علم الكلام
(١) نشأةُ علم الكلام
تشكَّلتْ نواةُ علم الكلام الأولى في مناخاتٍ استفهاميةٍ اكتنفها جدلٌ وتأمُّل في مداليلِ آياتٍ قرآنيةٍ متشابهةٍ، تتناول مسائلَ حيوية كالإمامة، وحقيقة الإيمان، ومعنى القضاء والقدَر. ثم انفتحت، في إيقاعٍ متوتِّرٍ، على تساؤلاتٍ تتَّصل بإثبات وجود الله، وتفسير معاني التوحيد، والصفات الإلهية.
غذَّت الحروبُ الأهليةُ في مرحلةٍ لاحقة الجدلَ بين المسلمين، فظهرت استفهاماتٌ متنوعة في فضاء الصراع السياسي، وما انفكَّت هذه الاستفهاماتُ تترسَّخُ وتتشعَّب وتتوالدُ في صيغٍ جديدةٍ بمرور الأيام، وقد كان للحروب الداخلية في ذلك العصر أثرٌ مهمٌّ في تطوير النقاش في الموضوعات العقائدية، وتوالد أسئلة جديدة تتمحور حول حُكم مرتكب الكبيرة، وخلْق أفعال العباد، وحرية واختيار المكلَّف … وغيرها.
بعد تمدُّد الإسلامِ خارج الجزيرة العربية، واستيعابه لمجتمعات وإثنيات متنوِّعة في الشام والعراق وبلاد فارس وآسيا الوسطى حتى تخوم الصين، ومصر وشمال أفريقيا حتى الأندلس، واجهتْ المسلمين جملةٌ من الآراء والأفكار التي تنتمي إلى الذاكرة التاريخية للمِلَل والنِّحَل المعروفة في هذه البلدان، وما تمخَّض عن احتكاكها بعقيدة التوحيد ومواقف المسلمين، فأصغى المسلمون القادمون من الجزيرة العربية إلى أسئلةٍ وإشكالاتٍ لم يسمعوا بها من قبل، مثل: حقيقة الإيمان، ومنزلة صاحب الكبيرة، والقضاء والقدَر، وطبيعة الصفات الإلهية، وغير ذلك، فوُلِدَت في سياق الجدل العقائدي جملةُ مفاهيم تصوغ رؤًى مختلفة حيال تلك الاستفهامات والإشكالات. وكانت هذه الرُّؤى عبارةً عن اجتهادات متنوِّعة في المسائل الكلامية، تتلوَّن بشيء من رواسب البيئة المحلية والثقافات الخاصة لتلك الشعوب. بمرور الأيام تبلورتْ مواقفُ وآراءٌ، تشكَّلتْ كلُّ طائفة منها في منظومةٍ عقائدية، فأضحتْ تمثِّل اتجاهاتٍ عقائدية متعدِّدة، تعمل على التبشير بآرائها، وتسعى لاستقطاب الأتباع والمؤازرين.
كانت المجتمعاتُ المتنوِّعة التي دخلت الإسلام بالدعوة السلمية، أو أُدْخِلَت فيه بالفتوحات، قد لبثت مدَّة طويلة من تاريخها في أديان كتابية، أو غير كتابية، ولم تستطِع الدعوةُ العاجلةُ تحريرَ هؤلاء المسلمين الجُدُد من ترسُّبات أديانهم التاريخية ورسوخها في البنية اللاشعورية للفرد والمجتمع، وانتزاعهم من معتقداتهم السابقة بشكلٍ تامٍّ، ومحو آثار نصوصهم المقدَّسة محوًا تامًّا، وحذف سردياتهم الموروثة، ورؤيتهم للعالَم، وطقوسهم وشعائرهم الماضية، بصورة نهائيَّة. ونجم عن ذلك مناخٌ فكريٌّ يختلط برؤًى للعالَم ومفاهيم اعتقادية غريبة، وإن خلعت على نفسها جلبابًا إسلاميًّا، غير أنَّها لم تغادر ذاكرةَ المقدَّس الأول الناشئة والمتوطنة فيه، ولم تنحذف من ذاكرتها ثقافاتُها الأولى وبصمات بيئاتها كليًّا.
كانت السياسة وراء ولادة الكثير من الأسئلة والمعتقدات والآراء الكلامية وتفاعلاتها في الحياة الإسلامية، مثل ولادة أسئلة الخوارج حول الحاكميَّة بعد معركة صفِّين، وولادة القول الجبر والقدَر في العصر الأموي. مضافًا إلى أنَّ العواملَ الاجتماعيَّة والثقافية والاقتصادية السائدة في المجتمعات الإسلامية آنذاك، تحكَّمتْ أيضًا في نشأة علم الكلام وتطوُّره، وأمدَّتْ عقلَ المتكلِّم بعناصرَ وأدواتٍ خاصَّة، هي تعبيرٌ عن تلك البيئات، ولذلك تجلَّت البيئةُ الخاصَّةُ للمتكلِّم ومسلَّماتها المعرفية وثقافتها ورؤيتها للعالَم في مؤلَّفات الكلام الإسلامي.
ظلَّتِ البنيةُ الأولى تموِّن التفكيرَ الكلاميَّ وتوجِّهه في إطارِ أنساقها المحدَّدة، فتكرَّرت في المؤلَّفات الكلامية منذ نضوج علم الكلام أكثر: أنماط الاستدلال، والموضوعات، والأفكار، والمقولات ذاتها. ودخل هذا العِلمُ في مرحلةٍ لاحقةٍ مسارًا مسدودًا، دأب فيه على العودة إلى الأسئلةِ والمشكلات والتحديات نفسها التي بحثها السلفُ، ومكث يتحرَّك في مداراتها، يبدأ دائمًا من حيث انتهى، وينتهي دائمًا من حيث بدأ، من دون أن يتقدَّم في حركته خطوةً إلى الأمام. ومع وفرةِ ما أُلِّف فيما بعد، غير أنَّه لم يكن سوى شروح وتعليقات وهوامش على المتون الكلاسيكية، من دون تحوُّلات عميقة وتطوُّر يواكب حياةَ المسلم، ومتطلباتها الاعتقادية المتجدِّدة بتجدُّد الأحوال والظروف والواقع.
في هذا الفضاء تشكَّل علمُ الكلام، وأصبح واحدًا من السِّمات المعرفيَّة الخاصة بالحضارة الإسلامية منذ النصف الثاني من القرن الهجري الأول، وانخرط في دراسته وتدريسه والتأليف فيه أئمةُ الفِرَق والمجتهدون في علم الكلام، وبلغ ذروةَ ازدهاره عموديًّا وأفقيًّا في القرن الرابع الهجري، وتنوَّعت الأقوالُ والآراءُ في علم الكلام حتى أصبحتْ أساسًا لتكوين الفِرق والاتِّجاهات المختلفة في الإسلام. وأضحى ميلادُ أية فرقة، وتطوُّرها، وتأثيرها في مسار الحياة الإسلامية، يتوقَّف على تبنِّيها لآراء ومقولات ومفاهيم مستدلَّة في علم الكلام.
عملت أكثرُ الفِرق التي ظهرت ببواعث سياسية على صياغة فهم عقائدي ورؤية للعالَم خاصة بها، وشدَّدَتْ على مقولات محدَّدة استندت إليها على أنَّها مرجعية في سلوكها السياسي، وتسويغ محاولاتها لاحتكار السلطة. أمَّا الجماعات التي أخفقت في تكوين مقولاتٍ كلاميَّة ورؤية خاصَّة للعالَم تتناغمُ ومطامحَها السياسيَّة، وتسوِّغ مواقفها السياسية، فإنها انطفأت باكرًا، حتى وإن خطف وهجُها الأبصارَ عند ظهورها.
(٢) تسمية علم الكلام
كذلك أطلقوا اسمَ «التوحيد»، بمعنى العلم الذي يجعل قضيةَ التوحيد هي المحور ومنها تنبثق سائر المعتقدات، وهي تسمية للشيء بأشرف أجزائه، وقد جعل محمد عبده (١٣٢٣ﻫ) هذا الاسم عنوانًا لكتابه في العقيدة «رسالة التوحيد». وقبل ذلك أَلَّف المتكلم المعروف أبو منصور الماتريدي (٣٣٣ﻫ) كتابًا في الكلام سمَّاه «التوحيد».
