتى اشتهر لديهم ظهورُ أكثر من اتجاه في إطار المدرسة الواحدة، كما عُرِفَت ظاهرةُ استقلالِ التلميذ عن أستاذه وعدمِ تقليده له، وربما مناقشته والرد على آرائه، وتبنِّي مواقفَ كلامية لا تتطابق مع متبنيات أستاذه. ومراجعة سريعة للتراث الكلامي ترينا عددًا وفيرًا من المؤلَّفات، مما نقض فيها التلميذُ آراءَ أستاذه.

ولولا توفُّر أرضية مناسبة، وشيوع تقاليد فكريَّة ترعى حقَّ الاختلاف، وتؤمن بالتعدُّدية، لما وُجِدَ ذلك المناخُ العلميُّ الذي تبلورت فيه أبرزُ المدارس الكلاميَّة في تاريخ الإسلام.

غير أنَّ هامش الحرية بدأ يذبل ويضمحلُّ حين طغَت روحُ التكفير لدى بعض المتكلمين وفقهاء السلاطين والخلفاء، وتعاونَ المتوكل العباسي (٢٣٢–٢٤٧ﻫ) مع أولئك الفقهاء، وفرضَ ميثاقًا اعتقاديًّا كلاميًّا محدِّدًا منحه المشروعيَّة، فيما حظر أية وجهة نظر خلافية في مقابل ذلك الميثاق.

الاعتقاد القادري

في الحِقبة التالية ساد الموقفُ التَّسلطيُّ الاحتكاريُّ في فرض الآراء الكلامية، وتصنيف أيَّة محاولة لا تلتقي مع الموقف الأيديولوجي للسلطة ووعَّاظها بوصفها ابتداعًا ومروقًا وانشقاقًا على وحدة الأمة،٢٦ وجرى تقنينُ هذا الموقف التسلطي الاحتكاري بنصٍّ معروف كتبَه القادر بالله (٣٨١–٤٤٢ﻫ) واشتهر باسم «الاعتقاد القادري القائمي».٢٧
تَبَنَّى الميثاقُ الاعتقادي رؤيةَ الحنابلة الاعتقادية، وانحاز بإسراف إلى مواقفهم، في حين استهدف المسلمين الآخرين، واستباح دماءَ بعضهم لمجرد تمسُّكهم بمعتَقد يخالف ما جاء فيه؛ فمثلًا ورد فيه أن «مَنْ قال إنه [القرآن] مخلوقٌ على حال من الأحوال فهو كافر، حلال الدم بعد الاستتابة منه.»٢٨ وعندما أخرج القائم بأمر الله «الاعتقاد القادري» سنة ٤٣٢ﻫ وقُرئ في الديوان بحضور الفقهاء كان «ممن حضر الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني، فكتب خطَّه تحته، قبل أن يكتب الفقهاء، وكَتب الفقهاءُ٢٩ خطوطهم فيه: إن هذا اعتقاد المسلمين، ومَن خالفه فقد فسق وكفر.»٣٠ وذكر ابنُ الجوزي أنَّ القادر بالله استتاب المعتزلة سنة ٤٠٨ﻫ «فأظهروا الرجوع، وتبرءوا من الاعتزال، ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذ خطوطهم بذلك، وامتثل يمين وأمين الملة أبو القاسم محمود أمرَ القادر بالله، واستنَّ بسننه في أعماله التي استخلفه عليها، من خراسان وغيرها، في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبِّهة، وصلبهم وحبسهم ونفاهم، وأمر بلعنهم على منابر المسلمين، وإبعاد كلِّ طائفة من أهل البدع، وطردهم من ديارهم، وصار ذلك سُنةً في الإسلام.»٣١

من المؤسف أن تَشِيعَ نزعةُ التكفير في تلك الحِقبة، وتستهتر السلطة في ملاحقة أفكار الناس وتفتيش معتقداتهم، فتصلبهم وتلعنهم لمجرد خروجهم على معتقد الحاكم.

كان «الاعتقادُ القادري» أخطرَ وثيقة تُصَادِر حقَّ التفكير وحريةَ الاجتهاد في علم الكلام، جرى تداولُها مدةً ليست قليلة، وصار من التقاليد المتعارفة أن تتكرَّر تلاوتُها كلَّ مرة في المناسبات المهمة وقتئذٍ، وحرصت السلطةُ على إسباغ المشروعيَّة على هذا الاعتقاد عبر حشد فتاوى وآراء جماعة من الفقهاء والمحدِّثين؛ ففي سنة ٤٦٠ﻫ تُليَ «الاعتقادُ القادري» في الديوان بناءً على طلب الفقهاء وأعيان أصحاب الحديث الذين أجمعوا على أنَّ من لا يُكفِّر مَن يُكفِّرهم «الاعتقادُ» فهو كافر.٣٢

عملتْ تلك المواقفُ المتشدِّدة على تأمين بيئة تزدهر فيها «الأخبارية العقائدية» التي تستند إلى ظواهر النصوص بوصفها مرجعيةً في تقرير المعتقد، وتفهم آيات القرآن الكريم والأخبار المروية عن النبي فهمًا حرفيًّا قشريًّا متحجِّرًا، من دون أن تتيح للذهن فرصةً في تدبُّر آيات الكتاب وتأمُّل الأحاديث، وتأويل ما تشابه منها.

وبمرور الأيام اتَّسع نفوذُ ذلك التيار الظاهري في الاعتقاد، وظلَّ على الدوام مصدرًا للمواقف الصارمة المغلقة تجاه عامَّة المسلمين من الذين ينهجون نهجًا مغايرًا، ويستندون إلى العقل في فهم وتحليل قضايا المُعْتَقَد، ويمارسون الاجتهادَ الكلاميَّ، ويرفضون الترسيمات الجاهزة، ويحرصون على غربلةِ ومحاكمةِ الآراءِ الكلاميَّة، واصطفاء ما ينهض الدليلُ على إثباته، ونفي ما سواه.

تواصلت مواقفُ تيار «الأخبارية العقائدية» في مناهضة محاولات عقلنة البحث العقائدي، وتطوير بنية علم الكلام ومصادره العقلية، ولم يكفَّ هذا التيارُ عن الدعوة لإقصاء الموروث الكلامي بتمامه، والتخلُّص بالتالي من الجهود العقليَّة الغزيرة التي تمثِّل واحدةً من أبرز تجلِّيات العقل الإسلامي في تعاطيه مع الوحي. يكتب أحدُ دعاة هذا التيار: «لم يلحق بالدين ضررٌ بعداوة الحكماء والفلاسفة، مثلما لحِق به بسبب أصدقائه الجهلاء، وهم المتكلِّمون، وهم لا شك أعداؤه الحقيقيُّون، وإني أقول ولا أخاف في ذلك لومةَ لائم: إنَّ الجزءَ الكبير من علم الكلام يستحقُّ أن يُحْرَقَ كُلِّيًّا، وعلى الأكثر يستحقُّ أن يُحفظ في متحف، ليكون عبرة ودرسًا للآخرين.»٣٣

لا ننكر أن علم الكلام يعبِّر عن فهم المتكلمين للعقيدة، وفهمهم — كأي معرفة ينتجها البشر — يصطبغ بطبيعة الزَّمان والمكان والواقع، والنَّمط الحضاري للحياة، ومستوى تطوُّر العلوم والمعارف الأخرى، وأنَّ انتماء علم الكلام للإسلام إنَّما هو كانتماء المعارف الأخرى له، بمعنى: أنَّه معرفة أنتجها المسلمون، مثلما أنتجوا الفلسفةَ، والتصوُّف والعرفان، والفنون، والآداب، وغيرها. ولا يسوِّغ إنتاجُ المسلمين لتلك المعارف تعاليها على النقد والمراجعة؛ لأنَّ انتسابَها إلى الإسلام ليس سوى كونها وُلدت في فضاء إسلامي، وفي سياق حضارة المسلمين. ولعلَّ علم الكلام من أوضحِ ما أنجزه عقلُ المسلمين في تشبُّعه بالمؤثرات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة للمحيط الذي وُلِدَ فيه، وهذا ما يحكيه الاختلافُ والتباين الفاحش في المقولات الكلامية.

منع التقليد في العقيدة نظريًّا وتسيُّده عمليًّا

أهميةُ الاجتهاد في علم الكلام تكمن في إطلاق حرية التفكير في العقيدة، وتعدُّد وتنوُّع الآراء والمواقف والمقولات الكلامية. ويعبِّر اختلاف المقولات ووفرتها عن تجسُّد اجتهادات ووجهات نظر متنوِّعة أفضى إليها التفكير الكلامي، مضافًا إلى أنَّها علامة فارقة على منح كلِّ مسلم الحقَّ في اختيار عقيدته، بل وحرمة تقليد غيره في المعتقَد.

المفارقة تكمن في منع التقليد نظريًّا في العقيدة وتسيُّده عمليًّا في حياة المسلمين. حَدَثَتْ هذه المفارقةُ نتيجةً لتحريم التَّفكير الكلامي، والاقتصار على ظاهر النصوص، ومنع أيَّة محاولة لعقلنة الفهم العقيدي الذي أفضى إلى تعطيل الاجتهاد الكلامي، وتفشِّي التقليد في أصول الدين، بعد شيوع نزعةٍ نصوصيَّة أخبارية تبنَّاها المحدِّثون، وروَّج لها ودعمها بعضُ الخلفاء الأمويِّين والعباسيِّين في فترةٍ مبكِّرة من التاريخ الإسلامي، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى نرى أنَّ هذا النَّوع من التَّقليد لم يَقُلْ بجوازه أحدٌ سوى هؤلاء أهل الظاهر؛ فقد أجمع المتكلمون على منع التقليد في أصول الدين، واستدلُّوا بالعقل تارةً وبالكتاب الكريم تارةً أخرى. قال أبو منصور الماتريدي: «إن التقليد ليس مما يُعذر صاحبُه، لإصابة مثله ضده.»٣٤
ويكتب القاضي عبد الجبار الهمذاني في بيان فساد التقليد: «إنَّ القولَ به يؤدِّي إلى جحد الضَّرورة؛ لأنَّ تقليد مَن يقول بقِدَم الأجسام ليس بأَولى من تقليد مَن يقول بحدوثها، فيجب إما أن يعتقد حدوثَها وقِدَمَها وذلك محال، أو يخرج عن كلا الاعتقادين، وهو محالٌ أيضًا … ويدلُّ على ذلك أنَّه تعالى لم يقتصر في كتابه في التوحيد والعدل وسائر المذاهب على ذكر الخبر عنها، بل نبَّه عن طريق الظنِّ فيها، ولو كان التقليدُ حقًّا لوجب تقليدُه تعالى، ولاستغنى عن طريق البيان في ذلك، ولوجب أن يقتصر صلى الله عليه أيضًا على الدعاوى دون إقامة البراهين.»٣٥
ونقل الشوكانيُّ عن أبي الحسين القطان قوله: «لا نعلم خلافًا في امتناع التقليد في التوحيد. وحكاه السمعاني عن جميع المتكلِّمين وطائفة من الفقهاء. وقال إمام الحرمين في الشامل: لم يقُل أحد بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة. وقال الإسفراييني: لا يخالف فيه إلا أهل الظاهر».٣٦
ويقول العلامة الحلي: «أجمع العلماء كافةً على وجوب معرفة الله تعالى وصفاته الثبوتية والسلبية، وما يصحُّ عليه وما يمتنع عنه، والنبوة والإمامة والمعاد، بالدليل لا بالتقليد.»٣٧ ويذكر في موضع آخر: «المسألة إما أن تكون من باب الأصول، أو من باب الفروع؛ فالأول لا يجوز التقليد فيه إجماعًا، واستدل على ذلك بالعقل والكتاب.»٣٨ وقال صاحب معالم الدِّين: «والحق منْع التقليد في جميع أصول العقائد، وهو قولُ جمهور علماء الإسلام، إلا من شَذَّ من أهلِ الخلاف، والبرهانُ الواضح قائم على خلافه فلا التفات إليه.»٣٩
ويرى الشيخ محمد عبده أن: «الغايةَ من هذا العلم بفَرْضٍ مُجْمَعٍ عليه وهو معرفة الله تعالى بصفاته الواجب ثبوتُها له مع تنزيهه عمَّا يستحيل اتصافه بها، والتصديق برسله على وجه اليقين الذي تطمئن به النفس اعتمادًا على الدليل، لا استرسالًا مع التقليد، حسبما أرشدنا الكتابُ، فقد أمر بالنظر واستعمال العقل فيما بين أيدينا من ظواهر الكون وما يمكن النفوذ إليه من دقائقه؛ تحصيلًا لليقين بما هدانا إليه، ونهانا عن التقليد بما حُكي عن أحوال الأمم في الأخذ بما عليه آباؤهم، وتبشيع ما كانوا عليه من ذلك، واستتباعه لهدم معتقداتهم، وامِّحاء وجودهم المِلِّي، وحقٌّ ما قال، فإن التقليد كما يكون في الحقِّ يكون في الباطل، وكما يكون في النافع يحصل في الضارِّ، فهو مضلَّة يُعْذَرُ فيه الحيوانُ، ولا تَجمُل بحالِ الإنسان.»٤٠

ولا نريد أن نسرف في حشد أقوال العلماء الذين منعوا التقليد في الأصول، ولكن كنَّا نودُّ أن نشير إلى الإجماع على هذه المسألة، في مقابل التيار الظاهري المناهض للاجتهاد في علم الكلام.

