تجديد علم الكلام
(١) إحياء وإصلاح علم الكلام
في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي حدَث أولُ لقاء مباشر بين المسلمين في الشرق والأوروبيين، عندما غزا نابليون مصر سنة ١٧٩٨م، وجلب معه المطبعة، وبعض مقتنيات الحضارة الأوروبية الحديثة، فضلًا عن مجموعةٍ من الخبراء والأكاديميين، ثم تلا ذلك ابتعاثُ محمد علي باشا لجماعةٍ من الطُّلاب المصريين إلى فرنسا في سنة ١٨٢٦م، وكانت البعثةُ تضمُّ في البداية اثنين وأربعين دارسًا، ثم ازداد عددُها فبلغ ١١٤ بعد أن التحق بهم آخرون، فكانت أكبرَ بعثة دراسية توفدها مصر إلى أوروبا حينذاك، وقد لعِب أفرادُها بعد تأهيلهم العلمي دورًا رائدًا في بناءِ التربية والتعليم والثقافة المصريَّة، غير أنَّ الدَّور الأهمَّ هو الذي لعِبه أحدُ المبتعثين، والذي لم يكن أولَ الأمر طالبًا في البعثة، بل كان مرشدًا أو إمامًا دينيًّا لها وهو الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، الذي شرع بالدراسة فور وصوله، وتعلَّم اللغةَ الفرنسية، وكان يهدف إلى ترجمة العلوم إلى العربية، وبعد عودته إلى مصر سنة ١٨٣١م بادر رفاعةُ لترجمة كثيرٍ من الكتب، وبموازاتها كتب رحلته وانطباعاته وفهمه للحضارة الغربية في كتابه ذائع الصيت «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» ومؤلفاتٍ غيرها.
كان لترجمات الطهطاوي ومؤلَّفاته، وجهود آخرين تالية لجهوده، أثرٌ جيد في تدشين عهد جديد للفكر في مصر وما حواليها من البلاد العربية، وهو العهد الذي تعرَّف فيه المسلمون على شيء من معارف أوروبا وعلومها الجديدة.
ومثلما حدث في مصر فقد سبق ذلك لقاءُ المسلمين الأتراك بالفكر الأوروبي، واقترن به في النصف الأول من القرن التَّاسع عشر، تعرُّفُ المسلمين في شبه القارة الهندية على أوروبا وبعض معارفها، وتلاه اتصالُ القاجاريَّة في إيران بأوروبا.
أشاعتْ آراءُ أحمد خان، ونظراتُه التأويلية للمفاهيم العقائدية، ودعوتُه للمذهب الطبيعي، عاصفةً من الجدل والمناظرات، أيقظت التفكيرَ الكلاميَّ الساكنَ، وأقحمت العقلَ المسلمَ في الهند في فضاءٍ يموج بإشكالات واستفهامات مختلفة لم يألفْها هذا العقلُ في متون علم الكلام الكلاسيكية، فانبرى للردِّ على آرائه السيدُ أكبر حسين الإله آبادي، والسيد جمال الدين الأفغاني، وغيرهم.
عملتْ آراءُ أحمد خان وآراءُ مفكِّرين آخرين ظهروا في تركيا وإيران ومصر والمشرق العربي على تأجيجِ قلقٍ عقائدي، مهَّد السبيلَ لبعث روح الكلام وإحياء هذا العلم، فدبَّت الحياةُ من جديدٍ في التفكير الكلامي، وبدأ وعيُ بعض دارسي علم الكلام يسعى للتحرُّر من الحواشي والشروح التي لبث محتجبًا في مداراتها عن العالَم مدةً طويلة.
التجديد والإحياء والإصلاح
أكثرُ الكلماتِ والمصطلحات المتداولة في الكتابات العربية تبدو بنظرة سطحيَّةً عاجلةً واضحةً جدًّا، لكن بنظرة تغوص في الأعماق ترى هذه الكلماتِ والمصطلحات غامضةً مبهمة. عدمُ التحديد الدقيق للمعنى والفوضى في الاستعمال يتسبَّبان في كثير من الاختلافات والنزاعات والمعارك. أحيانًا بعد أن يتصالحَ الخصمان يكتشفان أنَّ الالتباسَ والغموض في بيان المعاني المتداولة للكلمات والمصطلحات هو الذي ورَّطهما في نزاعٍ تتَّفق فيه الكلماتُ والمصطلحات لفظًا، لكنهما لم يتنبَّها إلى أنَّها تتغاير دلالةً. التعريفُ الواضح والكشفُ عن المضمون بدقة يرسمُ خارطةً لحدود المعنى المقصود، ويخلِّص الكلماتِ والمصطلحات من الاضطراب والتشويش والخلط بغيرها.
يلتبِس مفهومُ التجديد بمفهومَي الإحياء والإصلاح في اللغة العربية. وتتعدَّد معانيه بتعدُّد أساليب توظيفه في الاستعمال. السلفيُّون يفسِّرون الإصلاحَ على ضوء منظورهم الذي يرى الإصلاحَ مرادفًا للإحياء، بمعنى استئنافِ ما كان كما كان. الجماعات الدينية تفهم الإصلاح بوصفه خفضًا لمنابع المعنى الديني الميتافيزيقي، وتمدُّدًا واتِّساعًا لحدود الدِّين الدنيوية ومعارفه، بنحوٍ يجب أن يغطِّي الدِّين ويستوعب كلَّ شيء في حياة الإنسان الأرضية. وهو يعني دخول كلِّ شيء في الدنيا في الدِّين، أو ما يمكن تسميته ﺑ «تديين الدنيوي» واستيعاب الدِّين لأفكار وأقوال ومواقف وأفعال الإنسان كلها، حتى العلوم والمعارف تتحوَّل إلى دينية، خاصة الفلسفة والعلوم الإنسانية والفنون والآداب، وهو ما شاع في الأدبيَّات الإسلامية في نصف القرن الأخير بعنوان: «إسلاميَّة المعرفة، أو أسلمة المعرفة، أو إسلام العلوم». وهذه التسمية توازي «تبيئة العلوم، أو قومية العلوم» كما تسميها بعض الأدبيات القومية واليسارية، أو «الروح الحزبية في العلوم» كما تسميها الأدبيات الشيوعية السوفيتية.
للإصلاحِ الدينيِّ عند روَّاد النهضة العربية أكثرُ من معنًى، وإن كانت تلتقي على رفض التعصُّب والتحجُّر، ومحاكاة شيء من حركة الإصلاح الديني اللوثري في المسيحيَّة، وفتح باب الاجتهاد في الفقه بالعودة إلى أدوات النَّظر وأصول الفقه الموروثة. بدأ هذا النمطُ من الفهم للإصلاح مع الطهطاوي مرورًا بالأفغاني، وتلميذه محمد عبده الذي كان أولَ عالِم مسلم يسعى لتدشين محاولات جادَّة في إعادة تفسير القرآن، وتقرير التوحيد ببيانٍ حديث، وإصدار فتاوى تصغي لإيقاع العصر. إصلاح محمد عبده توقَّف عند المسائل الفقهية وتفسير بعض الآيات القرآنية من دون المساس الجوهري بالمقولات العقائدية، والقضايا الإيمانية النظرية الداخلة في نطاق «علم العقائد» أو «علم الكلام».
المواقف في تجديد علم الكلام
أما التجديد في اللغة، فيتحقَّق بالانتقال من لغة المتكلِّمين القديمة، ومُعمَّياتها وألغازها إلى لغةٍ حديثة تستقي من المكاسب الجديدة للمعارف والعلوم والفنون والآداب، وتعبِّر عن الفهم الجديد للطبيعة الإنسانية، وحقوق وحريات الإنسان. لغة علم الكلام القديم دخلت مرحلة الشيخوخة منذ مدة طويلة، ومن المعروف أن اللغة حين تشيخ تضمحل حساسيتها وطاقتها في استيعاب المعاني المركَّبة، وتنضب فيها طاقة الأسئلة الكبرى، وتتفشَّى فيها كلماتٌ واهنة، وعبارات هشَّة، تقول كلَّ شيء من دون أن تقول شيئًا له معنًى. بل إن البيئة الفقيرة لغويًّا فقيرةٌ عقليًّا. خصوبة اللغة وثراؤها، بقدرِ ما تقتل التفكيرَ الساذج البسيط فإنها تحيي وتنمِّي التفكيرَ المركَّب، ولا يمكن الوثوق بولادة أفكار تنفتح على ما يختلف معها، إلا حين تغتني اللغة بمعجمٍ يرفدها باستمرار بألفاظٍ ومصطلحات تنفتح على فضاءٍ عقلي يتسع باستمرارٍ لاستيعاب وتمثُّل كلِّ ما هو جديد في العلوم والفنون والآداب، ويواكب حركةَ التطور والإبداع في مجالات المعرفة المختلفة، ويسهم في رفدها على الدوام.
بموازاة التجديد في اللُّغة لا بدَّ من التجديد في المباني؛ فإن المتكلِّم اهتمَّ سابقًا بترسيمِ مبانٍ خاصة في المعرفة، تستند إلى المنطق الأرسطي، وشيء من ميراث الفلسفة اليونانية، وجعلها ممهِّدة للمباحث الكلامية، في حين انهارت بعضُ تلك المباني حين افتتحت الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة ثغراتٍ كبيرةً اخترقت جدار الواقعية الأرسطية، وتزايد الحديثُ عن واقعياتٍ معقَّدة، كالواقعية التخمينية، وتعرَّض المفهومُ التقليدي للعقل إلى عاصفة نقديَّة، استهلَّها فرنسيس بيكون، وديكارت، وبلغت نضجَها مع إيمانويل كانط، واكتست من بعده صياغاتٍ متنوِّعة بالإفادة من معطيات فلسفة العلم والتطور العميق في الفيزياء خاصةً الفيزياء النظرية والكوانتم، ومختلف العلوم والمعارف البشرية. كلُّ ذلك يدعو إلى استئناف النظر في المباني والمرتكزات الموروثة لعلم الكلام؛ لأن التجديد في المسائل والموضوع والهدف والمناهج واللغة يتطلَّب تجديدًا في المباني.
