علم الكلام الجديد هو الفهم الجديد للوحي١
(١) شبلي النعماني: عنوانٌ جديد بمضمون قديم
أدرج النعمانيُّ في هذا الكتاب مسائلَ جديدة مثل: الدين والعلوم الحديثة، حقوق الإنسان، مسألة الانتحار، حقوق المرأة، الإرث، والحقوق العامة للشعب، بموازاة مباحث: وجود الباري، والنبوة، والمعاد، والتأويل، وغير المحسوسات، كالملائكة والوحي وغيرها، والعلاقة بين الدين والدنيا. لكننا لم نعثر له على رأي في الوحي خارج سياق الكلام القديم، ولم نجده في مسائل الاعتقاد الأخرى يفكِّر في فضاء العقلانية الحديثة، ولم يعالجها من منظورٍ مختلف عن المنظور التقليدي، ولم يطلَّ على أفقٍ جديد في تدوينها. وهذا يعني أن علمَ الكلام الجديد في مفهوم النعماني يعني استيعابَ مسائل جديدة تضاف إلى مسائله القديمة، والتحدُّثَ بلغةٍ أكثرَ وضوحًا وأقلَّ التباسًا، والبحثَ عن أدلَّة جديدة في مناقشةِ ما يُثار من إشكالات واستفهامات.
تظلُّ وظيفةُ الكلام الجديد في مفهوم النعماني دفاعيَّة؛ إذ يمكث علمُ الكلام في مقولات متكلِّمي الفِرق القديمة، يشرحها ويعزِّز أدلتَها بأدلة جديدة، من دون أن يعيد النظرَ في مضمونها، ويعرف قدرتَها على الاستجابةِ والوفاءِ ببناءِ رؤية توحيديَّة تواكبُ إيقاعَ حياة المسلم، ومتطلباتِ العقل والروح والقلب في عالمٍ نسيجيٍّ متشابك مركَّب، وتحريرِ صورة الله ممَّا تراكمَ عليها من غبار التَّاريخ، ولوَّثها من دماء الحروب، وشوَّهها من أَزْمنة الاستبداد.
لا نقرأ في آثار شبلي النعماني أو نجد في محطَّات حياته ما يشي بخروجه على مسلَّمات الكلام القديم في تفكيره، ولا نرى محاولةً لبناء رؤية جديدة لله والعالم في كتابه «علم الكلام الجديد»، أو فهمًا جديدًا للوحي والنبوَّة، أو مسعًى لتوظيف المكاسب الحديثة للفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع في فهم الدين وتفسير نصوصه.
لا شيءَ يشبهُ علمَ الكلام الجديد في تفكير النعماني وآرائه، كلُّ شيء يشبه الكلامَ القديم. شبلي النعماني يستأنف القديمَ بلغةٍ أكثرَ وضوحًا واختزالًا للاستطرادات والتفاصيل المملَّة، وحتى العناوين الجديدة التي أدرجها في كتابه هذا لا نرى في حديثه عنها ما يشير إلى معالجة تخرج من جلباب الآباء، وتنزع لبناء نهجٍ جديد في التفكير الديني، كما نجده في آثار سلفِه أحمد خان، أو خلفِه محمد إقبال.
نخلص من ذلك إلى أنَّ شبلي النعماني شارحٌ جديدٌ لعلم الكلام القديم. وذلك ما يدعونا للظنِّ بأنَّ النعماني اصطادَ مصطلحَ «علم الكلام الجديد» من أحمد خان، غير أنه لم يشأ أن يخبرنا عن مصدرِ تلقِّيه.
آثارُ أحمد خان هي الوحيدةُ التي خرجت على التُّراث الكلامي قبل النعماني، وبعضُ ما جاء فيها يشبه علمَ الكلام الجديد؛ إذ بحثتْ قضايا محوريةً في علم الكلام بطريقة تخرج على تقليد المتكلِّمين، وقدَّمت فهمًا مختلفًا عن فهم المتكلمين.
نعترف بأنَّ المراجعَ تنقصنا للوثوق بأول مَن ابتكر تسميةَ علم الكلام الجديد. وإن كنا نَعُدُّ المفهومَ الجديدَ للوحي الذي يقول به أحمد خان وغيرُه من أهمِّ القضايا التي يمكننا على وفقها أن نصنِّف آثارَ مفكرٍ بأنها كلامٌ جديد. شبلي النعماني متكلِّم تقليدي استعمل عنوانًا جديدًا لمضمونٍ قديم.
(٢) الفهمُ الجديدُ للوحي أساسُ علم الكلام الجديد
علم الكلام الجديد لا يتوقَّف عند حدود «معرفة الله وصفاته وأفعاله»، وما يتصل بها من مشاغل علم الكلام القديم، بل ينشغل أيضًا ﺑ «معرفة الإنسان»؛ لأنَّ الطريقَ إلى «معرفة الله» يمرُّ عبْر «معرفةِ الإنسان» نفسَه، وما يكتشفه من أسرار الطبيعة الإنسانيَّة. لا ينشغل الكلامُ الجديد كثيرًا بالغوص في ماهية الله وأسرارها وعوالمها، قدْر انشغاله ﺑ «معرفة الإنسان»؛ لأنَّ هذا النوعَ من المعرفة يعتمد بشكلٍ أساسي على تطوُّر العلوم والمعارف المتنوِّعة، فكلَّما تطوَّرت العلومُ والمعارفُ تكامل تبعًا لها وعيُ الإنسان لذاته، واكتشافُه لطبيعته المركَّبة العميقة.
تبدأ حياةُ الإنسان باكتشافِ لحظة ولادته، وتنتهي باكتشافِ لحظة موته. الإنسانُ منذ لحظة ولادته حتى وفاته يظل منشغلًا بتفسير ألغاز طبيعته، وتفسير ألغاز عالَم الوجود. الطبيعةُ الإنسانيَّة أحدُ أعقد ألغاز هذا العالَم العصيَّة، والكثيرُ مما أنجزته الفلسفةُ والعلومُ وبخاصة علوم الإنسان والمجتمع يكشف باستمرار عمَّا هو مجهولٌ في طبيعةِ الإنسان، ويدلُّنا على الطبقاتِ العميقة لنفسه، وفرادةِ خلقه، وأنماطِ عيشه، وعلاقاتِه بما حوله، وتميُّزِه، وتفوقِه على غيره من مخلوقاتٍ.
علمُ الكلامِ الجديد يعتمدُ العقلَ قبل النقل، وتخضع فيه مختلفُ المقولاتِ والقضايا لأحكام العقلِ وأدلته. العقلُ هو المرجعيةُ لاختبار الخطأ من الصواب، والمعيارُ الذي نقيس به صدقَ كلِّ قضية أو كذبها. العقلُ كائنٌ تاريخي يتغيَّر ويتطوَّر ويتكامل تبعًا لنموِّ وتراكمِ معقولاته كيفًا وكمًّا. بلغَ العقلُ الحديث مرحلةً متقدِّمةً في فهمِ الطبيعة والكشفِ عن قوانينها، والتعرُّفِ على الطبيعة الإنسانية، واكتشاف أعماقِ النَّفس الإنسانيَّة. نثقُ بالعقلِ الحديث، على الرغم من كلِّ النقد الذي صوَّبه له الفلاسفةُ منذ نيتشه، وجماعة مدرسة فرانكفورت، ومفكِّرو ما بعد الحداثة في الغرب. العقلُ الحديث يضيء لنا كلَّ يوم أفقًا جديدًا في مختلف مجالات العلوم والمعارف المختلفة، لينتقل بنا من الخطأ إلى الصواب، ومن الظلام إلى النور.
وكما تتراكمُ معرفةُ الإنسان بنفسه، وتتطوَّر علومُه ومعارفُه بالطبيعةِ وكلِّ ما حوله، يتطوَّر تبعًا لها فهمُه للدين ومناهجُ قراءة نصوصه. ما دام «لا جوابَ أبديًّا للأسئلة الميتافيزيقية الكبرى»؛ لذلك لم يدرك الإنسانُ الحقيقةَ الدينيَّةَ ناجزةً منذ فجر تاريخه حتى اليوم، ولم تتكشَّف له كلُّ وجوهها، وأبعادُها، وطرقُ الوصول إليها، بل تجلَّت له هذه الحقيقةُ بالتدريج، تبعًا لظهورِ الأديان، وتوالي النبوَّات، وتكاملِ عقله، ونضجِ وعيه، وتطورِ علومه ومعارفه، واكتشافِه المتواصلِ لذاته وما حولَه بمرور الزمن.
وظيفةُ علم الكلام هي بيانُ المقولات الاعتقاديَّة والتدليلُ عليها، ولا يمكن بلوغُ قولٍ نهائي في هذه المعتقدات، ما دامت الحقيقةُ الدينيةُ تتكشَّف للإنسانِ بالتَّدريج، ولا يمكنه الظَّفرُ بكلِّ وجوهِ هذه الحقيقةِ دُفْعَةً واحدةً، ويتطلَّب ذلك أنْ يواصل المتكلِّم السعيَ لاكتشافِ ما لم يعرفه من أبعادِ المعتقدات ووجوهِها الخفيَّة. معرفةُ الإنسانِ للحقيقة الدينيَّة تتناسب مع مستوى عقلانيته، ونضجِ وعيه، ودرجةِ تطوُّره الحضاري، فعلومُ الدين ومعارفُه تخضع في نموِّها وتطورِها لنموِّ علوم الإنسان وتكاملِ معارفه الدنيوية المتنوِّعة.
علمُ الكلامِ القديم كان يفكِّر في آفاقِ عقلانيةِ عصرِه، ومعطياتِها العلمية والمعرفية، ومقولاتُه الاعتقادية ثمرةُ تلك العقلانية. وقد تقدَّمَت العلومُ والمعارفُ كثيرًا، وذلك يكشف عن المدى الذي بلغته العقلانيةُ هذا اليوم. وذلك يفرض على المتكلِّم الجديد ألَّا يتعاطى مع علم الكلام الذي صنعه أئمةُ الفِرق المؤسِّسون وكأنه حقائقُ نهائية، ولا يصحُّ البقاءُ على تقليدهم في آرائهم الاعتقادية؛ لأنَّ كلمتَهم ليست الكلمةَ الأبديَّة، وقولَهم ليس القولَ الفصلَ، وتفسيرَهم للنُّصوص الدينية ليس التفسيرَ الأخير، وفهمَهم ليس الفهمَ الذي لا يصحُّ عبورُه مهما تغيَّر الإنسانُ والزمانُ والمكان.
إعادةُ بناء علم الكلام ضرورةٌ يفرضها استئنافُ الدِّين لوظيفته الأصيلة، وتمكينُ المسلم من التصالح مع محيطه الذي يعيش فيه، من خلال تحريره من مقولات المتكلِّمين التي تسوقه إلى الاغتراب الوجودي والنفسي والاجتماعي والثقافي عن عالَمه.