تيار الظاهريَّة الاعتقاديَّة أو الأخباريَّة العقائدية المناهض للاجتهاد في علم الكلام انبعث من جديد في الجماعات السلفية التي تغرق في القشور، فيما تضحِّي بروح الشريعة والمقاصد الكليَّة للدين، وتستأنف الفهم الحرفي للنصوص، الذي يغيِّب العقل ويتجاهل العصر وما يحفل به من متغيِّرات شتَّى، وتُقدِّم صورةً منفرة للإسلام تستأنف الماضي كما هو. يعبِّر عن هذه الطريقة في الفهم ياسر برهامي بقوله: «وقال بعضُ المتأخِّرين: «إنَّ طريقةَ السَّلَف أسلم، وطريقة الخَلَف أعلم وأحكم»، كأنَّه يقول إنَّ المسلمين لا يستطيعون الردَّ على الكفار إلَّا بانتهاج طريقة الخلف، وهي التأويل، وطريقة السَّلَف أسلم حتى لا نخوض في الكلام. ولا شكَّ أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم، والعبارة السابقة التي قالوها غير صحيحة ولا تليق؛ إذ لا يليق أن نقول إنَّ السلف أقلُّ علمًا من الخلف، فهذا الكلام باطل قَطعًا، بل أعلم الأمَّة بعد نبيِّها هم أصحاب رسول الله، ثم التابعون، ثم أتباع التابعين، وهم أفضل في العلم وفي العمل وفي السلوك؛ ولذلك قولنا «السلفيَّة منهج» معناها: أن نلتزم بطريقة السلف في كلِّ هذا.»٤١

السِّمة المميِّزة لهذه الجماعات هي التمسُّك بتقليد وحفظ آراء وفتاوى الرجال الماضين، وغلق باب الاجتهاد في العقيدة والشريعة، وإن كانوا يدَّعون خلاف ذلك. وكأنَّ الحياةَ ساكنة، والزمان يُكرِّر نفسه، وكأنَّ الماضين امتلكوا الحقيقة الكلية، وأدركوها بسائر أبعادها، ولا وظيفة لنا إلا اقتفاء أثرهم في كل شيء. ولم يتنبَّه هؤلاء إلى أنَّ ذلك تبسيطٌ في تصوُّرِ حركة الزمان، ومحاولة ساذجة لاختزال عصور عديدة من التطوُّر والتغيير في الحياةِ، فإنه كُلَّما تنامى واتَّسع نطاقُ التغيير الاجتماعي والتحولات المختلفة في الحياة، لا بدَّ أن يتَّسع نطاقُ الاجتهاد، ويتمدَّد أفقيًّا وعموديًّا تبعًا للمكاسب الجديدة في المعرفة، وتراكم متغيرات الواقع وتنوُّعها.

كلُّ هذه الأقوال لم تمنع أتباعَ الذين منعوا التقليد في أصول الدين من أن يقلِّدوا مؤسِّسي ومجتهدي الفِرق الأوائل في العقائد، لا يختلف في ذلك مَن تبنَّى مقولاتهم الكلاميَّة من المؤلِّفين، أو غيرهم من أتباع فِرقهم من المسلمين.

تعطَّل الاجتهادُ الكلاميُّ كما تَعَطَّل الاجتهادُ الفقهيُّ، وأُغلق بابُ الاجتهاد الكلامي كما أُغلق بابُ الاجتهاد الفقهي، وأضحى تقليدُ مؤسِّسي الفِرَق شائعًا، لا يختلف فيه الكلُّ، على الرغم من الادعاء ﺑ «منع التقليد في جميع أصول العقائد». وهذه ليست الحالةَ الوحيدةَ التي يستفيضُ فيها منعُ الأوائل عن التقليد، لكن مَن جاء بعدهم يقلدونهم فيعملون بعكسِ ما نصَّ عليه المتقدِّمون، من منع تقليدهم فيما اجتهدوا فيه من مقولاتٍ اعتقاديَّة، بنحوٍ صارت هذه المقولاتُ تترسَّخُ وتَتَصلَّب بمرور الزَّمان، وارتقت إلى منزلةِ النُّصوص المقدَّسة المغلقة الأبدية.

ومَن يكتبُ في عِلْمِ الكلام إنَّما ينشغل بشرح المقولات الاعتقاديَّة، وشرح شرحها، وشرح شرح شرحها، والتعليق وكتابة الهوامش عليها، بغيةَ بيان مقاصد مؤلِّفيها وشُرَّاحها، دون أن يقول شيئًا جديدًا، حتى تراكم ركامٌ هائلٌ من الكتابات التي تقول كلَّ شيء لكنَّها لا تقول شيئًا له صلة مباشرة بإعادة بناء علم الكلام، وصياغة رؤية اعتقاديَّة تخرج باجتهاد كلامي لا يكرِّر ما قاله مؤسِّسو الفِرق الكلامية ومجتهدوها.

(٤) ركود علم الكلام

علم الكلام كغيره من العلوم الإسلامية، تأثَّر في نشأته ومساره بمُجْمَل الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإثنية في المجتمعات الإسلامية، فعندما يكون المجتمع في حالة نهوض، يتشكَّل الإطارُ الاجتماعيُّ الملائم لنموِّ المعرفة وتطور العلوم، فينمو ويتكامل التفكيرُ الكلاميُّ كغيره من أبعادِ التفكير الدينيِّ الأخرى في الإسلام. أمَّا إذا دخل المجتمعُ مسارَ الانحطاط، فسوف يتداعى الإطارُ الاجتماعيُّ لتطور المعرفة، وتسود حالةٌ من تشتُّت العقل وتشوُّه رؤاه، تدخل معها معارفُ الدين وعلومُه مسارَ الانحطاط، تبعًا لما عليه أحوالُ المجتمع، فيتراجع دورُ العقل، ويضمحلُّ التفكيرُ الكلاميُّ، وتغدو المحاولاتُ الجديدةُ استئنافًا للمحاولات الماضية، لا تتخطَّى أسئلتها ومسائلها، بل وبيانها وأساليب تعبيرها.

وكما أشرنا فقد اصطبغ علمُ الكلام بألوان الثقافات المحلية في المجتمعات الإسلامية، ولم يتحرَّر من تأثيرات الموروث في أي مجتمع مسلم ظهر فيه. وبوسعنا ملاحظة ذلك بوضوح في أنماط الاعتقاد والشعائر والطقوس التي يتلوَّن بها التديُّنُ في كلِّ مجتمعٍ مسلم.

إنَّ مراجعةً سريعةً لمسارِ التفكيرِ الكلاميِّ عبر أربعة عشر قرنًا تدعونا للوقوف عند مراحلَ عديدة مرَّ بها هذا التفكير؛ ففي المرحلة الأولى التي امتدَّت من القرن الهجري الأوَّل إلى القرن الثالث، كان التفكير الكلامي يتحرَّك في مداراتِ ما يستجدُّ من أسئلة واستفهامات، ويسعى لصياغةِ مقولاتٍ وبناء قواعد ومرتكزات أساسيَّة للاعتقاد. منذ القرن الثالث انتهج المتكلِّمون نهجًا آخر، أطلَّ من خلاله التفكيرُ الكلاميُّ على أفق جديد، ودُشِّنت فيه مرحلة تالية، اشتغل فيها المتكلمون ببناء علم الكلام، وتأسيس مدارسه واتجاهاته المعروفة في التاريخ الإسلامي. وتمخَّضت جهود علماء الكلام عن تبلور المدارس المعروفة في الكلام: المعتزلة والشيعة والأشاعرة والماتريدية.

ازدهار التفكير الكلامي لم يمضِ في دربٍ لاحبٍ من دون أن يغرق في متاهات من الجدل والسجالات التي أسهم فيها مناوئو علم الكلام بدورٍ تحريضي واسع، مضافًا إلى تسييس المواقف الكلامية، وانتقال المناظرات من دُور العلم، وهي المساجد وقتئذٍ، إلى قصور السلاطين، مثلما جرى في مسألة خلْق القرآن وغيرها، حتى انتهى ذلك إلى تصفية مدرسة الاعتزال والقضاء عليها قضاءً تامًّا بقرار سياسي في فترةٍ لاحقةٍ.

غير أنَّ هذا المخاض الذي عصف بالتَّفكير الكلامي، واستنزف الطاقةَ العقليةَ لعلماء الكلام سنواتٍ طويلة، لم يعطِّل هذا التفكير، بل استطاع التفكيرُ الكلاميُّ أن يجتاز هذا المخاض بمعاناةٍ بالغةٍ وجهود شاقَّة، وظهرت في القرون: الرابع والخامس والسادس والسابع أهمُّ المدوَّنات الكلامية، مثل «المغني» للقاضي عبد الجبار الهمداني (٤١٥ﻫ)، وأخيرًا «التجريد» لنصير الدين الطوسي (٦٧٢ﻫ)، الذي كان خاتمة للمرحلة الثانية في مسار التفكير الكلامي، ولعِب دورًا بارزًا في تأسيس الفلسفة الكلاميَّة التي تبدو كأنَّها خالية من شوائب وزيادات وإضافات المتكلمين المصطرعة مع تيار الفلسفة، حتى امتدَّ تأثيرُه إلى زمانٍ يتاخم عصرنا الحديث. صار كتاب «التجريد» منذ الربع الأخير للقرن السابع نموذجًا يترسَّمه المؤلفون في علم الكلام، ومن أمثال ذلك الكتبُ المعتمدة فيه عند الباحثين، ككتاب «المواقف» لعضد الدين الإيجي (٧٥٦ﻫ)، وكتاب «المقاصد» لسعد الدين التفتازاني (٧٩٢ﻫ)، وكتاب «المجلي» لابن أبي جمهور الأحسائي (٩٠١ﻫ).٤٢

لم يشهد التأليف في علم الكلام أعمالًا إبداعية بعد ظهور كتاب نصير الدين الطوسي «التجريد»، وظلَّت سائر المؤلفات المتأخرة عنه إمَّا شروحًا له ولمتون الكلام السابقة، وإما مدوَّنات ومتونًا جديدة، غير أنَّها ما فتئت تُكرِّر آراء وفهم تلك المدوَّنات ومسائلها.

كان ذلك إيذانًا بانتقالِ علم الكلام إلى مرحلةٍ ثالثة، بدأتْ بركودِ التَّفكير الكلامي واستئنافه للتراث الكلاسيكي، وتواصلت هذه المرحلة مدةً طويلة تناهز خمسة قرون، من القرن التاسع إلى نهاية الثالث عشر الهجري، تعطَّل فيها التفكيرُ الكلاميُّ، ولم تتجاوز اهتماماتُ أغلب الدارسين ألفاظَ التراث الكلامي ومُعمَّياته وألغازه، فأسرفوا في تدوين الهوامش والشروح التوضيحية، وبهرتهم براعةُ القدماء في اختزال الأفكار وتكثيف النصوص، فشاع لديهم شعورٌ موهوم بأن الآراء التي تحكيها تلك النصوص هي آراء أبديَّة، يجب تعميمُها لكلِّ زمان، ولا يجوز أبدًا التفكير خارج مداليلها وفحواها، واستحالت مهمة المهتمين بهذا العلم إلى حراسة متونه، والمبالغة في إطرائها وتهويل مضمونها، ومقاومة أية محاولة للتفكير خارج مداراتها.

في نهاية القرن الثالث عشر الهجري ظهرت إرهاصات انبعاث، مع تبلور أسئلة جديدة تؤشِّر إلى استفاقة التفكير الكلامي، فدبَّت الحياةُ من جديد في علم الكلام، وحاول أن يغادر حالةَ السِّكون التي لبث فيها عدَّة قرون، واستهلَّ جماعةٌ من الأعلام المهتمين بدراسة هذا العلم عهدًا جديدًا، بدأ بإحياء علم الكلام واستدعائه إلى العصر الحديث، ثم تلا ذلك العمل على إعادة بنائه وتجديده.

(٥) عجزُ علم الكلام القديم

قبل أن نمضي في الحديث إلى المرحلة الجديدة التي يسعى جماعةٌ من المفكِّرين أن ينتقل إليها التفكيرُ الكلامي، نودُّ أن نلمِّح بإيجاز إلى شيء من مناشئ قصور علم الكلام التقليدي عن الوفاء بالمتطلبات العقيدية للمسلم اليوم.

ينبغي التذكير بما وردتِ الإشارة إليه في فقرة سابقة، وهو أن علم الكلام كغيره من العلوم الإسلامية تحكَّمتْ في مسارِه وتحديد وجهته مجموعة المكونات والعناصر التي واكبتْ نشأته، وتلك العناصر كما هو معلوم تنتمي إلى عصرٍ مضى وانقضى، ولم يبقَ منه سوى ما حفظه لنا التاريخ، ولم يكن التفكيرُ الكلامي الذي وُلد في ذلك العصر إلا مرآةً لحياة المجتمعات الإسلامية، ارتسمت فيها الأسئلة والتحديات والهموم المتداولة في تلك المجتمعات آنذاك، وتم لاحقًا تعميم الآراء والمقولات الكلامية التي تبلورت في فضاء تلك الأسئلة والتحديات. وهي مقولات وآراء لا تعرف أسئلةَ حياتنا الراهنة، الأسئلة المنبثقة من تحديات وهموم نمط حياةٍ يختلف عن نمط الحياة الذي انبثقت عنه التحديات الماضية اختلافًا تامًّا.