لم أجد خارطةَ طريق تكشف لنا بوضوحٍ معنى علم الكلام الجديد، والمعيار الذي نحدِّد على وفقه المتكلِّم الجديد. «الفهم الجديد للوحي» هو المعيار الذي نراه لتمييز علم الكلام الجديد عن علم الكلام القديم، كما يأتي تفصيلُ ذلك في الفصل القادم وما يليه من هذا الكتاب.
(٢) مفهوم التجديد وأركانه
منطقُ التفكيرِ ومناهجُ وأدواتُ النظر التي أنتجت معارفَ الدِّين كلُّها اجتهاداتٌ بشريةٌ وليست نصوصًا مقدَّسة. التجديدُ هو إعادةُ تفكيك البنية التحتية التي أنتجت معارفَ الدِّين في ضوء المنطق والمناهج وأدوات النظر الموروثة، وغربلتُها وإعادةُ بنائِها في ضوء منطق الفلسفة والعلوم والمعارف وأدوات النظر الحديثة. وسيتضح هذا المفهوم بشكلٍ تفصيلي في الفصول القادمة من هذا الكتاب.
أعني بالتجديد إعادةَ فهْم الدِّين وتحديد وظيفته المحورية في الحياة، وإعادةَ بناء مناهج تفسير القرآن الكريم والنصوص الدينية، وبناءَ علوم الدِّين ومعارفه في ضوء الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع ومختلف المعارف الحديثة.
منطلقُ التجديد هو الوعي بأن متطلباتِ العيش في عصرنا وتحديات الواقع لا يمكن أن نستجيب لها بما نطق به المتكلِّمون والمفسِّرون والفقهاء والمتصوفة في عصور سابقة. كلُّ عصر ينطقُ بفهمِه الخاصِّ للنُّصوص المقدَّسة، وكثيرٌ من الفهم التراثي يفتقر لتلبية احتياجاتِ عقلِ وروحِ وقلبِ المسلم اليوم، ويعجز عن تأمين مُصالحة بينه وبين ما يتطلع إليه الواقع الذي يعيش فيه، وإنتاج رؤية روحيَّة وأخلاقيَّة وجماليَّة للعالَم، تواكب متغيراتِ الحياة المتواصلة وإيقاعها السريع، وتستجيب لأشواق عقل وقلب وروح الإنسان.
يتحقَّق التجديدُ بإعادةِ النَّظَر في البنية العميقة للتراث، وكشفِ ما هو حيٌّ ومُحْيٍ فيه، وعبورِ ما سواه، وإنتاجِ فهمٍ للدين ونصوصه يحرِّره من إكراهات التاريخ ويحرِّر المسلم من غربته عن عصره.
مناهجُ التفكير ونظريةُ المعرفة وأدواتُ النظر هي المكوِّنُ العميق لبنية التراث التحتية، وهي ما يتحكَّم بصناعة رؤيته للعالَم؛ لذلك فإن إعادة بناء علوم ومعارف الدين لا بد أن تنطلق من هنا.
التجديد يتطلَّب اكتشافَ نظرية المعرفة في الإسلام التي تشكَّلت في ضوئها علومُ الدين. علمُ الكلام في رأيي يمثِّل نظريةَ المعرفة المؤسِّسة للبنى اللاشعورية في التراث، وفي ضوئها تَشكَّل كلٌّ من علم أصول الفقه وعلوم القرآن والتفسير وعلوم الحديث وعلوم اللغة العربية ومعاجمها، وحتى التصوُّف تحكَّمت في رؤيته للعالَم لاحقًا المقولاتُ الاعتقادية للكلام الأشعري وغيرها من مقولات الكلام القديم، الذي اصطلحت عليه «تصوُّف الاستعباد» مقابل «تصوُّف الحرية» الذي أعني به التصوُّف المعرفي الخارج على الرؤية المغلقة للكلام القديم، الذي صنع رؤيته الروحية والأخلاقية والجمالية للعالَم. تصوُّفُ الاستعباد تشبَّع بتقاليد الاسترقاق في الزوايا والتكايا والخانقاوات، وكان يصطاد الأرواح المهشَّمة والقلوب المنكسرة، وقد تفشى في عصورٍ متأخرة لدى الطرق الصوفية. تصوُّفُ الاستعباد يُدجَّن فيه المتصوف على الاستسلام والرضوخ والطاعة العمياء لشيخ الطريقة.
علمُ الكلام القديم، وأصولُ الفقه، وعلومُ القرآن والحديث وقواعدُ تفسير القرآن الكريم والنصوص الدينية، وقواعدُ السير والسلوك في التصوف، هي التي تفرض علينا نمطَ الفهم الذي تنتجه، وفي ضوئها تتشكَّل رؤيتُنا للعالَم، ويعود إليها أثرٌ ليس بالقليل في توجيهِ سلوكِنا، وتحديدِ مواقفنا من الماضي والحاضر والمستقبل، والتحكُّم بطريقة تعاملنا مع الغير. وكلُّ هذه العلوم أنتجها مجتهدون أذكياء نطقوا بما واكبَ زمانهم والمجتمع الذي عاشوا فيه، وبرعوا بتوظيف المنطق والفلسفة والعلوم والمعارف المتاحة لهم.
أستعملُ مصطلح «التجديد»، ولا أستعملُ مصطلحات: «الإحياء أو الإصلاح أو السلفيَّة». البعض لا يميز بين هذه المعاني الثلاثة و«التجديد» فيخلط بينها ويستعملها كلَّها بمعنًى واحد وكأنها مترادفات.
لا يدعو التجديدُ الذي أعنيه إلى استئناف التراث حيث هو كما يشي بذلك معنى «الإحياء»، ولا بترميم معارف الدِّين شكليًّا والاحتفاظ بمناهج التفكير وأدوات النظر حيث هي كما يشي بذلك معنى «الإصلاح»، ولا يدعو التجديد لقبول القديم من دون غربلة وتمحيص والحذر والتحسُّس من كلِّ جديد مهما كان كما يشي بذلك معنى «السلفية».
- الركن الأول: بوصلةُ التجديد إعادةُ تعريف الإنسان، وتعريف الدِّين، وتحديد وظيفته في حياة الفرد والمجتمع، والكشفُ عما يمكن أن يقدِّمَه الدينُ للإنسان من احتياجاتٍ روحية وأخلاقية وجمالية، وما يترقَّبه الإنسانُ من عواطفَ ورفقٍ وشفقة ورحمة يمنحها الدينُ للحياة، وما يُلهِمه للروح من سكينة، وللقلب من طمأنينة.
- الركن الثاني: دراسةُ وفهم واستيعاب ونقد علوم ومعارف الدِّين في التراث، واستكشافُ مداراتها ومدياتها وآفاقها المتنوِّعة، والاهتمامُ بالميراث العقلي في المنطق والفلسفة وعلم الكلام، والميراث الروحي والأخلاقي والجمالي في التصوُّف المعرفي، والتقاط ما هو حيٌّ ومُحْيٍ في التراث، والتحرُّر من المواقف التبسيطية الساذجة في التعاطي معه، والنظر إليه بوصفه كميةً من النصوص التي يجب استظهارُها وحفظُها وتكرارُها، وتوقُّف التفكير عند تنظيمها وترتيبها وتصنيفها، بلا تدبُّر وتحليل وتأويل ومراجعة وغربلة وتمحيص.
- الركن الثالث: الاستيعابُ النقديُّ للعلوم والمعارف البشرية الحديثة، مثل: الفلسفة، علم النفس، الاجتماع، الأنثروبولوجيا، الألسنيات، والهرمنيوطيقا، وغيرها من مكاسب العصر الحديث، وتوظيفُ ما يصلح منها كأدوات في قراءةِ النصِّ الديني وتحليلِه، والإفادة منها في تفسيرِ تمثُّلات الدين في حياة الفرد والمجتمع، واكتشافِ أنماط التجارب الروحية الفردية.
- الركن الرابع: تجديدُ فهمِ الدين يتطلبُ مقارنةَ الأديان ونصوصها المقدَّسة، ومعرفةَ كيفية تشكُّل مؤسَّساتها الدينية، وصلة السلطة بتشكُّل التراث الديني وتنوُّع العلوم والمعارف الدينية.
- الركن الخامس: تجديدُ فهم الدين يحتاجُ دراسةَ مساراتِ الدين عبر التاريخ، والكشفَ عن اختلاف وتنوُّع تمثلاته وأنماط التدين في مختلف العصور والمجتمعات، واكتشافَ تعبيرات التديُّن وأشكاله في حياة الأفراد والجماعات، وصلةِ ذلك بتشكُّل علوم ومعارف التراث ووسائل إنتاجها للمعنى الديني.