أكثرُ مفكري الإسلام في العصر الحديث مقلِّدون في العقيدة لأئمةِ الفِرق، كالأشعري والمتكلِّمين المؤسِّسين للمقولات الكلامية للفِرق. وإنْ كانت لأكثر هؤلاء المفكرين آراءٌ جريئةٌ في الفقهِ وغيرِه من معارف الإسلام، لكنهم مقلِّدون في العقيدة؛ لأنهم يرون أن لا اجتهادَ في الاعتقاد، وهذه الرؤية تُبتنَى على مسلَّماتٍ ليست صحيحة، تتلخَّص في أنَّ كلَّ الحقيقة الدينية تمَّ الكشفُ عنها في وقتٍ مبكر، عندما رَسَمَ إطارَها مؤسِّسو الفِرق والمتكلِّمون المتقدِّمون، ومَن يخرج عليها يُعَدُّ مبتدِعًا مارقًا وخارجًا على العقيدة.
لكنَّ الشيخَ الخولي لم يشأ أن يَتحدَّث أكثرَ عن كيفيات ومديات تطور العقائد، ولم يفصح عن رأيه في مقولات الكلام المعروفة لمختلف الفِرق، ولعله كان يدرك المشكلةَ لكنَّه لم يهتدِ لسُبُلِ حلِّها.
معارفُ الدين تستقي من منطقِ تفكير واحد
معارفُ الدين مترابطةٌ عضويًّا كلوحةٍ واحدةٍ تتنوَّع ألوانُها، يغذِّي بعضُها بعضَها الآخر، ويتغذَّى بعضُها من بعضِها الآخر، لا يستقلُّ أحدُها عن الآخر. وهذه المعارفُ تستقي من الرؤية الكلامية، التي تستند إلى مسلَّمات معرفية ومنطقِ تفكير واحد، هي المرتكزاتُ الأساسيَّةُ لكلِّ عمليةِ تفكيرٍ ديني. التغيُّر والتحوُّل فيها لا ينجزه إلا التغيُّر والتحوُّل في مسلَّماتها ومقدِّماتها المعرفية.
الفهم الميكانيكي للوحي
هناك محاولاتٌ لتصنيفِ كلِّ كتابةٍ بلغة جديدة في الدين والعقيدة على أنها علمُ كلام جديد، لكن على وفق المعيار الذي اقترحتُه لتمييز علم الكلام الجديد لا يمكن مثلًا وضعُ المنجز الإشكالي لطه عبد الرحمن في سلة علم الكلام الجديد؛ لأنه متكلِّم يستأنف الغزاليَّ وغيرَه من المتكلِّمين المتقدِّمين، لكن بلغةٍ تبتكر معجمَها الاصطلاحي الذي تنفرد به، ويحاول الإفادةَ من المنطق الحديث وفلسفة اللغة لدعم موقفه التبجيلي لمقولات الكلام التقليدي. طه عبد الرحمن يفكِّر بذهنية تراثية لا يزيغ عنها إلا بمنحوتاته اللغوية. أعمالُه وفيةٌ للتراثِ ومسلَّماتِه المعرفية ومناهجِه ورؤيتِه للعالم، بنحوٍ لا نقرؤه في أعمال مجايليه، وعلمُ الكلام الجديد ليس وفيًّا للتراثِ ورؤيتِه للعالم ومسلَّماتِه المعرفية ومناهجِه ومفاهيمِه، وفقًا للطريقة التي يفكِّر فيها طه عبد الرحمن، بل غالبًا ما يقطع الكلامُ الجديد مع التراث، ليكتشفَ آفاقَه البديلةَ في العقلانية الحديثة، ويستفيدَ من مناهج الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع.
وتزداد الفجوةُ وينكشف الاختلافُ الواسع في مفهوم الوحي بين العرفاء والمتكلِّمين في شيء مما تشي به شذراتُ العرفاء واستبصاراتُهم؛ فقد خرج عرفاءُ في الإسلام على المفهوم الميكانيكي للوحي عند المتكلِّمين، وهو ما نراه بوضوح في آراء محيي الدين بن عربي، وغيره. آراء العرفاء في الوحي تفهم الوحيَ خارجَ مفهومه في الكلام التقليدي، وهي وإن كانت لا تفكر بآفاق عقلانيَّة العقل الحديث، وتفتقر للحسِّ التاريخيِّ، لكن يمكن الإفادةُ منها كمنطلقٍ في بناء مفهوم للوحي، لا يهدر مضمونَه الميتافيزيقيَّ المُتعالي، ويخرج من الأسوار المغلقة لِفَهْم المتكلِّمين.
يتخبط أكثرُ المؤلَّفات والبحوث التي أقرؤها بالعربية عن علم الكلام الجديد، في بيان موضوعِه، وتحديد أركانه الأساسيَّة، ورسم خارطة مدياته وحدوده، وإيضاح أغراضِه وما ينشده، والكشف عن المعيار الذي يتحدَّد في ضوئه العملُ الذي يُصنَّف على أنه كلامٌ جديد. هناك فوضى إلى الحدِّ الذي أرى فيه أعمالًا تحمل عنوانَ الكلام الجديد، فأقرأ فيها معطيات مشتَّتَة، يمكن تصنيفُها على كلِّ شيء، من دون أن تتكشَّف لي فيها أيةُ ملامح تشير إلى كلام جديد.
إن المتكلِّم الذي يفكِّر في آفاق عقلانية العصر الحديث، ولا يفتقر للحسِّ التاريخي، ويفهمُ الوحيَ فهمًا ديناميكيًّا، خارجَ مفهومه في علم الكلام القديم، هو ما يدعونا إلى تصنيفِه متكلِّمًا جديدًا، وتوصيفِ رؤيته بوصفها كلامًا جديدًا.
فهم المتكلِّم الجديد للوحي
منذ القرن التاسع عشر أدركت جماعةٌ من المصلحين الأثرَ البالغ لمعتقدات القضاء والقدَر وغيرها من مقولات الكلام التقليدي في تخلُّف المسلمين، فنقدوا مفهومَها الشائع، وبالتدريج اتَّسعت دائرةُ النَّقدِ والدعوةِ لعدمِ تقليد المتكلِّمين المتقدِّمين، وضرورةِ إعادة النظر في مقولاتهم، وفتحِ باب الاجتهاد في علم الكلام. وأُنجزت مساهماتٌ متنوِّعة في هذا الحقل، اختلط فيها ما يمثِّل اجتهادًا تأسيسيًّا يختطُّ مسارًا بديلًا في التَّفكيرِ الكلاميِّ، ويفكِّك البنيةَ التحتيَّة العميقةَ لعلمِ الكلام التقليدي، والأصولِ المعرفية الظاهرة والمضمرة المولِّدة له، مع كتاباتٍ متنوعةٍ لا يضبطها ناظمٌ منهجي، ولا تقول شيئًا جديدًا.
ونظرًا لعدم استناد الباحثين إلى معيار كلِّي يمكن العودةُ إليه في معرفةِ ما يصدُق عليه بأنه علمُ كلام جديد، حدث التباسٌ لدى أكثر الباحثين في تمييز المصاديق، ووجدنا عشوائيةً في انتقاءِ كتابات وإدراجِها في الكلام الجديد مع أنَّها لا تنتمي إليه، ولعلَّ إدراجَها تحت هذا العنوان يعود إلى ظنِّ البعض بأن كلَّ كتابةٍ تدعو للإصلاح والإحياء والتجديد، أو الكتابةِ التي تبتكر معجمَها اللغوي الخاص، ينطبقُ عليها عنوانُ الكلام الجديد. وهذا وهمٌ؛ إذ ليس كلُّ مَن يدعو للإصلاح والإحياء والتجديد، أو مَن يَنحت مصطلحًا غريبًا، يصدُق عليه أنه متكلِّم جديد.
المتكلِّم الجديد لا يفتقرُ للحسِّ التاريخي الذي يدعوه ألا يكرِّر أكثرَ مقولات المتكلِّمين الأوائل، ولا يعتمد معظمَ تفسيراتهم للنصوص، لكنَّ ذلك لا يعني إهدارَه لكلِّ التراث الكلامي المتنوِّع، بل إنه يعمل على الإفادةِ من شيء من عناصره الحيَّة التي يمكن أن توقظ معناها العقلانية الحديثة، وإعادةِ بنائه في سياق المتطلَّبات الاعتقادية للمسلم اليوم، وفي ضوء الآفاق الرحبة للعلوم والمعارف ومعطياتها المتنوعة.
المتكلِّم الجديد يدرك جيِّدًا أنَّ مفهومَ العقل في علم الكلام القديم يختلف عن مفهومه في العقلانية الحديثة؛ لأنَّ العقلَ يتشكَّل من معقولاتِه وآفاق رؤية عقلانيَّة عصره للعالَم. عقلُ المتكلِّم ينتمي إلى عقلانيَّة عصره وآفاق رؤيتها للعالَم، مضافًا إلى أنَّ وظيفتَه دفاعية عن آراءِ ومقولاتِ المتكلِّمين المؤسِّسين للفِرق، بمعنى أنه عقلٌ مقيَّدٌ بها، وكلُّ عقلٍ مقيَّدٍ ينفي العقلَ؛ إذ ينتفي كونُه عقلًا حرًّا، بعد تقييده بتلك الآراء والمقولات.
المعيارُ العلمي الذي يمكن اعتمادُه، بوصفه مقياسًا لتمييز الكلام الجديد عن القديم، وعلى أساسه يمكن تصنيفُ أحدِ المتكلِّمين بأنه متكلمٌ جديد، هو المبني على اجتهادٍ جديدٍ يقدِّمه المتكلم لبناءِ مفهومٍ للوحي لا يكرِّر مفهومَه في الكلام التقليدي، وتفسيرٍ للنبوة بوصفها ظاهرةً ميتافيزيقية، وتحليلٍ لنوع الصِّلة الوجودية التي يعيشها النبيُّ مع الله. خلاصةُ القولِ أن علمَ الكلامِ الجديد هو الفهمُ الجديدُ للوحي خارجَ فهمه الميكانيكي في علم الكلام القديم.
أما طبيعةُ الكلام الإلهي، وكيفيةُ تشكُّل النصِّ القرآني، وتاريخُ تدوين الآيات، وجمعُ المصحف، فكلُّ ذلك وغيرُه من مباحثَ تتفرَّع عن الكيفيةِ التي يفهم فيها المتكلِّمُ حقيقةَ الوحي، وكيفيةَ تلقي النبي له. وعلى هذا نرى أن كلَّ قولٍ جديد في علم الكلام ينبغي أن يتأسَّس على بناءِ مفهومٍ للوحي في آفاق المتطلبات العقيدية للمسلم اليوم.
ولا يتحقَّق ذلك إلا أن تكون ذهنيةُ المتكلِّم الجديد ومفهومُه للعقل يحيلان إلى العقلانية الحديثة، ولا يكون مقيَّدًا بأية مسلَّمات تفرض عليه آراءً ومواقفَ مسبقة، وتقوده عند قراءة النصوص الدينية إلى ما تريد أن تراه فيها من آراء ومقولات.