وأطلق عليه آخرون «العقائد»، وهو يعني العلم الذي يتكفَّل بمعرفة العقائد الإسلامية، ويبرهن عليها. وهذا الاسم اتخذه عددٌ من المؤلفين عنوانًا لمؤلفاتهم الكلامية، فأطلق الجويني (٤٧٨ﻫ) على كتابه «العقيدة النظامية»، والنسفي (٦٤٢ﻫ) «العقائد النسفية»، وعضد الدين الإيجي (٧٥٦ﻫ) «العقائد العضدية»، وقبل هؤلاء، سمَّى الطحاوي (٣٢١ﻫ) كتابه الكلامي «العقيدة الطحاوية».
- (١)
لأنَّ عنوانَ مباحثه كان قولهم: الكلام في كذا وكذا.
- (٢)
ولأنَّ مسألة الكلام كانت أشهر مباحثه، وأكثر نزاعًا وجدالًا، حتى إن بعض المتغلِّبة قتل كثيرًا من أهل الحقِّ لعدم قولهم بخَلق القرآن.
- (٣)
ولأنه يُورِثُ قدرةً على الكلام من تحقيق الشرعيَّات وإلزام الخصوم، كالمنطق للفلسفة.
- (٤)
ولأنَّه أول ما يجب من العلوم التي تُعْلَم وتُتعَلَّم بالكلام، فأطلق عليه هذا الاسم لذلك، ثمَّ خُصَّ به ولم يُطلق على غيره تمييزًا له.
- (٥)
ولأنه إنما يتحقَّق بالمباحثة وإدارة الكلام بين الجانبين، وغيره قد يتحقَّق بالتأمُّل ومطالعة الكتب.
- (٦)
ولأنَّه أكثر العلوم خلافًا ونزاعًا، فيشتدُّ افتقارُه إلى الكلام مع المخالفين والردِّ عليهم.
- (٧)
ولأنَّه لقوَّة أدلَّته صار كأنَّه هو الكلامُ دون ما عداه من العلوم، كما يُقال للأقوى من الكلامَيْن: هذا هو الكلام.
- (٨)
ولابتنائه على الأدلَّة القطعيَّة المؤيد أكثرُها بالأدلة السمعية، أشدِّ العلوم تأثيرًا في القلب وتغلغلًا فيه، فسُمِّي بالكلام المشتقِّ من الكَلْم وهو الجرح.
- (٩) لأنَّ حقائقَ هذا العلم تَنْبَنِي أساسًا على الأدلَّة العقلية، وقلَّمَا يُرْجَع فيها إلى النَّقْل من الوحي، اللهم إلا بعد تقرير الأصول الأُولَى تقريرًا عقليًّا كإثباتِ وجودِ اللهِ وكثيرٍ من صفاته. ولمَّا كان بناءُ هذا العِلم على الدليل العقلي يظهرُ في كلام الباحث فيه بقوَّة حجَّتِه سُمِّي علمَ الكلام.٦
الاحتمالان الأخيران اللذان ذكرهما مصطفى عبد الرازق، أبعدُ التفسيرات إلى نشأة تسمية هذا العلم تأريخيًّا؛ لأنَّ قضايا علم الكلام اكتسبتْ طابَعًا نظريًّا تجريديًّا بعد مدة من ولادتها، فقد نشأ بعضُها في أُفُقِ أسئلةٍ أفرزتْها التجربةُ السياسية العملية، كمسألة القضاء والقدَر، وحُكم مرتكب الكبيرة. ولم تترسَّخ النَّزعة التجريدية في علم الكلام إلا بمرور الزمن، وصار التجريدُ النظريُّ إحدى الثغرات لعجزِ علم الكلام وقصورِه عن الالتحام بواقع المسلم.
نخلص من كل ذلك إلى ترجيح تعليل التسمية بغلبة مسألة الكلام الإلهي بوصفها أهمَّ مسائل هذا العلم، وإطلاقها على هذا العلم الذي انبثق في فضاء التفكير الديني في الإسلام مبكرًا قبل التعرُّف على الفلسفة اليونانية وثقافات الشعوب الأخرى، والتفاعل معها والإفادة منها بشكلٍ واسع.
(٣) مناهضة علم الكلام
وواصلَ الحنابلةُ من بعده مناهضةَ علمِ الكلام تبعًا لنهجِ إمامِهم، فخاضُوا صِراعات جادَّة مع أصحاب الكلام، واعتمدوا سلاحَ التكفير في هذا الصِّراع، وبات تراثُهم، بعد أن رسَّخه عقليًّا ابنُ تيمية، رافدًا تُسْتَقَى منه فتاوى تكفير فِرق المسلمين؛ تلك الفتاوى التي عمِلتْ على تعميق انقسامات الأمة، وظلَّت إلى الآن تُجْهِض مساعي الحوار والتفاهم بين المذاهب الإسلامية.
تغلغلت أفكارُ التيار المناهض للكلام في وعي عامة المسلمين، فبدأ كثيرٌ منهم ينظر بارتياب للفكر الكلامي، بل تنامت هذه الحالةُ، وصارت العلومُ العقليَّةُ برُمَّتها يُنظر إليها بتوجُّس وريبة، وأُشيع مناخ مُشبَع بالتهمة حول هذه العلوم، حتى اضطر ذلك بعض المهتمين بها للتمسُّك بالتَّقيَّة والتكتم على معارفه، خشيةَ إثارة سخط العامة، خاصة أن بعض خصوم الكلام عمدوا إلى صياغة خطاب تحريضي ضد علم الكلام ومَن يتعاطاه، وهذا ما ظهر في أسماء كتبهم، فمثلًا كتب أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السُّلمي النيسابوري (٤١٢ﻫ) كتابًا بعنوان: «أحاديث في ذمِّ الكلام وأهله»، انتخبها أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الرازي المقرئ (٤٥٤ﻫ). وكتب أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي (٤٨١ﻫ) كتابًا بعنوان «ذم الكلام وأهله»، وكتب الغزالي (٥٠٥ﻫ) «إلجام العوام عن علم الكلام»، وكتب موفق الدين بن قدامة المقدسي (٦٢٠ﻫ) «تحريم النظر في كتب أهل الكلام».
تبلور في ذلك العصر كثيرٌ من الاجتهادات الكلامية، وتباينت مواقفُها، وتحدَّثت في شتَّى المسائل، مما يرتبط بالذَّات والصفات والأفعال، والخير والشر، والجبر والاختيار، واختلفت الآراءُ في كل واحدةٍ من هذه المسائل بنحوٍ سادَت معه الحياةَ الفكريةَ تعدُّديةٌ وحيويةٌ في النقاش والمناظرة، وأسهم قطاعٌ واسع من المتكلمين وتلامذتهم بوجهات نظرهم في مختلف المسائل، ولم يَعُد التفكير الكلاميُّ حكرًا على طبقةٍ خاصةٍ تمنح نفسها حرياتٍ شاملة فيما تسلب سواها حقَّ التفكير، بل كان ينخرط في حلقات المتكلمين كلُّ مَن ينشد التأهيل والخبرة في علم الكلام.
وكان لتوفُّر هامش حرية للتفكير أثرٌ بالغ في نمو وازدهار مدارس كلامية عديدة، من أبرزها الشيعة والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية، وتضمُّ كلُّ مدرسة أجيالًا متتالية من المجتهدين في علم الكلام الذين اشتغلوا بترسيخ وتطوير مدارسهم الكلامية، وغالبًا ما تجاوزوا الرؤى، وأحيانًا بعض الأسس التي صاغها أسلافهم، حتى اشتهر لديهم ظهورُ أكثر من اتجاه في إطار المدرسة الواحدة، كما عُرِفَت ظاهرةُ استقلالِ التلميذ عن أستاذه وعدمِ تقليده له، وربما مناقشته والرد على آرائه، وتبنِّي مواقفَ كلامية لا تتطابق مع متبنيات أستاذه. ومراجعة سريعة للتراث الكلامي ترينا عددًا وفيرًا من المؤلَّفات، مما نقض فيها التلميذُ آراءَ أستاذه.
ولولا توفُّر أرضية مناسبة، وشيوع تقاليد فكريَّة ترعى حقَّ الاختلاف، وتؤمن بالتعدُّدية، لما وُجِدَ ذلك المناخُ العلميُّ الذي تبلورت فيه أبرزُ المدارس الكلاميَّة في تاريخ الإسلام.
غير أنَّ هامش الحرية بدأ يذبل ويضمحلُّ حين طغَت روحُ التكفير لدى بعض المتكلمين وفقهاء السلاطين والخلفاء، وتعاونَ المتوكل العباسي (٢٣٢–٢٤٧ﻫ) مع أولئك الفقهاء، وفرضَ ميثاقًا اعتقاديًّا كلاميًّا محدِّدًا منحه المشروعيَّة، فيما حظر أية وجهة نظر خلافية في مقابل ذلك الميثاق.