- الركن السادس: يبدأ التجديدُ بإعادة بناء أدوات إنتاج المعرفة في الإسلام، وإعادةِ قراءة نصوصه في أفق العصر، بمعنى أن تجديد فهْم الدين لا يتحقَّق إلا بتجديد مناهج الاجتهاد في الدين، وذلك يتوقف على الذهابِ عميقًا إلى البنية التحتية المنتِجة لعلوم ومعارف الدين، وغربلتها وتمحيصها وتفكيكها، وإنتاجِ مناهجَ اجتهادٍ لمختلف علوم ومعارف الدين مواكبةٍ لإيقاع الحياة المتسارع.
- الركن السابع: لا ينجز التجديدُ وعودَه إلا بالتحرُّر من التفسيرات الحرفية المغلقة لآيات القرآن الكريم والنصوص الدينية، والانفتاحِ في التفسير على المناهج الحديثة في علوم التأويل والألسنيات، وعلى كلِّ ما يمكن الإفادة منها من معطيات الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع.
- الركن الثامن: دراسةُ المتخيَّل الديني وتحليلُ كيفية تشكُّله وروافد تغذيته ومديات حضوره في إنتاج المعنى الديني ضرورةٌ تفرضها عمليةُ التجديد، فمَن يمتلكُ وسائلَ إنتاج هذا المتخيَّل يمتلكُ السلطةَ ويمتلكُ التحكُّمَ بحاضر الناس ومستقبلهم في مجتمعاتنا. المتخيَّلُ الديني يُستثمَر لترسيخ السلطة الروحية وتمدُّدها، ويُستغَل لإضفاء المشروعية على السلطة السياسية ويعمل على تضخُّمِ هيمنتها وتغوُّلها. حضورُ المتخيَّل الديني كبيرٌ في تكوين المقدس واتساعه، وانعكاسِه المباشر على حياة الإنسان وسلوكه، وهو عاملٌ مؤثِّر في بناء ثقافة الأفراد والمجتمعات، وتجذُّرِ البنى اللاشعورية في الوعي، وتوجيه بوصلة مصائر المجتمعات المسلمة وأقدارها التاريخية. للمتخيَّل الديني سلطةٌ واسعة على العقل في مجتمعاتنا، ربما ينتهي تمدُّدُ سلطته إلى تغييب العقل وتعطيله. لا يسترِد سلطةَ العقل إلا التفكيرُ النقدي الذي يضعُ المتخيَّلَ الديني في حدوده، ويعملُ على توظيفه بشكلٍ فاعل في البناء والتنمية.
- الركن التاسع: لا يبدأ التجديد بالتراث لينتهي بالتراث كما يفعل بعضُ مَن يكتبون ويتحدثون عن التجديد، ولا يبدأ بالواقع ويصوِّر لنا التراثَ وكأنه يستجيب لكلِّ ما يتطلبه الواقع من دون اكتراث بأن أكثرَ ما في التراث يتنكَّر له الواقع، كما يدلِّل على ذلك نحوُ قرنين من إخفاق هذه الدعوة وتهافتها. مَن يدعو للانطلاق من التراث والعودة إليه، وبتعبيره «إعادة بناء التراث»، لبِث حائرًا يكرِّر نفسَه، لم يستطِع الغوصَ في التراث والتقاط كنوزه، ولم يتبصَّر أفقًا مضيئًا يغادر فيه ما هو ميتٌ ومميتٌ من التراث.
إعادةُ بناء التراث كما قرأتُها في بعض المشاريع الفكرية لم تكن بناءً جديدًا يستلهم العقلاني والروحي والأخلاقي والجمالي الحي والمحيي في التراث، ويقوم بتركيبه وسكبه في مركب بديل في ضوء متطلبات الواقع، معتمدًا على معطيات الفلسفة والعلوم والمعارف الحديثة، بل كان أحيانًا مجردَ عملية استئناف للتراث بكلماته ومصطلحاته وعباراته ومضمونه كما هو، وإن كان يجري وضعُه تحت عناوين جذَّابة ولافتات برَّاقة.
قلما نجد مَن يفكِّر بنظام بديل لإنتاج المعنى الديني من النصوص المقدَّسة خارج فضاء أدوات النظر ومناهج الاجتهاد في التراث. ما يصدر من الأزهر وغيره من معاهد التعليم الديني التقليدية كثيرٌ منه كلام تكراري عن الإحياء والإصلاح، لا يجد مَن يصغي إليه خارج معاهد التعليم الديني. وأكثر تلك الكتابات يتكدَّس فيها لفظٌ على لفظ، ويتراكم فيها فائضُ القول، وكلماتٌ من دون مضمون أحيانًا، يشعر القارئ اليقِظ بالضجر منها.
نحتاج إلى مراجعة نقدية عميقة لمسار الإصلاح الديني التكراري في الإسلام منذ جمال الدين الأفغاني إلى اليوم، الذي ما زال يصادر كلَّ دعوة للتجديد تحت لافتته. النقد العميق للتراث واكتشاف بنيته التحتية ونظم إنتاج المعنى الديني فيه يصدر أحيانًا من خارج هذه المعاهد، لكن ما زال التفاعل معه هامشيًّا، وأكثر الناس لا يصغون إليه ما لم يصدر عن المؤسسة الدينية المكرسة بمشروعيتها الدينية التاريخية.
كي يحقِّق الدينُ وظيفتَه في الحياة اليوم لا بدَّ أن نفهمه بوصفه حياةً في أُفق المعنى. في ضوء هذا الفهم للدين ووظيفته في الحياة ينبغي أن يتأسسَ المنهجُ الذي نعتمده في تفسير القرآن الكريم والنصوص الدينية، والكشف عن المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في القرآن وهذه النصوص، الذي تحتاجه حياةُ الإنسان في الأرض. كلُّ ما هو خارج ذلك يستمدُّه الإنسانُ مما يقوله العقلُ والعلوم والمعارف البشرية، وما أنجزه تراكمُ خبرات الإنسان عبر عشرات الآلاف من السنين.
(٣) مصطلح علم الكلام الجديد
في ضوء المعطيات المذكورة آنفًا لمفهوم التجديد يغدو القول بوجود شخص واحد مؤسِّس لهذا العلم قولًا يقفز على حقائق التاريخ، ويجهل المدلول الحقيقي لتجديد علم الكلام، ذلك أن حركة التجديد في معارف الدين مخاضٌ عسير، وولادة شاقة، لم تبلغ غاياتها بقرار تُصدِره مؤسَّسة أو فرد أو مؤتمر يُعقد لهذا الغرض، أو خطبة حماسية تصدر من شخصية علمية أو دينية، أو مقال، أو كتاب ينشر. التجديد في معارف الدِّين أفكارٌ جديدة تُولد، ومجموعة جهود معرفية وبرامج علمية جريئة تتراكم، تنطلق في بيئة تتوفَّر على العناصر والمقوِّمات الضرورية لاستنبات الفكرة ونموِّها، وتبنِّي ودعم مؤسَّسة روحية لها.
ليس تجديد علم الكلام بدعًا من ذلك، بل هو مشروع تضافرت على احتضانه وتطويره مبادرات وجهود معرفية وعملية، أسهم فيها رجالٌ أدركوا مأزق التفكير الديني في الإسلام الحديث، لكن الريادة تبقى دائمًا نصيبَ علماء أفذاذ.
مع محمد إقبال ندخل مسارًا مختلفًا في تجديد علم الكلام الذي حاول أن يضع لبناتٍ أساسية لبناء فلسفة دينية في الإسلام، لا تكرِّر المدوَّنات الموروثة في علم الكلام كما نجده ماثلًا في محاضراته الست التي ألقاها في مدراس بالهند عام ١٩٢٨م، ثم أتمَّها بعد ذلك في الله آباد في عليكره، وصدرت فيما بعدُ في كتابه الشهير «تجديد التفكير الديني في الإسلام».
توفَّر هذا الكتاب على بناء إطار منهجي للدراسات الدينية في الإسلام، تتحدَّد فيه أولويات البحث، ونقطة البداية، والمنطلقات الأساسية، وأدوات التعاطي مع المعرفة والعلوم الإنسانية الحديثة، ووسائل اكتشاف البؤر المضيئة في التراث، ومدى الإفادة من عناصره الحية، ودمجها بمكاسب المعارف الجديدة، وتوليفها في هندسة معرفية متناسقة الأجزاء. ففي استقراء سريع ﻟ «تجديد التفكير الديني في الإسلام» يطالع القارئ إشاراتٍ لفلاسفة ومفكرين غربيين، مثل: لوك، هيوم، هوكنج، برغسون، فرويد، ديكارت، بركلي، نيوتن، رسل، زينون، دريش، ولدن كار، برود، أوغسطين، منك، ماكدونالد، نومان، برونج، شوبنهور، برادلي، بلانك، هيجل، رونجير، الكزاندر، رويس، جون سيتوارت مل، روجر بيكون، شبنجلر، هورتن، هيزنبرج، جورج فوكس، أينشتين، وليم هاملتون، لايبنتز، يونغ، داروين، نيتشه … إلخ. ربما لا نجد مفكرًا إسلاميًّا يتَّسع أحد مؤلفاته لاستيعابِ إشاراتٍ لآراء هذا العدد الوفير من المفكرين والفلاسفة في ذلك الزمان، وإن كان مروره على آراء هؤلاء المفكرين لا يتعدَّى ومضاتٍ خاطفة في أغلب الموارد المشار إليهم فيها، ونجده يخفق أحيانًا في مسعاه لتأويل بعض آيات القرآن في ضوء مقولات الفلاسفة الغربيين، خاصة الفلاسفة الألمان الذين انعكس شيءٌ من مقولاتهم في تفكيره الديني.