المتكلِّم التقليديُّ يقرأ التراثَ الكلاميَّ قراءةً لا تاريخية، تهدر السياقات المختلفة التي تشكَّل فيها هذا التراثُ، ويفكِّر في إطار مرجعية النصوص الدينية، ويظل يدافع عن تفسيرها الذي لا يتخطَّى المدلول الذي أنتجته مناهجُ الفهم التقليدية، ولا يجتهد في فهمٍ يخرج على مقولاتِ المتكلِّمين، وأوعيةِ الفهم وقواعدِ التفسير الموروثة لدى المفسِّرين والأصوليين ومسلَّماتهم المعرفية؛ لذلك يظلُّ فهمُه حبيسَ آفاق رؤيتهم؛ إذ يلبث فهمُه كمرآة تتكرَّر فيها صورُ مقولاتِ مؤسِّسي الفِرَق الكلاميَّة والمتكلِّمين المشهورين، وحتى لو اجتهد فهو يجتهد في حدود تلك المقولات، ولن يخرج على آفاق رؤيتِها ومسلَّماتها. المتكلِّم الجديد يمتلك حسًّا تاريخيًّا، يدعوه لأن يفكِّر بلا أسوارٍ أو مرجعياتٍ موروثةٍ، ويفكِّر في آفاق العقلانية الحديثة، ويفهم الوحيَ والمقولاتِ الكلاميةَ في ضوء هذه العقلانية ومعطياتها المعرفية.
(٣) أركان علم الكلام الجديد
منذ أكثر من ٣٠ عامًا كنت وما زلتُ أدعو لفلسفة الدين وبناء علم كلام جديد في المجال الذي يتحدَّث العربية، ولأجل ذلك ألَّفتُ وترجمتُ وحرَّرتُ عدَّةَ أعمال، آخرها «موسوعة فلسفة الدين»، خصَّصْتُ فيها لكلِّ موضوع محوري في فلسفة الدين مجلَّدًا، وأعمل على إعادة إصدارها بتحريرٍ جديد. كما أسَّسْتُ «مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد»، وأصدرتُ مجلةَ «قضايا إسلامية معاصرة» قبل نحو ربع قرن، صدر العددُ ٧٤ شتاء ٢٠٢١م وما زالتْ تصدر، تمحورَتْ أهدافُها حول تأسيس فلسفة دين وبناء علم كلام جديد في المجال الذي يتحدَّث العربية، بوصفهما الأفقَ الذي يجد فيه التفكيرُ الديني في الإسلام فضاءً للتجديد، بالإصغاء لصوت الواقع والتعرُّف على احتياجات روح وقلب وعقل المسلم اليوم. عسى أن يتحرَّر التفكيرُ الدينيُّ في الإسلام من القفص الذي تخنقه فيه أدبياتُ الجماعات الدينية، ومن ركامِ الكتابات المملَّة لدعاة الإصلاح، وإصرارِ هذه الكتابات على تكرار التفسيرات والمعالجات ذاتها، واقتراحِ خرائط طريق للنهوض واحدة في مضمونها وإن تنوَّعت أساليب التعبير فيها، تعيد أفكارَ المصلحين منذ القرن التاسع عشر ولا تتخطاها. فرض هذا النوعُ من الأدبيات والكتابات سطوتَه على عقل أكثر مَن يتحدَّثون ويكتبون عن الإصلاح الإسلامي حتى اليوم.
يتخبَّط أكثرُ المؤلَّفات والبحوث التي أقرؤها بالعربية عن علم الكلام الجديد، في بيان موضوعه، وتحديد أركانه الأساسية، ورسم خارطة مدياته وحدوده، وإيضاح أغراضه وما ينشده، والكشف عن المعيار الذي يتحدَّد في ضوئه العملُ الذي يُصنَّف على أنه كلامٌ جديد. هناك فوضى إلى الحدِّ الذي أرى فيه أعمالًا تحمل عنوان الكلام الجديد، فأقرأ فيها معطياتٍ مشتتة، يمكن تصنيفها على كلِّ شيء، من دون أن تتكشَّف لي فيها أيةُ ملامح تشير إلى كلام جديد. أجد أحيانًا مَن يدرج تحت عنوان علم الكلام الجديد: الآثارَ الكلامية للمعتزلة، وكلَّ حديث عن العدل والحرية والحقوق في الإسلام، ومقاصد الشريعة، ومنشورات مقاومة الاستعمار وحركات التحرير في بلادنا، وأدبيات الجماعات الدينية، وغير ذلك.
- (١) الأساسُ الذي تبتني عليه وتتفرَّع عنه الأركانُ الآتية يتمثل في أن علمَ الكلام الجديد يُفسِّر الوحي تفسيرًا ديناميكيًّا، بمعنى أنَّه لا يرى النبيَّ منفعلًا سلبيًّا حالة الوحي، كما يرى علمُ الكلام القديم الذي يفسر تلقِّي النبي للوحي، وكأنه قناةٌ تمرُّ من خلالها كلمةُ الله للناس، من دون أن يكون النبيُّ متفاعلًا معها ومتأثِّرًا ومؤثِّرًا فيها. للوحي في الكلام الجديد بُعدان، إلهيٌّ وبشريٌّ، البشري تعكسه شخصيةُ النبي والواقعُ الذي كان يعيش فيه. نكتشفُ منابعَ تفسير الوحي في آثار العرفاء، مثل محيي الدين بن عربي٢٣ وغيره، وظهرت إشاراتٌ له مجدَّدًا في آثار وليِّ الله الدهلوي (١٧٠٣–١٧٦٢م)، واستأنفه أحمد خان (١٨١٦–١٨٩٨م) بتفصيلٍ وصياغةٍ أوسع، وأعاد بناءَه محمد إقبال (١٨٧٧–١٩٣٨م)، وفضل الرحمن (١٩١٩–١٩٨٨م)، وطوَّره بعضُ المفكِّرين الإيرانيين والعرب في نصف القرن الأخير.
- (٢)
الإنسان بطبيعته ينفر ممن يخاف منه، ولا يحاول الاقترابَ إليه. علم الكلام القديم رسم صورةً مخيفة لله، وفي سياقها تشكَّلتْ علاقةُ المسلم بالله. علم الكلام الجديد ينشد إعادةَ رسم هذه الصورة بشكلٍ يجعل صلةَ المسلِم بالله لا خوفَ فيها، صلةً مشبعة بالسلام الروحي. في ضوء هذه الصورة يعيد الكلامُ الجديد بناءَ هذه العلاقة، فينقلها من علاقةٍ مسكونة بالخوف إلى صلةٍ تتوطَّن مقامَ المحبة.
- (٣) تتحدثُ الآيةُ ٥٤ من سورة المائدة عن بناءِ صلةٍ بالله تتأسسُ على المحبَّةِ المُتبادلَة: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. ترسمُ الآيةُ صورةً تفاعلية للصلة بالله، ثنائيةُ الاتجاه لا أُحادية، من الله إلى الإنسان ومن الإنسان إلى الله. يبدأ اللهُ الإنسانَ بالحُبِّ، فيتفاعل معه ويبادله الإنسانُ الحُبَّ. الصلةُ في الآية ليست عموديةً تسلُّطية باتجاه واحد، الحُبُّ فيها مُتبادَل، لا تتحدثُ الآيةُ عن الله بوصفه فاعلًا وعن الإنسان بوصفه منفعلًا سلبيًّا في الحُب. عندما يفيض اللهُ الحُبَّ على عباده يتَّخذ الحُبُّ قلوبَهم موطنًا له، يهدأ قلقُهم الوجوديُّ، ويعيشون سلامًا باطنيًّا، وتنشرح صدورُهم بالاستنارة الروحية. الاستنارةُ الروحية أجملُ ما منحته الأديانُ لحياة الإنسان، في الإسلام كانت الاستنارةُ الروحيَّة منبعًا مُلِمًّا لتحويل الصلة بالله من علاقةٍ مسكونة بالخوف والرعب إلى صلةٍ مشبعة بسكينة الروح وطمأنينة القلب.
- (٤)
ينشدُ علمُ الكلام الجديد إيقاظَ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في الدين، بما يتواءم وحاجةَ حياة الإنسان للمعنى الديني في زماننا، ويسعى لاكتشاف القيم الكونية المشتركة في الإسلام مع الأديان الأخرى، ويعمل على الكفِّ عن إخراج الدين عن مجاله، ومصادرته لكل شيء في الحياة، وزجِّه في مجالاتٍ تُجْهِض المعنى الذي ينشدُه.
- (٥)
لا يُعرِّف الكلامُ الجديد الدينَ بوصفه يتَّسع لكلِّ شيء في الحياة، وبكونه بديلًا للعقل والعلوم والمعارف والتجربة وتراكم الخبرة البشرية، كما يُعرِّف الدينَ بذلك أكثرُ الذين ينطلقون من تفسير علم الكلام القديم للوحي والنبوة. في ضوء تعريف الوحي في علم الكلام الجديد يُعادُ تعريفُ النبوة، ويُعادُ تعريفُ الدين، بالشكل الذي يكونُ الدينُ منبعًا لما يثري حياةَ الإنسان بالمعنى الذي يتطلبه وجودُه، ويعزِّزُ الأملَ والرؤيةَ المتفائلة للعالَم، ويوقظُ الحوافزَ الخيرية لدى الإنسان ويغذِّيها باستمرار، ويكونُ الدينُ عنصرًا فاعلًا في بناء الإرادة وترسيخها، ورفدها بكلِّ ما يكرِّس الشخصية ويجعلها صبورةً صلبة لا تنكسر عند مواجهة التحديات الصعبة في الحياة.
- (٦) لا يتحقَّق علمُ الكلام الجديد من دون تعدُّدِ قراءات القرآن الكريم، وإعادةِ تفسير كلام الله، وتنوُّعِّ فهم النصوص الدينية تبعًا لتنوُّع الأزمان وتعدُّد الأحوال، وإعادةِ تفسير آيات القرآن في ضوء حاجة الإنسان للمعنى الروحي والأخلاقي والجمالي الذي يتطلبه العيشُ في عالَم يتسارع فيه إيقاعُ المتغيرات، وتتفاقم فيه كلُّ يوم مختلف المشكلات. يقول محيي الدين بن عربي: «كلامُ اللهِ إذا نزلَ بلسانِ قومٍ فاختلفَ أهلُ ذلك اللسان بالفهمِ عن اللهِ ما أراده بتلك الكلمة أو الكلمات مع اختلاف مدلولاتها، فكلُّ واحدٍ منهم وإن اختلفوا فقد فهِمَ عن اللهِ ما أراده، فإنه عالِمٌ بجميع الوجوه تعالى، وما من وجهٍ إلا وهو مقصودٌ لله تعالى بالنسبة إلى هذا الشخص المعين، ما لم يخرجُ من اللسان، فإن خرجَ فلا فهمَ ولا عِلْمَ.»٢٤
- (٧)
يُفكِّر علمُ الكلام الجديد في آفاق العقل ومعطيات الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع والتأويل الحديثة؛ لأنَّ تجديدَ علوم الدين وإعادةَ بناء علم الكلام يتكفَّله تجديدُ علوم الدنيا، فكلَّما تطوَّرت علومُ الدنيا وتجدَّدت تطورتْ علومُ الدين وتجدَّدت تبعًا لها. المناهجُ وأدواتُ النظر الموروثة في فهم الدين وتفسير نصوصه لا تُنتِج إلا المعنى الديني الذي تكرر إنتاجُه من قبل؛ لذلك لا يمكن أن نترقَّبَ إنتاجَ علم كلام جديد عبر تكرار استعمالها والتفكير في فضائها.