الاعتقاد القادري
من المؤسف أن تَشِيعَ نزعةُ التكفير في تلك الحِقبة، وتستهتر السلطة في ملاحقة أفكار الناس وتفتيش معتقداتهم، فتصلبهم وتلعنهم لمجرد خروجهم على معتقد الحاكم.
عملتْ تلك المواقفُ المتشدِّدة على تأمين بيئة تزدهر فيها «الأخبارية العقائدية» التي تستند إلى ظواهر النصوص بوصفها مرجعيةً في تقرير المعتقد، وتفهم آيات القرآن الكريم والأخبار المروية عن النبي ﷺ فهمًا حرفيًّا قشريًّا متحجِّرًا، من دون أن تتيح للذهن فرصةً في تدبُّر آيات الكتاب وتأمُّل الأحاديث، وتأويل ما تشابه منها.
وبمرور الأيام اتَّسع نفوذُ ذلك التيار الظاهري في الاعتقاد، وظلَّ على الدوام مصدرًا للمواقف الصارمة المغلقة تجاه عامَّة المسلمين من الذين ينهجون نهجًا مغايرًا، ويستندون إلى العقل في فهم وتحليل قضايا المُعْتَقَد، ويمارسون الاجتهادَ الكلاميَّ، ويرفضون الترسيمات الجاهزة، ويحرصون على غربلةِ ومحاكمةِ الآراءِ الكلاميَّة، واصطفاء ما ينهض الدليلُ على إثباته، ونفي ما سواه.
لا ننكر أن علم الكلام يعبِّر عن فهم المتكلمين للعقيدة، وفهمهم — كأي معرفة ينتجها البشر — يصطبغ بطبيعة الزَّمان والمكان والواقع، والنَّمط الحضاري للحياة، ومستوى تطوُّر العلوم والمعارف الأخرى، وأنَّ انتماء علم الكلام للإسلام إنَّما هو كانتماء المعارف الأخرى له، بمعنى: أنَّه معرفة أنتجها المسلمون، مثلما أنتجوا الفلسفةَ، والتصوُّف والعرفان، والفنون، والآداب، وغيرها. ولا يسوِّغ إنتاجُ المسلمين لتلك المعارف تعاليها على النقد والمراجعة؛ لأنَّ انتسابَها إلى الإسلام ليس سوى كونها وُلدت في فضاء إسلامي، وفي سياق حضارة المسلمين. ولعلَّ علم الكلام من أوضحِ ما أنجزه عقلُ المسلمين في تشبُّعه بالمؤثرات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة للمحيط الذي وُلِدَ فيه، وهذا ما يحكيه الاختلافُ والتباين الفاحش في المقولات الكلامية.
منع التقليد في العقيدة نظريًّا وتسيُّده عمليًّا
أهميةُ الاجتهاد في علم الكلام تكمن في إطلاق حرية التفكير في العقيدة، وتعدُّد وتنوُّع الآراء والمواقف والمقولات الكلامية. ويعبِّر اختلاف المقولات ووفرتها عن تجسُّد اجتهادات ووجهات نظر متنوِّعة أفضى إليها التفكير الكلامي، مضافًا إلى أنَّها علامة فارقة على منح كلِّ مسلم الحقَّ في اختيار عقيدته، بل وحرمة تقليد غيره في المعتقَد.
المفارقة تكمن في منع التقليد نظريًّا في العقيدة وتسيُّده عمليًّا في حياة المسلمين. حَدَثَتْ هذه المفارقةُ نتيجةً لتحريم التَّفكير الكلامي، والاقتصار على ظاهر النصوص، ومنع أيَّة محاولة لعقلنة الفهم العقيدي الذي أفضى إلى تعطيل الاجتهاد الكلامي، وتفشِّي التقليد في أصول الدين، بعد شيوع نزعةٍ نصوصيَّة أخبارية تبنَّاها المحدِّثون، وروَّج لها ودعمها بعضُ الخلفاء الأمويِّين والعباسيِّين في فترةٍ مبكِّرة من التاريخ الإسلامي، هذا من جهة.
ولا نريد أن نسرف في حشد أقوال العلماء الذين منعوا التقليد في الأصول، ولكن كنَّا نودُّ أن نشير إلى الإجماع على هذه المسألة، في مقابل التيار الظاهري المناهض للاجتهاد في علم الكلام.
السِّمة المميِّزة لهذه الجماعات هي التمسُّك بتقليد وحفظ آراء وفتاوى الرجال الماضين، وغلق باب الاجتهاد في العقيدة والشريعة، وإن كانوا يدَّعون خلاف ذلك. وكأنَّ الحياةَ ساكنة، والزمان يُكرِّر نفسه، وكأنَّ الماضين امتلكوا الحقيقة الكلية، وأدركوها بسائر أبعادها، ولا وظيفة لنا إلا اقتفاء أثرهم في كل شيء. ولم يتنبَّه هؤلاء إلى أنَّ ذلك تبسيطٌ في تصوُّرِ حركة الزمان، ومحاولة ساذجة لاختزال عصور عديدة من التطوُّر والتغيير في الحياةِ، فإنه كُلَّما تنامى واتَّسع نطاقُ التغيير الاجتماعي والتحولات المختلفة في الحياة، لا بدَّ أن يتَّسع نطاقُ الاجتهاد، ويتمدَّد أفقيًّا وعموديًّا تبعًا للمكاسب الجديدة في المعرفة، وتراكم متغيرات الواقع وتنوُّعها.
كلُّ هذه الأقوال لم تمنع أتباعَ الذين منعوا التقليد في أصول الدين من أن يقلِّدوا مؤسِّسي ومجتهدي الفِرق الأوائل في العقائد، لا يختلف في ذلك مَن تبنَّى مقولاتهم الكلاميَّة من المؤلِّفين، أو غيرهم من أتباع فِرقهم من المسلمين.
تعطَّل الاجتهادُ الكلاميُّ كما تَعَطَّل الاجتهادُ الفقهيُّ، وأُغلق بابُ الاجتهاد الكلامي كما أُغلق بابُ الاجتهاد الفقهي، وأضحى تقليدُ مؤسِّسي الفِرَق شائعًا، لا يختلف فيه الكلُّ، على الرغم من الادعاء ﺑ «منع التقليد في جميع أصول العقائد». وهذه ليست الحالةَ الوحيدةَ التي يستفيضُ فيها منعُ الأوائل عن التقليد، لكن مَن جاء بعدهم يقلدونهم فيعملون بعكسِ ما نصَّ عليه المتقدِّمون، من منع تقليدهم فيما اجتهدوا فيه من مقولاتٍ اعتقاديَّة، بنحوٍ صارت هذه المقولاتُ تترسَّخُ وتَتَصلَّب بمرور الزَّمان، وارتقت إلى منزلةِ النُّصوص المقدَّسة المغلقة الأبدية.
ومَن يكتبُ في عِلْمِ الكلام إنَّما ينشغل بشرح المقولات الاعتقاديَّة، وشرح شرحها، وشرح شرح شرحها، والتعليق وكتابة الهوامش عليها، بغيةَ بيان مقاصد مؤلِّفيها وشُرَّاحها، دون أن يقول شيئًا جديدًا، حتى تراكم ركامٌ هائلٌ من الكتابات التي تقول كلَّ شيء لكنَّها لا تقول شيئًا له صلة مباشرة بإعادة بناء علم الكلام، وصياغة رؤية اعتقاديَّة تخرج باجتهاد كلامي لا يكرِّر ما قاله مؤسِّسو الفِرق الكلامية ومجتهدوها.
(٤) ركود علم الكلام
علم الكلام كغيره من العلوم الإسلامية، تأثَّر في نشأته ومساره بمُجْمَل الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإثنية في المجتمعات الإسلامية، فعندما يكون المجتمع في حالة نهوض، يتشكَّل الإطارُ الاجتماعيُّ الملائم لنموِّ المعرفة وتطور العلوم، فينمو ويتكامل التفكيرُ الكلاميُّ كغيره من أبعادِ التفكير الدينيِّ الأخرى في الإسلام. أمَّا إذا دخل المجتمعُ مسارَ الانحطاط، فسوف يتداعى الإطارُ الاجتماعيُّ لتطور المعرفة، وتسود حالةٌ من تشتُّت العقل وتشوُّه رؤاه، تدخل معها معارفُ الدين وعلومُه مسارَ الانحطاط، تبعًا لما عليه أحوالُ المجتمع، فيتراجع دورُ العقل، ويضمحلُّ التفكيرُ الكلاميُّ، وتغدو المحاولاتُ الجديدةُ استئنافًا للمحاولات الماضية، لا تتخطَّى أسئلتها ومسائلها، بل وبيانها وأساليب تعبيرها.