هذا الحشد للأسماء الغربية يشي بموقفٍ إيجابي من الفلسفة والمعارف الغربية الحديثة، في زمنٍ كان فيه غيره لا يخفي ارتيابه وقلقه منها. وإن كان لا يمكننا القول إنه يكشف عن استيعابٍ وفهمٍ عميق ودقيق لتلك الفلسفة والمعارف. كانت أفكار إقبال تلمح بشكلٍ خاطفٍ إلى مفاهيمها وأدواتها عند دراسته التراث وتشريحه، وتأويل بعض النصوص، ودراسة الفضاء الدلالي لها، والتوغل في دراسة التجربة الدينية، واستجلاء مدياتها في الروح، وحقل وحدود الدين في الحياة البشرية.
كتاب محمد إقبال «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، هو أولُ نصٍّ في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد يصدر قبل ما يقارب القرن من الزمان، لكن تأثيره ما زال محدودًا في الدراسات اللاحقة بالعربية؛ لأن أدبيات الإخوان المسلمين وغيرهم من الجماعات الدينية استعارت مفاهيم ومقولات أبي الأعلى المودودي وافتتنت بها، فنقلوا آثار المودودي للعربية بوصفها ملهمة لشغفهم باستعادة دولة ما قبل الدولة الوطنية الحديثة، كما نلاحظ ذلك بوضوح في كتابات سيد قطب التي ظلَّت تفكر في مداراتها معظم أدبيات الجماعات الدينية سُنيَّة وشيعية.
تقع الذاتُ البشريَّة موضوعًا للمعرفة في الوقت الذي تكون فيه عارفة. إنها ليست متحرِّرة من أثر رؤيتها للعالم على فهمها، وما تفرضه الذاتُ على ذاتها من تحيُّزات غير واعية؛ إذ طالما وقع الباحث في أسرِ تحيُّزات ذاته، وسطوة الرؤية للعالم والثقافة المحلية والأيديولوجيا والأحكام السابقة التي يتبناها على فهمه، فتركت بصمتها على المفهومات التي يذهب إليها، والآراء التي يدافع عنها، والنتائج التي يخلُص إليها. لذلك لم تتحرَّر تلك الجهودُ الرائدة لأحمد خان ومحمد إقبال وفضل الرحمن في الهند وباكستان، من أسرِ رؤيةِ الذات للعالم، والبنية اللاشعورية لها، وأحكامها السابقة، وهكذا لم يتحرَّر ما تلاها من محاولات ظهرت في مصر، وحوزة قم، وحوزة النجف، التي كانت كلُّها تنشد إعادةَ النظر في علم الكلام التقليدي، وبناء علم كلام وفلسفة للدين في ضوء آفاق العصر الذي يعيش فيه المسلم ومتطلباته الاعتقادية.
(٤) علم الكلام في إيران والعالَم العربي
ونلاحظ في كتاب «الدين: بحوث ممهِّدة لدراسة تاريخ الأديان» لمحمد عبد الله درَّاز الذي كتبه سنة ١٩٥٢م، معالجةً للفكرة الدينية من الوجهتين الموضوعية والنفسية، والعلاقة بين الدين والأخلاق والفلسفة وسائر العلوم، ونزعة الدين وأصالتها، ونشأة العقيدة الدينية، وتفسير الظاهرة الدينية، والكشف عن شيء من منابع إلهامها في الحياة البشرية، بالاستناد إلى المعطيات الجديدة في المعرفة البشرية. ودراز لبث في أفق هذه المباحث ولم يتجاوزها. ولم نعثر في آثاره على ما يدلُّ على أنه يطمح لبناء علم الكلام وتجديده.
من الكتب التي صدرت في هذه الفترة كتاب «أصول الفلسفة والمنهج الواقعي» لمحمد حسين الطباطبائي وشرحه لتلميذه مرتضى المطهري، فقد صدر الجزءُ الأول منه سنة ١٩٥٣م. هذا الكتاب، وإن كان كتابًا فلسفيًّا، فقد انصبَّ البحثُ فيه على بيان مسألة المعرفة والإدراك، وتفسير حقيقة المعرفة البشرية ومصادرها وحدودها، لكنه جاء ليقرِّر جملة من المفاهيم لتشييد الأساس الفلسفي لعلم الكلام؛ لذلك انطلق من صياغة المقولات الفلسفية لمحاكمة الاتجاه التجريبي في الفلسفة الغربية الحديثة، والاتجاه المادي، والمادية الديالكتيكية منه بالذات، عندما عرفها العالم الإسلامي وقتئذٍ.
ويُعد كتاب «أصول الفلسفة» محاولةً مبكِّرة ورائدة لتدوين علم كلام فلسفي في هذا العصر، لولا الالتباس والاضطراب الذي نراه في فهمه لبعض نظريات وآراء الفلاسفة الغربيين، لافتقار مؤلِّفه وشارحه لمعرفة اللغات الأم المدوَّنة فيها أعمال هؤلاء الفلاسفة، وعدم ترجمة نصوصهم الأساسية وقت تدوين الكتاب، والاعتماد على مراجعَ فارسية غيرِ متخصِّصة تعرض مفاهيمَ الفلسفة الغربية الحديثة وتشرح نظريات الفلاسفة بأسلوبٍ ليس سطحيًّا فقط، بل ملتبسًا ومشوشًا ومضطربًا وخاطئًا أحيانًا.
وفي سنة ١٩٥٩م صدر كتاب «فلسفتنا» لمحمد باقر الصدر، وهذا الكتاب ينسج على نهج الطباطبائي في «أصول الفلسفة»، في محاولةٍ لتدوينِ علمِ كلامٍ فلسفي. يعالج فيه الصدرُ قضية المعرفة أولًا، ثمَّ ينطلق منها لتحديد المفهوم الفلسفي للعالم، وبيان حاجة الأشياء إلى علة، والبرهنة على وجود الله. وقع كتاب «فلسفتنا» بما وقع فيه كتاب «أصول الفلسفة والمنهج الواقعي» الذي كان يحاكيه في فهمه ومناقشاته، فوقع في التباسٍ في فهم الفلسفة المثالية، وتبسيطٍ في فهم آراء الفلاسفة الغربيين في العصر الحديث.
كتابُ «فلسفتنا» مؤلَّفٌ ألصقُ في مضمونه بعلم الكلام منه إلى الفلسفة؛ لأنه ينشد إثبات وجود الله، بالإفادة من طرائق المنطق الأرسطي في المحاججة والبرهان. وبالنظر إلى ما يؤشر إليه عنوان الكتاب من إحالة الصدر الفلسفة للهوية الإسلامية «نا»، فإنه يصنِّف الفلسفة تبعًا لهويتها الاعتقادية، على الرغم من أن الفلسفة لا هوية اعتقادية لها، الفلسفة مشترَك عقلي، الفلسفة لا تقبل التجنيس الاعتقادي والتصنيف الهوياتي. وهو ما ينطق به صراحةً عنوان «فلسفتنا» الذي يعلن عن هويةٍ اعتقادية إسلامية للفلسفة. وذلك ما يدعونا لتصنيف مضمون «فلسفتنا» على علم الكلام التقليدي وليس الفلسفة، وإن كان عنوان الكتاب لا يفصح عن ذلك.
العقل الكلامي غير العقل الفلسفي. العقل الكلامي ينطلق من مسلَّمات سابقة. العقل الفلسفي عقل كوني، عابر للجغرافيا القومية والاعتقادية والدينية. القراءة اللاهوتية للفلسفة تنتج لاهوتًا، القراءة الكلامية للفلسفة تنتج علمَ كلام، القراءة الفقهية للفلسفة تنتج فقهًا، القراءة الأيديولوجية للفلسفة تنتج أيديولوجيا. لا ينتج الفلسفة إلا التفكير الفلسفي، والقراءة الفلسفية للفلسفة. التفكير الفلسفي لا ينطلق من مسلَّمات سابقة، أو مواقف قبلية جاهزة، أو تحيزات واعية، مهما كانت. التفكير الفلسفي يبحث الوجود من حيث هو وجود، التفكير الفلسفي يبحث الحقيقة من حيث هي حقيقة، التفكير الفلسفي يبحث الإنسان من حيث هو إنسان، بمعنى أن التفكير الفلسفي يبحث الكينونة الوجودية المشتركة للإنسان التي لا تتغير بتغيُّر الظروف والواقع والزمان والمكان.
(٥) تجديد الدِّين يبدأ بتجديد علم الكلام
تجديد الدِّين يبدأ بتجديد علم الكلام، أية بداية للتجديد في الإسلام لا تبدأ بعلم الكلام، ومسلَّماته المنطقية والفلسفية، فإنها تقفز إلى النتائج من دون المرور بالمقدِّمات. تجديد الفقه مثلًا يبتني على تجديد علم الكلام؛ ذلك أن قبليات ومسبَّقات أصول الفقه، الذي يبتني عليه الاستنباط الفقهي، ليست سوى مسلَّمات ومقولات لاهوتية، حقلها هو علم الكلام. ومما لا شك فيه أنه لا يمكن تخطي القراءة السلفية المغلقة للنصوص، وإنتاج قراءة تواكب العصر، ما لم يستأنف النظر بالبنية التحتية العميقة لإنتاج تفسير النصوص، تتخطَّى آليات النظر والفَهم المتوارثة.