- (٨)
دراسةُ المتخيَّل الديني وتحليل كيفية تشكُّله، وروافد تغذيته، ومديات حضوره في إنتاج مقولات علم الكلام القديم. المتخيَّل الديني منبع غزير للبنية الأساسية لعلم الكلام القديم. علم الكلام الجديد يجب أن يهتم بالكيفية التي يتشكَّل فيها المتخيَّل ويتوالد ويتسع، ووسائل إعادة بنائه بالشكل الذي يجعله منبعًا للمعنى الديني الروحي والأخلاقي والجمالي، الذي يتناغم ومتطلبات المسلم في عالمٍ تتسارع فيه كل يوم وتيرةُ التغير والتجدد بإيقاع عاصف.
- (٩)
لا يبدأ التجديد بالتراث الكلامي لينتهي بالتراث الكلامي، كما يفعل بعض مَن يكتبون ويتحدثون عن تجديد علم الكلام، عبْر محاولات شعاراتية وركام لفظي، من دون خارطة واضحة لإعادة بناء علم الكلام. ولا يبدأ التجديد بعمليات ترقيعية للتراث الكلامي بلا عودة للبنية الأساسية المولدة لمقولات الفِرق وآرائها بتكفير المختلف، والقول بانحصار النجاة بفرقة واحدة. علم الكلام الجديد يعود للبنية الأساسية للكلام القديم ويفكِّكها ويهدمها ثم ينتقل للتركيب والبناء في ضوء خارطة عمل محدَّدة واضحة.
هذه الأركان تقع في سياقِ ما أشرت إليه ابتداءً من أنَّ المعيارَ والأساس الذي يمكن اعتمادُه بوصفه مقياسًا لتمييز الكلام الجديد عن القديم، وفي ضوئه يمكنُ تصنيفُ أحد المتكلِّمين بأنَّه متكلمٌ جديد، يتمثَّل في اجتهادٍ جديدٍ يقدِّمه المتكلِّم لبناءِ تفسيرٍ للوحي لا يكرِّر تفسيرَه في الكلام التقليدي، وتفسيرٍ للنبوة بوصفها ظاهرةً ميتافيزيقية، وتحليلٍ لنوع الصلة الوجودية التي يعيشها النبي مع الله؛ لأنَّ الفهم الجديد للوحي هو الأصل لكل الأركان المتقدمة. الفهم الديناميكي للوحي مقابل الفهم الآلي الميكانيكي، هو الأساس الذي تتأسَّس عليه الأركان السبعة للكلام الجديد. كلُّ متكلم يفكِّر في آفاق العقل الحديث، ويفهم الوحيَ فهمًا ديناميكيًّا، هو متكلِّم جديد. وكلُّ متكلِّم يفكِّر في آفاق العقل القديم، ويفهم الوحيَ فهمًا ميكانيكيًّا، هو متكلِّم قديم. هذا هو المعيارُ الذي يمكننا على وفقه أن نصنِّف آثارَ مفكِّرٍ ما بأنها علمُ كلامٍ جديد.
في ضوء هذا المعيار، إنْ كان مفهومُ المتكلِّم للعقل يكرِّر مفهومَ المتكلِّمين السابقين، ولا يفهم الوحيَ خارجَ فهمه في علم الكلام القديم، فلا يمكننا تصنيفُه على أنه متكلمٌ جديد، مهما كانت الوجهةُ الإصلاحيةُ في أعماله وكتاباته، ومهما كان نوعُ اشتقاقاته اللغوية ومنحوتاته اللفظية، وأسلوبُ كتابته وبيانه.
علمُ الكلام يختلفُ عن فلسفة الدين
علمُ الكلام يختلفُ عن فلسفة الدين، علمُ الكلام لا يفكرُ خارجَ إطار الإيمان بالله والوحي. فلسفةُ الدين تفكِّرُ خارجَ إطار الإيمان بالله والوحي، إنها تبحث كلَّ مُعتقَد بحثًا عقليًّا فلسفيًّا، بلا سقف تقف عنده أو حدٍّ معيَّن لا تتجاوزه؛ لذلك فإنَّ مَن يفكِّر في الدين تفكيرًا فلسفيًّا لا يحضر فيه الغيب هو فيلسوفُ دينٍ. وبذلك يتضح الفَرقُ بين المتكلِّمِ الجديدِ وفيلسوفِ الدين.
المتكلمُ الجديد غيرُ الفيلسوف، المتكلمُ الجديد يؤمنُ بالله والوحي، المتكلمُ الجديد يبحثُ عن صورةٍ لله تفيض على حياة الإنسان السكينةَ والطمأنينة، وتجعل لحياته معنًى. ويحرِّر صورةَ الله من أن تكون ذريعةً لسفكِ الدماء، وإنهاكِ الناس وترويعِهم، واستنزافِ عمليات البناء والتنمية.
يبحث المتكلمُ الجديد عن فهمٍ للوحي لا يهدر مضمونَه الميتافيزيقي الغيبي، مع كشفه عن بُعده التاريخي، ويفكِّك بين الوحي من حيث هو، أي حقيقة الوحي، ومن حيث تمثُّلاته المتنوِّعة في الحياة الفردية والمجتمعية في مختلف العصور، ويحرصُ على تحرير معنى الوحي من إكراهاتِ التاريخ وصراعاتِ البشر وحروبِهم.
أساسُ علم كلام هو الإيمانُ بالمصدر الإلهي للوحي. الاختلافُ بين علم الكلام القديم والجديد في كيفية فهم الوحي وتفسيره. الكلامُ الجديد يفسِّره تفسيرًا لا يستأنفُ ما قاله الكلامُ القديم. في ضوء ذلك لا ينطبق عنوانُ علم الكلام الجديد على كتاباتٍ بحثت ظاهرةَ الوحي من منظورٍ مادِّي لا يؤمن بالله، أو يرى الوحيَ بوصفه ظاهرةً أنتجها البشر، أو هو نوع من الإيحاء النفسي، أو هو محصلة ارتياض صبور يتمرَّس فيه بعضُ الأشخاص، ولا صلة لهذا الارتياض بالغيب. إذًا لا يمكن تصنيفُ أيَّةِ كتاباتٍ تنفي المضمونَ الميتافيزيقي الغيبي للوحي على أنها علمُ كلام جديد.
فهمٌ للوحي لا يهدرُ المضمونَ الإلهي الغيبي
الفهم الذي أتبنَّاه للوحي لا يهدرُ البُعدَ الإلهي الغيبي المتعالي على التاريخ الذي ينطقُ به الوحيُ، على الرغم من توظيف هذا الفهم لشيء من أدواتِ فلسفة الدين وعلمِ الأديان المقارن وعلومِ الإنسان والمجتمع، للكشف عن البُعد البشري التاريخي في الوحي.
البُعد الإلهي في الوحي لا يقعُ في إطار صيرورة التَّاريخ وسياقاته، البُعد البشري في الوحي يقع في إطار صيرورة التاريخ وسياقاته. كلُّ ما هو تاريخي بشري وكلُّ ما هو بشري تاريخي، كلُّ ما هو إلهي بوصفه إلهيًّا خارج التاريخ، وكلُّ ما هو خارج التاريخ لا يخضع لمعادلات دراسة الواقع وأدوات فهمه وتفسيراته.
الوحيُ صلةٌ استثنائية بالله. كلُّ مَن يفسر الوحيَ خارج هذه الصلة بالله ليس متكلِّمًا، سواء كان مِمَّنْ يرى الوحيَ حالةً بشريَّة تتكشفُ فيها قدراتٌ وإمكاناتٌ وطاقاتٌ خلَّاقةٌ لدى الإنسان، أو غير ذلك من تفسيراتٍ لا تسمعُ في الوحيَ صوتًا إلهيًّا.
كلُّ بصيرةٍ صافية تتذوَّق عذوبة صوت الله في الوحي، ويتكشفُ لها جمالُ تجلياتِ الأسماء الإلهية. أرى الوحيَ قبسَ نورٍ إلهي تجلَّى في شخصياتٍ أصيلةٍ صادقةٍ، تتفرَّد بيقظتها الروحية، وأشرق على أرواح ساطعة كالمرآة المصقولة، فشعَّ ضوءُها على الناس. فهمي للوحي يتلخَّصُ في: أنه حالةٌ وجودية، إلهيةٌ بشرية/بشريةٌ إلهية. حالةٌ ينكشفُ فيها الإلهيُّ للبشري عندما يتجلى فيه. حالةٌ لا تتحقَّق فيها هذه الدرجةُ من الانكشاف لغير النبي. حالةٌ يصير البشريُّ مرآةً يتجلَّى فيها الإلهيُّ بأجلى وأجملِ ما يتجلى في الوجود. حالةٌ تمثِّل طورًا وجوديًّا يختصُّ به النبيُّ، تحظى فيها روحُ النبي بمنزلة وجودية لا تدركها غيرها؛ إذ تسمو الروحُ في هذه المنزلة لتصير نورًا لا يشوبه ظلام.
النبيُّ ليس شاعرًا، ولا كاهنًا، ولا متنبئًا، ولا متأملًا يقوده تفكيره لمقام النبوة، النبيُّ نبيٌّ وكفى. لا يتمثل الوحيُ بمشاهدة النبي لأحلام في حالة النوم، أو صورٍ ينسجها خيالُ النبي، أو حالة نفسية، أو محصِّلة ارتياض صبور، أو تأمُّلات عقلية. التفسيرات من هذا النوع تهبط بمقام النبي، ولا تتنبه للتكامل الوجودي الذي تسامى إليه النبي وانفرد فيه. الوحيُ حقيقةٌ أصيلة تعكس تكاملًا في وجودِ مَن يتلقَّاه، وتكشف عن صلة وجودية استثنائية بالله.
ترسمُ الآيةُ ٢١ في سورة الحشر مشهدًا تتكشفُ فيه قوةُ حضور الوحي وثقلُه الوجودي، عبر تصوير نزول القرآن بالشكل الذي تخشع وتتصدع حتى الجبال وتخشى تحمُّله لو نزلَ عليها: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. وذلك يَشِي بأنَّ رسول الله ﷺ الذي عاشَ تجربةَ الوحي تكاملَ وجودُه وتسامى إلى درجةٍ كان خليقًا بحمل القرآن الكريم، الذي يتطلب نزولُه إنسانًا استثنائيًّا يمتلكُ طاقةً وقدرةً وقوة روحية متفردة فذة ارتقى إليها وتكامل فيها وجودُه، ولم يصل إليها غيرُه. في السياق ذاته تُعلِن الآياتُ التالية في سورة الحشر عن حضور الأسماء الإلهية: هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (الحشر: ٢٢–٢٤). في هذه الآيات يتجلى الوحي من خلال الأسماء الإلهيَّة المتنوعة.