وكما أشرنا فقد اصطبغ علمُ الكلام بألوان الثقافات المحلية في المجتمعات الإسلامية، ولم يتحرَّر من تأثيرات الموروث في أي مجتمع مسلم ظهر فيه. وبوسعنا ملاحظة ذلك بوضوح في أنماط الاعتقاد والشعائر والطقوس التي يتلوَّن بها التديُّنُ في كلِّ مجتمعٍ مسلم.
إنَّ مراجعةً سريعةً لمسارِ التفكيرِ الكلاميِّ عبر أربعة عشر قرنًا تدعونا للوقوف عند مراحلَ عديدة مرَّ بها هذا التفكير؛ ففي المرحلة الأولى التي امتدَّت من القرن الهجري الأوَّل إلى القرن الثالث، كان التفكير الكلامي يتحرَّك في مداراتِ ما يستجدُّ من أسئلة واستفهامات، ويسعى لصياغةِ مقولاتٍ وبناء قواعد ومرتكزات أساسيَّة للاعتقاد. منذ القرن الثالث انتهج المتكلِّمون نهجًا آخر، أطلَّ من خلاله التفكيرُ الكلاميُّ على أفق جديد، ودُشِّنت فيه مرحلة تالية، اشتغل فيها المتكلمون ببناء علم الكلام، وتأسيس مدارسه واتجاهاته المعروفة في التاريخ الإسلامي. وتمخَّضت جهود علماء الكلام عن تبلور المدارس المعروفة في الكلام: المعتزلة والشيعة والأشاعرة والماتريدية.
ازدهار التفكير الكلامي لم يمضِ في دربٍ لاحبٍ من دون أن يغرق في متاهات من الجدل والسجالات التي أسهم فيها مناوئو علم الكلام بدورٍ تحريضي واسع، مضافًا إلى تسييس المواقف الكلامية، وانتقال المناظرات من دُور العلم، وهي المساجد وقتئذٍ، إلى قصور السلاطين، مثلما جرى في مسألة خلْق القرآن وغيرها، حتى انتهى ذلك إلى تصفية مدرسة الاعتزال والقضاء عليها قضاءً تامًّا بقرار سياسي في فترةٍ لاحقةٍ.
لم يشهد التأليف في علم الكلام أعمالًا إبداعية بعد ظهور كتاب نصير الدين الطوسي «التجريد»، وظلَّت سائر المؤلفات المتأخرة عنه إمَّا شروحًا له ولمتون الكلام السابقة، وإما مدوَّنات ومتونًا جديدة، غير أنَّها ما فتئت تُكرِّر آراء وفهم تلك المدوَّنات ومسائلها.
كان ذلك إيذانًا بانتقالِ علم الكلام إلى مرحلةٍ ثالثة، بدأتْ بركودِ التَّفكير الكلامي واستئنافه للتراث الكلاسيكي، وتواصلت هذه المرحلة مدةً طويلة تناهز خمسة قرون، من القرن التاسع إلى نهاية الثالث عشر الهجري، تعطَّل فيها التفكيرُ الكلاميُّ، ولم تتجاوز اهتماماتُ أغلب الدارسين ألفاظَ التراث الكلامي ومُعمَّياته وألغازه، فأسرفوا في تدوين الهوامش والشروح التوضيحية، وبهرتهم براعةُ القدماء في اختزال الأفكار وتكثيف النصوص، فشاع لديهم شعورٌ موهوم بأن الآراء التي تحكيها تلك النصوص هي آراء أبديَّة، يجب تعميمُها لكلِّ زمان، ولا يجوز أبدًا التفكير خارج مداليلها وفحواها، واستحالت مهمة المهتمين بهذا العلم إلى حراسة متونه، والمبالغة في إطرائها وتهويل مضمونها، ومقاومة أية محاولة للتفكير خارج مداراتها.
في نهاية القرن الثالث عشر الهجري ظهرت إرهاصات انبعاث، مع تبلور أسئلة جديدة تؤشِّر إلى استفاقة التفكير الكلامي، فدبَّت الحياةُ من جديد في علم الكلام، وحاول أن يغادر حالةَ السِّكون التي لبث فيها عدَّة قرون، واستهلَّ جماعةٌ من الأعلام المهتمين بدراسة هذا العلم عهدًا جديدًا، بدأ بإحياء علم الكلام واستدعائه إلى العصر الحديث، ثم تلا ذلك العمل على إعادة بنائه وتجديده.
(٥) عجزُ علم الكلام القديم
قبل أن نمضي في الحديث إلى المرحلة الجديدة التي يسعى جماعةٌ من المفكِّرين أن ينتقل إليها التفكيرُ الكلامي، نودُّ أن نلمِّح بإيجاز إلى شيء من مناشئ قصور علم الكلام التقليدي عن الوفاء بالمتطلبات العقيدية للمسلم اليوم.
ينبغي التذكير بما وردتِ الإشارة إليه في فقرة سابقة، وهو أن علم الكلام كغيره من العلوم الإسلامية تحكَّمتْ في مسارِه وتحديد وجهته مجموعة المكونات والعناصر التي واكبتْ نشأته، وتلك العناصر كما هو معلوم تنتمي إلى عصرٍ مضى وانقضى، ولم يبقَ منه سوى ما حفظه لنا التاريخ، ولم يكن التفكيرُ الكلامي الذي وُلد في ذلك العصر إلا مرآةً لحياة المجتمعات الإسلامية، ارتسمت فيها الأسئلة والتحديات والهموم المتداولة في تلك المجتمعات آنذاك، وتم لاحقًا تعميم الآراء والمقولات الكلامية التي تبلورت في فضاء تلك الأسئلة والتحديات. وهي مقولات وآراء لا تعرف أسئلةَ حياتنا الراهنة، الأسئلة المنبثقة من تحديات وهموم نمط حياةٍ يختلف عن نمط الحياة الذي انبثقت عنه التحديات الماضية اختلافًا تامًّا.
في ضوء ذلك ينبغي أن نشير إلى أبرز أبعاد العجز في التراث الكلامي، بغيةَ اكتشاف مبرِّرات تجاوز الكلام التقليدي، وإعادة بناء التفكير الكلامي في إطار أسئلة العصر ومعارفه. ويمكننا إيجاز ذلك فيما يلي:
(٥-١) المنطق الأرسطي بوصفه مرجعيةً للتفكير الكلامي
يجادل البعضُ في أنَّ أرسطو لم يفعل شيئًا سوى الكشف عن قوانين التفكير البشري الأبدية، التي هي مشتركة بين كلِّ البشر بقطع النظر عن الزمان والمكان ونمط التمدُّن والثقافة والمعرفة والعلوم السائدة. هذه الحُجَّة يكذِّبها تاريخ المنطق ذاته، فإن الخبراء بتاريخ هذا الفن يعرفون أن للمنطق تاريخًا، مثلما لأيِّ فن ومعرفة وعلم تاريخ، بل إنَّ للعقل تاريخًا كما تقول الإبستمولوجيا. مضافًا إلى التهافت الذي يقع فيه المناطقةُ، وتكذيب بعضهم للبعض في جدالهم.
ومما يدلِّل على ذلك، هو أنَّ المنطق الأرسطي انسحب بالتدريج من الحياة العقلية، بل انهزم وتقوَّضت سطوتُه على الفلسفة الحديثة، وعجز عن مواكبة طرائق التفكير للعقل الحديث منذ الأورغانون الجديد لفرنسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦م)، وكوجيتو رينيه ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠م)، مرورًا بتنوير إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م)، والمنطق الديالكتيكي لهيجل (١٧٧٠–١٨٣١م)، ومَن تلاهم من الفلاسفة والمنطقيِّين أمس واليوم.
كشفت الفلسفة الحديثة والمعاصرة أن الذهن ليس آلةَ تصوير صماء صامتة، يعكس الواقع كما هو، كأنَّه آلة تصوير فوتوغرافية كما يرى أنصارُ المنطق الأرسطي، بل يعالج الذهن المعطيات التي يتلقَّاها فيصوغها في سياق: مقولاته، ورؤيته للعالم، وأحكامه السابقة، وأفق انتظاره. كذلك أوضحت أنَّ العقلَ هو معقولاته، ومعقولات كلِّ عقل ليست خارجَ تاريخِه وتاريخها، أي إنَّ عقل أمس معقولاتُه هي مقولاتُه ومفاهيمه وأحكامه ورؤيته للعالم أمس، وهي لا تتطابق بالضرورة مع عقلنا اليوم. العقل هو معقولاته حيثما صارت ماهيتها وتشكَّلت صورتها؛ هي تصوغه طبقًا لها، وهو يصوغها طبقًا له.