في ضوء ذلك ينبغي أن نشير إلى أبرز أبعاد العجز في التراث الكلامي، بغيةَ اكتشاف مبرِّرات تجاوز الكلام التقليدي، وإعادة بناء التفكير الكلامي في إطار أسئلة العصر ومعارفه. ويمكننا إيجاز ذلك فيما يلي:

(٥-١) المنطق الأرسطي بوصفه مرجعيةً للتفكير الكلامي

على الرغم من رفض المتكلمين للفلسفة وطرائق تفكير الفلاسفة، لكنهم قبلوا المنطقَ الأرسطي، وتعاملوا معه كمسلَّمات أساسية في البحث الكلامي، واستندوا إليه في بناء علم الكلام، وركَّزوا على القياس الأرسطي وأشكاله، كقوالب أساسية في الاستدلال على المقولات والمسائل والآراء، وصار هذا المنطقُ هو المرجعية في التفكير الكلامي، بحيث أضحى الخصمان يحاول كلٌّ منهما نقضَ حجَّة الآخر، بالاستناد إلى أساليب المحاججة الأرسطية ذاتها، فقاد ذلك إلى خطأ المتكلمين في استعمال هذا المنطق، «فجعلوا حكم الحدود الحقيقية وأجزائها مضطردًا في المفاهيم الاعتبارية، واستعملوا البرهانَ في القضايا الاعتباريَّة التي لا مجرى فيها إلَّا القياس الجدلي، فتراهم يتكلمون في الموضوعات الكلامية كالحُسن والقبح، والثواب والعقاب، والحبط والفضل، في أجناسها وفصولها وحدودها، وأين هي من الحد؟! ويستدلون في المسائل الأصولية والمسائل الكلامية من فروع الدين بالضرورة والامتناع. وذلك من استخدام الحقائق في الأمور الاعتبارية، ويبرهنون في أمورٍ ترجع إلى الواجب تعالى، بأنه يجب عليه كذا، ويقبح منه كذا، فيحكمون الاعتبارات على الحقائق، ويعدونه برهانًا، وليس هو بحسب الحقيقة إلا من القياس الشعري.»٤٣
لبث المتكلمُ، منذ ترجمة المنطق الأرسطي حتى اليوم، يرى مقولات هذا المنطق ومناهجه في الاستدلال حقائقَ نهائية، يرقى بعضها إلى البديهيات التي لا نقاش فيها. ومع تجدُّد الحياة وتوالُد مشكلات معرفية وعملية متنوِّعة كلَّ يوم في وعي الناس، إلا أن بنية علم الكلام ظلَّت تترسَّخ باستمرار في إطار ذلك المنطق وأدواته وأساليبه، وكأنَّ كلَّ شيء يتغير ما خلا آراء أرسطو ومنطقه، فإنها أفكار لا تقبل المراجعة والتقويم. اتسعتْ مآسي الإنسان المسلم، واضطربت حياتُه، وتشوَّه وعيُه، واهتزتْ منظومةُ معارفه، فلم يَعُد المنطق الأرسطي يفي بمقتضيات حياته المتجدِّدة، خاصة إذا لاحظنا أن هذا المنطق لا يهتمُّ بالواقع، بل ترتبط الحقيقةُ لديه بتناسق المعطيات والمفاهيم فيما بينها في الذهن، وإن كانت لا علاقة لها بالواقع، بل ولو كانت مخالفةً للواقع.٤٤

يجادل البعضُ في أنَّ أرسطو لم يفعل شيئًا سوى الكشف عن قوانين التفكير البشري الأبدية، التي هي مشتركة بين كلِّ البشر بقطع النظر عن الزمان والمكان ونمط التمدُّن والثقافة والمعرفة والعلوم السائدة. هذه الحُجَّة يكذِّبها تاريخ المنطق ذاته، فإن الخبراء بتاريخ هذا الفن يعرفون أن للمنطق تاريخًا، مثلما لأيِّ فن ومعرفة وعلم تاريخ، بل إنَّ للعقل تاريخًا كما تقول الإبستمولوجيا. مضافًا إلى التهافت الذي يقع فيه المناطقةُ، وتكذيب بعضهم للبعض في جدالهم.

ومما يدلِّل على ذلك، هو أنَّ المنطق الأرسطي انسحب بالتدريج من الحياة العقلية، بل انهزم وتقوَّضت سطوتُه على الفلسفة الحديثة، وعجز عن مواكبة طرائق التفكير للعقل الحديث منذ الأورغانون الجديد لفرنسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦م)، وكوجيتو رينيه ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠م)، مرورًا بتنوير إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م)، والمنطق الديالكتيكي لهيجل (١٧٧٠–١٨٣١م)، ومَن تلاهم من الفلاسفة والمنطقيِّين أمس واليوم.

كشفت الفلسفة الحديثة والمعاصرة أن الذهن ليس آلةَ تصوير صماء صامتة، يعكس الواقع كما هو، كأنَّه آلة تصوير فوتوغرافية كما يرى أنصارُ المنطق الأرسطي، بل يعالج الذهن المعطيات التي يتلقَّاها فيصوغها في سياق: مقولاته، ورؤيته للعالم، وأحكامه السابقة، وأفق انتظاره. كذلك أوضحت أنَّ العقلَ هو معقولاته، ومعقولات كلِّ عقل ليست خارجَ تاريخِه وتاريخها، أي إنَّ عقل أمس معقولاتُه هي مقولاتُه ومفاهيمه وأحكامه ورؤيته للعالم أمس، وهي لا تتطابق بالضرورة مع عقلنا اليوم. العقل هو معقولاته حيثما صارت ماهيتها وتشكَّلت صورتها؛ هي تصوغه طبقًا لها، وهو يصوغها طبقًا له.

المفارقة أن منطق أرسطو المستعار من الغرب (اليوناني) في الماضي، والذي ما زلنا نتعامل معه بوصفه مسلَّمات نهائية، نجد أشدَّ المدافعين عنه في عالم الإسلام هم أنفسهم أشدُّ المناهضين للمنطق والفلسفة والمعارف الغربية الحديثة والمعاصرة. وكأن معطيات العقل التي استوردها الآباء من أوروبا أمس يُحرَّم على الأبناء التعاطي معها في صيغتها المتطورة اليوم بعد مرور أكثر من ٢٣٠٠ عام على تأليف أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م) لمنطقه في أثينا.

لو صحَّ توصيفُ كلِّ توظيف للمعرفة المنتَجة في الغرب بأنه ضرب من التغريب، فذلك يعني أن كلَّ الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم من مفكري الإسلام أمس، يمكننا نعتهم بالتغريبيين؛ ذلك أن منطق أرسطو اليوناني وفلسفة أفلاطون، والأفلاطونية الجديدة، أفاد منها ووظَّف مقولاتها الكلُّ، كلٌّ على وفق متطلبات ونوع كتاباته، أي ستندرج تحت هذا التوصيف مؤلَّفات الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وملا صدرا، وحتى الغزالي المناهض للفلسفة والفلاسفة، وغيرهم.

(٥-٢) النزعة التجريدية أو الفصام بين النظر والعمل

تقدَّمت الإشارةُ إلى أنَّ موضوعات الكلام الأولى تبلورتْ في سياق أسئلة انبثقتْ إثر الصِّراعات السياسية في العهد الإسلامي الأول، والمحيط الاجتماعي الذي وُلدَت فيه، غيرَ أنَّ إسرافَ المتكلِّمين في استعارة المنطق الأرسطي، وتوظيف مفاهيمه في صياغة علم الكلام فيما بعد، والاعتماد عليه كليًّا بوصفه مرجعيةً للتفكير الكلامي، نجم عنه تشبُّع التفكير الكلامي بمنهج هذا المنطق، فانحرفت وجهتُه، وراح يفتِّش عن عوالمَ ذهنية مجرَّدة، بعيدة عن الواقع ووقائعه ومشكلاته، فتغلَّبت بالتدريج النزعة التجريدية الذهنية على المنحى الواقعي في التفكير الكلامي، وتحوَّل علمُ الكلام إلى مشاغل عقلية تتوغَّل في صناعة آراء ومفاهيم ومقولات لا علاقة لها بحركة حياة الإنسان وشجونها ومواجعها، وأمستْ مهمةُ المتكلم التفتيش في عوالمَ أخرى غير الحياة البشرية وعالمها، والتدقيق في مسائل افتراضية ترتكز على محاججات منطقية، من دون أن تكون لها صلة بالواقع.

لم يقتصر أثرُ العقلية التجريدية على التفكير الكلامي فحسب، بل امتدَّ أثرُها إلى المشاغل الأخرى للعقل الإسلامي، فتجلَّى بوضوح في العلوم الإسلامية، وما بِرح الفكرُ الإسلاميُّ ينوء بعبء هذه النزعة إلى اليوم، فلا يكاد يتخطَّى عوالم الذهن، ويطلُّ على الواقع، ويواكب التجربة البشرية وما تزخر به من آلام ومواجع وآمال ومطامح وآفاق.

إن غياب الممارسة العملية عن صياغة الأفكار، وعدم معاينة حضور الأفكار وأصداء تطبيقها في الحياة، أفضى إلى أن تغدوَ أعظم وظيفة للتفكير الديني عبارة عن تمارينَ ذهنيَّةٍ صرفة، تبدأ بالذهن لتنتهي بالذهن. وهي حالة لم تقتصر على حقل معين، بل تفشَّت في علم أصول الفقه، وانتقلت إلى غيره من معارف الشريعة الأخرى.

كان إيغالُ العقل الإسلامي في التجريد منشأً لتغليب النظر على العمل، وعدِّ العلوم النظرية أرفعَ من المعارف العملية، والحطِّ من شأن الطبيعيات بالمقارنة مع علوم الحكمة الأخرى، وعلى الرغم من أن الطبيعيات أدرجت في أقسام الحكمة النظرية، لكن الاهتمام بها ودراستها كان مدعاةً لأسف بعض الفلاسفة، فمثلًا كان ملا صدرا الشيرازي يعيب على الشيخ الرئيس ابن سينا استنزاف جهوده في مثل هذه العلوم، حتى إنه أرجع ما ظهر له من أخطاء ابن سينا في الإلهيات إلى صرف وقته في هذه العلوم الثانوية غير الضرورية. يكتب ملا صدرا: «فهذه وأمثالها من الزلات والقصورات، إنما نشأت من الذهول عن حقيقة الوجود، وأحكام الهويات الوجودية، وصرف الوقت في علوم غير ضرورية، كاللغة، ودقائق الحساب، وفن أرثماطيقي، وموسيقى، وتفاصيل المعالجات في الطب، وذكر الأدوية المفردة، والمَعَاجِين، وأحوال الدرياقات، والسموم، والمراهم، والمسهلات، ومعالجة القروح والجراحات، وغير ذلك من العلوم الجزوية التي خلق الله لكلٍّ منها أهلًا، وليس للرجل الإلهي أن يخوض في غمرتها.»٤٥

إنَّ هذا اللون من التفكير ظلَّ إحدى القِيَم السائدة لدينا قرونًا طويلة، ولا تزال آثارُه تطبع حياتَنا الفكرية؛ لذلك نبجِّل عادةً مَن يتأمل على الذي يهتمُّ بالتجربة والممارسة والعمل، من دون أن نتدبَّر عطاء كلِّ واحد منهما، ودوره في تطوُّر العلم والمعرفة، وتنمية حياة الإنسان، وحلِّ مشكلاته، وجعل حياته أسهل.

(٥-٣) تراجع دور العقل وشيوع التقليد

على الرغم من أنَّ كُلًّا من الكلام والفلسفة يُصنَّف في خانة المعارف العقلية، إلا أن هناك فرقًا شاسعًا في نوع المنهج الذي يتعاطاه المتكلِّم، والمنهج الذي يتعاطاه الفيلسوف. الفيلسوف ينتهج البرهانَ الذي يرتكز على مسائلَ مسلَّمة تستند إلى مقدِّمات يقينية، ويرى أن الحقيقة هي ما ينتهي إليه البرهان، بمعنى أنه ليس هناك حقائق قبْلية خارج إطار البحث والبرهان. في حين يتعاطى المتكلِّم منهجًا مختلفًا يبتني على الإيمان بمسلَّماتٍ قبْلية، ثم يستدلُّ عليها بمقدِّمات قد تكون يقينية، وقد تكون غيرَ ذلك؛ لذلك يصبح القياسُ المستعملُ في البحث الكلامي جدليًّا، أي يعتمد مقدِّمات تتألف من المشهورات والمسلَّمات، بغيةَ إثبات ما هو مسلَّم الثبوت قبْلًا، أما القياس المستعمَل في البحث الفلسفي فيكون قياسًا برهانيًّا يعتمد مقدِّمات يقينية، بغيةَ إثبات الحقيقة التي هي ما ينتهي إليها الدليلُ، لا ما هو مسلَّم به قبل الدليل.

إنَّ انتهاجَ هذا المنهج في الأبحاث الكلامية أدَّى إلى تراجع دَور العقل بالتدريج في علم الكلام، وترسُّخ نزعة تقليد أعلام المتكلمين لدى كلِّ فرقة، على الرغم من أن المعروف هو عدم جواز التقليد في أصول الدين، غير أنَّ التمسُّك بآراء الأشعري في أصول الدين مثلًا شاع بنحوٍ أضحى فيه الدفاعُ عنها دفاعًا عن الدين، والتفكير خارجها تفكيرًا خارج الدين، فجنَّدت طائفةٌ واسعة من دارسي الكلام نفسَها لمحاربة أية محاولة للخروج على فكر الأشعري، ووصَموا مثل هذه المحاولات بالابتداع والمروق من الدين. وهكذا الحال مع غير الأشعري من أعلام المتكلمين الذين أضحى تقليدُهم واقتفاء أثرهم أحدَ الأعراف المتوارثة في القرون المتأخرة، وأفضى ذلك إلى تعطيل العقل الكلامي، وتوقُّف الإبداعُ والاجتهادُ في علم الكلام.