إن العقيدة حاضرة في التراث من خلالِ بشرٍ يفهمونها، وهم حين يفسِّرون الكِتاب والسُّنة يكتسب فهمهم شيئًا من خصائص البشر ونقصهم، ويلتبس وعيهم بما يكتنف حياتهم من البيئة المحيطة بهم، ويتلوَّن تفكيرهم بفضاء الزمان والمكان والمحيط الذي يتحرَّكون فيه، فكيف يصحُّ تمديد رؤيتهم ومفاهيمهم وكلماتهم إلى عصرنا. وكيف يصحُّ توكيلهم في التفكير والحديث نيابةً عنا. ألا ينبغي دراسة ميراثهم وغربلته، واستبعاد ما هو نسبي منه، وما كان يعبِّر عن تمثُّلهم لروح العصر الذي عاشوا فيه. النصوص مرآتهم التي كانوا يرون أنفسهم فيها في سياق عصرهم وظروفه ومعطياته؛ لذلك ينبغي أن نقرأ النصوص مثلما قرءوها هم، أي في سياق ظروف واقعنا ومعطياته. متغيرات حياتنا تدعونا لقراءة هذه النصوص وفهمها في ضوء متغيرات ومعطيات واقعنا. المهم لدى القارئ فيما يقرأ هو أن يحقِّق ذاته ويكون هو، بمعنى أنه على الدوام يفتِّش عن ذاته فيما يقرأ. النصُّ هو مرآته التي تعكس ما يعبِّر عن وجوده، ورؤيته للعالم، ومحيطه، وخبرات حياته، وما تنشده أحلامه.
إن تجديد علم الكلام يستوعب غربة الواقع بأزماته ومشكلاته المزمنة، ويتجاوز غربة التراث؛ ذلك أن التراث ينتمي إلى واقعٍ مضى؛ فالإصرار على استدعائه بتمامه يعني استدعاء ذلك الواقع، ومن ثَم إلغاء عنصرَي الزمان والمكان، ونفي الصيرورة والتحوُّل، والنزوع نحو سكونية لا تاريخية، يتكرَّر فيها الماضي والحاضر والمستقبل، وتغدو عملية التقدم هروبًا ارتداديًّا إلى الوراء، وتوغلًا في الماضي، واستئنافًا للأفكار والمواقف والنماذج التاريخية ذاتها. وكأن الأموات في حياتنا أشدُّ حياة من الأحياء. وكأن حاضرنا ومستقبلنا يقبض عليه ويصنعه الأموات أكثر مما نقبض عليه ونصنعه نحن.
تتجلَّى أهميةُ علم الكلام الجديد في التمييز بين الإلهي والبشري، بين المقدَّس وغير المقدَّس، بين الدين ومعرفة البشر للدين، بين العقيدة وإدراك الإنسان لها، بين الدين والتديُّن، بين الدين والإيمان، بين حدود الوحي الإلهي والعقل البشري، بين الكتاب الكريم وتفسيره، بين الفقه وفتاوى الفقهاء والشريعة الإلهية. كذلك يكشف علم الكلام الجديد المجالات الخاصة لكلٍّ من المقدَّس والدنيوي. ويكشف أقنعة المقدَّس، عندما يتدثَّر الدنيوي بهذه الأقنعة، فيغدو الدنيوي مقدَّسًا، وتتسع تبعًا لذلك مجالات المقدَّس، فلا يكفُّ عن النفوذ والتمدُّد والاحتواء، ليلتهم كلَّ ما هو دنيوي فيحوِّله مقدَّسًا.
علم الكلام الجديد يطمح لإحياء نزعة التفكير الحرِّ، ويعمل على اختراق الأسيجة التي وضعها حول العقل أتباعُ التيار الظاهري الأخباري والسلفيون، حتى باتت دراسة ومناقشة بعض القضايا الكلامية في الإسلام من المحرَّمات اليوم، في حين كان المتكلمون يتداولونها بالأمس من دون أية قيود أو ممنوعات عقلية. مما يؤسف له أن يسود ثقافتنا اليوم تخويفٌ من النقد، بوصفه هدمًا وتقويضًا، بل ربما يتحوَّل التخويف أحيانًا إلى تخوين، من دون أن نعرف أن النقد هو البناء، وأن الهدم هو تحجُّر التفكير وتكراره الذي معه يمسي التفكير ضدًّا للتفكير، ويكفُّ العقل عن التفكير.
ينشد علمُ الكلام الجديد أيضًا التعبير الجمالي عن الدين؛ لأنه ضرورة يفرضها إحياءُ رسالة الدِّين في عصرٍ يتفشَّى فيه قبحُ التعبير المتوحِّش عن الدِّين. كذلك يعمل على تحرير النصوص الدينية من التفسير الفاشي الذي لا يمحق جمال الدين ورحمته وسلامه فقط، بل تتوالد منه موجةٌ مناهِضة للدين تقوِّضه من داخله. التديُّن المتوحش لا يذهب إلى مكان إلا وقال له الإلحاد خذني معك.
السلفيون المتشدِّدون ينصبون أنفسهم ناطقين باسم الله، ولا يرسمون صورته إلا بلون الدم المسفوح، فيلوِّثون تجليات جماله في كلماته التكوينية والتدوينية، والذي تحتجب باحتجابه تجليات الجمال في الوجود. رسالة الدِّين تتلخَّص في أنها مسعًى أبديٌّ لاستبصار تجليات الحب والإيمان والخير والسلام والضوء والجمال في كلمات الله التكوينية والتدوينية.
يرمي علمُ الكلام الجديد إلى دراسة التراث في ضوء المعطيات الراهنة للمعارف والعلوم الإنسانية، والتحرُّر من التحيُّزات الطائفية والقبليات اللاهوتية في البحث، تلك التحيُّزات التي تعمل على اقتطاعِ النصِّ من سياقه، وتجريده من قرائنه، ثم تتعسَّف في تأويله، بهدف التدليل على أية وجهة نظر تتبناها.
الدراسة العلمية للتراث تتطلب التوفُّر على خبرة ودراية في التعاطي معه، واستلهام روحه الحية، والقدرة على توظيفها في منظومة الأفكار الكلامية الراهنة. وكما هو معروف بين أهل العلم أن الاجتهاد في أي حقل من حقول المعارف الإسلامية مما لا يدركه كلُّ أحد؛ لأنه يتوقف على دراسة جادَّة ومعمَّقة للتراث، ووعي دروبه ومسالكه المختلفة، مضافًا إلى الإلمام بالقواعد والأدوات الخاصة للاجتهاد في ذلك الحقل، فلا يمكن تجديد علم الكلام من دون دراسة وبحث يستكشف مسالك التراث الكلامي المتنوِّعة، واستيعاب مقولات وآراء المتكلمين المختلفة.
بموازاة ذلك يتوقَّف تجديد علم الكلام على تمثُّل روح العصر، والانفتاح على المكاسب الهائلة للعلوم والمعارف الراهنة، خاصة الفلسفة والعلوم الإنسانية، والتخلُّص من الحساسية والوجل أو العقدة في التعامل مع معطيات العلم الحديث؛ إذ تطوَّرت بعض العلوم الإنسانية بدرجةٍ توازي تطوُّر العلوم الطبيعية والتطبيقية والعلوم البحتة في الغرب، وهي ذات وشيجة عضوية بمناهج علم الكلام ومسائله ولغته ومنظومته المعرفية بأسرِها، مثلما نلحظ ذلك في فلسفة العلم، والهرمنيوطيقا، والسيمياء، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والميثيولوجيا … وغيرها.
من اللافت للنظر أن أهل العلم في حضارتنا تعاطوا مع ما وصلهم من معارف أثينا ومدرسة الإسكندرية والهند وفارس بلا وجل، فقد عملوا على ترجمة تلك المعارف ودراستها واستيعابها، وإعادة إنتاجها، حتى أمست جزءًا من مكونات التراث، وتغلغلت بشكل واسع في علوم ومعارف المسلمين، وقد كانت معارف الغرب حينذاك في بواكيرها، في حين نمَت العلومُ الغربية واتسعت في العصر الحديث، بنحوٍ لم يسبق له مثيل، حتى إن العلوم الإنسانية اليوم لا يمكن مقارنتها بنواتها الجنينية قبل ٢٤٠٠ سنة في التراث اليوناني.
لا يمكن تجديدُ علم الكلام إلا أن ينتقل التفكير في هذا العلم إلى فضاءٍ آخر، يتخطَّى مجالاته التقليدية، ورؤاه الموروثة والمكرَّرة. ولا يتحقَّق شيء من ذلك إلا أن يتحرَّك التفكير الكلامي إلى مواطن لم يفكِّر فيها من قبل، ويقتحم آفاقًا ظلَّت مهملة أو مجهولة أو ممنوعة قرونًا طويلة. ولا ريب في أن السؤال هو الذي يوقد شعلة التفكير، خاصة إذا كان السؤال مثيرًا مستفزًّا. تطوُّر الفكر الإنساني في كلِّ العصور يقترن دائمًا بالأسئلة الكبرى، الأسئلة الحائرة، الأسئلة القَلِقَة، الأسئلة الصعبة، الأسئلة التي تتوالد من الإجابة عنها أسئلة جديدة.