للوحي بُعدٌ إلهيٌّ وبُعدٌ بشري، فهو من حيث تعبيره عن الله إلهيٌّ، ومن حيث تعبيره عن الإنسان بشريٌّ. الوحيُ يعني التلقِّيَ البشريَّ للإلهي بالشَّكل الذي يكون فيه البشريُّ مرآةً للإلهي، لا بمعنى أنَّ الإنسان الذي يتلقَّى الوحيَ يفتقد ذاتَه، بل يحتفظ بطبيعته البشرية، كما تشير الآية: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ (الكهف: ١١٠). كما يعني الوحيُ تعبيرَ الإنسان عن انكشاف الإلهي له، ولا يعبِّر الإنسانُ عن الوحي إلا بلغته البشريَّة المقيَّدة بكلِّ حدودِ اللغةِ وقيودها ومدياتها. يظهر البُعدُ البشريُّ في تلقِّي الوحي بالتعبيرِ عنه بلغة النبي بمعجمها المشتقِّ من الواقع الذي يعيش فيه؛ لذلك تنعكسُ فيه ثقافةُ عصره، وبيئتُه وظروفها وأحوالها ومعطياتها.
في ضوء هذا الفهم يكون للقرآنِ الكريم وجهٌ إلهي ووجهٌ بشري؛ فهو من حيثُ اتصاله بالغيب إلهي، ومن حيثُ تلقِّي النبي له وتعبيره عنه بلغته وثقافته والواقع الذي كان يعيش فيه بشريٌّ، أي تظهر فيه حدودُ لغة النبي وقيودُها ومدياتُها، وطبيعةُ حياته الشخصية، وملامحُ عصره ومجتمعِه وثقافته.
عندما نفهم الوحيَ بوصفه أوسعَ من النبوات الكتابيَّة، يمكن أن ننفتح على الأديان الأخرى خارج أسوار علم الكلام القديم، وبلا أن تضعنا مقولات «الولاء والبراء» وغيرها من مقولات ومواقف المتكلِّمين في عزلة عن كل الأديان.
هذا المفهوم للوحي يمكِّننا من فهم التعدُّدية الدينية من منظور خارج مقولات احتكار الحقَّانية والخلاص والنجاة. ويمكِّننا أن نرتقي بالحوار بين الأديان، فبدلًا من أن يظلَّ حوارُنا في إطار المجاملات والعلاقات العامة، يصير حوارًا بنَّاءً مثمرًا، منتجًا لأسس السلام ومبادئ العيش المشترك.
في ضوء هذا الفهم يكون للقرآنِ الكريم وجهٌ إلهي ووجهٌ بشري. الإلهي كونيٌّ يتَّسع لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، والبشريُّ يعبِّرُ عن شخصية النبي بوصفه بشرًا، وترتسم فيه ملامحُ الواقعِ عصرَ البعثة. هذا ما ينطِق به الكتابُ المقدَّس الذي يحملُ رسالةً دينية لكلِّ الناس أبديَّة، لا بد أن يتَّسعَ هذا الكتابُ لما هو محلِّيٌّ ظرفيٌّ خاصٌّ بمجتمع عصر التأسيس، وللقيمِ الكونية الكلِّيَّة العابرة للزمان والمكان. مشكلةُ الأديان تكمنُ في عدم التمييز بين المحلِّي الظرفي الخاص والقيم الكونية الكلية.
لم يميِّز كثيرٌ من مفسِّري الإسلام بين ما هو ظرفيٌّ محليٌّ في القرآن الكريم، وبين القِيَم الكونية والمفاهيم الإنسانية الكلِّية؛ لذلك اضمحلَّ الاهتمامُ بما يستوعبُه الكتابُ من قيم روحية وأخلاقية، وميتافيزيقا، وقصص ثرية بدلالاتها المتنوِّعة، وحِكم مُلهِمة لمعنى وجود الإنسان وحياته.
ولم يتنبَّه كثيرٌ من مفسِّري الإسلام إلى تعدُّد فهم آيات القرآن تبعًا لتعدُّد واختلاف سياقات تلقِّيه وأزمان وأحوال المتلقِي. إنسانُ اليوم غيرُ إنسان الأمس، وأبديَّةُ ما هو خارج الظرفي المحلِّي في أيِّ نصٍّ مقدَّس تعني أنه نصٌّ ذو كثافة دلاليَّة؛ إذ تتعدَّد دلالاتُ ما هو وحيانيٌّ فيه تبعًا لتنوُّع ظروفِ حياة الإنسان وأنماطِ عيشه وأزمانه وأحواله، وتبعًا لتنوُّع وتعدُّد سياقات التلقِّي في العصور المختلفة باختلاف درجة تطور الوعي البشري. إنَّ الخلطَ بين سياقاتِ عصر البعثة وعصرِنا يُخرِج القرآنَ من حياتنا؛ ذلك أنَّ سياقاتِ تنزيله جاءت لتلبية احتياجات إنسان الأمس في عصر البعثة، وهي تختلف عن سياقات تطبيقه أو تنزيله مجدَّدًا على الحياة لتلبية احتياجات إنسان اليوم للمعنى الديني.
مناقشة الرؤى الرسولية لعبد الكريم سروش
لكلٍّ من العلم والفن والغيب حقيقةٌ على شاكلته، يمكن التعرُّفُ على هذه الحقيقة في فضائها الخاص. للغيبِ حقيقتُه ومظاهرُه وفضاؤه، مثلما للعلم حقيقتُه وفضاؤه وقوانينه، وهكذا للفن حقيقتُه وفضاؤه. التعرُّفُ على الغيبِ في القرآن الكريم يكونُ من خلالِ ما تتحدَّث به آياتُه. الحياةُ الروحية هي الأفقُ الأوضحُ الذي تظهر فيه آثارُ الغيب في حياة الإنسان، وهذا الأفقُ لا يتطابق مع الأفقِ المادي الذي تنكشفُ فيه قوانينُ الطبيعة. لا يخضع الغيبُ في اكتشافِ ذاتِه ومعرفةِ حقيقته للعلمِ ومناهجِ البحث العلمي، وإن كانت العلومُ هي الأداة الأساسية في التعرُّف على تأثيرِ الغيب في الواقع ودراسةِ تعبيراته في الحياة الفردية والمجتمعية.
يمكن اعتمادُ مناهج البحث العلمي في دراسة كلِّ شيء ينتمي للطبيعةِ في القرآن الكريم، ومن العبثِ تطبيقُ هذه المناهج في اكتشاف ذات الحقائق الميتافيزيقية وما هو خارج الطبيعة، دراسةُ ما بعد الطبيعة أحدُ حقول الفلسفة. الوحي بوصفه حقيقةً غيبية ينتمي إلى ما بعد الطبيعة؛ لذلك لا يصحُّ تطبيقُ مناهجِ وأدوات علمِ النفس وغيرِه من العلوم في الكشفِ عن ذات الغيب وتحليلِ مضمونه ومعرفةِ حقيقته. عندما تحاول نظرياتُ علم النفس أن تفسِّر الوحيَ فإن أولَ ما تبدأ به هو نزعُ مضمونه الغيبي والنظرُ إليه على أنَّه حالة سايكولوجية يعيشها النبي. أخفقت محاولاتُ اكتشاف الغيب بوسائل العلوم المعروفة، وأدخلت الإنسانَ في متاهاتٍ تبدأ بالإنكار وتنتهي بالإنكار، كمَن يحاول معرفةَ ذاتِ الله وحقيقتَه وكنهَه بأدوات العلوم ومناهجها المعروفة.
يمكن التعرُّفُ على شيءٍ من ملامحِ الغيبيات وصفاتِها ومظاهرِها وتجلياتِها بما تتحدَّث به آياتُ القرآن. الآياتُ تتحدَّث عن الغيبيات بلغةٍ رمزية، تستعين أحيانًا بالمحسوسات، بغيةَ تقريبِ ما لا صورةَ له بصور المادي وخصائصه وصفاته. الصورُ المحسوسة يدركها الإنسانُ عبر الحواس، إلا أنه لا يعرف حقائقَ الغيبيات وذواتَها لأنها لا صورةَ لها، وإن كان يمكن تقريبُها للذهن عبر التمثيل بالأشياء المادية.
تنتمي تجربةُ النبوة لذلك الميتافيزيقي/الغيبي الذي لا صورةَ له، ولا يمكنُ فهمُه وإدراكُ حقيقتِه بمناهج وأدواتِ العلم؛ لأن تجربةَ النبوة ذاتُ طابعٍ وحياني. الوحيُ حالةٌ وجودية بالمعنى الأنطولوجي وليس بالمعنى المادي للوجود، تتحقَّق هذه الحالةُ الأنطولوجية عندما تتكامل كينونةُ الإنسان، الإنسان المؤهل وجوديًّا للنبوة هو الوحيد الذي يتلقَّى الوحي. مَن يرى النبيَّ كالشاعر والنبوةَ كالشعر ينفي كونَ النبوة مقامًا وجوديًّا يبلغه الإنسان، الشاعرُ إنسانٌ موهوب يتميزُ بقدرته على إبداع الشعر، مرتبةُ الشاعر الوجودية هي مرتبةُ غيره من البشر. النبيُّ مثلُ غيره من الناس في حياته ومعاشه وطبيعته البشرية، إلا أن مرتبتَه الوجودية ارتقت، ولذلك اصطفاه اللهُ للنبوة.
الوحي حالةٌ أنطولوجية وليس مشاعرَ نفسية، الوحي طورٌ وجودي يتسعُ فيه وجودُ النبي ويتسامى ويتكامل. ليس الوحي استنارةً ذاتية لا صلةَ لها بالغيب، أو صورًا ذهنية، أو نشاطًا للمخيِّلة، أو ظاهرة بيولوجية تنشأ عن اضطرابات هرمونية.
إن كان الإنسانُ لا يبلغ مرتبةَ النبوة إلا إذا تسامى في كينونته الوجودية وتحقَّق بكمالٍ استثنائي يؤهله لهذا المقام الإلهي، فلا يمكن أن تكون الرؤى في المنام وسيلةً لتكاملِه وبناءِ استعدادِه الوجودي لمقامٍ يؤهله لتحمل الوحي وتلقِّيه. النبوة مقامٌ لا يناله كلُّ إنسان، المرتبة الوجودية للنبوة تتحقَّقُ باستعدادٍ وتأهيلٍ بشري واصطفاءٍ إلهي.
لم تعرف التربيةُ إعدادَ إنسان وتأهيلَه لمهمةٍ حياتية عبر الأحلام، فكيف يمكن افتراضُ إعداد إنسانٍ تُناط به وظيفةٌ إلهية استثنائية، ويصطفيه اللهُ ويوكل إليه أداءَ مهمةٍ عظمى في الحياة، ويؤهله لتحمُّل رسالته من خلال أحلامٍ يراها في المنام. الإنسانُ العادي لا يمكن إعدادُه لتحمُّل أية مسئولية باعتماد الأحلام، فكيف إذا كانت مسئوليةُ هذا الإنسان إلهيةً وهي أكبرُ من كلِّ مسئولية، ووظيفتُه أصعبُ من كلِّ وظيفة. وكيف إن أناطَ اللهُ بهذا الإنسان بناءَ أسس التوحيد في مجتمعٍ مُشرِك، وتحمُّلَ رسالة الله الخاتمة للعالمين. إنها وظيفةٌ لم يكن بإمكانه إنجازُها إلا بعد أن يتحقَّقَ بطورٍ وجودي أغنى وأعمق وأكمل.