هذه هي النتيجة الطبيعية للمنهج الذي اختطَّه التفكيرُ الكلاميُّ، والذي قاد إلى تقليد متكلِّمي ومؤسِّسي الفِرق. وكما عبَّر العلامة محمد حسين الطباطبائي: «سيكون الاعتقاد بأصل المسألة مُتَّكِئًا على تقليد رجال المذهب، أما البحث والاستدلال الكلامي فلا يعدو في نطاق هذا المنهج أن يكون نظريًّا من ضروب اللهو، أو الرياضة الفكريَّة، أو اللعب. وسِرُّ ذلك أنَّ المنهج البحثي الذي يقوم على افتراض ثبات المدلول أولًا، ثم يبحث ثانيًا عن الدليل الذي يدلُّ على المدلول المفترض، لا يستحق أن يوصف بأكثر من كونه لهوًا، أو رياضة فكرية، أو تلاعبًا بالحقائق. إنَّ اعتماد هذا المنهج في البحوث العلمية يشبه من الزاوية العرفية، أن يتخذ المرء قرارًا إزاء عمل معين، ثم يبادر بعد ذلك لطلب المشورة.»٤٦ ثم يمضي الطباطبائي في بيان أثر منهج المتكلِّمين في استبعاد العقل واستبداله بإجماع أتباع المذهب، فيقول: «كان فيما ترتَّب من آثار هذا المنهج، أن اتَّخذ أتباعُ كلِّ مذهب من المذاهب الإسلامية، إجماعَ أهل ذلك المذهب على ما هو متداول بينهم من عقائد، حجَّة تكون رديفة للكتاب والسنَّة. وبهذا الترتيب سقطتْ حجيةُ العقل — حتى لو كان بديهيًّا — كليًّا عن الاستقلال، ولم تَعُدْ له قدرةٌ على الفعل والحركة.»٤٧
أمَّا النتائجُ السلبيَّة التي خلَّفها منهجُ المتكلِّمين في الحياة الإسلامية، فتتلخَّص باشتمال المؤلفات الكلامية على «نظريات وأقوال يأسف العقل السليم لوجودها»،٤٨ مضافًا إلى «افتراض أهل كل مذهب إجماعات ومسلَّمات مذهبهم من الضرورات، وعليه عدُّوا كلَّ مَن لم يذعن من المسلمين لنظرياتهم ومسلَّماتهم منكرًا للضروري ومن المبتدعين.»٤٩ وبذلك دخل علم الكلام مرحلة السبات، وحيل بين العقل المسلم وبين ممارسة النقد، وانطفأ النقاش الحرُّ الذي عرفته الحياة العقلية للمسلمين، في عصرِ ازدهار التفكير الكلامي في الإسلام. ولا يزال تفكيرُنا الديني ينوء بتركة تلك المرحلة، ولم تكفَّ سلطة السلف عن قمعِ المبادرات الجادة من أجل إعادة بناء التفكير الديني في الإسلام، والتعرُّف على العناصر المعطِّلة للعقل عند المسلمين.

(٥-٤) إهمال الإنسان ونسيان كرامته وحرياته وحقوقه

لم يدرج المتكلِّمون في مؤلفاتهم مبحثًا خاصًّا بالإنسان، يتناول تأصيلَ موقف نظري يحدِّد موقع الإنسان في سُلَّم المخلوقات، أي منزلة الإنسان وقيمته بالنسبة إلى غيره، والهدف من وجوده، وحقوقه وكرامته وحرياته، وطبيعة وظيفته، وأنماط حياته، وثقافته، وعيشه، وعلاقتها بما يتشكَّل لديه من رؤية للعالم، وما يرتبط بذلك من مسائل.

على أنَّ أهميَّة هذه القضية تتنامى مع تطوُّر الحياة الاجتماعية، وشيوع ألوان القهر والاستبداد، وامتهان الإنسان، وإهدار كرامته، وتدجينه على المفاهيم والقيم الرديئة، فما لم نتوفَّر على صياغة رؤية للعالم تفصح لنا عن مكانة الإنسان، وتحدِّد نوع علاقته بالدين، وتؤكد أن الدين جاء لتكريم الإنسان وهدايته وإسعاده، تغدو دعواتنا لتحرير الإنسان مجرَّد شعاراتٍ لا مضمون لها.٥٠
ينفرد الإنسان في تكريمِه وتشريفه وتفضيله على ما سواه من الخلق كما جاء في الآية: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.٥١ التكريمُ هنا تكريمٌ عامٌّ يتسع لكلِّ بني آدم، وهو مقامٌ وجودي، أي إنَّه مكوِّنٌ ذاتيٌّ للكينونة الوجودية للإنسان مطلقًا، بغضِّ النظر عن جنسه ولونه ومعتقده، وغيرِ ذلك مما هو خارج كينونته الوجودية. وهو غيرُ التكريم العرضي المُضاف الذي هو استحقاقٌ يناله الإنسانُ بعملهِ وسعيهِ للكمال، وجهودهِ الخيِّرة من أجل إسعاد الناس، والإسهام في إثراء القيم وترسيخها، وخلقِ عالَم أجمل للعيش. تكريمُ الإنسان أحد تعبيرات اختصاص الإنسان بمقام وجودي لا يرقى إليه مخلوقٌ غيره. وهو يعكس أسمى تعبير عن محبة الله للإنسان، ومنحه مكانةً استثنائية بتكريمه، وجعله خليفته الوحيد في الأرض، واختصاصه بأنه المستأمَن على كلِّ مخلوقاته وتسخيرها له.
الكرامةُ قيمةٌ أصيلةٌ، إنها أحدُ مقوِّمات الكينونة الوجودية لإنسانيَّة الإنسان، حضورُها يعني حضورَ إنسانيَّة الإنسان، وغيابُها يعني غيابَ إنسانيَّة الإنسان. الكرامةُ وعيُ الإنسان بالحرية واستحضارها في القول والفعل. كلُّ رسالةٍ تحرريةٍ في التاريخ البشري تستمدُّ قيمتَها ومشروعيتَها من قدرتها على استرداد الكرامة البشرية المهدورة. المعيارُ الكلِّي لاختبار إنسانيَّة أيِّ دينٍ هو كيفيةُ تعاطيه وإعلائه للكرامة الإنسانية، والموقعُ الذي تحتلُّه الكرامةُ في منظومة القيم لديه. إنسانيَّةُ الدين تلخِّصها نظرتُه للكرامة بوصفها القيمةَ التي تستحضر كلَّ قيمةٍ إنسانيَّة، قيمة تتسع لكلِّ الحقوق الأساسية، وتضع الحريةَ غايةً تتطلَّع لاستردادها على الدوام كاملةً غيرَ منقوصة، والخلاصُ في تعاليمها وشريعتها من أيَّة محاولةٍ لتسويغ العبودية المعلنة أو المقنعة، والإكراهية أو الطوعية، والحرصُ على حماية الخصوصية الشخصية من الانتهاك، أو تجاهل الفردية، أو إهدارها تحت ذريعة المصالح العليا للأمة والجماعة.٥٢
احترامُ الكرامة الإنسانية مقصدُ مقاصدِ الدين وأسمى أهدافه، وذلك يفرض أن يُعاد تفسير كلِّ نصٍّ ديني بما لا ينقض الكرامةَ أو ينتقص منها. كلُّ نصٍ يتعارض مع هذا المقصد الكلي، وينتهي إلى التمييز بين البشر، سواء كان آيةً أو رواية، مثل تشريع الرقِّ وما يماثله يُطرح وينتهي العمل بأحكامه؛ لأنه ينتمي للتاريخ ويعكس ظروفَ عصر البعثة.٥٣

يستغرق علمُ الكلام التقليدي في البحث عن الله وصفاته وكلِّ ما يتصل به، في سياقٍ مستقلٍّ عن الإنسان. وعندما يُذكر الإنسان، فإن الحديث عنه لا يشير إلى ما يتصل بطبيعة حياته، وحاجته لمعنًى لهذه الحياة، وقلق هذه الحياة وشجونها وشئونها وأوجاعها ومتطلباتها، وآفاقها وأحلامها وآمالها. وتوق الشخص البشري الأبدي لمعنًى لحياته، ولحريته، وحاجته المزمنة لتأمين حقوقه، واحترام كرامته، والتعاطي معه بوصفه المخلوقَ الأسمى والأشرف والأكرم في العالَم، بل لا يكفُّ التراث الكلامي عن تجاهل قيمة الإنسان، ونسيان ذاتيته وكينونته الوجودية الاستثنائية بين المخلوقات.

(٥-٥) تفريغ علم الكلام من مضمونه الاجتماعي

أراد القرآن الكريم للتوحيد أن يكون صبغةً لحياة الإنسان صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً،٥٤ بمعنى أن حياةَ الإنسان ومواقفه وسلوكه اليومي ينبغي أن تصطبغ وتتلوَّن بالتوحيد، حتى تصير «كلُّ قضية علمية كانت أو عملية هي التوحيد، قد تلبَس بلباسها وتظهر في زيِّها، وتنزل في منزلها، فبالتحليل ترجع كلُّ مسألة وقضية إلى التوحيد، وبالتركيب يصيران شيئًا واحدًا، لا مجال للتجزئة ولا للتفريق بينهما.»٥٥
كانت العقيدةُ التي يستلهمها المسلم من القرآن طاقةً حيَّة تنتج الإيمان، وتوجِّه السلوك؛ لأنَّها تجعل الإيمانَ معطًى عمليًّا فاعلًا، مفعمًا بالحيوية، عبر دمج النظر بالعمل، وعدم الفصل بين الإيمان بوصفه حالةً وجدانية، والسلوك الإنساني الذي يتجلَّى من خلاله المحتوى السلوكي العملي للتوحيد. غير أنَّ علم الكلام الذي تمَّت صياغتُه لاحقًا، بالاستناد إلى أدوات المنطق الأرسطي، لم يقتصر على تعميق البُعْدِ النظريِّ في العقيدة فحسب، بل تجاوزه إلى تفريغ التوحيد من مضمونه العملي، والتعامل مع المعتقدات على أنها مفاهيمُ ذهنية مجرَّدة لا صلة لها بالواقع.٥٦ ولم تَعُدْ مظاهرُ السلوك المختلفة تندفع بتلقائية ووضوح من مرجعيَّتها العقيدية، وغدت حقائقُ العقيدةِ أقربَ إلى التصديقات الذهنية، غايتها في ذاتها، وضَعُف الشعور بغاياتها السلوكية. وأنَّ قيمَ التوحيد الروحية والأخلاقية التي كانت تطبع حياةَ المسلمين أصبحتْ بعد ذلك منحسرةً في أذهان المسلمين إلى بُعدٍ واحدٍ تجريدي، هو وحدانية الله، وتقلَّص أثرُها في مناحي الحياة العملية.٥٧

ومع أنَّ المُسْلِم أصرَّ على التمسك بالإيمان بالله وبوحدانيته، غير أنَّ هذا الإيمان فقدَ إشعاعه الأخلاقي، وتجرَّد من فاعلياته الروحية، فلم يتجسَّد في نزوعٍ للتضامن والمؤاخاة والسلام في حياة المجتمع المسلم، بناءً على أنَّ عقيدة التوحيد توحِّد التضامُنَ المجتمعيَّ، بل أمسى المسلمون جماعاتٍ وفِرقًا متصارعةً، وأُهدرت طاقاتُهم في نزاعات أفضتْ إلى مواقفِ عدائيَّة، وأقحمتْهم في حروبٍ أهلية، كلما خَبَتْ شبَّ أوارُها، وما زلنا نكتوي بحرائقها حتى اليوم. وهكذا يضمحلُّ دور العقيدة، فلا تَحُولُ دون اقتتال الأمة الواحدة، ولا تكون منبعًا للتضامن والمؤاخاة والسلام حين تفرغ من محتواها العملي.

(٥-٦) التربية على الخوف وترسيخ العبودية الطوعية

صورةُ الله في علم الكلام القديم لا تقترن بالعدل، إنها صورة السيد المخيف المرعب، المتمرِّس في البطش والتنكيل والعقاب والعذاب. الإنسان عبدٌ مسترقٌّ خانع ذليل حقير. صورة الله في علم الكلام الأشعري لا تقترن بالعدل، لله أن يفعل بخلقه ما يشاء، بلا أن يوصف أيُّ فعل يصدر من الله مهما كان بالقُبح أو الحُسن، فله أن يعذِّب العادل، ويثيب الظالم.٥٨

نشأ عن هذا التصوُّر لله لاهوتُ الاسترقاق، وهذا اللاهوت بطبيعته ينسج شِباكًا معقَّدة لمختلف أنماط العبوديات التي تُكبِّل حياةَ الإنسان، عبر إنتاج العبودية الطوعية، والاستبداد العمودي في مختلف مستويات الاجتماع البشري، من العائلة والعشيرة، إلى المدرسة، والحزب والدولة.