المفارقة أن منطق أرسطو المستعار من الغرب (اليوناني) في الماضي، والذي ما زلنا نتعامل معه بوصفه مسلَّمات نهائية، نجد أشدَّ المدافعين عنه في عالم الإسلام هم أنفسهم أشدُّ المناهضين للمنطق والفلسفة والمعارف الغربية الحديثة والمعاصرة. وكأن معطيات العقل التي استوردها الآباء من أوروبا أمس يُحرَّم على الأبناء التعاطي معها في صيغتها المتطورة اليوم بعد مرور أكثر من ٢٣٠٠ عام على تأليف أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م) لمنطقه في أثينا.
لو صحَّ توصيفُ كلِّ توظيف للمعرفة المنتَجة في الغرب بأنه ضرب من التغريب، فذلك يعني أن كلَّ الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم من مفكري الإسلام أمس، يمكننا نعتهم بالتغريبيين؛ ذلك أن منطق أرسطو اليوناني وفلسفة أفلاطون، والأفلاطونية الجديدة، أفاد منها ووظَّف مقولاتها الكلُّ، كلٌّ على وفق متطلبات ونوع كتاباته، أي ستندرج تحت هذا التوصيف مؤلَّفات الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وملا صدرا، وحتى الغزالي المناهض للفلسفة والفلاسفة، وغيرهم.
(٥-٢) النزعة التجريدية أو الفصام بين النظر والعمل
تقدَّمت الإشارةُ إلى أنَّ موضوعات الكلام الأولى تبلورتْ في سياق أسئلة انبثقتْ إثر الصِّراعات السياسية في العهد الإسلامي الأول، والمحيط الاجتماعي الذي وُلدَت فيه، غيرَ أنَّ إسرافَ المتكلِّمين في استعارة المنطق الأرسطي، وتوظيف مفاهيمه في صياغة علم الكلام فيما بعد، والاعتماد عليه كليًّا بوصفه مرجعيةً للتفكير الكلامي، نجم عنه تشبُّع التفكير الكلامي بمنهج هذا المنطق، فانحرفت وجهتُه، وراح يفتِّش عن عوالمَ ذهنية مجرَّدة، بعيدة عن الواقع ووقائعه ومشكلاته، فتغلَّبت بالتدريج النزعة التجريدية الذهنية على المنحى الواقعي في التفكير الكلامي، وتحوَّل علمُ الكلام إلى مشاغل عقلية تتوغَّل في صناعة آراء ومفاهيم ومقولات لا علاقة لها بحركة حياة الإنسان وشجونها ومواجعها، وأمستْ مهمةُ المتكلم التفتيش في عوالمَ أخرى غير الحياة البشرية وعالمها، والتدقيق في مسائل افتراضية ترتكز على محاججات منطقية، من دون أن تكون لها صلة بالواقع.
لم يقتصر أثرُ العقلية التجريدية على التفكير الكلامي فحسب، بل امتدَّ أثرُها إلى المشاغل الأخرى للعقل الإسلامي، فتجلَّى بوضوح في العلوم الإسلامية، وما بِرح الفكرُ الإسلاميُّ ينوء بعبء هذه النزعة إلى اليوم، فلا يكاد يتخطَّى عوالم الذهن، ويطلُّ على الواقع، ويواكب التجربة البشرية وما تزخر به من آلام ومواجع وآمال ومطامح وآفاق.
إن غياب الممارسة العملية عن صياغة الأفكار، وعدم معاينة حضور الأفكار وأصداء تطبيقها في الحياة، أفضى إلى أن تغدوَ أعظم وظيفة للتفكير الديني عبارة عن تمارينَ ذهنيَّةٍ صرفة، تبدأ بالذهن لتنتهي بالذهن. وهي حالة لم تقتصر على حقل معين، بل تفشَّت في علم أصول الفقه، وانتقلت إلى غيره من معارف الشريعة الأخرى.
إنَّ هذا اللون من التفكير ظلَّ إحدى القِيَم السائدة لدينا قرونًا طويلة، ولا تزال آثارُه تطبع حياتَنا الفكرية؛ لذلك نبجِّل عادةً مَن يتأمل على الذي يهتمُّ بالتجربة والممارسة والعمل، من دون أن نتدبَّر عطاء كلِّ واحد منهما، ودوره في تطوُّر العلم والمعرفة، وتنمية حياة الإنسان، وحلِّ مشكلاته، وجعل حياته أسهل.
(٥-٣) تراجع دور العقل وشيوع التقليد
على الرغم من أنَّ كُلًّا من الكلام والفلسفة يُصنَّف في خانة المعارف العقلية، إلا أن هناك فرقًا شاسعًا في نوع المنهج الذي يتعاطاه المتكلِّم، والمنهج الذي يتعاطاه الفيلسوف. الفيلسوف ينتهج البرهانَ الذي يرتكز على مسائلَ مسلَّمة تستند إلى مقدِّمات يقينية، ويرى أن الحقيقة هي ما ينتهي إليه البرهان، بمعنى أنه ليس هناك حقائق قبْلية خارج إطار البحث والبرهان. في حين يتعاطى المتكلِّم منهجًا مختلفًا يبتني على الإيمان بمسلَّماتٍ قبْلية، ثم يستدلُّ عليها بمقدِّمات قد تكون يقينية، وقد تكون غيرَ ذلك؛ لذلك يصبح القياسُ المستعملُ في البحث الكلامي جدليًّا، أي يعتمد مقدِّمات تتألف من المشهورات والمسلَّمات، بغيةَ إثبات ما هو مسلَّم الثبوت قبْلًا، أما القياس المستعمَل في البحث الفلسفي فيكون قياسًا برهانيًّا يعتمد مقدِّمات يقينية، بغيةَ إثبات الحقيقة التي هي ما ينتهي إليها الدليلُ، لا ما هو مسلَّم به قبل الدليل.
إنَّ انتهاجَ هذا المنهج في الأبحاث الكلامية أدَّى إلى تراجع دَور العقل بالتدريج في علم الكلام، وترسُّخ نزعة تقليد أعلام المتكلمين لدى كلِّ فرقة، على الرغم من أن المعروف هو عدم جواز التقليد في أصول الدين، غير أنَّ التمسُّك بآراء الأشعري في أصول الدين مثلًا شاع بنحوٍ أضحى فيه الدفاعُ عنها دفاعًا عن الدين، والتفكير خارجها تفكيرًا خارج الدين، فجنَّدت طائفةٌ واسعة من دارسي الكلام نفسَها لمحاربة أية محاولة للخروج على فكر الأشعري، ووصَموا مثل هذه المحاولات بالابتداع والمروق من الدين. وهكذا الحال مع غير الأشعري من أعلام المتكلمين الذين أضحى تقليدُهم واقتفاء أثرهم أحدَ الأعراف المتوارثة في القرون المتأخرة، وأفضى ذلك إلى تعطيل العقل الكلامي، وتوقُّف الإبداعُ والاجتهادُ في علم الكلام.
(٥-٤) إهمال الإنسان ونسيان كرامته وحرياته وحقوقه
لم يدرج المتكلِّمون في مؤلفاتهم مبحثًا خاصًّا بالإنسان، يتناول تأصيلَ موقف نظري يحدِّد موقع الإنسان في سُلَّم المخلوقات، أي منزلة الإنسان وقيمته بالنسبة إلى غيره، والهدف من وجوده، وحقوقه وكرامته وحرياته، وطبيعة وظيفته، وأنماط حياته، وثقافته، وعيشه، وعلاقتها بما يتشكَّل لديه من رؤية للعالم، وما يرتبط بذلك من مسائل.
يستغرق علمُ الكلام التقليدي في البحث عن الله وصفاته وكلِّ ما يتصل به، في سياقٍ مستقلٍّ عن الإنسان. وعندما يُذكر الإنسان، فإن الحديث عنه لا يشير إلى ما يتصل بطبيعة حياته، وحاجته لمعنًى لهذه الحياة، وقلق هذه الحياة وشجونها وشئونها وأوجاعها ومتطلباتها، وآفاقها وأحلامها وآمالها. وتوق الشخص البشري الأبدي لمعنًى لحياته، ولحريته، وحاجته المزمنة لتأمين حقوقه، واحترام كرامته، والتعاطي معه بوصفه المخلوقَ الأسمى والأشرف والأكرم في العالَم، بل لا يكفُّ التراث الكلامي عن تجاهل قيمة الإنسان، ونسيان ذاتيته وكينونته الوجودية الاستثنائية بين المخلوقات.