ليس بوسعنا توظيف مفهومات، أو مقولات، أو آراء، أو مصطلحات علم الكلام التقليدي، في الإجابة عن أسئلة اليوم. لا سبيل أمام العقل الكلامي سوى المغامرة واقتحام حقول بديلة في تفكيره؛ لأن مناهج وأدوات ومقولات التراث الكلامي لا صلة لها بمنطق السؤال اللاهوتي الجديد ومنطلقاته ومرجعياته المعرفية؛ ذلك أن هذا السؤال يطاول بنية المعارف الإسلامية الراسخة، ويستقي من معطياتٍ مختلفة في تفسير الطبيعة الإنسانية، ونمط المتطلبات المعنوية والحاجات الروحية للإنسان، وبواعث النزعة الدينية، والعلاقة بين الدين والظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المختلفة. كما ينهل السؤال اللاهوتي الجديد من المكاسب الواسعة للعلوم الإنسانية، في مجال: الألسنيات والتأويل والهرمنيوطيقا، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وفلسفة العلم، وغيرها.
تجرَّأ بعض المتكلمين اليوم على طرح أسئلة جديدة، لا علاقة لها بالشبهات والإشكالات والاستفهامات المتنوعة المعروفة في التراث الكلامي، كما لا صلة لها بالمنظومة المعرفية التقليدية للتفكير الكلامي. وتتكشَّف اليوم ملامحُ هذه الأسئلة في سياق التحديات الهائلة التي يواجهها الدين والتديُّن في عصرنا، وتنامي الدعوة لتوظيف المعرفة الحديثة في الدراسات الدينية، واتساع إسهامات مجموعة من المفكرين والباحثين والدارسين الخبراء بتلك العلوم في تطبيق مناهجها وأدواتها في دراسة النصوص المقدَّسة، والتراث، والتجربة الدينية، وانبثاق أسئلة باستمرار في سياق دراساتهم.
(٦) لا جوابَ أبديًّا للأسئلة الميتافيزيقية الكبرى
ما يهدِمه علمُ الكلام القديم من كيان الروح وأمنها أكثر مما يبنيه؛ لذلك ابتكر العرفانُ طريقًا للإيمان يسلكه القلبُ، تعيشه الروحُ كحالة وجودية، ويتذوَّقه القلبُ مثلما يتذوَّق الوصال بمعشوق جميل. أعاد العرفانُ بناءَ صورةٍ جميلة لله، كلُّها إشراق وجمال ومحبة، يلتقي عبر هذه الصورة الإنسانُ مع الله عاجلًا؛ لأنَّ هذه الصورة ألغت المسافةَ اللامتناهية التي صنعها المتكلِّمون بين الله والبشر.
لا يصل البحثُ في الميتافيزيقا إلى نتائجَ أخيرة أبدية؛ لذلك تظل الأسئلةُ العميقة فيها تتوالد باستمرار، بالتزامن مع تطوُّرِ وعي الإنسان وتراكمِ معارفه وخبراته المتنوعة، وتنامي اكتشافاته لقوانين الطبيعة والتوغلِ في آفاق الكون والكشف عن أسراره. وهذا هو جوهر قول علم الكلام الجديد.
أبدية الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى
«لا جوابَ أبديًّا للأسئلة الميتافيزيقية الكبرى»، بناءً على هذا الموقف المعرفي يبتني «علم الكلام الجديد»، بمعنى أن ما قاله مؤسِّسو الفِرق ومؤلِّفو المقولات الكلامية بخصوصِ رؤيتِهم لله، وصفاته وأفعاله والوحي والنبوة، وما فهموه من النصوص الدينية، ليس إلا إجاباتٍ مرحليَّة تعبِّر عن زمانهم وبيئاتهم وثقافتهم، وما اكتنف حياتَهم الشخصية، وما عاشوه من ظروف مختلفة، عبَّرت عنها الصراعاتُ على السلطةِ والثروةِ في عصرهم. وتعكس مقولاتُهم الكلاميَّةُ عقلانيةَ عصرهم، ودرجةَ تطوُّرِ العلومِ والمعارفِ، ومناهجِ التفكير، وأدواتِ المعرفة، ومستوى الوعي البشري، ونمطَ التمدُّن. في ضوءِ ذلك لا يصحُّ النظرُ إلى آراء: النظَّام، أو الأشعري، أو الماتريدي، أو المفيد، أو الطوسي، أو القاضي عبد الجبار، أو الغزالي، أو الفخر الرازي، أو ابن تيمية، أو غيرِهم من المتكلمين، بوصفها آراءً أبدية، والتمسك بأسئلتهم وأجوبتِهم بوصفها أسئلةً وأجوبةً نهائية.
دخلتْ علومُ الدين في الإسلام حلقةً دائريةً تكراريةً منذ قرون عدة، بعد أن توقَّف إنتاجُ العلم الدنيوي في عالم الإسلام. واستبدَّت الرؤيةُ الكلامية الموروثة للعالَم في حياة المسلمين، فحجبتهم عن رؤية العالم خارجَ الأسوار المغلقة لعلم الكلام. وأضحت مجتمعاتُنا اليوم ضحيةَ رؤيةٍ ميتافيزيقيةٍ للعالم تتحدَّث لغةَ الأموات، ينتجها علمُ كلامٍ قديمٍ لم يَعدْ يتبصَّر قلقَها الوجودي، ولا يدرك منابعَ ضغائنها.
فهمُ الدين يتطورُ تبعًا لتطور فهمِ الإنسان لنفسِه، وتفسيرِه للطبيعة واكتشافِه لقوانينها وتسخيرِه لها، فكلَّما تقدَّم العلمُ بحقيقة الإنسان، وتمَّ اكتشافُ المزيد من قوانين الطبيعة، وتراكمت المعارفُ كيفًا وكمًّا، لا بدَّ أن يتطوَّرَ بموازاتها فهمُ الدين، وتحيينُ المعنى الديني، بالمستوى الذي يستجيب للواقع الجديد الذي تنتجه العلومُ والمعارفُ والتقنياتُ الجديدة، ويتبصَّر القلقَ الوجودي، وفقدانَ الطمأنينة الفردية، وهشاشةَ الأمن المجتمعي الذي يعيشه المسلمُ.
لا يصحُّ أن ننظرَ للنصِّ الديني من زاويةِ نظرِ علماءِ الكلام وأصولِ الفقه وعلومِ القرآن والتفسيرِ وغيرِها من علوم الدين الموروثة؛ لأنَّها عاجزةٌ عن إنتاجِ تأويلٍ جديدٍ للنصوص الدينية، وإيقاظِ المعنى الديني بنحو ينخرط معه في الحاجات الروحية والأخلاقية، ويتموضع فيه الدينُ في حقله الخاص، ويكفُّ عن التمدُّد خارجَ مجاله ووظيفته، مثلما يريدُ دعاةُ الدولةِ الدينية الذين يُقحمون الدينَ في الدولة والإدارة والاقتصاد، ويترقَّبون منه إعادةَ بناء العلوم والمعارف البشرية، وهي وظائفُ خارجَ مهمة الدين المتمثلة في إنتاج معنًى للحياة، وإرواءِ الحياة الروحية، وترسيخِ القيم الأخلاقية.
استئنافُ رسالة القرآن وتموضعها في سياق متطلَّبات المسلم الروحية والأخلاقية لن تنجزَه أدواتُ النظر ومناهجُ الفهم القديمة؛ لأنها تمثِّل عبئًا ينهك دلالةَ النصوص، عبر تكرارِ المعنى الذي أنتجته في الماضي، ومصادرةِ تعدُّد الدلالة. ذلك هو مأزقُ الإصلاح في الإسلام الحديث منذ الأفغاني حتى اليوم.
عندما يعتمدُ المتكلِّمُ مناهجَ علم الكلام القديم، فإنه لا ينشد الكشفَ عن القيم الكونية الخالدة في الأديان، ولا يبحث عن جوهرها الروحي والأخلاقي المشترك؛ لأن المتكلِّمَ لن يتمكَّن من التحرُّر من التعصب لمعتقداته عند دراسةِ الأديان الأخرى ومحاولةِ فهم معتقداتها ومقولاتها؛ إذ إنَّ مهمةَ المتكلِّم هي الدفاعُ عن معتقداته والردُّ على الخصوم، وكشفُ ما يراه من تهافت معتقدات الدِّين الآخر، والتحرِّي عن تحريفات كتبه المقدَّسة.
أدواتُ النظر ومناهجُ الفهم القديمة للدينِ ونصوصِه تفضيان إلى ربطِ كلِّ واقعةٍ في حياة الناس بالدين، واحتكارِ الدين لمختلف علوم الدنيا، ويئول ذلك إلى فهمِ وتفسيرِ وتبريرِ كلِّ شيء بالدين. وينتهي هذا الفهمُ إلى تعطيل الأسباب الطبيعية والبشرية المتنوِّعة. فمثلًا يخضع تفسيرُ تخلُّف المجتمعات الإسلامية، لدى أكثر كتَّاب الجماعات الدينية والخطباء والوعاظ، إلى عدمِ تمسُّكها بما قاله السلفُ، وانصرافِها عن اجتهادات أئمة الفِرق والمذاهب، مع أن تقدُّمَ وتخلُّفَ المجتمعات بالمعنى الاقتصادي والثقافي والسياسي يعود لأسباب دنيوية مختلفة. المجتمعاتُ المتقدِّمة اليوم ليست متدينةً بالضرورة، والمجتمعاتُ المتخلِّفة اليوم ليست غيرَ متدينة بالضرورة. التديُّنُ والطاعةُ والمعصية ليست سببًا لتقدُّم أو تخلُّف المجتمعات. سوءُ فهم معنى التديُّن، ومعنى الطاعة والمعصية، ومعنى الثواب والعقاب الأخروي، ومعنى العمل الخيري، هو الذي يدعو هؤلاء للتشديد على أن تخلُّفَ المسلمين ناتجٌ عن عدم تديُّنهم ومعاصيهم. سوءُ أحوال الناس المعيشية في الدُّنيا، أفرادًا ومجتمعاتٍ، لا يعود لكثرة الذنوب بالمعنى الديني، ولا يعود لأسباب غيبية، بل ينشأ من الجهل، والفقر، والمرض، والاستبداد، والظلم. وكلُّها تنتجها عواملُ: اقتصادية، وسياسية، وثقافية، وتربوية، ودينية، وغيرها من الأسباب الدنيوية.