يصادر لاهوتُ الاسترقاق حريات وحقوق الشخص البشري الاجتماعية. ويكرِّس أشكال العبوديات، ويحجب لاهوت الرحمة والمحبة. يجعل لاهوت الاسترقاق الإنسان عبدًا ذليلًا خانعًا مسحوقًا، وينسى أن هذا النمط من العلاقة بالله يفضي إلى نفورٍ من الله مختبئ، وإن كان مُحتجبًا بتديُّن زائف. ذلك أنَّ الإنسان بطبيعته ينفر ممن يستعبده، ويمقت مَن ينتهك كرامته، ويكره من يمتهنه.

ما لم يتمَّ تصحيح نمط صلة الإنسان بربه فسيبقى المرء مشلولًا معاقًا. ينبغي تحويلُ الصلة بالله من صراع مسكون بالخوف والرعب والقلق، إلى علاقةٍ تنبض بالتراحم والمحبة والوصال. علاقةٍ تتكلَّم لغة المحبة، وتبتهج بالوصال مع معشوق جميل.

إنَّ الصلة بالله لا تأخذ نِصابها في تشييد حياة روحية أخلاقية أصيلة إلا إذا كانت حرَّة، أي ينبغي أن تكون صلةً مبنية على حرية واختيار، لا إكراه وامتهان. وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ.٥٩

عامَّة الناس في الغالب، إن تأملنا نمطَ إيمانهم نجدهم يعيشون وهم يتذوقون شيئًا من الوجد والوصال بالحق؛ ذلك أنَّ إيمانهم فطري بريء عفوي حميمي، يتحسَّسون الله أقرب إليهم من حبل الوريد، ليس بوصفه أميرَهم وسلطانهم، الذي يبطش بهم، بل بوصفه صديقًا جميلًا غيورًا كريمًا رحيمًا رقيقًا شفيقًا ملهمًا.

لعلَّ البعض يحسب أن ذلك هو ما تشير إليه آيات القرآن، بتوصيفها الإنسان بأنه عبد لله، لكن الصحيح أن الآيات لا تتحدث عن هذه الصورة المستبدَّة لله، ولا تشير إلى مكانةٍ وضيعة مُهينة للإنسان. تكشف لنا آثارُ العرفاء، بوصفها منجمًا للاستنارة الروحية، عن صلةٍ بالله تتأسَّس على المحبة، وتتنكَّر لأية صلة استرقاق بمعناه المقتبَس من علاقات العبودية بين السيِّد وعبده في مجتمعات الاستعباد. يقول النفري في المواقف والمخاطبات: «فقِفْ بين يَدَيَّ لأنِّي ربك، ولا تَقِفْ بين يَدَيَّ لأنَّك عبدي …»

لم يخلق الله الإنسانَ لأنَّه بحاجة إلى مَن يستعبده، خلق الله الإنسانَ ليعهد إليه أعظمَ وظيفة يعهدها لمخلوق، وهي خلافته في الأرض: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.٦٠ لا يمكن أن يكونَ خليفةُ الله عبدًا ذليلًا مُهانًا، واللهُ يعلنُ عن تكريمه له وشرف مكانته: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ.٦١
هناك فرقٌ بين عَبيدٍ وعِبَادٍ في لغة القرآن، فعَبِيد مشتقَّة من: عُبُوديَّة. ومرادفاتها: اسْتِعْبادٌ، رِقٌّ. ومقابلها: حُرِّيَّة، عِتْق، إِعْتاقٌ، تَحَرُّرٌ، تَسريحٌ. أما عِبَادٌ فمشتقة من: عِبادَة. ومرادفاتها: اعْتِكَاف، تَعَبُّد، نُسْك. ومقابلها: إِبَاحيَّةٌ، تَهَتُّكٌ، خَلَاعَةٌ، دَعَارَةٌ، عُهْرٌ، فُجُورٌ، فِسْقٌ، مُجونٌ.٦٢ القرآن يشير إلى «عِبَاد» بمعنى أحرار، لا بمعنى أقنان، عبيد، مستلَبين، مُجبَرين، مُكرَهين. فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ.٦٣ الحُرُّ هو المقابل للعَبْد. عَبِيد جمع عَبْد. الجاحِد هو المقابل للعَابِد. عِبَاد جمع عَابِد. القرآن يستعمل كلمةَ عِبَادٍ أكثرَ، فيما يستعمل أقلَّ من ذلك بكثير كلمةَ عَبِيد،٦٤ وحيثما وَرَدَتْ كلمةُ عَبْيد في بعض الآيات فهي تقترن بنفي الله الظُّلم عن نفسه: وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ،٦٥وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ،٦٦وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.٦٧
كأن القرآنُ ينبِّه إلى السياقات الاجتماعية لمدلول العبودية، وتشبُّعه تاريخيًّا بمعاني الاسترقاق، وكيف أنها تحطُّ المكانة الإنسانية للكائن البشري، وتستبيح شخصيته، وتهين كرامته، بنحوٍ يصير فيه هذا الكائنُ بمثابة متاعٍ يمتلكه شخصٌ آخر، لا حياة خاصة، ولا كينونة وجودية مستقلة له، وليس له من أمره شيئًا. فأراد الله أن ينفي عن ذاته تعالى هذا النمط من إهدار الكرامة الإنسانية، وإهانة الإنسان.٦٨
التربية على الخوف ترسِّخ أرضيةً عميقة لنشأة وتفشِّي الاستبداد والعبودية الطوعية، ويجد الخوفُ تعبيره الاجتماعي في: الخوف من الحرية، الخوف من الفردية، الخوف من التفكير العقلاني، الخوف من التفكير النقدي، الخوف من المعارف الحديثة، الخوف من الاختلاف، الخوف من الخطأ، الخوف من الاعتراف؛ ذلك أنَّ الاستبداد يبحث دائمًا عن الإجماع الشعبي ويخشى التمايُزات والمغايرة.٦٩

(٥-٧) ترسيخ اللاهوت الصراطي

يجادل المتكلِّم لإثبات حقانية مقولات فِرقته الاعتقادية، والتدليل على عدم حقانية ما سواها. تشكِّل هذه المقولات بمجموعها منظومةً اعتقاديَّةً واضحةَ الحدود، بنحوٍ يمكن الاستنادُ إليها بوصفها معيارًا للتعرُّف على كلِّ ما يقع في إطارها من مفاهيمَ وآراء، وما هو خارجها. تتألَّف هذه المنظومة من رؤيةٍ خاصة للعالم، وتصوُّرٍ مرسومٍ بعناية لصورة الله، ونمط علاقة الإنسان به، وكيفية عبادته والارتباط به، تنتظم في ضوئها مدوَّنة فقهية، ترسم كيفيةَ العبادات والأحكام، تتطابق فيها وجهةُ المدوَّنة الفقهية مع ما تؤشِّر إليه الرؤية الاعتقادية.

متكلِّمو كلِّ فِرقة يحتكرون صورةَ الله، بعد أن يرسموها في إطار مواقفهم ومقولاتهم الاعتقاديَّة، وآفاق انتظارهم. مع أنَّ وجودَ الله تعالى واحد أحد، لكن لا صورة واحدة له. الإنسان يرى الله على صورته. يحكي محيي الدين ابن عربي عن أبي طالب المكي أنه قال: «لا يرى مَن ليس كمثله شيء، إلا مَن ليس كمثله شيء.»٧٠

صورةُ الله هي أول ممارسة تأويلية مارسها البشر؛ إذ اشتقَّ أولُ البشر على صورتهم صورةً لله، ثم استمرَّ بنو آدم يصوِّرون اللهَ على صورهم المتنوِّعة، المنتزَعة من عوالمهم المتنوِّعة. بنو آدم لا صورة نهائية يصلون إليها؛ لذا فإن الله لا صورة نهائية له. اللاتناهي للصور هنا هو لا تناهي وعي بني آدم وتأويلهم.

تتجلَّى صورةُ الله لكلِّ شخص من خلال جِراحه. الفقير يرى اللهَ في رغيف خبزه، المريض يرى اللهَ في شفائه، السجين يرى اللهَ في حرِّيته، المعذَّب يرى اللهَ في نجاته، الغريق يرى اللهَ في إنقاذه، المُهان يرى اللهَ في استرداد كرامته، وهكذا.

عادةً ما يُحكَم بالمروق والهلاك على كلِّ مَن يتبنَّى معتقدًا خارج الصور الراسخة لله في لاهوت الفِرق الكلامية التي ورِثها المرء من أبويه بالولادة، فيما يكون الخلاص والنجاة في الآخرة هو المآل الطبيعي لأتباع هذه الرؤية الاعتقادية في نظرهم، فما لم يكن المرء معتقدًا بها لا يكون مشمولًا بالنجاة ومستحقًّا للخلاص.

حاول المتكلمون التوكُّؤ على المدوَّنة الحديثيَّة لإضفاء المشروعيَّة وتسويغ موقفهم الاعتقادي بتداول مروياتٍ نبوية تتحدث عن الفِرقة الناجية والفِرق الهالكة، و«افتراق الأمة إلى بضع وسبعين فِرقة».٧١ الفِرقة الناجية دائمًا واحدة، كلُّ فِرقة تحتكر النجاة لنفسها، فيما تعتقد بهلاك كلِّ مَن سواها. الخلاص دائمًا نصيبُ فِرقة واحدة، لا تتعدَّد. والعذاب نصيبُ عشرات الفِرَق الأخرى غيرها. وبمرور الزمن ترسَّخ لاهوتٌ صراطيٌّ في التفكير الكلامي لا يقبل في دائرة الإيمان والنجاة إلا الفِرقة الناجية، فيما يُخرج كلَّ فرقة أخرى غيرها من هذه الدائرة، ولا يمنحها حقَّ النجاة، مهما كانت اعتقاداتها واجتهاداتها.

أفضى اللاهوتُ الصراطيُّ إلى تقويض مرتكَزات العيش معًا في فضاء التنوُّع والاختلاف؛ لأنَّه في ضوء منطقِه يتعذَّر بناءُ أسسٍ حقيقية للتعايش في مجتمع ودولة حديثة واحدة، تقوم أسسُ المواطنة فيها على مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات كافة، بغضِّ النظر عن معتقَداتهم وآرائهم وأعراقهم.

في ضوء اللاهوت الصراطي يجري تصنيفُ أفراد المجتمع الواحد عموديًّا، بتراتبية اعتقادية، تجعل مَن يعتنقون المعتقَد الرسمي في المرتبة الأولى، فيما يُصنَّف مَن سواهم في مراتبَ دنيا، لا ترقى إلى مقاماتهم السامية. وتبعًا لذلك أيضًا تتحدَّد لائحةُ حريات وحقوق ومسئوليات كلِّ فرد في المجتمع، لا على أساس مواطنته وانتمائه للوطن، بل على أساس ولائه ومعتقَده. تجسَّد ذلك بنظام المِلَل في العصر العثماني، وشيوع أحكام أهل الذِّمة وغير المسلمين، كما تحكيه لنا تجربتها التاريخية عبْر العصور، من تمييز وتراتبية دينية اجتماعية سياسية.

حتى لو تمكَّن البعضُ من تسويغ هذه التراتبية الدينية قبل عدة قرون في دول الخلافة والسلطنة، لكن كيف يتمكَّن اليوم من بناء دولة حديثة في سياق هذه المدوَّنة التي تصنِّف المواطنين على وفق معتقَداتهم. أدبياتُ الجماعات الدينية في البلاد العربية تتحدَّث عن الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان بأسلوبٍ تلفيقيٍّ ذرائعيٍّ؛ فهي من جهةٍ تدعو لدولة مدنيَّة حديثة، وتصوِّت على دستورٍ لهذه الدولة يكفل المساواة بين المواطنين، ويمنحهم حريةَ الاعتقاد والتعبير عن معتقَداتهم، لكنها من جهةٍ أخرى تتبنَّى أحكام المدوَّنة الكلامية والفقهية، ومقولاتها التي تتمحور حول واحدية اعتقادية، بلا أن تتدبَّر التناشُز الصريح بين المبادئ الدستورية للدولة الحديثة، وما تتشبَّث به من مقولات لاهوتية صراطية، بل تتهم أية محاولة لاستئناف النظر في المدوَّنة الكلامية والفقهية بالعداء لتراث الأمة ودينها وقيمها.

(٥-٨) إهدار الرُّوح والقلب والعاطفة

القرآن الكريم كتابٌ لا يكفُّ عن مخاطبة العاطفة مثلما يخاطب العقل، فهو يثير مشاعر الإنسان، ويستعمل في إيقاظ القلب والروح أساليبَ مؤثِّرة، فتارةً يتوسل بقصص النبوات السابقة، ويشرح طبائع مجتمعاتها، وأخرى يضرب الأمثال، وثالثة يوجِّه الخطاب ببيان يتكثَّف فيه الترغيب والوعد بالفوز والنجاة، ورابعة يعلن فيها الإنذار والإشارة إلى مصائر ومآلات الأشرار وعاقبتهم … إلخ. يُوصِل القرآنُ الدنيا بالآخرة، بلغةٍ موحية تخاطب أحاسيس وأشواق الإنسان، مشدِّدًا على تأبيد الحياة، بوصف الدنيا والآخرة كلها حياة، على الرغم من تعدُّد أطوارها الوجودية. وهو في كلِّ ذلك لا يكفُّ عن وسم الإنسان بوصفه خليفةً مكرمًا لله.