(٥-٥) تفريغ علم الكلام من مضمونه الاجتماعي
ومع أنَّ المُسْلِم أصرَّ على التمسك بالإيمان بالله وبوحدانيته، غير أنَّ هذا الإيمان فقدَ إشعاعه الأخلاقي، وتجرَّد من فاعلياته الروحية، فلم يتجسَّد في نزوعٍ للتضامن والمؤاخاة والسلام في حياة المجتمع المسلم، بناءً على أنَّ عقيدة التوحيد توحِّد التضامُنَ المجتمعيَّ، بل أمسى المسلمون جماعاتٍ وفِرقًا متصارعةً، وأُهدرت طاقاتُهم في نزاعات أفضتْ إلى مواقفِ عدائيَّة، وأقحمتْهم في حروبٍ أهلية، كلما خَبَتْ شبَّ أوارُها، وما زلنا نكتوي بحرائقها حتى اليوم. وهكذا يضمحلُّ دور العقيدة، فلا تَحُولُ دون اقتتال الأمة الواحدة، ولا تكون منبعًا للتضامن والمؤاخاة والسلام حين تفرغ من محتواها العملي.
(٥-٦) التربية على الخوف وترسيخ العبودية الطوعية
نشأ عن هذا التصوُّر لله لاهوتُ الاسترقاق، وهذا اللاهوت بطبيعته ينسج شِباكًا معقَّدة لمختلف أنماط العبوديات التي تُكبِّل حياةَ الإنسان، عبر إنتاج العبودية الطوعية، والاستبداد العمودي في مختلف مستويات الاجتماع البشري، من العائلة والعشيرة، إلى المدرسة، والحزب والدولة.
يصادر لاهوتُ الاسترقاق حريات وحقوق الشخص البشري الاجتماعية. ويكرِّس أشكال العبوديات، ويحجب لاهوت الرحمة والمحبة. يجعل لاهوت الاسترقاق الإنسان عبدًا ذليلًا خانعًا مسحوقًا، وينسى أن هذا النمط من العلاقة بالله يفضي إلى نفورٍ من الله مختبئ، وإن كان مُحتجبًا بتديُّن زائف. ذلك أنَّ الإنسان بطبيعته ينفر ممن يستعبده، ويمقت مَن ينتهك كرامته، ويكره من يمتهنه.
ما لم يتمَّ تصحيح نمط صلة الإنسان بربه فسيبقى المرء مشلولًا معاقًا. ينبغي تحويلُ الصلة بالله من صراع مسكون بالخوف والرعب والقلق، إلى علاقةٍ تنبض بالتراحم والمحبة والوصال. علاقةٍ تتكلَّم لغة المحبة، وتبتهج بالوصال مع معشوق جميل.
عامَّة الناس في الغالب، إن تأملنا نمطَ إيمانهم نجدهم يعيشون وهم يتذوقون شيئًا من الوجد والوصال بالحق؛ ذلك أنَّ إيمانهم فطري بريء عفوي حميمي، يتحسَّسون الله أقرب إليهم من حبل الوريد، ليس بوصفه أميرَهم وسلطانهم، الذي يبطش بهم، بل بوصفه صديقًا جميلًا غيورًا كريمًا رحيمًا رقيقًا شفيقًا ملهمًا.
لعلَّ البعض يحسب أن ذلك هو ما تشير إليه آيات القرآن، بتوصيفها الإنسان بأنه عبد لله، لكن الصحيح أن الآيات لا تتحدث عن هذه الصورة المستبدَّة لله، ولا تشير إلى مكانةٍ وضيعة مُهينة للإنسان. تكشف لنا آثارُ العرفاء، بوصفها منجمًا للاستنارة الروحية، عن صلةٍ بالله تتأسَّس على المحبة، وتتنكَّر لأية صلة استرقاق بمعناه المقتبَس من علاقات العبودية بين السيِّد وعبده في مجتمعات الاستعباد. يقول النفري في المواقف والمخاطبات: «فقِفْ بين يَدَيَّ لأنِّي ربك، ولا تَقِفْ بين يَدَيَّ لأنَّك عبدي …»
(٥-٧) ترسيخ اللاهوت الصراطي
يجادل المتكلِّم لإثبات حقانية مقولات فِرقته الاعتقادية، والتدليل على عدم حقانية ما سواها. تشكِّل هذه المقولات بمجموعها منظومةً اعتقاديَّةً واضحةَ الحدود، بنحوٍ يمكن الاستنادُ إليها بوصفها معيارًا للتعرُّف على كلِّ ما يقع في إطارها من مفاهيمَ وآراء، وما هو خارجها. تتألَّف هذه المنظومة من رؤيةٍ خاصة للعالم، وتصوُّرٍ مرسومٍ بعناية لصورة الله، ونمط علاقة الإنسان به، وكيفية عبادته والارتباط به، تنتظم في ضوئها مدوَّنة فقهية، ترسم كيفيةَ العبادات والأحكام، تتطابق فيها وجهةُ المدوَّنة الفقهية مع ما تؤشِّر إليه الرؤية الاعتقادية.
صورةُ الله هي أول ممارسة تأويلية مارسها البشر؛ إذ اشتقَّ أولُ البشر على صورتهم صورةً لله، ثم استمرَّ بنو آدم يصوِّرون اللهَ على صورهم المتنوِّعة، المنتزَعة من عوالمهم المتنوِّعة. بنو آدم لا صورة نهائية يصلون إليها؛ لذا فإن الله لا صورة نهائية له. اللاتناهي للصور هنا هو لا تناهي وعي بني آدم وتأويلهم.
تتجلَّى صورةُ الله لكلِّ شخص من خلال جِراحه. الفقير يرى اللهَ في رغيف خبزه، المريض يرى اللهَ في شفائه، السجين يرى اللهَ في حرِّيته، المعذَّب يرى اللهَ في نجاته، الغريق يرى اللهَ في إنقاذه، المُهان يرى اللهَ في استرداد كرامته، وهكذا.
عادةً ما يُحكَم بالمروق والهلاك على كلِّ مَن يتبنَّى معتقدًا خارج الصور الراسخة لله في لاهوت الفِرق الكلامية التي ورِثها المرء من أبويه بالولادة، فيما يكون الخلاص والنجاة في الآخرة هو المآل الطبيعي لأتباع هذه الرؤية الاعتقادية في نظرهم، فما لم يكن المرء معتقدًا بها لا يكون مشمولًا بالنجاة ومستحقًّا للخلاص.
أفضى اللاهوتُ الصراطيُّ إلى تقويض مرتكَزات العيش معًا في فضاء التنوُّع والاختلاف؛ لأنَّه في ضوء منطقِه يتعذَّر بناءُ أسسٍ حقيقية للتعايش في مجتمع ودولة حديثة واحدة، تقوم أسسُ المواطنة فيها على مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات كافة، بغضِّ النظر عن معتقَداتهم وآرائهم وأعراقهم.
في ضوء اللاهوت الصراطي يجري تصنيفُ أفراد المجتمع الواحد عموديًّا، بتراتبية اعتقادية، تجعل مَن يعتنقون المعتقَد الرسمي في المرتبة الأولى، فيما يُصنَّف مَن سواهم في مراتبَ دنيا، لا ترقى إلى مقاماتهم السامية. وتبعًا لذلك أيضًا تتحدَّد لائحةُ حريات وحقوق ومسئوليات كلِّ فرد في المجتمع، لا على أساس مواطنته وانتمائه للوطن، بل على أساس ولائه ومعتقَده. تجسَّد ذلك بنظام المِلَل في العصر العثماني، وشيوع أحكام أهل الذِّمة وغير المسلمين، كما تحكيه لنا تجربتها التاريخية عبْر العصور، من تمييز وتراتبية دينية اجتماعية سياسية.