لا يكتسبُ النبيُّ استعدادَه من الأحلام ولا تكتسبُ النبوةُ مقامَها الوجودي منها. يلزم من القولِ بالأحلام النبوية أن تكون مهمةُ النبي في إبلاغِ الرسالة وتلقيها أهونَ من مهمة رجل العلم أو السياسة أو العسكر أو التجارة وأمثالهم؛ لأن إعدادَ مثل هؤلاء لا يعتمد الأحلام، عادةً ما يكون إعدادُهم من خلالِ برامجَ تربوية وتعليمية، وتراكمِ خبرات عملية تتطلب المواظبةُ عليها إنفاقَ سنوات عديدة من أعمارهم من أجل التأهيل لمثل هذه المهمات.
يمكن تشبيهُ النبوة بحالةِ ضيافة الغيب للإنسان وضيافةِ الإنسان للغيب. هذا المستوى الفريد من الضيافة الذي يكون المُضيفُ فيه اللهَ والضيفُ النبيَّ، لا يمكن أن يستمدَّ وجودَه من الرؤى في المنام. الوحي ليس شعورًا نفسانيًّا باطنيًّا، وليس ديالكتيكًا داخليًّا تستبطنه الذات، كي نتعرفَ على حقيقته بقراءةِ مدرسةِ التحليل النفسي للأحلام وتفسيراتِ علماء النفس وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة.
ذكرنا أنَّ الوحي حقيقةٌ من حقائق الغيب، هذه الحقيقةُ ينكشفُ فيها الإلهيُّ للبشري، ويتجلَّى فيها للإنسان ما هو إلهي. وأنَّ شهودَ الإنسان للإلهي لا يتحقَّق إلا إذا تكامل الإنسانُ في طورٍ وجودي يفتقر إليه غيرُه من البشر؛ ذلك ما يؤهله لأن يكون نبيًّا. تظهر تمثُّلاتُ الوحي وآثارُه في لغة وثقافة وتقاليد ومواقف الإنسان فردًا وجماعة، وهذه الآثار تُدرس بواسطة العلوم والمعارف البشرية كما تُدرس غيرها من الظواهر في حياة الإنسان، لكن لا يمكن أن ندرس البعدَ الغيبي في الوحي بأدوات هذه العلوم والمعارف.
نحتاجُ إلى إعادةِ تعريف الوحي وبيانِ صلته بالغيب بوضوح، وهكذا إعادةِ تعريف النبوة، كي يتضحَ ما ينتمي لعالم الغيب في النبوة، وما ينتمي لعالم الشهادة. التعريفُ يكشفُ حدودَ المعرَّف وحقله، ويكشفُ حقلَ اشتغال أدوات العلوم والمعارف البشرية في المجال الذي ينتمي لعالم الشهادة، وما هو خارج حقل اشتغال تلك الأدوات في المجال الذي ينتمي لعالم الغيب، الذي تكشف شيئًا من ملامحه آياتُ القرآن. عالمُ الغيب عالمُ الأسرار، الأنطولوجيا الميتافيزيقية في القرآن فضاءٌ لعالم الأسرار. كلُّ لغة تتحدثُ الغيبَ لا تتحدثُ منطقَ العلم. لغةُ الغيب تحاول أن ترسمَ صورةً مألوفة لتقريبِ ما لا صورةَ لذاته في ذهن الإنسان.
الثغرةُ الأساسية في «الرؤى الرسولية» وأشباهها للدكتور سروش هي غيابُ القرآن كمرجعية، وتسيُّدُ مثنوي جلال الدين الرومي وحضورُه الطاغي في تفكيره وتعبيره، واتخاذُه مرجعيةً بديلة في تفسير القرآن وتأويل عالم الغيب فيه. عندما يتخذُ سروش أبياتَ شعر المثنوي مرجعيةً لفهم الغيب ويعتمدها بديلًا لآيات القرآن يخطئ الطريق. مفتاحُ دراسة الغيب في القرآن ما تقوله آياتُه، ومرجعيتُه في تفسير الغيب ما تشي به دلالاتُها. جلال الدين الرومي والعرفاء مفسِّرون للقرآن على طريقتهم، بصيرتُهم حاذقة أحيانًا وأحيانًا تشطح. الطريقُ لتفسير القرآن هو أن نستنطقَ القرآنَ لمعرفةِ ما ورد فيه لكلِّ شيء يختصُّ بالغيب وبما بعد الطبيعة، وبوسعنا أن نستضيء باستبصارات العرفاء وبما يقوله المفسِّرون، أما الطبيعةُ فنعود في اكتشافِ قوانينها والتعرُّفِ عليها إلى علوم ومعارف وخبرات الإنسان.
الطبيعةُ تخضعُ لقوانينَ تتحكمُ في أسباب ونتائج الظواهر فيها، ما وراء الطبيعة لا يخضعُ لهذه القوانين، ولا سبيلَ إلى فهمِه بأدواتها وتعريفِه في ضوئها. يخطئ مَن يعتقد بعالَم ما وراء الطبيعة عندما يوظِّف مناهجَ استكشاف الطبيعة للتعرُّف على ذلك العالَم. القرآنُ يتحدَّث عن الغيب وما وراء الطبيعة أكثر مما يتحدَّث عن الطبيعة، ليس من العلمِ تجاهلُ ما وراء الطبيعة في القرآن، أو تأويلُ آيات الغيب تأويلًا بمناهج وأدوات العلوم التي تدرس الطبيعةَ وظواهرَها وقوانينَها وما فيها من كائنات وأشياء.
في الوحي بُعدان؛ بُعدٌ إلهيٌّ وآخرُ بشري، لا يمكنُ دراسةُ البُعد الإلهي الغيبي في الوحي في ضوءِ هذه المناهج العلمية المعروفة لدراسةِ الطبيعة ومَن يعيش فيها، وإن كان يمكنُ دراسة البعدِ البشري في الوحي في ضوءِ هذه المناهج. يمكن تمييزُ نوعين من دلالات لغة القرآن؛ لغةِ آياتٍ تتحدَّثُ عن الغيب، هذه اللغةُ تنطق بإشارات ورموز لحقيقةٍ لا مرئية ولا محسوسة. ولغةِ آياتٍ تتحدَّثُ عن الإنسانِ والكائنات والأشياء والقوانين في الطبيعة، هذه اللغةُ نفهمُ دلالاتها في سياق مواضعات اللغة، وما تكشفه العلومُ المتنوعة.
قراءة لا تاريخية للسُّنَّة والسِّيرة
في ضوء هذا الفهم للوحي يمكننا قراءةُ السُّنَّة والسِّيرة من منظورٍ مختلف، يحرِّرنا من مأزق القراءة اللاتاريخيَّة لهما، التي تسرف في تأبيد دلالاتِ كلِّ ما هو ظرفي محليٍّ خاصٍّ بثقافةِ الجزيرة العربية ونمطِ عيش الناس عصرَ البعثة، على الرغم من أن الظرفيَّ يحتلُّ مساحةً ليست قليلةً في أحاديث السُّنَّة وحوادث السِّيرة، وتأبيد دلالاتِه يعني المكوثَ المتواصل للمسلم في عصر الصَّحابة، وتجاهل الأنماط المتنوعة لعيشه وثقافته وعلاقاته ومختلف شئون حياته التي يفرضها تنوعُ العصور.
بوسع هذا الفهم التمييزُ بين ما هو وحيانيٌّ في أقوالِ النبي الكريم ﷺ وأفعالِه، وما تتميَّز فيه على غيرها من أقوالِ وأفعالِ البشر، والذي يعبِّر عن المدلول الروحي والأخلاقي الثابت في الرسالة الإسلامية، وما هو شخصي في سلوك النبي بوصفه بشرًا، مما يتَّفق فيه مع كلِّ البشر. الشخصيُّ ليس قليلًا في السُّنَّة والسِّيرَة، لكن تغلَّبَ في القراءة اللاتاريخية ما هو شخصيٌّ على ما هو وحيانيٌّ، كما تغلَّبَ ما هو ظرفيٌّ على ما ينتمي للقيم الأبدية في الرِّسالة، وتحوَّل كلُّ بشري إلى إلهيٍّ في السُّنَّة والسِّيرَة. المضمونُ الروحي والأخلاقي في السُّنَّة والسِّيرَة هو الأصلُ الثابت، وهو الوحيانيُّ الذي يمثِّل الرصيدَ المُلهِمَ فيهما، لكنَّ هذا المضمونَ الثابت احتجب بالتدريج إثر دمج ما هو متغيِّر فيه. المتغيِّرُ هو ما يمثِّلُ مرآةً للواقعِ عصر البعثة، وللبعدِ البشري في حياة النبي ﷺ.
إنَّ تحويلَ المتغيِّرِ إلى ثابت، والتعاملَ مع الكلِّ بوصفه وحيانيًّا، واعتمادَه في فهم الدين، والوثوق بالأخبار والمرويات التي كانت تعالج حالاتٍ ظرفية، وتوجيهَ سلوك المسلم الفردي والاجتماعي في ضوء المفاهيم والأحكام المستنبطة منها، عمِلَ على إهدار المعنى الثابت الذي حجبه المتغيِّر، ذلك المعنى الذي يعبِّر عن المدلول الروحي والأخلاقي.
ما تتضمنه السُّنَّةُ والسِّيرَة لا يمكن الوثوقُ بصدوره كلِّه عن النبي ﷺ لو درسناه على وفق المناهج الحديثة في البحث العلمي والتوثيق التاريخي؛ لأنَّ أكثرَ من جيلٍ من الرواة لبِثوا يتناقلونه شفويًّا، وتأخَّر تدوينُه حتى القرن الثاني للهجرة، وإن ظهرت محاولاتٌ للتدوين أسبق من ذلك، غير أنَّها كانت بسيطةً وفي نطاق محدود، ونادرًا ما نمتلك وثائقَ تنتمي للمدونين الأوائل. ولا يمكن الاعتمادُ على سند الأخبار والأحاديث الذي يصنِّفها إلى صحيحٍ وغيرِه، وعدُّه مقياسًا للاطمئنان بصدورها؛ لأنَّه معيارٌ تبنَّاه علماءُ أصول الفقه في تصنيف الحديث، من أجل استنباط الأحكام الشرعية، فجعلَ الصحيحَ حجةً في الاستنباط الفقهي، وما سواه ليس بحجة.
إنَّ مضمونَ الأخبار والأحاديث المروية هو ما شكَّلَ منبعًا أساسيًّا لإنتاج متخيَّلِ المسلم، وهو ما صاغَ رؤيتَه للعالم، وفهمَه، وحدَّد مواقفَه، ووجَّه سلوكَه، بغضِّ النظر عن قيمة سنده وتمحيص دلالته، بل إن كثيرًا ممَّا يصنعُ متخيَّلَ المسلم في عصور لاحقة هو أحاديثُ ضعيفة السَّند ومروياتٌ موضوعة في السُّنَّة والسِّيرَة.