لم ترِد آياتُ القرآن بأسلوبٍ رياضي أو منطقي أو فلسفي أو علمي، ولم يتحدَّث القرآن وكأنه كتاب في العلم أو الفلسفة أو المنطق أو الرياضيات. هو كتابٌ لا يخلو من محاججات ونقاشات متنوِّعة، لكنها تنتظم في سياقِ آياته، بنحوٍ يتعاطى مع انفعالات وأحاسيس النفس البشرية ببيانٍ يتغلغل في أعماق روح وقلب المؤمن، ويحرص على إيقاظه وتجديد صلته بالله على الدوام.

لا يهتمُّ علمُ الكلام القديم بالروح والقلب والعاطفة، ولا ينفكُّ عن إغراق عقل المسلم بجدالاتٍ ومحاججات ذهنية تجريدية، لا تستند إلى بديهيات، بل تحيل غالبًا إلى فرضياتٍ ومسلَّمات غير مبرهنة. كذلك لا تتعاطى مقولاتُ الكلام مع الإنسان بوصفه خليفةَ الله المكرَّم، ولا تفصح عن تجلِّي الله فيه بما لم يتجلَّ في سواه من مخلوقاته.

لذلك انبثق التصوفُ ردَّ فعلٍ على ما طغى في علم الكلام من نسيانه للذات الفردية، ولمقام الإنسان في العالَم،٧٢ وتغييب أبرز حوافز سلوكه العميقة، وتجاهل ما هو الأهمُّ في أعماقه؛ فقد حاول المتصوفة إنقاذَ مشاعر المسلم وإيقاظ قلبه عبْر استلهام الأفق الروحي والعاطفي في آيات القرآن، وكشفِ ما تشي به من قيمٍ روحية وروافدَ عاطفية ومفاهيمَ أخلاقية. وإن كان كثيرٌ من المتصوفة تورَّطوا بمتاهاتٍ غرائبية لاحقًا، فانفصلوا عن العالَم، وانكفئوا داخل عالمهم الذي خلقوه لأنفسهم، وتفشَّت في التصوُّف سلسلةُ تقاليد وطقوس وبروتوكولات، تلاشت معها فرديةُ المتصوِّف، وانقلبت وظيفةُ التصوُّف من تحقيق الذات إلى استعبادها؛ إذ بدلًا من أن يكون مسعًى ينشد استرداد الذات المهدورة، انتهى إلى عبودية وصنمية لأقطاب وشيوخ التصوُّف. الصنمية مهما كانت تهدر الذات وتهشِّمها، إذ يتحوَّل معها الإنسان شبحًا، تُمحى في شخصيته كلُّ ملامحه الخاصة. الصنمية عبودية مهما كان نمط الصنم، حتى في الحب، حين يصبح المحبوب صنمًا يغدو المحب عبدًا، وحين «يتعامل المُريدون مع شيخ الطريقة بوصفه صنمًا، تنطفئ الشعلة في أرواحهم، ويمسون رقيقًا لا يمتلكون شيئًا من ذاتهم، فيما يمتلك مشايخُهم كلَّ شيء في حياتهم. هنا تنقلب وظيفة التصوُّف، بوصفها امتلاكًا للذات عبْر وصالها بالحق تعالى، والاستغناء عن كلِّ شيء سواه إلى عبودية مُهينة ممسوخة لمشايخ الطرق الصوفية. الله يدعونا إلى التوحيد، وألا نتخذ أحدًا من دون الله إلهًا، ولن نعبد سواه أبدًا.»٧٣

إلا أن التصوُّف المعرفي والعرفان النظري أنجز مدوَّنة غزيرة غنية، يمكن الإفادة من شيء من مفاهيمها في إعادة الاعتبار للذات البشرية المستلَبة في علم الكلام القديم، وإعادة تفسير مكانة الإنسان في العالَم، وبيان مسارات القلب والعقل، وكيف أنهما مساران لا يتطابقان بالضرورة، وأنَّ المنطق العقلي الكلامي أهمل الكشف عن الجذور النفسية للاعتقاد، وأخفق في التعرُّف على: أن الإيمان حالةٌ تُعاش لا فكرةٌ تُناقَش، وأن الإيمان ضربٌ من التَّوق والانجذاب والعشق، وكلُّ تَوقٍ وانجذاب وعشق حماسة. وأن التشبُّث بأدلة المتكلمين لا يوقد القلب، ولا يكشف عمَّا تختزنه العواطف، ولا يتوغل في أشواق الروح.

إن آيات القرآن الكريم تهتمُّ كثيرًا بإيقاظ العاطفة، وتشدِّد على نداء القلب، وصوت الضمير، وإرواء ظمأ الروح، وكأنها تؤشِّر إلى أن منطق العواطف والمشاعر والروح والقلب لا يتطابق ومنطق العقل دائمًا. العقل يشرح لنا ما تبوح به ويبرهن على ذلك، فيخبرنا عن انقباض وانبساط العاطفة والقلب والروح. وتلك مهمة نهض بها التصوُّف المعرفي الذي «هو تصوُّف عقلي، خرج على الأنساق المغلقة الحرفية لقراءة النصوص الدينية، وأنتج قراءة لها خارج إطار مناهج وأدوات القراءة والفهم والنظر والتفكير الموروثة التي اخترعها الشافعي والأشعري وغيرهما، ثم ترسَّخت بمرور الزمن حتى ارتقت إلى مرتبة المقدَّس، واحتلت مكانةَ النصوص المقدَّسة التي تقرؤها هذه الأدوات. لقد منح هذا النمط من التصوُّف المسلمَ أفقًا رحبًا للتأويل، وإنتاج قراءات تتوالد منها على الدوام قراءاتٌ حيَّة في فضاءٍ يُلهم الحياةَ الروحية الأخلاقية للمسلم. كذلك استطاع هذا النمط من التصوُّف الخلاصَ من توثين الحروف وإهدار المقاصد، والتمسُّك بالأشكال ونسيان المضامين، والغفلة عن الحالات والغرق في الصفات. كما أعاد التصوف المعرفي الاعتبارَ للذات المستلَبة، والعالَم الجواني المطموس للشخص البشري، وعبَّد دروب القلب في رحلته الأبدية نحو الحق، وانشغل بإرواء ظمأ الروح للمقدس.»٧٤

(٥-٩) افتقار علم الكلام للمضمون الأخلاقي

مباحث علم الكلام القديم تنتمي إلى ما يُصطلح عليه بالحكمة النظرية لا الحكمة العملية، والأخلاق تنتمي للحكمة العملية. علم الكلام عند المعتزلة والشيعة يقول بالحُسْنِ والقُبْحِ الذاتيين، أي إن الفعل يتصف بالحُسن والقبح في ذاته، بغض النظر عن الأمر والنهي الإلهي. كما يحلِّل طبيعةَ الإلزام بالتكليف، وهل هو عقلي أم شرعي، أم هو كلٌّ منهما. لكن مع ذلك لا نعثر في المباحث القديمة لعلم الكلام لدى المعتزلة والشيعة على ما يعالج ماهيةَ القيم الأخلاقية، أو ما يتحدَّث عن تحقُّقها ووظائفها، أو ما يشرح مصادر الإلزام في الفعل والترك الأخلاقيين، وطبيعة العلاقة بين الوحي والأخلاق. كذلك لا نعثر في علم الكلام على مباحث تدرُس الفضيلة والسعادة وكيفياتها، ومنابع إلهامها في حياة الإنسان. هذا في علم الكلام الذي يتبنَّى القول بالحُسْن والقُبْح الذاتيين للأفعال.٧٥

أما في علم الكلام الأشعري فالمسألة تأخذ صيغةً أخرى؛ إذ ينفي علم الكلام الأشعري القولَ بالقبح والحُسن الذاتيين، ويشدِّد على أن الحُسن هو ما حسَّنه الأمر الإلهي، والقبيح هو ما قبَّحه النهي الإلهي. وهذا يعني ألا عدل ولا ظلم مستقلًّا عن الشرع؛ أي لا معنى لحكم العقل بقبح عقاب المطيع وثواب العاصي، ولا معنى للعدل الإلهي.

كما يفشل العقلُ كما يرى الأشعري في اكتشاف الحُسن والقبح، فإنه تبعًا لذلك لا يمكنه إدراك الأخلاق والفضيلة والسعادة ووسائل بلوغها. من هنا لم يَعُد للأخلاق من حيث هي أخلاق أيُّ مضمون خارج إطار الوحي في علم الكلام الأشعري.

لو لم تكن هناك نواميسُ كونية للعدل والأخلاق، وكان كلُّ حُسن يحيل إلى ما يحسِّنه الوحي، وكلُّ قبيح يحيل إلى ما يقبِّحه الوحي، فسيفضي ذلك إلى تفريغ الأخلاق من مضمونها، وغياب أيِّ فِعل أو سلوك أخلاقي في المجتمعات البشرية التي لم تعرف الأديانُ الوحيانية، مع أنه حتى تلك المجتمعات التي لا تعرف الأديان الكتابية، ولم تصل إليها تشريعاتُ الوحي، فإن مسيرتها التاريخية تبرهن على أن هناك حضورًا للكلمات والأفعال الأخلاقية، وأنها تدرك أنَّ للكلمات والأفعال الأخلاقية الأصيلة حياةً في ضمير العالَم؛ ذلك أنها حقيقة أبدية، فلو تكلَّمت بكلمة طيبة، أو فعلت فعلًا حسنًا، فسيكون لكلٍّ منها صدًى بحسبه في العالَم، الكلمة ذاتها تقال عن صاحبها بأبهى صورها، الفعل ذاته يعود لصاحبه بأجمل مما فعل، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.

كما تبرهن الحياةُ الاجتماعية للإنسان أن الحياة الأخلاقية هي سلسلة مواقف، تصنع بمجموعها طورًا وجوديًّا خاصًّا للكائن البشري، إنها الشرط الذي يتحقَّق به نمط الحضور الحقيقي لهذا الكائن في العالَم، والذي يعبِّر فيها الدِّين عن حضوره في المجتمع، ويطرد كلَّ تمثيل زائف له، يرتدي جلبابًا باسم الدين، لكلِّ الذي يكشف سلوكه عن انتهاك الفضيلة وإفساد قيم الدين الأخلاقية. إن اضمحلال الحياة الأخلاقية، يفضي إلى اضمحلال وجود الإنسان، وهشاشة كينونته، والذي ينتهي إلى غيابه عن العالَم.

يحدث أحيانًا خلطٌ بين القيم الروحية والقيم الأخلاقية، مع أن كلًّا منهما يحقِّق كمالًا وجوديًّا للإنسان بحسبه. هناك علاقة عضوية وتأثير متبادل بينهما. القيم الروحية: تشبع الفقر الوجودي للإنسان، وتروي الظمأ للمقدَّس، وتحقِّق كمالًا وجوديًّا للإنسان يمتلئ بها ثقةً بذاته وقوة، وتمنح إرادته توترًا وصلابة وعزيمة. والقيم الأخلاقية: تنظِّم الحياة الاجتماعية، وتجعل العلاقات بالآخر سليمة، تنشد خيرَ البشرية، لكنها لا تثري بالضرورة الفقرَ الأبدي للكينونة البشرية، ولا تروي الظمأ المزمن للمقدَّس، والذي لا يحقِّق له الامتلاء والارتواء والسكينة والطمأنينة سوى القيم الروحية.

الإيمانُ بوصفه قيمةً روحية يمتلك تأثيرًا سحريًّا، تتحول معه كيمياء الأرواح، فتتسامى وتحلِّق في عوالمَ ملكوتية. الحبُّ بوصفه قيمةً روحية، مضافًا إلى أنه يسهم بمنح حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا بالغير كثيرًا من الدفء والسلام والتراحم، يهبنا ما لا تهبنا إياه القيمُ الأخلاقية السلوكية، كالصدق وغيره. إذ للحبِّ كيمياء خاصة تتبدَّل معها مادة القلوب، فيصير جوهرها نفيسًا.

التكامل الوجودي لا تنجزه القيمُ الأخلاقية وحدَها. وهو ما تكشف عنه مواقفنا حيال مواجع الحياة وجروحها ونكباتها، فمهما يكن موقفنا وضميرنا أخلاقيًّا، ومهما كنا صادقين ننشد الفضيلة، لكن لو فوجئنا بنكبةٍ فإنها تستنزفنا، وربما نتهشم بها، لو لم نمتلك رصيدًا روحيًّا يمنحنا طاقةً وجودية تمكِّننا من عبور تلك النكبة. فقط أولئك الروحانيون، المتيَّمون بحبِّ الله والإنسان والعالَم، هم مَن يعبرون نكبات الحياة بلا انكسارات وانهيارات، وبلا ضياع وتيه.٧٦

(٥-١٠) الخلط بين النصِّ المقدَّس وتفسيراته

حدَث خلطٌ بالتدريج بين النصِّ الأول المؤسِّس والنصِّ الثاني الشارح، وأعني بالنصِّ الأول القرآن الكريم، وما هو ثابت من السُّنة الشريفة على اختلافاتٍ في حدودها الزمنية واستمرارها بعد وفاة رسول الله بين السنة والشيعة، ووسائل ثبوت صدورها لدى المُحدِّثين والأصوليين والفقهاء. وأعني بالنصِّ الثاني قراءاته وتفسيراته وشروحه، التي تكوَّنت في سياق تجارب المجتمعات الإسلامية عبْر التاريخ في مختلف مجالات الحياة، بحيث ارتقت مكانة بعض هذه القراءات والتفسيرات والشروح إلى مكانة النصِّ المقدَّس، ثم حجبته وأضحت في مراحلَ لاحقة بديلًا عنه، حتى لو سعى البعض للعودة إلى النصِّ الأول فعادة لا يصل إليه إلا من خلال النص الثانوي الشارح. عندما تمرُّ قراءة النصِّ من خلالِ ما تراكم عليه من قراءات، فإنها تغدو أسيرةَ العوامل المختلفة المنتِجة لتلك القراءات عبر العصور؛ ذلك أن قراءة كلِّ نصٍّ أسيرة السياقات، وليست هناك أية قراءة منعتقة منها، أعني السياقات الأعمَّ من: المؤلف، المتلقي، كيفية التلقي، الأفق التاريخي، الزمان، المكان، السلطة، اﻹكراهات، المصالح، المسبقات.