حتى لو تمكَّن البعضُ من تسويغ هذه التراتبية الدينية قبل عدة قرون في دول الخلافة والسلطنة، لكن كيف يتمكَّن اليوم من بناء دولة حديثة في سياق هذه المدوَّنة التي تصنِّف المواطنين على وفق معتقَداتهم. أدبياتُ الجماعات الدينية في البلاد العربية تتحدَّث عن الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان بأسلوبٍ تلفيقيٍّ ذرائعيٍّ؛ فهي من جهةٍ تدعو لدولة مدنيَّة حديثة، وتصوِّت على دستورٍ لهذه الدولة يكفل المساواة بين المواطنين، ويمنحهم حريةَ الاعتقاد والتعبير عن معتقَداتهم، لكنها من جهةٍ أخرى تتبنَّى أحكام المدوَّنة الكلامية والفقهية، ومقولاتها التي تتمحور حول واحدية اعتقادية، بلا أن تتدبَّر التناشُز الصريح بين المبادئ الدستورية للدولة الحديثة، وما تتشبَّث به من مقولات لاهوتية صراطية، بل تتهم أية محاولة لاستئناف النظر في المدوَّنة الكلامية والفقهية بالعداء لتراث الأمة ودينها وقيمها.
(٥-٨) إهدار الرُّوح والقلب والعاطفة
القرآن الكريم كتابٌ لا يكفُّ عن مخاطبة العاطفة مثلما يخاطب العقل، فهو يثير مشاعر الإنسان، ويستعمل في إيقاظ القلب والروح أساليبَ مؤثِّرة، فتارةً يتوسل بقصص النبوات السابقة، ويشرح طبائع مجتمعاتها، وأخرى يضرب الأمثال، وثالثة يوجِّه الخطاب ببيان يتكثَّف فيه الترغيب والوعد بالفوز والنجاة، ورابعة يعلن فيها الإنذار والإشارة إلى مصائر ومآلات الأشرار وعاقبتهم … إلخ. يُوصِل القرآنُ الدنيا بالآخرة، بلغةٍ موحية تخاطب أحاسيس وأشواق الإنسان، مشدِّدًا على تأبيد الحياة، بوصف الدنيا والآخرة كلها حياة، على الرغم من تعدُّد أطوارها الوجودية. وهو في كلِّ ذلك لا يكفُّ عن وسم الإنسان بوصفه خليفةً مكرمًا لله.
لم ترِد آياتُ القرآن بأسلوبٍ رياضي أو منطقي أو فلسفي أو علمي، ولم يتحدَّث القرآن وكأنه كتاب في العلم أو الفلسفة أو المنطق أو الرياضيات. هو كتابٌ لا يخلو من محاججات ونقاشات متنوِّعة، لكنها تنتظم في سياقِ آياته، بنحوٍ يتعاطى مع انفعالات وأحاسيس النفس البشرية ببيانٍ يتغلغل في أعماق روح وقلب المؤمن، ويحرص على إيقاظه وتجديد صلته بالله على الدوام.
لا يهتمُّ علمُ الكلام القديم بالروح والقلب والعاطفة، ولا ينفكُّ عن إغراق عقل المسلم بجدالاتٍ ومحاججات ذهنية تجريدية، لا تستند إلى بديهيات، بل تحيل غالبًا إلى فرضياتٍ ومسلَّمات غير مبرهنة. كذلك لا تتعاطى مقولاتُ الكلام مع الإنسان بوصفه خليفةَ الله المكرَّم، ولا تفصح عن تجلِّي الله فيه بما لم يتجلَّ في سواه من مخلوقاته.
إلا أن التصوُّف المعرفي والعرفان النظري أنجز مدوَّنة غزيرة غنية، يمكن الإفادة من شيء من مفاهيمها في إعادة الاعتبار للذات البشرية المستلَبة في علم الكلام القديم، وإعادة تفسير مكانة الإنسان في العالَم، وبيان مسارات القلب والعقل، وكيف أنهما مساران لا يتطابقان بالضرورة، وأنَّ المنطق العقلي الكلامي أهمل الكشف عن الجذور النفسية للاعتقاد، وأخفق في التعرُّف على: أن الإيمان حالةٌ تُعاش لا فكرةٌ تُناقَش، وأن الإيمان ضربٌ من التَّوق والانجذاب والعشق، وكلُّ تَوقٍ وانجذاب وعشق حماسة. وأن التشبُّث بأدلة المتكلمين لا يوقد القلب، ولا يكشف عمَّا تختزنه العواطف، ولا يتوغل في أشواق الروح.
(٥-٩) افتقار علم الكلام للمضمون الأخلاقي
أما في علم الكلام الأشعري فالمسألة تأخذ صيغةً أخرى؛ إذ ينفي علم الكلام الأشعري القولَ بالقبح والحُسن الذاتيين، ويشدِّد على أن الحُسن هو ما حسَّنه الأمر الإلهي، والقبيح هو ما قبَّحه النهي الإلهي. وهذا يعني ألا عدل ولا ظلم مستقلًّا عن الشرع؛ أي لا معنى لحكم العقل بقبح عقاب المطيع وثواب العاصي، ولا معنى للعدل الإلهي.
كما يفشل العقلُ كما يرى الأشعري في اكتشاف الحُسن والقبح، فإنه تبعًا لذلك لا يمكنه إدراك الأخلاق والفضيلة والسعادة ووسائل بلوغها. من هنا لم يَعُد للأخلاق من حيث هي أخلاق أيُّ مضمون خارج إطار الوحي في علم الكلام الأشعري.
لو لم تكن هناك نواميسُ كونية للعدل والأخلاق، وكان كلُّ حُسن يحيل إلى ما يحسِّنه الوحي، وكلُّ قبيح يحيل إلى ما يقبِّحه الوحي، فسيفضي ذلك إلى تفريغ الأخلاق من مضمونها، وغياب أيِّ فِعل أو سلوك أخلاقي في المجتمعات البشرية التي لم تعرف الأديانُ الوحيانية، مع أنه حتى تلك المجتمعات التي لا تعرف الأديان الكتابية، ولم تصل إليها تشريعاتُ الوحي، فإن مسيرتها التاريخية تبرهن على أن هناك حضورًا للكلمات والأفعال الأخلاقية، وأنها تدرك أنَّ للكلمات والأفعال الأخلاقية الأصيلة حياةً في ضمير العالَم؛ ذلك أنها حقيقة أبدية، فلو تكلَّمت بكلمة طيبة، أو فعلت فعلًا حسنًا، فسيكون لكلٍّ منها صدًى بحسبه في العالَم، الكلمة ذاتها تقال عن صاحبها بأبهى صورها، الفعل ذاته يعود لصاحبه بأجمل مما فعل، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
كما تبرهن الحياةُ الاجتماعية للإنسان أن الحياة الأخلاقية هي سلسلة مواقف، تصنع بمجموعها طورًا وجوديًّا خاصًّا للكائن البشري، إنها الشرط الذي يتحقَّق به نمط الحضور الحقيقي لهذا الكائن في العالَم، والذي يعبِّر فيها الدِّين عن حضوره في المجتمع، ويطرد كلَّ تمثيل زائف له، يرتدي جلبابًا باسم الدين، لكلِّ الذي يكشف سلوكه عن انتهاك الفضيلة وإفساد قيم الدين الأخلاقية. إن اضمحلال الحياة الأخلاقية، يفضي إلى اضمحلال وجود الإنسان، وهشاشة كينونته، والذي ينتهي إلى غيابه عن العالَم.
يحدث أحيانًا خلطٌ بين القيم الروحية والقيم الأخلاقية، مع أن كلًّا منهما يحقِّق كمالًا وجوديًّا للإنسان بحسبه. هناك علاقة عضوية وتأثير متبادل بينهما. القيم الروحية: تشبع الفقر الوجودي للإنسان، وتروي الظمأ للمقدَّس، وتحقِّق كمالًا وجوديًّا للإنسان يمتلئ بها ثقةً بذاته وقوة، وتمنح إرادته توترًا وصلابة وعزيمة. والقيم الأخلاقية: تنظِّم الحياة الاجتماعية، وتجعل العلاقات بالآخر سليمة، تنشد خيرَ البشرية، لكنها لا تثري بالضرورة الفقرَ الأبدي للكينونة البشرية، ولا تروي الظمأ المزمن للمقدَّس، والذي لا يحقِّق له الامتلاء والارتواء والسكينة والطمأنينة سوى القيم الروحية.
الإيمانُ بوصفه قيمةً روحية يمتلك تأثيرًا سحريًّا، تتحول معه كيمياء الأرواح، فتتسامى وتحلِّق في عوالمَ ملكوتية. الحبُّ بوصفه قيمةً روحية، مضافًا إلى أنه يسهم بمنح حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا بالغير كثيرًا من الدفء والسلام والتراحم، يهبنا ما لا تهبنا إياه القيمُ الأخلاقية السلوكية، كالصدق وغيره. إذ للحبِّ كيمياء خاصة تتبدَّل معها مادة القلوب، فيصير جوهرها نفيسًا.