الأنبياء والأئمة والأولياء والصحابة والتابعون الذين عاشوا في الأرض كانوا يمارسون حياتهم واحتياجاتهم كما يفعل كل إنسان، يأكلون ويشربون، ويفرحون ويحزنون، ويغضبون، ويضحكون ويبكون، ويصابون بالأمراض ويموتون. لا يكتفي الإنسان الديني بهذه الصورة للنبي بوصفه إنسانًا مثل بقية البشر، يمتاز على غيره بالوحي. هؤلاء ينتج ذهنهم صورةً غير بشرية للنبي، بمعنى أنه لا يأكل ولا يشرب، ولا يذهب للحمَّام، وغير ذلك. وهذه الصورة تتضخم بمرور التاريخ، حتى تتحول شخصية النبي ولاحقًا كل شخصية دينية إلى شخصية سماوية، لا تشبه البشَر في الأرض، لا تخضع للزمان والمكان والبيئة والتاريخ والثقافة، تتحوَّل إلى كائن ذهني لا يشبه الإنسان الأرضي، ولا يشبه ذلك الإنسان الذي كان بشرًا عاش في عصره. هذا هو عمل المتخيَّل الديني. جلال الدين الرومي الذي عاش في عصره يمارس كل الاحتياجات البشرية، هو إنسان طبيعي. جلال الدين الآن في متخيَّل المولوية والمتصوفة كائنٌ أسطوري.
حسب تخصصي في علوم الدين وعملي على التراث نحو ٥٠ عامًا، فإن أكثر أحاديث الصِّحاح والمسانيد مرآةٌ لمتخيَّل وثقافة ونمط عيش وتمدُّن وأعراف وتقاليد وعادات المجتمع العربي في عصر البعثة، والخلفاء الراشدين، والعصر الأموي، والعباسي الأول، ومرآة لما أنتجته المخيلة الفردية للرواة والمخيلة الجمعية للصحابة والتابعين.
كانت المدوَّناتُ الأولى للسُّنَّة والسِّيرَة الأصلَ لما كُتب في السيرة؛ إذ تكرَّر نسْخُها والإضافة عليها لدى كلِّ مَنْ كتب لاحقًا في السِّيرَة. في المدوَّنات الأولى تشكَّلت صورةٌ متخيَّلةٌ للنبي الكريم ﷺ تكوَّنت مادَّتُها من المرويَّات الشفويَّة لذاكرة مجتمع الجزيرة العربية، وما تحفل به من أساطير متنوِّعة، أنتجها المتخيَّلُ العربي لفرسانه وحروبه وملاحمه وقيمه ورموزه وأحلامه، وغذَّتها ذاكرةُ مجتمعاتِ الأمصار بعد الفتوحات. هذه الصورةُ طمست كثيرًا من ملامح التَّاريخ الحقيقي الذي عاشه النبيُّ الكريم ﷺ ولم تكشف لنا بوضوح طبيعةَ حياته وسيرته الحقيقية قبلَ البعثة الشريفة وبعدَها.
منذ وفاة النبي ﷺ نشطت مخيلةُ المسلمين بتغذيةِ البُعد اللاتاريخي للسُّنَّة والسِّيرَة والامتدادِ به في مديات واسعة، وبالتَّدريج أضحى يتقلَّص تبعًا لذلك البعدُ التاريخي في شخصية النبي محمد ﷺ بوصفه بشرًا كان يعيش مثل الناس، وتحتاج حياتُه لكلِّ احتياجات البشر الضرورية للاستمرار في العيش. وهكذا بدأ الوجهُ البشري للوحي يضيق، ويحتجب معه ما انعكس عليه من واقعِ الجزيرة العربية ونمطِ العيش فيها عصرَ البعثة، واحتجبت أيضًا صورةُ ذلك الواقع الذي ارتسم في الوحي والنبوة، وتمادى المُتخيَّلُ الإسلامي حتى أمعن في طمسِ أكثرِ ما يشير لذلك الواقع، ليمدِّد بقوةٍ وكثافةٍ الوجهَ الإلهي في شخصيةِ محمد ﷺ ونبوَّتِه، ويُغيِّب الوجهَ البشري، حتى كاد يصيِّر النبيَّ إلهًا، أو شريكًا لله في الخلق والرزق وأكثر الصفات الإلهية.
تَميِيزُ ما هو تاريخي وما هو لا تاريخي في مدوَّنات السُّنَّة والسِّيرَة، تفرضها ضروراتٌ عاجلةٌ لتحرير وعي القارئ المسلم من وطأةِ القراءة اللاتاريخية للسُّنَّة والسِّيرَة، وانسدادِ آفاق المعنى الديني الحيوي الفاعل فيهما.
تفسيران للوحي
- (١) مسارٍ يُفسِّر الوحيَ بوصفه ظاهرةً وقعت في التاريخ، فانعكست عليها الثقافةُ واللغةُ والبيئة، وظهرت ملامحُها فيها بوضوح، مثلما انعكس الوحيُ على التاريخ فتفاعل معه وأعاد صياغتَه على وفق رؤيته. هذا التيارُ يرى الوحيَ «مُنتَجًا ومُنتِجًا ثقافيًّا»،٤٤ موقفُه ملتبِسٌ غامضٌ حيالَ المضمون الميتافيزيقي للوحي؛ فهناك مَن نقرأ في بعض عباراته ما يشي بنفي أيِّ بُعدٍ ميتافيزيقي للوحي وصلتِه بالغيب، وهناك مَن يمكن أن نفهم من بعص إشاراته أنه يعتقد بمصدرٍ غيبي للوحي، على الرغم من تشديده على أن الوحيَ مرآةٌ انعكست عليها الثقافةُ واللغةُ وتضاريسُ البيئة العربية وظروفُها الاجتماعية في عصر البعثة بشكل تام.
نقرأ ما يشير إلى رؤية هذا التيار للوحي في كتابات: محمد أركون، وحسن حنفي، ونصر حامد أبو زيد، وعبد المجيد الشرفي، وغيرِهم. هذا التيَّار يعتمد الفلسفةَ وعلومَ الإنسان والمجتمع في فهم ظاهرة الوحي ودراسة تمثلاته في التاريخ.
- (٢) مسارٍ يُفسِّر الوحيَ بوصفه ظاهرةً ميتافيزيقيةً، الوحيُ في مفهومه حالةٌ يعيشها النبي من خلال اتِّصاله بالله، تتشبَّع بها روحُه، وتمتلئ بها مشاعرُه، وتتشكَّل بها رؤيتُه للعالَم. وينشغل هذا التيارُ بتفسيرِ حقيقة الوحي وبيانِ ماهيته في عالم الغيب، ونمطِ الصِّلة الوجوديَّة التي تتحقَّق بين الله والإنسان؛ إذ يذهب بعضُ مفكِّريه إلى تفسير كيفيَّة الوحي بأنها نتيجةٌ لتسامِي روح الإنسان وصعودِها حتى ينكشفَ لها الله، في حين يذهب آخرون إلى أنَّ الوحيَ هو نزولٌ أو تنزيلٌ من الله على الإنسان.
خلافًا للتيار الأول يعتمدُ هذا التيار آثارَ العرفاء، ويتصيَّد فيها إشاراتٍ وشذرات تستمدُّ فرادتَها من إصغائها لصوت الله في الوحي، وتذوقها لتجليات جمال الأسماء الإلهية، وبصيرتها بإضاءة مفهوم الوحي بعيدًا عن فهم المتكلِّمين التقليدي. وعلى الرغم من أن هذا التيارَ يعتمدُ آثارَ العرفاء في تفسير البُعد الميتافيزيقي للوحي، إلا أنه يعتمد الفلسفةَ وعلومَ الإنسان والمجتمع في تفسير البُعد البشري للوحي، وتحقُّقه في التاريخ وانعكاسه على الواقع.
نعثر على رؤية هذا التيار للوحي في كتابات: أحمد خان، ومحمد إقبال، وفضل الرحمن، ومحمد مجتهد شبستري، وعبد الكريم سروش، وغيرهم.
إعادةُ تعريف النبوة
يظهر الأثرُ الواضحُ لإعادة بناء مفهوم الوحي في فهمِ الدين، وفهمِ كلِّ ما يتَّصل بالمعتقدات وتفسير النصوص؛ ففي ضوء المفهوم الجديد للوحي يمكن إعادةُ تعريف النبوة، والكشفُ عن أفق انتظار الإنسان منها، وتعريفُ وظيفتِها، ورسمُ حدود ما هو ديني وما هو دنيوي في حياة الفرد والمجتمع، في ضوء فهم النبوة وحدود مهمَّتها الدينية.
كلُّ ذلك يتَّضح عندما يُعادُ تعريفُ الوحي، وفي ضوء هذا التعريف للوحي أيضًا يمكن إعادةُ بناءِ صورةِ الله وصفاتِه وأفعالِه، ونمطِ صلته بالإنسان وصلةِ الإنسان به، وحدودِ تدخُّله في حرية الإنسان واختياراتِه في إنتاج علومه ومعارفه، وتنظيم حياته، وإدارةِ مختلف علاقاته. وفي ضوء ذلك أيضًا يمكن الكشفُ عن حدودِ الدين الوحياني، وخارطةِ تأثيره في بناء الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية للإنسان.
في ضوء إعادة تعريف النبوة يرسم هذا التعريفُ للنبوة الحدودَ بين الدنيوي والديني. لا تهدف النبوةُ إلى تعطيل العقل، ولا إيقاف توالد المعرفة البشرية وتراكمها، ولا منع التطور العلمي، ولا الوصاية على كلِّ شيء في الحياة، ولا جعْل كلِّ شيء دينيًّا ومقدَّسًا. النبوة ذات بُعدين؛ إلهيٍّ وبشريٍّ، فما هو بشريٌّ فيها نسبيٌّ، وما هو إلهيٌّ مطلَق. كلُّ ما هو متغير بشريٌّ نسبيٌّ وكلُّ ما هو ثابت إلهيٌّ مطلَق. البشري هو مرآة للواقع الذي بُعث فيه النبي الكريم ﷺ وشخصيته وثقافته ولغته، والإلهي هو ما يدل على الميتافزيقا القرآنية، والمعاني الروحية والأخلاقية والجمالية الكونية. النبوة لا تنقض القوانينَ الطبيعية والمجتمعية للتنوع والتعدد والاختلاف، ولا تقف ضدَ إيقاع التغير والتحول والتطور في الحياة.
إعادة تعريف الشريعة
حدثتْ عدةُ انزياحاتٍ في معنى الدينِ والإسلام والشريعة، فلم يَعُد معنى الدين بعد انزياحه عن معناه يتَّسع للعقيدة والشريعة والقيم، ولم يَعُد الإسلامُ يتَّسع لها أيضًا، بعد أن جرى تضييقُ معناه في الشريعة، ثم جرى تضييقُ معنى الشريعة واختزالُها في الفقه خاصة، حتى تسلَّطَ الفقهُ على ثقافة المسلمين وحضارتهم. معنى الشريعة في القرآن يتَّسع للعقيدةِ، وأحكامِ العبادات والمعاملات، والأخلاقِ، والآدابِ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (الشورى: ١٣). الشريعة بمدلولها القرآني تتسعُ للعقيدة والقيم والأحكام. تم اختزال الشريعة بالأحكام، واختزال الأحكام بالفقه خاصة. معنى الشريعة أخذ يضيق بالتدريج، فأضحت الشريعةُ تساوي الأحكامَ العمليةَ في الدين، أي كلَّ ما هو غيرُ العقيدة، وضاق هذا المعنى أكثرَ بمرور الزمن، حتى صار يرادف الفقه، في ضوء علم الكلام الجديد نحدِّد الدنيوي والديني والثابتَ والمتغير في الأحكام، وكذلك النسبي والمطلَق في القيم والعقيدة.