كان المتكلِّمون من أغزر علماء الإسلام اجتهادًا، وأشدِّهم تنوُّعًا في الآراء، واختلافًا في صياغة المفاهيم الاعتقادية وتفسيرها. ففي كل فرقة تتعدَّد الاجتهادات غالبًا بتعدُّد أعلامها، ولا تقتصر صياغة المقولات على مؤسِّس أو مؤسِّسي الفِرق والمدارس الكلامية، بل تتواصل فاعلية إنتاج الرأي والرأي المضاد لدى الأتباع، ما دامت المدرسة حيةً، تجدِّد نفسها عبر دينامية فعَّالة. لكن هذه الدينامية تتوقف، ويُغلق باب الاجتهاد الكلامي، وقراءة النصوص في ضوء الأفق التاريخي لعصر القراءة، في عصور التقليد، والاستغراق في التلقي والتلقين، فيغرق الدارسون بالهوامش والتفسيرات والشروح وشروح الشروح، ويتعاملون مع نصوص مؤسِّسي المقولات تعامُلًا لا تاريخيًّا، يقفز على السياقات التي أنتجتها، وكأنها نصوص نهائية، وظيفتنا حيالها الفهم والتفسير، وحتى التفسير لا يعدو إلا أن يكون تفسيرًا مبسَّطًا، وليس تأويلًا يخترق طبقات التراث ويتوغَّل في نسيجه المركب، ليكتشف الملابسات والعوامل الظاهرة والمستترة المولِّدة للمقولات والمواقف والآراء الكلامية، ويفكِّك أنماط التبريرات الدينية وكيفية تشكُّلها ورسوخها وتقديسها عبر التاريخ، إلى الحدِّ الذي يتعاطى فيه أتباع كلِّ مدرسة معها وكأنها نصوص نهائية.

ينبغي دراسة التراث برُمَّته بوصفه فهمًا ومنجزًا بشريًّا، خاضعًا لمختلف مشروطيات العصر الذي أنتجه وثقافته ولغته، وكلِّ ما يتَّصل بذلك من متغيِّرات سياسية اقتصادية اجتماعية دينية … إلخ، بمعنى دراسة التراث في سياقه الزماني والمكاني والثقافي، ونزع القدسية عنه؛ لأنه تراث أنتجه بشرٌ، وليس سوى اجتهادات خاصة بزمانها ومحيطها، والحذر من تأبيده لكلِّ زمان، وإخراجه من تاريخه وظروف إنتاجه الخاصة في محيطه. وبدون ذلك ليس بوسعنا الدفاع عن الدين اليوم، وإيقاظ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي فيه، وعقد مصالحة بين المسلم والآخر من جهة، وبين المسلم والجغرافيا والتاريخ من جهة أخرى، بل سنلبث نكرِّر عبارات مجاملات زئبقية، لا تبوح إلا بمزيد من الالتباس والتلبيس.

(٥-١١) تجاهلُ ظروف وعوامل ولادة وتشكُّل الفِرق

لا يهتمُّ علمُ الكلام القديم بظروف نشأة الفِرق، وكيفية تشكُّلها، وبواعث القول بآراء ومقولات مؤسِّسيها ومجتهديها، ولا يدرُس العواملَ المتنوِّعة لولادتها، خاصةً العاملَ السياسيَّ الأشدَّ أثرًا في نشأة الفِرق وتوجيه مسارها والتحكُّم بمصائرها. الصراعات العنيفة على الخلافة كانت على الدوام بحاجة إلى ما يمنحها مشروعيةً إلهية تفرض على المسلمين التمسُّك بها، والخضوع للخليفة مهما كان سلوكه الشخصي وأفعاله، والقبول بطريقة إدارته للخلافة، وأسلوب ممارسته للسلطة، وإن كان مستبدًّا ظالمًا جائرًا عنيفًا.

احتضن الخلفاءُ الأمويون والعباسيون جماعةً من المتكلمين وفرضوا اجتهاداتهم على الأمة، ونبذوا اجتهاداتِ جماعة أخرى مخالفة لهم، وأسكتوا أية رؤية تجتهد بتفكير مختلف، مهما كانت عقلانيتها، ومنطقية طرائق استدلالها، وما يمكن أن تنتجه من قناعاتٍ موضوعية. يكشف عن ذلك المصير المرير الذي أسكت صوتَ الاعتزال إلى الأبد، على الرغم من أن المعتزلة كانوا يمثِّلون صوتَ العقل في التفكير الكلامي. سبق الحديث عن الاعتقاد القادري، وكيف فرض الخليفةُ على كلِّ المسلمين المعتقَد الذي تبنَّاه ونبذ غيره. فقد شدَّد هذا الميثاق على تكفير المعتزلة وكلِّ مَن لا يعتقد بمضمونه كما في قوله: «مَن قال إنه [القرآن] مخلوقٌ على حال من الأحوال فهو كافر، حلالُ الدم بعد الاستتابة منه.»

(٥-١٢) الاعتماد على الطبيعيات الكلاسيكية

من المشكلات التي مُني بها علم الكلام القديم اعتمادُه على الطبيعيات الكلاسيكية، والاستناد إلى معطياتها على أنها حقائقُ نهائية، في حين نسخت العلوم الطبيعية الحديثة معظمَ الآراء والفرضيات التي قامت عليها الطبيعيات بالأمس، وبرهنت الاكتشافاتُ الحديثةُ لقوانين الطبيعة على أنَّ كثيرًا من فرضيات تلك الطبيعيات وأفكارها محضُ أوهام.

مضافًا إلى أن الكلام التقليديَّ اقتصرت أبحاثُه على مجموعةِ مسائل، ولبث الخلف يكرِّر هذه المسائل ذاتها، ويفكِّر في إطارها، حتى تكوَّنت لها حدودٌ صارمة لم يجرؤ أحدٌ على تخطِّيها، وصار مدلول العقيدة هو تلك المسائل خاصة، واتخذ المتكلِّمون نسقًا محدَّدًا في ترتيبها، وظلَّ هذا النسق هو هو في المدوَّنات الكلامية، لا يتغيَّر أو يتطور في القرون الأخيرة. وعلى الرغم من تغيُّر وتطوُّر العلوم والمعارف والحياة البشرية، لكن علم الكلام أخفق في استيعاب مباحث أساسية أخرى، ولبث ينوء بتكرار مقولاته ومقدِّماتها ذاتها.