في «علم الكلام الجديد» يُعاد بناءُ مفاهيمِ الذَّاتِ والصفات، والإيمانِ والكفر، والقضاءِ والقدَر، والجبرِ والاختيار، والوحي والنبوة، والطاعةِ والمعصية، والحسنةِ والذنب، والثوابِ والعقاب، والحياةِ والموت، والدنيا والآخرة، وعمل الخير، والمعروف والمنكر … وغيرِها. كذلك يُعَادُ إنقاذُ صورة الله التي تشكَّلت في فَضَاءِ النِّزاعاتِ والحروبِ، والاستبدادِ وتفشِّي العبوديات، ورسمُ صورةٍ تليق بعدالته، ورحمته، وجماله. صورةٌ لا تُهدَر فيها باسم الله حقوقُ الإنسان وحرياتُه، صورةٌ تجدِّد صلةَ الإنسان بالله، فتتحوَّل إلى صلةٍ تتكلمُ لغةَ المحبة وتبتهجُ بالوصال مع معشوقٍ جميلٍ، ويتذوَّق فيها الإنسانُ رحمتَه قبل عذابه، وعفوَه قبل عقابه.
صورةُ اللهِ التي يرسمها المتكلمُ هي التي يُشْتَقُّ منها نمطُ التديُّن، إن تشكَّلت شديدةً صارمةً مستبدةً يتشكَّلُ تبعًا لها تديُّنٌ متشدِّدٌ صارمٌ مستبدٌّ، وإن تشكَّلتْ رحيمةً محبوبةً جميلةً يتشكَّلُ تبعًا لها تديُّنٌ رحيمٌ مولعٌ بالحب والجمال. عبادةُ الله بوصفه الأخلاقي تنتج تديُّنًا أخلاقيًّا، عبادةُ الله بوصفه الرحمن الرحيم تنتج تديُّنًا رحمانيًّا.
(٧) علم الكلام الجديد وإشكالية التسمية
يحرص باحثون أشدُّ التصاقًا بالتراث على استعمالِ مصطلح «علم الكلام الحديث»، وغيرِ ذلك من تسمياتٍ تستبدل كلمةَ «الجديد» بما يوازيها في محاولةٍ منهم للخلاص من الحمولةِ الدلالية لمصطلح «علم الكلام الجديد»، وما تشي به من قطيعةٍ مع معظم كلاسيكيات علمِ الكلام القديم، ودعوةٍ لإعادةِ بناءٍ شاملة لعلم الكلام، تتخطَّى المنطقَ الأرسطي لتنتقل للمنطق والفلسفة الحديثَين، والتحرُّرِ من سطوةِ الطبيعياتِ والرؤيةِ القديمة للعالَم، بتوظيفِ مكاسب العلومِ والدراساتِ الإنسانية والرؤيةِ الجديدة للعالم، وتبعًا لذلك يتحوَّل منهجُ علمِ الكلام وبنيتُه، وتتبدَّل كثيرٌ من مسائله، بل يحدث تحوُّلٌ في طبيعة وظيفته، فبدلًا من انشغالِه في الدفاع عن العقائد، تصبح وظيفتُه الجديدةُ شرحَ وبيانَ وتحليلَ المعتقدات، والكشفَ عن بواعث الحاجة للدين، ومختلف الآثار العملية لتمثُّلاته وتحوُّلاته في حياة الفرد والجماعة، تبعًا لأنماطِ الثقافةِ وطبيعةِ العمران والمجتمعِ البشري. وبتعبيرٍ آخر تنتقل مهمةُ علم الكلام من كونها أيديولوجية، تنطلق من مسلَّمات ثابتة، لا غرضَ لها سوى التدليلِ على المعتقدات، ونقضِ حجج الخصوم، إلى مهمةٍ معرفية لا تنشغل بنقض حجج الخصوم، بل يتمحور غرضُها حول تعريفِ المعتقدات وتوصيفِها وتحليلِها، بالاعتماد على الفلسفة والعلوم والمعارف الجديدة، والتعرُّف على منابعِ إلهامِ المعتقدات، ومجالاتِ اشتغالها، وأشكالِ فِعلها في سلوك الفرد والجماعة.
في ضوءِ ذلك يتَّضح أننا أمامَ عِلْمَين؛ «علم الكلام القديم»، و«علم الكلام الجديد»، وليس عِلمًا واحدًا، فعلى الرغم من اشتراكهما بالاسم، لكن توصيفَ «الجديد» يجعله مفارقًا للقديم بشكلٍ كبير، فهو وإن كان يشترك معه في بحثِ جملةٍ من المواضيع نفسِها، لكنه لا يضيف مواضيعَ جديدةً لم يعرفها علمُ الكلام القديم فحسب، بل إن طريقةَ بحثه ونتائجَه ومراميَه مختلفةٌ؛ ذلك أنَّ كلًّا منهما له مقدماتُه المعرفية، ومنهجُ بحثه، وأدواتُ تفسيره، ومفاهيمُه المفتاحية، وكيفيةُ رؤيته للعالم. وقد تحدَّثنا عن ذلك بتفصيلٍ أكثر في الفصل الماضي من هذا الكتاب.
التسمية تفرض سُلطتها على العقل
ربما يُقال إن الإصرار على تسميةٍ دون أخرى لا يغيِّر من المضمون شيئًا، لكن هذا الكلام غير دقيق؛ لأنَّ كلَّ تسمية تفرضُ سلطتها. التسميةُ بوصلةٌ ترسمُ خارطةَ الطريق التي يسلكها الباحث، وتحدِّدُ وجهةَ سيره، وتؤثرُ في غاياته ومنطلقاته ونتائجه.
لا أستعمل تعبيرَ «علم الكلام الحديث» أو غيره؛ لأن «علم الكلام الجديد»، الذي مضى على ظهوره واستعماله أكثرُ من قرن في كتابات الباحثين المسلمين في الهند وإيران والبلاد العربية، صار مصطلحًا مستقرًّا في اللغات الأُردية والفارسية والعربية، ينطبق على هذا العنوان لا على غيره، ومضمونه لا يتطابق مع مضمون «علم الكلام الحديث»، وإن كان يشتركُ معه في بعض دلالاته.
إن تعبيرَ «علم الكلام الحديث» يلجأ إليه مَن يذهب إلى أن تجديدَ علم الكلام يتحقَّق برفده بمسائل وأدلة جديدة، مع الاحتفاظ ببنيتِه التراثية، وطرائقِ تفكيره، ولغتِه الخاصة. لذلك لجأ هؤلاء إلى استعمال كلمة «الحديث» حذرًا من الدعوةِ للخروج على علم الكلام القديم، واستبدالِه بعلمٍ يستجيب لإشباع حاجة المسلم إلى رؤيةٍ توحيديةٍ مضيئة، لا تكرِّر أكثرَ المقولات والجدالات المعروفة عند المتكلمين قديمًا.
يشعر البعضُ بالقلق من تسمية «علم كلام جديد»، ولا أريد أن أتحدثَ كثيرًا عن ضرورة هذه التسمية؛ لأنها صارت بحكم الأمر الواقع، بعد أن كُتِب فيها عددٌ كبير من البحوث والمؤلفات، واستقرَّت كمقرَّر دراسي في عدة معاهد وجامعات لعلوم الدين، وصارت تخصُّصًا معروفًا كتب فيه التلامذة في الجامعات الإسلامية وغيرها رسائل متنوِّعة في الدراسات العليا.
لولا شيوع مصطلح «علم الكلام الجديد» في الاستعمال، لكان الأجدر استعمال مصطلح «اللاهوت الجديد»، علمًا أنَّ مصطلح «الإلهيات» متداول في الفلسفة الإسلامية منذ فلاسفة الإسلام المتقدمين، وما زالت كليات علوم الدين في إيران وتركيا وغيرهما تسمَّى ﺑ «كلية الإلهيات».
ملخَّص الكلام في هذا الموضوع أنَّ «علم الكلام الجديد» هو محاولة للاجتهاد في علم الكلام اليوم، كما اجتهد مؤسسو الفِرق الكلامية في الماضي، فدوَّنوا تصوُّراتِهم ومفاهيمَهم لأصول الدين المشتقَّة من عقلانية وعلوم ومعارف عصرهم، فلماذا لا يجوز أن يجتهد علماء الإسلام في عصرنا لإنتاج تصوُّراتهم في التوحيد والمعتقدات؟ لا أستغرب ذلك ممن يصر على غلق باب الاجتهاد في الفقه، وما زال لا يجرؤ على الخروج على فتاوى أئمة المذاهب وفقهاء الأمس المعروفين؛ إذ إن مَن ينكر الاجتهاد في فروع الدين كيف يقبل الاجتهاد في أصول الدين، الذي هو أبعدُ مدًى وأعمق من ذلك بكثير، وتسري نتائج الاجتهاد فيه إلى كل علوم الدين.