(٥-١٠) الخلط بين النصِّ المقدَّس وتفسيراته
حدَث خلطٌ بالتدريج بين النصِّ الأول المؤسِّس والنصِّ الثاني الشارح، وأعني بالنصِّ الأول القرآن الكريم، وما هو ثابت من السُّنة الشريفة على اختلافاتٍ في حدودها الزمنية واستمرارها بعد وفاة رسول الله ﷺ بين السنة والشيعة، ووسائل ثبوت صدورها لدى المُحدِّثين والأصوليين والفقهاء. وأعني بالنصِّ الثاني قراءاته وتفسيراته وشروحه، التي تكوَّنت في سياق تجارب المجتمعات الإسلامية عبْر التاريخ في مختلف مجالات الحياة، بحيث ارتقت مكانة بعض هذه القراءات والتفسيرات والشروح إلى مكانة النصِّ المقدَّس، ثم حجبته وأضحت في مراحلَ لاحقة بديلًا عنه، حتى لو سعى البعض للعودة إلى النصِّ الأول فعادة لا يصل إليه إلا من خلال النص الثانوي الشارح. عندما تمرُّ قراءة النصِّ من خلالِ ما تراكم عليه من قراءات، فإنها تغدو أسيرةَ العوامل المختلفة المنتِجة لتلك القراءات عبر العصور؛ ذلك أن قراءة كلِّ نصٍّ أسيرة السياقات، وليست هناك أية قراءة منعتقة منها، أعني السياقات الأعمَّ من: المؤلف، المتلقي، كيفية التلقي، الأفق التاريخي، الزمان، المكان، السلطة، اﻹكراهات، المصالح، المسبقات.
كان المتكلِّمون من أغزر علماء الإسلام اجتهادًا، وأشدِّهم تنوُّعًا في الآراء، واختلافًا في صياغة المفاهيم الاعتقادية وتفسيرها. ففي كل فرقة تتعدَّد الاجتهادات غالبًا بتعدُّد أعلامها، ولا تقتصر صياغة المقولات على مؤسِّس أو مؤسِّسي الفِرق والمدارس الكلامية، بل تتواصل فاعلية إنتاج الرأي والرأي المضاد لدى الأتباع، ما دامت المدرسة حيةً، تجدِّد نفسها عبر دينامية فعَّالة. لكن هذه الدينامية تتوقف، ويُغلق باب الاجتهاد الكلامي، وقراءة النصوص في ضوء الأفق التاريخي لعصر القراءة، في عصور التقليد، والاستغراق في التلقي والتلقين، فيغرق الدارسون بالهوامش والتفسيرات والشروح وشروح الشروح، ويتعاملون مع نصوص مؤسِّسي المقولات تعامُلًا لا تاريخيًّا، يقفز على السياقات التي أنتجتها، وكأنها نصوص نهائية، وظيفتنا حيالها الفهم والتفسير، وحتى التفسير لا يعدو إلا أن يكون تفسيرًا مبسَّطًا، وليس تأويلًا يخترق طبقات التراث ويتوغَّل في نسيجه المركب، ليكتشف الملابسات والعوامل الظاهرة والمستترة المولِّدة للمقولات والمواقف والآراء الكلامية، ويفكِّك أنماط التبريرات الدينية وكيفية تشكُّلها ورسوخها وتقديسها عبر التاريخ، إلى الحدِّ الذي يتعاطى فيه أتباع كلِّ مدرسة معها وكأنها نصوص نهائية.
ينبغي دراسة التراث برُمَّته بوصفه فهمًا ومنجزًا بشريًّا، خاضعًا لمختلف مشروطيات العصر الذي أنتجه وثقافته ولغته، وكلِّ ما يتَّصل بذلك من متغيِّرات سياسية اقتصادية اجتماعية دينية … إلخ، بمعنى دراسة التراث في سياقه الزماني والمكاني والثقافي، ونزع القدسية عنه؛ لأنه تراث أنتجه بشرٌ، وليس سوى اجتهادات خاصة بزمانها ومحيطها، والحذر من تأبيده لكلِّ زمان، وإخراجه من تاريخه وظروف إنتاجه الخاصة في محيطه. وبدون ذلك ليس بوسعنا الدفاع عن الدين اليوم، وإيقاظ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي فيه، وعقد مصالحة بين المسلم والآخر من جهة، وبين المسلم والجغرافيا والتاريخ من جهة أخرى، بل سنلبث نكرِّر عبارات مجاملات زئبقية، لا تبوح إلا بمزيد من الالتباس والتلبيس.
(٥-١١) تجاهلُ ظروف وعوامل ولادة وتشكُّل الفِرق
لا يهتمُّ علمُ الكلام القديم بظروف نشأة الفِرق، وكيفية تشكُّلها، وبواعث القول بآراء ومقولات مؤسِّسيها ومجتهديها، ولا يدرُس العواملَ المتنوِّعة لولادتها، خاصةً العاملَ السياسيَّ الأشدَّ أثرًا في نشأة الفِرق وتوجيه مسارها والتحكُّم بمصائرها. الصراعات العنيفة على الخلافة كانت على الدوام بحاجة إلى ما يمنحها مشروعيةً إلهية تفرض على المسلمين التمسُّك بها، والخضوع للخليفة مهما كان سلوكه الشخصي وأفعاله، والقبول بطريقة إدارته للخلافة، وأسلوب ممارسته للسلطة، وإن كان مستبدًّا ظالمًا جائرًا عنيفًا.
احتضن الخلفاءُ الأمويون والعباسيون جماعةً من المتكلمين وفرضوا اجتهاداتهم على الأمة، ونبذوا اجتهاداتِ جماعة أخرى مخالفة لهم، وأسكتوا أية رؤية تجتهد بتفكير مختلف، مهما كانت عقلانيتها، ومنطقية طرائق استدلالها، وما يمكن أن تنتجه من قناعاتٍ موضوعية. يكشف عن ذلك المصير المرير الذي أسكت صوتَ الاعتزال إلى الأبد، على الرغم من أن المعتزلة كانوا يمثِّلون صوتَ العقل في التفكير الكلامي. سبق الحديث عن الاعتقاد القادري، وكيف فرض الخليفةُ على كلِّ المسلمين المعتقَد الذي تبنَّاه ونبذ غيره. فقد شدَّد هذا الميثاق على تكفير المعتزلة وكلِّ مَن لا يعتقد بمضمونه كما في قوله: «مَن قال إنه [القرآن] مخلوقٌ على حال من الأحوال فهو كافر، حلالُ الدم بعد الاستتابة منه.»
(٥-١٢) الاعتماد على الطبيعيات الكلاسيكية
من المشكلات التي مُني بها علم الكلام القديم اعتمادُه على الطبيعيات الكلاسيكية، والاستناد إلى معطياتها على أنها حقائقُ نهائية، في حين نسخت العلوم الطبيعية الحديثة معظمَ الآراء والفرضيات التي قامت عليها الطبيعيات بالأمس، وبرهنت الاكتشافاتُ الحديثةُ لقوانين الطبيعة على أنَّ كثيرًا من فرضيات تلك الطبيعيات وأفكارها محضُ أوهام.
مضافًا إلى أن الكلام التقليديَّ اقتصرت أبحاثُه على مجموعةِ مسائل، ولبث الخلف يكرِّر هذه المسائل ذاتها، ويفكِّر في إطارها، حتى تكوَّنت لها حدودٌ صارمة لم يجرؤ أحدٌ على تخطِّيها، وصار مدلول العقيدة هو تلك المسائل خاصة، واتخذ المتكلِّمون نسقًا محدَّدًا في ترتيبها، وظلَّ هذا النسق هو هو في المدوَّنات الكلامية، لا يتغيَّر أو يتطور في القرون الأخيرة. وعلى الرغم من تغيُّر وتطوُّر العلوم والمعارف والحياة البشرية، لكن علم الكلام أخفق في استيعاب مباحث أساسية أخرى، ولبث ينوء بتكرار مقولاته ومقدِّماتها ذاتها.
وانظر أيضًا: ألبير نصري نادر، «فلسفة المعتزلة فلاسفة الإسلام الأسبقين»، دار نشر الثقافة، ١٩٥٠م، ص٤. هنري كوربن، «تاريخ الفلسفة الإسلامية»، ترجمة: نصير مروة وحسن القبيسي، عويدات، بيروت، ص١٧٠. وراجع التحليلات التي قام بها: لويس غرديه وجورج قنواتي في كتابهما: «فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية»، نقله إلى العربية: صبحي الصالح وفريد جبر، دار العلم للملايين – بيروت، ١٩٦٧م، ج١، ص٥٤.