١  للتعرُّف على ظروف نشأة علم الكلام وتطوُّره، راجع: جوزيف فان إس، مقالة تحت عنوان: «نشأة علم الكلام عند المسلمين»، نشرها عام ١٩٧٥م، وترجمها عباس سليمان، وهي مطبوعة كملحق في كتاب: «مدخل لدراسة الفلسفة الإسلامية»، تأليف: محمد علي أبو ريان وعباس سليمان، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، ص٢٣٢. يعتقد فان إس أن أول المصنَّفات في علم الكلام ظهرت حوالي سنة ٧٠ للهجرة؛ إذ ألَّف الحسن بن محمد بن الحنفية (المتوفى ١٠٠ﻫ) رسالةً في الرد على القدرية. انظر: الحسن بن محمد بن الحنفية: «رسالة في الرد على القدرية»، تحقيق وترجمة وتعليق: جوزيف فان إس، بيروت، المطبعة الكاثوليكية، ١٩٧٧م، ص١١–٣٧. وحوالي سنة ٧٥ﻫ كُتبت رسالة أخرى، هي عبارة عن جوابٍ لأسئلة عن القول بالقدَر والجبر، تقدَّم بها الحجاج (والي عبد الملك بن مروان على واسط) للحسن البصري (٢١–١١٠ﻫ)، فكتب الأخير رسالةً في جوابه، نشرها للمرة الأولى المستشرق ريتر ١٩٣٣م، ثم نشرها محمد عمارة (دراسة وتحقيق)، رسائل العدل والتوحيد، دار الهلال، القاهرة، ١٩٧١م، ج١، ص٨٣–٩٣.
وانظر أيضًا: ألبير نصري نادر، «فلسفة المعتزلة فلاسفة الإسلام الأسبقين»، دار نشر الثقافة، ١٩٥٠م، ص٤. هنري كوربن، «تاريخ الفلسفة الإسلامية»، ترجمة: نصير مروة وحسن القبيسي، عويدات، بيروت، ص١٧٠. وراجع التحليلات التي قام بها: لويس غرديه وجورج قنواتي في كتابهما: «فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية»، نقله إلى العربية: صبحي الصالح وفريد جبر، دار العلم للملايين – بيروت، ١٩٦٧م، ج١، ص٥٤.
٢  ماكس مايرهوف: «من الإسكندرية إلى بغداد»، ترجمه: عبد الرحمن بدوي ونشره في كتاب: «التراث اليوناني في الحضارة الإسلاميَّة»، مكتبة النهضة المصرية، ١٩٤٠م، ص٣٧. وأيضًا: عصام الدين محمد علي: «بواكير الثقافة الإسلامية وحركة النقل والترجمة من أواخر القرن الأول وحتى منتصف القرن الرابع الهجري»، نشر منشأة المعارف بالإسكندرية، ١٩٨٦م، ص٤٠. وانظر أيضًا: محمد علي أبو ريان وعباس سليمان، مصدر سابق، ص٩١.
٣  دي بور. ت. ج: «تاريخ الفلسفة في الإسلام»، نقله إلى العربية: محمد عبد الهادي أبو ريدة، بيروت، دار النهضة العربية، ص٨٤ (الهامش).
٤  حول مفهوم وتسمية «علم الكلام» راجع: المصدر السابق، ص٨٤ (الهامش). التهانوي، محمد علي: «كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم»، تحقيق: علي دحروج، بيروت، مكتبة لبنان، ناشرون. ط١، ١٩٩٦م، ج١، ص٢٩. الأحمد نكري، عبد النبي بن عبد الرسول: «جامع العلوم في اصطلاحات الفنون» الملقَّب بدستور العلماء، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط٢، ١٩٧٥م، ج٣، ص١٣٣. التفتازاني، سعد الدين: «شرح العقائد النسفية»، طبعة حجرية، ١٣٠٤ﻫ، ص٥–٧. صبحي، أحمد محمود: «في علم الكلام: دراسة فلسفية لآراء الفِرق الإسلامية في أصول الدين»، القاهرة، دار النهضة العربية، ط٥، ١٩٨٥م، ج١: ص١٨–٢٠.
٥  التفتازاني: «شرح العقائد النسفية»، مصدر سابق، ص٥–٧.
٦  عيش، عثمان عبد المنعم: «توضيح رسالة التوحيد»، أبو ظبي، مجلس حكماء المسلمين، الطبعة الثانية ٢٠٢٠م، ص٢٥.
٧  الإيجي: «المواقف»، استانبول، ١٢٨٦ﻫ، ص١٦.
٨  عبد الرازق، مصطفى: «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ص٢٦٧.
٩  المصدر نفسه، ص٢٦٨.
١٠  بدوي، عبد الرحمن: «مذاهب الإسلاميين»، بيروت، دار العلم للملايين، ط١٩٨٣م، ٣، ج١، ص٣٢.
١١  الكليني، محمد بن يعقوب: «الكافي»، ج١، ص٥٩–٦٠ (كتاب التوحيد). وانظر أيضًا: حسين مروة: «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية»، ج١، ق٢، ص٨٤٠–٨٤١.
١٢  الجاحظ، عمرو بن بحر: فصل من صدر كتابه في صناعة الكلام، في: «رسائل الجاحظ»، بتحقيق وشرح: عبد السلام هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي، ط١، ١٩٧٩م. وانظر أيضًا: «رسائل الجاحظ الكلامية»، تحقيق وتقديم: علي بو ملحم، بيروت، دار ومكتبة الهلال، ٢٠٠٢م.
١٣  أمين، أحمد: «ضحى الإسلام»، بيروت، دار الكتاب العربي، ج٣، ص١٠.
١٤  الشهرستاني: «المِلَل والنِّحَل»، ج١، ص٣٢.
١٥  التيمي الأصبهاني، قوَّام السنة إسماعيل بن محمد: «الحُجة في بيان المحجَّة وشرح عقيدة أهل السُّنة»، تحقيق: محمد بن ربيع المدخلي ومحمد أبو رحيم، ص٢٠٨، ج١، ١٤١١ﻫ/١٩٩٠م، دار الراية، الرياض.
١٦  السبكي، عبد الوهاب بن تقي الدين: «طبقات الشافعية الكبرى»، القاهرة، ١٩٠٩م، ج٣، ص١٢٦.
١٧  السيوطي، جلال الدين: «صون المنطق والكلام عن فنَّي المنطق والكلام»، ص٩٦.
١٨  الرازي، فخر الدين: «مناقب الإمام الشافعي»، مخطوطة الأزهر بالقاهرة، برقم خاص ٣٩٣٦ وعام ١٦١٧١، ص٦٥–٦٦.
١٩  كبرى زاده، طاش: «مفتاح السعادة»، طبعة حيدرآباد، ج٢، ص٢٦.
٢٠  السبكي: «طبقات الشافعية»، مصدر سابق، ج١، ص٢٤١.
٢١  المرتضى، أحمد بن يحيى: «طبقات المعتزلة»، تحقيق: سوسنة ديفلد-فلزر، بيروت، دار المنتظر، ط٢، ١٩٨٨م، ص١٢٤–١٢٥.
٢٢  كبرى زاده: «مفتاح السعادة»، مصدر سابق، ج٢، ص٢٦.
٢٣  الغزالي، أبو حامد: «قواعد العقائد»، ص٨٧.
٢٤  الجاحظ، عمرو بن بحر: فصل من صدر كتابه في صناعة الكلام، في: «رسائل الجاحظ»، بتحقيق وشرح: عبدالسلام هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي، ط١، ١٩٧٩م، ج٤، ص٢٤٨.
٢٥  المصدر السابق، ج٤، ص ٢٤٤.
٢٦  طالما تم توظيف مقولة «وحدة الأمة» كذريعة لإجهاض أي اجتهاد أو رأي جديد أو تأويل يخرج على المدوَّنة الرسمية التي تفرضها السلطات السياسية والروحية للاعتقاد.
٢٧  طرابيشي، جورج: «مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام»، بيروت، دار الساقي، ١٩٩٨م، ص٩٥.
٢٨  ابن الجوزي: «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم»، بيروت، دار صادر، ج٨، ص١٠٩–١١٠.
٢٩  لم يسجِّل تاريخُ الاسلام أن فيلسوفًا أو متصوفًا كان سببًا في سفك دماء الفقهاء أو غيرهم من علماء الإسلام، لكن مَن صُلب أو قُتل من الفلاسفة والمتصوفة مثل الحلاج وشيخ الإشراق السهروردي وغيرهما، كانوا ضحيةَ فتاوى فقهاء. وظلَّ بعضُ الفقهاء أقربَ للسلاطين والخلفاء من كل الفلاسفة والمتصوفة. وكان بعضهم يتنعَّمون في بلاطهم، فيما كان الفلاسفة والمتصوفة في الغالب فقراء؛ بل إن المتكلمين أيضًا كانوا يكابدون ظروفًا معاشية غيرَ مريحة في حياتهم. يشرح الجاحظ «إدبار الدنيا عن علم الكلام، وإقبالها إلى الفتيا والأحكام» بقوله: «إنه لو لم يكن في المتكلِّمين من الفضل إلا أنهم قد رأوا إدبارَ الدنيا عن عِلم الكلام، وإقبالَها إلى الفُتيا والأحكام، وإجماعَ الرعية والراعي على إغناء المفتي، وعِلم الفتوى فرعٌ؛ وإطباقَهم على حرمان المتكلم، وعلم الكلام أصلٌ، فلم يتركوا مع ذلك تكلُّفَه، وشحَّت نفوسُهم عن ذلك الحظ، مخافةَ إدخال الضيم على علم الأصل، وإشفاقًا من ألا تَسَعَ طبائعُهم اجتماعَ الأصل والفرع، فكان الفقر والقِلة آثَرَ عندهم مع إحكام الأصول، من الغِنى والكثرة، مع حفظ الفروع، فتركوا أن يكونوا قضاةً، وتركوا القضاةَ وتعديلهم، وتركوا أن يكونوا حكامًا، وقنِعوا بأن يُحكَم عليهم، مع معرفتهم بأن آلتهم أتمُّ، وآدابَهم أكمل، وألسنتَهم أحدُّ، ونظرهم أثقب، وحفظهم أحضر، وموضع حفظهم أحصن» (الجاحظ، فصل من صدر كتابه في صناعة الكلام، في: «رسائل الجاحظ»، ج٤، ص٢٤٩–٢٥٠).
٣٠  المصدر السابق، ج٨، ص١٠٩.
٣١  المصدر السابق، ج٧، ص٢٨٧.
٣٢  المصدر السابق، ج٩، ص١٢٤.
٣٣  عبد الباري الندوي: «الدين والعلوم العقلية»، ترجمة: واضح الندوي، ط١، ١٣٩٨ﻫ، ص٤٢ (سلسلة نحو وعي إسلامي).
٣٤  الماتريدي، أبو منصور: «كتاب التوحيد»، تحقيق: فتح الله خليف، القاهرة، دار الجامعات المصرية، ص٣.
٣٥  الهمذاني، القاضي عبد الجبار: «المغني في أبواب التوحيد والعدل: النظر والمعارف»، تحقيق: إبراهيم مدكور، ج١٢، ص١٢٣–١٢٦.
٣٦  الشوكاني: «إرشاد الفحول»، ص٢٦٥–٢٦٦.
٣٧  الحلي، العلامة: «الباب الحادي عشر»، تحقيق: مهدي محقق، مشهد، ١٤١٠ﻫ، ص٣–٤.
٣٨  الحلي، العلامة: «مبادئ الوصول إلى علم الأصول»، ص٢٤٦–٢٤٧.
٣٩  العاملي، جمال الدين: «حسن معالم الدين وملاذ المجتهدين»، تحقيق: عبد الحسين البقال، قم، ١٤١٤ﻫ، ص٥٣٢.
٤٠  عبده، محمد: «رسالة التوحيد»، مصر، دار المنار، الطبعة السابعة عشرة، ١٣٨٦ﻫ، ص٢٣.
٤١  برهامي، ياسر: «المنَّة شرح اعتقاد أهل السنة»، الإسكندرية، دار الخلفاء الراشدين؛ الإسكندرية، دار الفتح الإسلامي، الطبعة الثانية، ٢٠١٠م، ص٤١.
٤٢  الأعسم، عبد الأمير: «الفيلسوف نصير الدين الطوسي مؤسِّس المنهج الفلسفي في علم الكلام الإسلامي»، بيروت، دار الأندلس، ط٢، ١٩٨٠م، ص١٤٩–١٥٤.
٤٣  الطباطبائي، محمد حسين: «الميزان في تفسير القرآن»، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ١٩٩١م، ج٥، ص٢٨٦.
٤٤  النجار، عبد المجيد: «واقعية المنهج الكلامي ودورها في مواجهة التحديات الفلسفية المعاصرة»، مجلة المسلم المعاصر، ع٦٠ (شوال ١٤١١ﻫ/مايو ١٩٩١م)، ص١٦٢.
٤٥  الشيرازي، صدر الدين: «الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة»، قم، مكتبة المصطفوي، ١٣٦٨ش، ج٩، ص١٩٩.
٤٦  الطباطبائي، محمد حسين: «الشيعة»، نص الحوار مع المستشرق كوربان، ترجمة: خالد توفيق، قم، مؤسسة أُم القرى للتحقيق والنشر، ١٤١٦ﻫ، ص٨٢–٨٣.
٤٧  المصدر السابق، ص٨٢.
٤٨  المصدر السابق، ص٨٣.
٤٩  المصدر السابق، ص٨٣.
٥٠  الصدر، محمد باقر: «موجز في أصول الدين»، تحقيق: عبد الجبار الرفاعي، قم، مكتبة سعيد بن جبير، ١٤١٧ﻫ، ص٢١–٢٥ (مقدمة المحقِّق).
٥١  الإسراء: ٧٠.
٥٢  الرفاعي، عبد الجبار: «الدين والكرامة الإنسانية»، بيروت، دار التنوير، مركز دراسات فلسفة الدين، ٢٠٢١م، ص ١٨٥–١٨٧. بحثنا هذه المسألة بالتفصيل في الفصل الرابع من هذا الكتاب، بعنوان: الكرامة جوهر إنسانية الدِّين.
٥٣  المصدر السابق، ص٢٥٢.
٥٤  البقرة: ١٣٨.
٥٥  الطباطبائي، محمد حسين: «علي والفلسفة الإلهية»، طهران، مؤسسة البعثة، ١٤٠٢ﻫ، ص١٩.
٥٦  الصدر، محمد باقر: «موجز في أصول الدين»، تحقيق: عبد الجبار الرفاعي، ص١٢ (مقدمة المحقِّق).
٥٧  النجار، عبد المجيد: «واقعية المنهج الكلامي»، مصدر سابق، ص١٦١.
٥٨  خلافًا للأشاعرة وغيرهم من المتكلمين، ذهب المعتزلةُ والشيعةُ إلى القول بالحُسن والقُبح الذاتي للأفعال، بغض النظر عن انتسابها أو عدم انتسابها إلى الله.
٥٩  الأعراف: ١٥٧.
٦٠  البقرة: ٣٠.
٦١  الإسراء: ٧٠.
٦٢  للمزيد انظر: ابن سيده «المحكم والمحيط الأعظم»، تحقيق: عبد الحميد هنداوي. بيروت، دار الكتب العلمية، ٢٠٠٠م، الذي قال: «والعِبادُ: قومٌ من قبائلَ شَتَّى من العَرَب اجْتَمعُوا على النصرانيَّة، فأنِفُوا أَن يَتَسمَّوْا بالعَبيد وَقَالُوا: نَحن العِبادُ.» ج٢، ص٢٦. وانظر أيضًا: أبو البقاء الحنفي، «الكليات»، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، بيروت: مؤسسة الرسالة، الذي كتب: «والعَبْد المُضَاف إلى الله تعالى يُجمع على «عباد»، وإلى غيره على «عبيد».» ج١، ص٦٤٩. وللتفاصيل المطولة راجع: الزبيدي، «تاج العروس من جواهر القاموس»، تحقيق: علي شيري، بيروت، دار الفكر، ١٤١٤ﻫ، مادة «عبد»، ج٥، ص٨٢.
٦٣  الزمر: ١٧–١٨.
٦٤  وردت كلمة «عِبَاد» ومشتقاتها في القرآن الكريم ٩٧ مرة. في حين لم ترِد كلمة «عَبْيد» ومشتقاتها سوى ٢٩ مرة.
٦٥  انظر الآيات: آل عمرن: ١٨٢. الأنفال: ٥١. الحج: ١٠.
٦٦  ق: ٢٩.
٦٧  فصلت: ٤٦.
٦٨  الرفاعي، عبد الجبار: «الدين والظمأ الأنطولوجي»، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، ودار التنوير، ٢٠١٥م، ص٩٥–٩٦.
٦٩  الرفاعي، عبد الجبار: «إنقاذ النزعة الانسانية في الدِّين»، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، ودار التنوير، ٢٠١٠م، ص٦٩–٧٠.
٧٠  محيي الدين بن عربي: «الفتوحات المكية»، بيروت، دار صادر، ج١، ص٦٠٢. وأبو طالب المكي (ت٣٨٦ﻫ)، محمد بن علي بن عطية الحارثي: «قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد»، تحقيق: عاصم إبراهيم الكيالي، بيروت، دار الكتب العلمية، ط٢، ٢٠٠٥م، ج٢، ص١٤٦.
٧١  يرى بعضُ الباحثين أن حديث افتراق الأمة من الأحاديث الموضوعة في فترةٍ متأخرة عن عصر النبي. انظر: عمر بن حمادي، «حول حديث افتراق الأمة إلى بضع وسبعين فِرقة»، الكراسات التونسية، ع١١٥–١١٦، ١٩٨١م. يبدأ مؤلِّفو الفِرق كتبَهم عادةً بحديث افتراق الأمة، بهدف تبرير حقانية الفِرقة التي ينتمون إليها، وتكفير ما سواها من الفِرق الأخرى.
٧٢  للتوسُّع يراجَع الفصل الأول والثاني (نسيان الذات، ونسيان الإنسان)، من كتابنا: الدِّين والظمأ الأنطولوجي.
٧٣  الرفاعي، عبد الجبار: «الدِّين والظمأ الأنطولوجي»، بيروت، دار التنوير ومركز دراسات فلسفة الدِّين، ٢٠١٥م، ص١٥٨.
٧٤  الرفاعي، عبد الجبار: «الدِّين والظمأ الأنطولوجي»، بيروت، دار التنوير ومركز دراسات فلسفة الدين، ٢٠١٥م، ص١٦١–١٦٢.
٧٥  يقول واصل بن عطاء (٨٠–١٣١ﻫ): «الباري حكيمٌ عادل، لا يجوز أن يضاف إليه شرٌّ وظلم، ولا يجوز أن يريد من العباد خلافَ ما يأمر به، ويحكم عليهم بشيء ثم يجازيهم عليه؛ فالعبد هو الفاعل للخير والشر والإيمان والكفر والطاعة والمعصية، وهو المُجازَى على فِعله، والربُّ تعالى أقدَره على ذلك كله. ويستحيل أن يُخاطب العبد ﺑ «أفعل» وهو لا يمكنه أن يفعل، وهو يحسُّ من نفسه الاقتدارَ والفعل» (أحمد صبحي، «في علم الكلام»، القاهرة، مؤسَّسة الثقافة الجامعية، ط٤، ١٩٨٢م، ج١، ص١٨٤).
٧٦  الرفاعي، عبد الجبار (تحرير): «الحب والإيمان عند سورن كيرككورد»، بيروت، دار التنوير ومركز دراسات فلسفة الدِّين، ٢٠٠٦م، ص١٢–١٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