رحلة التسمية من علم الكلام إلى أصول الدين
عَمِل الحضورُ الواسع لأهل الحديث وتفشِّي التيار السلفي في عالم الإسلام وتسلُّطه على ترك استعمال «علم الكلام» واستبداله ﺑ «أصول الدين»، أو «العقيدة» أو «العقائد»؛ لأن أهلَ الحديث كانوا وما زالوا مناهضين لعلم الكلام، على الرغم من أن استعمالَ «علم الكلام» أدقُّ، بوصف «العلم» كلمةً محايدة، و«الكلام» مفردة أكثر حيادًا من تسمية «العقيدة» وغيرها. مضافًا إلى الحضور التاريخي لهذا المصطلح منذ نشأته، واستقلاله كعلم من علوم الدين في وقت مبكر.
أما ترْك تسمية علم الكلام واستبداله بمصطلحات: «أصول الدين»، أو «العقيدة»، أو «العقائد»، ففرضته عواملُ بعيدة عن الروح العلمية؛ لأن كلَّ هذه التسميات تحيل إلى مفاهيمَ تشير إلى معنًى ديني ليس محايدًا؛ ذلك أنه هنا يحيل إلى المتعالي العابر للتاريخ.
عندما يستبعد الباحثُ تسميةَ علم الكلام ويستبدلها بتسميات: «أصول الدين»، أو «العقيدة»، أو «العقائد»، لا يخلو موقفُه من حكم مسبق. لذلك ينبغي اعتمادُ تسمية تشير إلى معنًى أكثر حيادًا، كما ينبغي أن يكون عليه موقفُ كلِّ باحث علمي بالنسبة إلى موضوع بحثه. الباحثُ العلمي لا يتحدَّدُ موقفُه في إطارِ معتقداتٍ مقرَّرة سلفًا، ولا ينبغي أن يكون موقفُه دفاعيًّا، يتشبَّث بمختلف الحجج والمجادلات. الباحثُ العلمي ينشدُ الفهمَ والتفسير والتوصيف والتحليل والتمحيص.
تسمياتُ «أصول الدين»، أو «العقيدة»، أو «العقائد»، غالبًا ما تقع خارج الأسئلة والنقاشات العلمية، ويجري تلقينُ مقولاتها كأنها حقائق نهائية، انتهى الاجتهادُ فيها إلى الأبد. وذلك جعل تلميذَ «أصول الدين»، أو «العقيدة» أو «العقائد» في معاهد وجامعات علوم الدين يتلقَّى اجتهاداتِ مؤسِّسي الفِرق وآراءَ أتباعهم اليوم بوصفها القول الفصل في «معرفة الله وصفاته وأسمائه والوحي والنبوة»، وكل ما يتَّصل بذلك من مباحث العقيدة.
نشأةُ علمِ الكلام اقترنت بوظيفةٍ دفاعية فيما مضى، لكن على الرغم من ذلك كان أثرُ «علم الكلام» بالغَ الأهميَّة في أن يصيرَ أُفُقًا مفتوحًا للتفكير، وولادة مختلف التساؤلات والإجابات المتنوِّعة، تبعًا لاختلاف المجتهدين في علم الكلام، وتنوُّع أزمنتهم وثقافاتهم ومواطنهم. فمثلًا كان فخر الدين الرازي (٥٤٤–٦٠٦ﻫ) ذا أثرٍ كبيرٍ في تحفيز الذهنيَّة الكلاميَّة على إثارة الأسئلة الصعبة والانفتاح على آفاقٍ رحبة للتفكير في مسائلَ بالغة الدقة، حتى لقِّب ﺑ «إمام المشكِّكِين».
ينطبق معنى «علم» على «علم الكلام الجديد»، كما ينطبق عليه معنى «كلام»، ومعنى «الجديد». فهو «علم»؛ لأنه يعتمد مناهج البحث العلمي، ويوظِّف كلَّ ما يحتاجُه الباحث من مكاسب المعرفة البشرية، بلا ارتياب أو حَذَر. وهو بحثٌ علمي في اﻟ «كلام» الإلهي؛ لأن موضوعه «الوحي» كما تقدَّمت الإشارة لذلك. «الوحي» هو الموضوع المحوري في علم الكلام الجديد، واﻟ «كلام» الإلهي مبحثٌ أساسي في بيان حقيقة الوحي، وإمكانية تواصل الله مع الإنسان بلغة بشريَّة. وهو «جديد» بوصفه لا يستنسخ مناهج الكلام القديم، ويتحرَّر من كثير من مسائله وجدالاته المكرَّرة، ويتَّسع لمسائل جديدة تتَّصل بأسئلة ميتافيزيقية توالدت في ذهن إنسان اليوم ولم يعرفها إنسان الأمس، خاصة الأسئلة المتَّصلة بمعنى وجود الإنسان وحياته ومصيره.
علم الكلام والأشاعرة الجدد
سقط في غواية كتاباتِ «الأشاعرة الجدد» الوفيرةِ أكثرُ الإسلاميين الذين ضجروا من أدبيات الجماعات الدينية ففرُّوا منها يفتشون عن كتاباتٍ تشعرهم بالوفاء لهويتهم، والاحتماء بمقدساتهم، وتخلِّصهم من اللغة الرتيبة والمنطق الوعظي التبسيطي في تلك الأدبيات، فوجدوا في كتابات «الأشاعرة الجدد» جدالاتٍ ومحاججات مصاغة بلغةٍ تفتقر إليها تلك الأدبيات، وهي لغة تبرع في تمويه انغلاق المعتقدات الأشعرية وتتكتَّم على لا عقلانية مقولاتها.
هناك مَن يطالب علمَ الكلام الجديد، الذي هو في طور الولادة والتشكُّل، بكلِّ مهمات العلم المكتمل الناجز الذي مضى على تشكُّله أكثرُ من ألف عام، والذي وُلدت نواتُه الجنينية في القرن الهجري الأول، وأضحى علمًا واضحَ المعالم بعد أن عبَّرت الفِرقُ بوضوح عن معتقداتها فيه، وما زال يتراكمُ ويترسَّخُ حتى اليوم. أرى مَن يطالب بذلك كمن يطلبُ من صبيٍّ صغير حكمةَ الشيوخ الكبار المُلهِمة، الذين اختبرتهم الأيامُ الصعبة، ومحَّصتهم متاعبُ العيش القاسية.
لا يمكن بناءُ علمِ كلامٍ جديدٍ بديلٍ لعلم الكلام القديم بمدَّةٍ زمنيةٍ وجيزة، وإن كانت محاولاتُ بعض المفكرين جديرةً بالتبجيل، لعلميتِها ورصانتِها وجديتِها، لكنها بدأت واستمرت منفردة، ومثلُها لا يعبأ بها مسلمٌ يرتبط شعوريًّا ولا شعوريًّا برجالِ الدين ومؤسَّساتِهم التقليدية؛ ذلك أن هذه المحاولاتِ لا تلامس وجدانَ المسلم، ما دامت غريبةً على معتقداته الرسمية الموروثة، وتتحدَّث لغتَها الخاصة غيرَ المفهومةِ خارج لغة معتقدات المؤسَّسات الدينية التي تمتلك المشروعيةَ الدينيةَ الحصريةَ في فهمِ الدين وتفسيرِ نصوصِه تاريخيًّا.
علمُ الكلام الجديد ليس شعاراتٍ مفرغة من المعنى، أو صيحةً في فراغ، وليس أمرًا مغلوطًا، كما يدَّعي بعضُ «الأشاعرة الجدد»، بدعوى أنه لم يزحزح علمَ الكلام القديم، ولم يتجاوز الوعودَ والدعوات، وكأنه يفهم علمَ الكلام الجديد على أنه علمُ الكلام القديم نفسُه مصحوبًا بضجيج. وهذا كلامٌ غيرُ دقيق؛ لأنَّ علمَ الكلام الجديد كسر شيئًا من أغلال التقليد في العقيدة المترسِّخة منذ قرون، وأعاد النظرَ بوظيفةِ علم الكلام التقليدية، فانتقل بها من الدِّفاع المحض، بناءً على مسلَّمات اعتقادية نهائية صاغها أئمة الفِرق، إلى تفسير وفهم وتحليل حقيقة المعتقدات في ضوء معطيات الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع. كذلك انتقل من النزاع حول حقيقة «الكلام الإلهي»، بوصفها المسألةَ المركزية في الكلام القديم، إلى دراسة ظاهرة الوحي، بوصفها المسألةَ المركزية في الكلام الجديد، واكتشاف أُفُقٍ بديل لبحثها خارج المدوَّنة الكلامية التقليدية؛ لأنَّ موضوع «الكلام الإلهي» متأخر رتبيًّا في بحثه عن «الوحي»؛ إذ إن تقريرَ الموقف من حقيقة «الوحي الإلهي» هو الذي يحدِّد حقيقةَ «الكلام الإلهي» ويرسم حدودَ تعريفه.
يضع بعضُ الباحثين في سلة واحدة مواقفَ واتجاهاتٍ ورؤًى متضادَّة أحيانًا، لمفكِّرين يصدرون عن منطلقات ومرجعيات مختلفة، ليتخذ أحكامَه التي تحيل إلى مسلَّماته المسبقة، وكأنه لم يتنبه للاختلاف الكبير بينهم، إنْ من حيث استيعابهم النقدي للتراث، أو من حيث استيعابهم المناهج الحديثة، أو من حيث تطبيقها، أو من حيث تعبير كل هؤلاء المختلفين عن نزوع جديد في علم الكلام؛ إذ يصنِّف هؤلاء مَن يدعو لاستئناف التراث كما هو، في صفِّ مَن يدعو للاستيعابِ النقدي للتراث، وتوظيفِ المناهج الحديثة في بناء علم الكلام.