ضمورُ الإسلام القِيَمِيِّ وتسيُّدُ إسلامُ علم الكلام والفقه عمِلا على تفشِّي التكفير. وأعني بالإسلام القيمي ما تشي به دلالاتُ الآيات القرآنية، وشيءٌ مما ورد في السُّنة، وما تكشف عنه القراءاتُ الإنسانية لنصوص التراث، من قيم روحية وأخلاقية وجمالية كونية. وهذا الفهم القيمي للإسلام لا يتعارض مع الحريات والحقوق الإنسانية الكونية، بل يعمل على ضمان تطبيقها وترسيخها، وحمايتها من انتهاكات القراءات اللاإنسانية المغلقة للنصوص الدينية. لا تتنكَّر القيمُ الأخلاقية الكونية للحقِّ في الاختلاف، والحقِّ في الاعتقاد، والحقِّ في التفكير، والحقِّ في التعبير، والحقِّ في إبداء النظر المختلف. التكفيرُ يصادر كلَّ هذه الحقوق ويتنكَّر لها؛ لأنه لا يرى إلا وجهًا واحدًا للحقيقة، ولا يعتقد إلا بوجودِ صورةٍ واحدةٍ لله، وتصورٍ واحد لصفاته، وطريقٍ واحد إليه، وقوالبَ جزميةٍ للاعتقاد به، وكلماتٍ أبديةٍ في التعبير عنه.
إعادة تعريف التكليف
إعادة تعريف التكليف يتطلب بحثَ مفهوم التكليف ونشأته، ويتطلب تأصيلَه لدى الشافعي في أصول الفقه بكتابه «الرسالة»، وكيفية ولادة هذه الأصول بخلفية اعتقادية «كلامية» مضمرة. والإشارة إلى تبلور مفهوم التكليف في علم الكلام عند المعتزلة، وتغلغله لاحقًا في التفكير الكلامي للفِرق كلِّها. وبناء على القول بالتكليف نرسم حدودًا لما يكلَّف فيه الإنسان المسلم، وسنرى أن حدود التكليف لا تتسع لما استوعبته مدوَّنة الفقه بتقييد أفعال الإنسان ومواقفه وسلوكه وأقواله في أسوار التكليف. تضخمت مساحة الفقه وتبعًا لها تضخمت مساحة التكليف، بنحو أدرج بعض الفقهاء «الإباحة»، وهي تعني خلو الواقعة من الحكم، في إطار التكليف، حين صنَّفها إلى: اقتضائية، وغير اقتضائية، وذهب إلى وجودِ مقتضٍ للحكم بالإباحة في الأولى، بخلاف الثانية.
في سياق فهمنا للوحي والنبوة يتحدَّد مفهومُ الشريعة ومدى اتساعها لا تصير كل أقوال الإنسان وأفعاله داخل فضاء الشريعة، بل تختصُّ الشريعة ببعض شئون حياته وهو الديني ولا يقع في فضائها الدنيوي. وتبعًا لذلك يتحدَّد مفهومُ التكليف الشرعي بناءً على القول به، والكيفيةُ التي يتشكَّل على أساسها نمطُ العلاقة بين الله والإنسان، وتتكشَّف حدودُ هذه العلاقة ونمطُها في إطار فهم الشريعة ومديات اتساعها.
التكليفُ أحدُ المقولات المركزية التي وُلِدت في العقل الكلامي في وقتٍ مبكر، وصاغ التكليفُ العلاقةَ بين الله والإنسان بجعلها علاقةَ سيدٍ بعبده. ووضعَ مفهومُ التكليف العلاقةَ بين الله والإنسان في إطاره الخاص، فصار كلُّ قولٍ أو فعلٍ يصدر عن الإنسان يقع في مدارات التكليف. وتمدَّد التكليفُ عموديًّا وأفقيًّا فشكَّل مرجعيةً مضمرةً تحيل إليها قواعدُ أصول الفقه التي تصدر عنها الأحكامُ الفقهية. وبالتدريج تمدَّد الفقهُ ليستوعب القيمَ والأحكامَ وكلَّ شيء، ويختزل الفقهُ الشريعةَ كليًّا في مضمونه. كان مفهومُ الشريعة الإسلامية يتَّسع للعقيدة والأحكام والقيم، ثم صار يختصُّ بالمدوَّنة الفقهية وما تدلُّ عليه الأحكامُ التي تشتمل عليها، واتسع الفقهُ فلم يقتصر على الأحكام بل دخلت في مجاله القيمُ والأخلاق، حتى صار يستوعب كلَّ صغيرة وكبيرة، وكلَّ قول وفعل في حياة الفرد والمجتمع.
يتأسَّس على بيانِ مفهومِ الوحي وحدودِه مفهومُ النبوة وحدودُها، وفي ضوء مفهوم النبوة وحدودها يمكن معرفة الشريعة ومديات اتساعها، وتبعًا لذلك يتضح لنا مفهومُ التكليف ومدياتُه، وكيف صاغ التكليفُ نمطَ العلاقة بين الله والإنسان في إطاره الخاص. الفهمُ الميكانيكي للوحي الذي شرحته في كتاب «مقدمة في علم الكلام الجديد» ينتهي إلى القول بشمول الشريعة واستيعابها لكلِّ صغيرة وكبيرة، واستيعاب التكليف لكلِّ قول وفعل في حياة الفرد والمجتمع المُكَلَّف. الفهمُ الديناميكي للوحي ينتهي إلى القول بأن ما يتصل بالديني شأن إلهي، وما يتصل بالدنيوي شأن بشري. في سياق الفهم الميكانيكي للوحي يكون موضوعُ الخطاب الإلهي الإنسانَ بوصفه مُكَلَّفًا، بمعنى أنه خطابُ سَيِّد لعبده، وفي سياق الفهم الديناميكي للوحي يكون موضوعُ الخطاب الإلهي الإنسانَ بوصفه إنسانًا، بمعنى أنه خطابُ يبتني على أن علاقة الله بالإنسان خارج إطار علاقة السيِّد بعبده. في ضوء الفهم الديناميكي للوحي يمكننا أن نبني الأساسَ الذي تنبثق منه الحقوق والحريات بشكل يستجيب لمضمونها في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، ونتغلب على التضاد الذي ينشأ بين بعض نصوص هذا الميثاق وما ورد في مقولات علم الكلام القديم وتصنيفها البشر حسب الدين والمعتقد، وأحكام الفقه وتصنيفها البشر وفقًا لما لو كان عبدًا أو حرًّا، وما كان رجلًا أو امرأة، واختلاف كلٍّ منهم بأحكام تنص على حدود حقوقه وحرياته.
- (١)
بيان مفهوم الوحي وكيفيته وحدوده.
- (٢)
في ضوءِ بيانِ مفهومِ الوحي وكيفيته وحدودِه يتَّضح مفهومُ النبوة وحدودُها ومدياتُها.
- (٣)
في ضوءِ بيانِ مفهومِ النبوة وحدودها يتضح مفهومُ الشريعة ومدياتُ اتساعها.
- (٤)
في ضوءِ بيانِ مفهومِ الشريعة وحدودِها يتضح مفهومُ التكليف ومدياتُ اتساعه.
نخلص إلى أن بدايةَ إعادة بناء علم الكلام في الإسلام ينبغي أن تهتدي بخارطة الطريق هذه؛ لأن الفهمَ الديناميكي للوحي ضرورةٌ لإعادة البناء، فهو الذي يضع البُعد البشري في النبوة في سياقه التاريخي والجغرافي والثقافي واللغوي والاجتماعي والاقتصادي المتموضعة فيه في عصر البعثة.
خاتمة
انطلقنا في هذا الفصل من موقفٍ يتأسَّس على أن التجديدَ الذي يفرضه علينا مأزقُ التفكير الديني في الإسلام اليوم يجب أن يبدأ بإعادة النظر في البنى المركزية لهذا التفكير، المتمثِّلة بالرؤية التوحيدية في التراث الكلامي، وتمثِّل هذه البنى المقولاتُ الكلامية الاجتهادية لمؤسِّسي ومُجتهدِي الفِرق، المودعة في مدوَّنة علم الكلام، وهي المدوَّنةُ التي تأسَّس في ضوئها علمُ أصول الفقه، وابتنت عليها مختلفُ العلوم الإسلامية، ممَّا يعني أن أيةَ بدايةٍ لتجديد الفكر الديني في الإسلام لا تبدأ بعلمِ الكلام ومسلَّماتِه ومقدِّماتِه المنطقية والفلسفية فإنها تقفز إلى النتائج من دون المرور بالمقدِّمات؛ لأن علم الكلام يمثل في رأيي نظريةَ المعرفة في الإسلام، وهو الذي ينتج منطقَ التفكير الديني، ومنطق كل عملية تفكير هو الذي يُحدِّد طريقةَ التفكير ونوع مقدِّماته ونتائجه.
وافترضنا أنَّ علمَ الكلام القديم انتهتْ صلاحيتُه، وإن كنا نشكِّك حتى في صلاحيته عند نشأته، وذلك ما يدعونا للعمل على بناء «علم كلام جديد». نتمسَّكُ بتسمية «علم الكلام الجديد» بشكلٍ خاصٍّ دون غيره، مثل «علم الكلام الحديث»؛ لأن «علم الكلام الجديد» صار علَمًا لهذه الوجهة في تجديد التفكير الديني، بعد أن استقرَّت هذه التسمية في المجال التداولي للغات الأردية والفارسية والعربية.
واقترحنا معيارًا يمكن على أساسه أن تصنِّف مفكرًا بأنه «متكلِّم جديد»، هو تعريفُه للوحي خارج مفهومه في علم الكلام القديم، بوصف الوحي هو المفهومُ المحوري الذي تتفرعُ عنه مختلفُ المسائلِ الكلامية، ومن أبرزها مسألةُ «الكلام الإلهي» وغيرها من مقولات كانت موضوعًا أساسيًّا لعلم الكلام القديم.
وبناءً على ذلك فإن كلَّ مَن يقدِّم تفسيرًا جديدًا للوحي، إن كان مؤمنًا بالوحي، يمكن أن يُصنَّف تفسيرُه على أنه «علم كلام جديد». أمَّا مَن يقدِّم تفسيرًا جديدًا للوحي، لكنَّه لا يؤمن بالله والوحي فهو ليس متكلِّمًا جديدًا؛ لأنَّ المتكلِّم غير فيلسوف الدين، المتكلِّم يفكِّر في إطار الإسلام، كاللاهوتي في كلِّ دين الذي يفكِّر في إطار ذلك الدين، وإن كان يستعير مناهجَ بحثه وأدواته مما أنجزته العلومُ والمعارف البشرية.